سلسلة رسائل أهل العلم، الرسالة الأولى، الرسالة التبوكية


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد:

ففي هذه السلسلة من رسائل أهل العلم، سنستعرض -بمشيئة الله تعالى- عدداً من رسائلهم، مع ذكر طرف من سيرة المؤلف، وبعض ما احتوته هذه الرسائل من النفائس والعلم، ولاشك أن الاطلاع على رسائل أهل العلم مما يزيد الإنسان فقهاً ونظراً وبصيرة؛ لأن رسائلهم كالمنائر، يستنير بها الإنسان في ظلمات الدجا، الذي يغشى الواقع، ويتبصر على ضوئها بما حوله، ويعرف كيف يعبد ربه، وهذه الرسالة التي سنستعرضها في هذه الليلة -بمشيئة الله تعالى- هي الرسالة التبوكية ، للعالم الرباني، وشيخ الإسلام الثاني، الإمام ابن القيم رحمه الله، وقد سُميت بـالرسالة التبوكية؛ لأنه سيرها من تبوك ثامن المحرم، سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة للهجرة.

وقد قال في ذكر أهميتها: (ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات؛ علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى، وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهو الذي قصد مسطرها بكتابتها، وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم...) وقال: ( ... وإنما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم ).

هذا موضوع الرسالة، والمكان الذي أرسلت منه الرسالة والتاريخ، والسبب الباعث على ذلك.

أما ترجمة المؤلف رحمه الله، فإنه: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين الزرعي ، ثم الدمشقي ، الشهير بـابن قيم الجوزية ، ونسبته إلى زَرْع، وهي قرية من قرى حوران ، المكان المعروف في بلاد سوريا الآن، وهي من نواحي دمشق .

وقد ولد -رحمه الله- في السابع من شهر صفر، سنة ستمائة وإحدى وتسعين للهجرة، وقد اشتهر أبوه بلقب: قيم الجوزية ؛ لأنه كان ناظراً ومشرفاً وقيماً على المدرسة الجوزية بـدمشق مدةً من الزمن، والجوزية اسم المدرسة التي أنشأها وأوقفها أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله، ويقال: ابن القيم على سبيل الاختصار، واشتهر أبوه -رحمه الله- وأخوه وابن أخيه بالعلم والفضل، ونشأ رحمه الله تعالى في بيئة طيبة، وعائلة وأسرة كريمة.

ابن القيم.. وطلبه للعلم

وكان قد تلقى علمه منذ بداية أمره على الشهاب النابلسي ، والقاضي تقي الدين بن سليمان ، وأبو بكر بن عبد الدائم ، وعدد من أهل العلم، وقرأ العربية والفقه على المجد الحراني ابن تيمية ، وقرأ الأصول على الصفي الهندي وكذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولازمه ملازمة تامة منذ أن قدم من الديار المصرية في سنة (712هـ) إلى أن مات ابن تيمية -رحمه الله- سنة (728هـ).

وكان والد ابن القيم -رحمه الله- له علم واسع في الحساب والفرائض، ولذلك أخذه ولده عنه، ولما تم تحصيله، وأصبح لديه ملكة كبيرة، صار بعد ذلك يقرأ بنفسه ويطلع وينهم ويتصدى بعد ذلك للتدريس والإفتاء والتأليف.

أولاد ابن القيم

للإمام ابن القيم أولاد، ومنهم: عبد الله ، كانت ولادته سنة (723هـ)، ووفاته سنة (756هـ)، وكان مفرطاً في الذكاء، أنه حتى حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة (731هـ)، أي: أنه كان في التاسعة من عمره تقريباً، وأثنى عليه بأمور، وكذلك ابنه إبراهيم كان علامة نحوياً فقيهاً.

العلوم التي برع فيها ابن القيم

وأما العلوم التي برع فيها ابن القيم -رحمه الله- فإنها كثيرة جداً، فهي تكاد تكون علوم الشريعة بأكملها، وعلوم الآلة والتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه واللغة والنحو.. وغير ذلك.

قال ابن رجب واصفاً شيخه ابن القيم: "تفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير، وأصول الدين لا يجارى، وإليه فيها المنتهى، والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط لا يُلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية وله فيها اليد الطولى.. وغير ذلك".

وقال ابن كثير رحمه الله في وصفه: "سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، ولا سيما علم التفسير والحديث، ولما عاد شيخ الإسلام ابن تيمية من الديار المصرية سنة (721هـ)؛ لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علماً جماً مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة".

وقال الذهبي رحمه الله: "عُني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره".

وقال ابن حجر: "كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف ، ومن الأشياء التي حصلت له مناظرة مع أكبر من يشار إليه بالعلم عند اليهود، جرت له مناظرة معه بـمصر".

مجاورة ابن القيم

وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- قد حج مرات كثيرة، وجاور بـمكة ، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يُتعجب منه، وألف كتابه: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ، مدة إقامته بـمكة ، بما فتح الله عليه .. يقول: "وكان هذا من بعض النُزْول والفتح التي فتح الله بها عليّ حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً، فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله، وأصبح ببابه مقيماً، وبحماه نزيلاً".

ومن الأشياء التي حصلت له بـمكة : أنه مرض مرضاً شديداً استعصى على الأطباء، فقال: لقد أصابني أيام مقامي في مكة أسقام مختلفة، ولا طبيب ولا أدوية كما في غيرها من المدن، فكنت أستشفي بالعسل وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً.

وقال في هذا المرض الذي انقطعت فيه حركته، وحصل له فيه شيء من الألم كثير: "إنه كان يقرأ على ماء زمزم الفاتحة ويشرب، فحصل له شفاء لم يحصل له على يد الأطباء".

مؤلفات الإمام ابن القيم

لقد ألف كتبه في أحوال، منها: أحوال الغربة والسفر، كما ألف كتاب مفتاح دار السعادة ، وكذلك كتاب زاد المعاد ، ألفه في حال السفر لا الإقامة، والخاطر متفرق، والقلب في كل وادٍ منه شعبة، كما وصف رحمه الله.

وكان شديد المحبة للكتب، وجمع كتباً لم يتهيأ لغيره -كما يقول ابن كثير - عشر معشار ما اجتمع عنده -رحمه الله- من كتب السلف والخلف، كان مغرماً بجمعها، وحصل ما لا يحصى، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم، وكان لا يبخل -رحمه الله- في إعارتها.

وقد تولى الإمامة بالجوزية، والتدريس في الصدرية -أسماء مدارس- وتصدى للفتوى والتأليف، وقد سجن بسبب بعض الفتاوى، كفتواه في الطلاق الثلاث بلفظ واحد، التي تابع فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وعامة أهل الأرض مطبقون على أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثاً، كما هو قول أهل المذاهب الأربعة.

وكذلك حصل له أذى بسبب تأليفه رسالة إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل، وتابع فيها شيخ الإسلام رحمه الله، المتابع لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، في مسائل التوسل، ومقاومة أنواع الشرك.

حسن خلق ابن القيم وتواضعه

كان ابن القيم حسن القراءة، كثير التودد، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يحقد على أحد، وكان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، وكان ذا خلق عظيم رحمه الله تعالى.

ومن خلقه: تواضعه الذي يظهر في أشياء كثيرة من كتبه، ومن ذلك: قصيدة يظهر فيها تواضعه أنشدها لبعض طلابه، وهو العلامة الصفدي رحمه الله، يقول ابن القيم عن نفسه في هذه القصيدة:

بُني أبي بكر كثير ذنوبه     فليس على من نال من عرضه إثم

بُني أبي بكر جهول بنفسه     جهول بأمر الله أنى له العلم

بُني أبي بكر غدا متصدراً     يعلم علماً وهو ليس له علم

بُني أبي بكر غدا متمنياً     وصال المعالي والذنوب له هم

بُني أبي بكر يروم ترقياً     إلى جنة المأوى وليس له عزم

بُني أبي بكر لقد خاب سعيـه     إذا لم يكن في الصالحات له سهم

بُني أبي بكر لما قال ربه     هلوع كنود وصفه الجهل والظلم

فو الله لو أن الصحابة شاهدوا     أفاضلهم هم الصم والبكم

هذا ما وصف به حاله -رحمه الله- وتواضعه، مع أنه كان ذا عبادة شديدة، وكان ذا تأله وتهجد واستغفار بالأسحار، وافتقار إلى الله عز وجل، وطول قيام، وحج مرات كثيرة، حتى قال ابن كثير رحمه الله: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقة في الصلاة يُطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله، وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، ويقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي.

وهذه عبارة مشابهة للعبارة التي جاءت عن شيخه في هذه المسألة، وهي القعود من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ثم الصلاة ركعتين، حتى يتعالى النهار، ومن عباراته المشهورة: "بالصبر والفقه تنال الإمامة في الدين".

ملازمة ابن القيم لابن تيمية وتأثره به

وأما تأثره بـابن تيمية رحمه الله فكان تأثراً شديداً جداً، فإنه التقى به سنة (712هـ)للهجرة، ولازمه إلى سنة (728هـ)، إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وهو الذي كانت هدايته على يديه، ويصف توبته على يد شيخه بقوله:

يا قوم والله العظيم نصيحـتي     من مشفق وأخ لكم معوان

جربت هذا كله ووقعت فـي     تلك الشباك وكنت ذا طيران

مثل علم المنطق والكلام والفلسفة وغير ذلك ..

حتى أتاح لي الإله بفضله     ومن ليس تجزيه يدي ولساني

فتى أتى من أرض حران فيا     أهلاً بمن قد جاء من حران

فالله يجزيه الذي هو أهله     من جنة المأوى مع الرضوان

أخذت يداه يدي وسار فلم     يرم حتى أراني مطلع الإيمان

ورأيت أعلام المدينة حولها     نزل الهدى وعساكر القرآن

ورأيت آثاراً عظيماً شأنها     محجوبة عن زمرة العميان

ووردت كأس الماء أبيض صافياً     حصباؤه كلآلئ التيجان

ورأيت أكواباً هناك كثيرة     مثل النجوم لوارد الظمآن

يصف السنة التي قاده إليها شيخه بالحوض الذي فيه أكواب يغرف منها ويشرب ..

ورأيت حول الكوثر الصافي الذي     لا زال يشخب فيه ميزابان

مثل الميزابين في الآخرة التي تصب في نهر الكوثر، ميزابان في حوض السنة، أو ميزابان في حوض الحق يصبان فيه ..

ميزاب سنته وقول إلهه     وهما مدى الأيام لا ينيان

الكتاب والسنة ..

والناس لا يردونه إلا مـن الـ     ألف أفراد ذوو إيمان

وردوا عذاب مناهل أكرم بهـا     ووردتم أنتم على عذاب هوان

هذه الهداية التي كُتبت لـابن القيم -رحمه الله- على يدي شيخه الذي لازمه، وأخذ عنه العلم والفقه والطريقة السُنْية السَّنية، وكان يشكو إلى شيخه وينصحه شيخه بأشياء، كما قال مرة: جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، فقال: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشرب قلبك كل شبهة تمر عليك، صار مقاماً للشبهات، قال: فانتفعت بوصيته في دفع الشبهات انتفاعاً عظيماً.

وقال: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مرة: "العوارض والمحن والابتلاءات هي كالأمراض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها، لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن".

وكان شيخ الإسلام يتابع تلميذه في حفظه للوقت والابتعاد عن الملهيات، فقد قال: "قال لي يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: المباح ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطاً للنجاة -أو نحو هذا الكلام- قال: فالعارف يترك كثيراً من المباح ابقاءً على صيانته، ولا سيما إذا كان المباح برزخاً بين الحلال والحرام". أي: من قسم المشتبهات.

ابتلاءات ابن القيم

لقد نصر ابن القيم -رحمه الله- شيخه ووفى له وامتحن بسببه وأوذي مرات، وحبس معه في السجن بالقلعة منفرداً، ولم يُطلق سراحه إلا بعد موت الشيخ، وتعرض للأذى لما اقتنع بالحق ونشره، وأوذي حتى ضرب وطيف به وأهين مضروباً بالدرة مرة من المرات.

ومن الأشياء التي نقموا عليه: مسألة تحريم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فتاوى الطلاق، وكان مقاوماً للتقليد والتعصب المذهبي، وهذا ما جلب عليه عداوة كثير من أتباع المذاهب.

وكذلك نقده اللاذع للفلسفة وعلم الكلام، فإنه كذلك قد جلب عليه عداوة الفلاسفة ، وكان يتضح في تأليفه جداً مسألة اتباع الدليل، وهذه من أعظم خصائص المنهج السلفي، تقديم الكتاب والسنة وأقوال الصحابة على قول كل أحد آخر، وكان -رحمه الله- يستطرد في المسائل، ويذكر أوجهاً كثيرة قلما تحصل لغيره، حتى لا تكاد تجد تحليلات بعض المسائل مثلما تجدها في كلام ابن القيم رحمه الله، حيث كان طويل النفس في عرض المسائل.

تأليف ابن القيم للكتب حضراً وسفراً

وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- كان يؤلف حضراً وسفراً، والتأليف في السفر ليست قضية يسيرة، خصوصاً عند البعد عن المراجع، كما قال في مقدمة زاد المعاد متواضعاً: "وهذه كلمات يسيرة، لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نهمة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره، مع البضاعة المزجاة، مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل وادٍ منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر".

ومن لطائف الأمور التي حصلت في تآليفه: ما حصل له في كتابه: تحفة المودود بأحكام المولود .. فإن سبب تصنيف هذا الكتاب أن ولده قد رُزق ولداً، والعادة أن الجد يُهدي للحفيد، أو يُهدي لابنه لأجل الحفيد الذي جاء، ولم يكن عند ابن القيم مالٌ يقدمه لولده، أو هدية من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب، وهو تحفة المودود بأحكام المولود، وقال في مقدمته: "سبب التأليف هو أن الله عز وجل رزق ابن المصنف مولوداً، ولم يكن عند والده في ذلك الوقت ما يقدمه لولده من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب وأعطاه إياه، وقال له: أتحفك بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك".

والحقيقة أن هذا الكتاب من روائع الكتب الذي لا يكاد يوجد مصنف مثله في أحكام وتربية المولود، وقد ذكر في الجزء الأخير من هذا الكتاب فوائد تربوية وطبية بالغة الأهمية.

أعداء ابن القيم

وقد كان له أعداء لعله زاد بسبهم له حسنات كثيرة، من ضمنهم: الكوثري ، الذي وصفه بالزندقة والكفر والضلال والبدعة والزيغ والكذب والبلادة والغباوة.. ونحو ذلك، لكن:

لا يضر البحر أمسى زاخراً     إن رمى فيه غلام بحجر

وقد رد على أهل البدع وأعداء الله مثل الجهمية وغيرهم، وتفرغ لأجل مقاومة أهل البدع تفرغاً كبيراً، وعالج عدة أمراض في النفس البشرية، مثل: العشق والهوى، ولأجلها ألف كتاب الجواب الكافي ، وروضة المحبين ، وغير ذلك، وكان له أسلوباً جيداً في العلاج، وكان صاحب استنباطات، حتى قال: إنه استنبط من قصة يوسف ألف فائدة، ثم تمنى على الله عز وجل أن يوفقه لأجل أن يكتب مؤلفاً يجمع هذه الفوائد.

ومما ابتلي به بعد موته بأناس كانوا يحرقون كتبه، كما ذكر الألباني في مقدمة الكلم الطيب ، لأحد الأمراء الذين استوطنوا دمشق في القرن الماضي، كان ذا سلطان ومال، جعل يجمع مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويحرقها، ويتقرب إلى الله بها، لأنه يقول: هذه ضلالات وبدع، ويحرقها، ومع ذلك كانت كتبه -رحمه الله- قد سارت في الأمصار، ومع أن المطبوع منها لا يقارب ثلث الأصل من عدد الرسائل والكتب التي ألفها.

وفاة ابن القيم

اتفقت التراجم على أن ابن القيم -رحمه الله- توفي ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر رجب، وقت أذان العشاء، سنة (751هـ).

وقد كمُل له من العمر ستون سنة فقط -رحمه الله تعالى- وصُلي عليه، وكان ذلك وسط حُزن الناس، ودُفن في مقبرة الباب الصغير بـدمشق ، في نفس المقبرة التي دفن فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وكان قد تلقى علمه منذ بداية أمره على الشهاب النابلسي ، والقاضي تقي الدين بن سليمان ، وأبو بكر بن عبد الدائم ، وعدد من أهل العلم، وقرأ العربية والفقه على المجد الحراني ابن تيمية ، وقرأ الأصول على الصفي الهندي وكذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولازمه ملازمة تامة منذ أن قدم من الديار المصرية في سنة (712هـ) إلى أن مات ابن تيمية -رحمه الله- سنة (728هـ).

وكان والد ابن القيم -رحمه الله- له علم واسع في الحساب والفرائض، ولذلك أخذه ولده عنه، ولما تم تحصيله، وأصبح لديه ملكة كبيرة، صار بعد ذلك يقرأ بنفسه ويطلع وينهم ويتصدى بعد ذلك للتدريس والإفتاء والتأليف.

للإمام ابن القيم أولاد، ومنهم: عبد الله ، كانت ولادته سنة (723هـ)، ووفاته سنة (756هـ)، وكان مفرطاً في الذكاء، أنه حتى حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة (731هـ)، أي: أنه كان في التاسعة من عمره تقريباً، وأثنى عليه بأمور، وكذلك ابنه إبراهيم كان علامة نحوياً فقيهاً.

وأما العلوم التي برع فيها ابن القيم -رحمه الله- فإنها كثيرة جداً، فهي تكاد تكون علوم الشريعة بأكملها، وعلوم الآلة والتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه واللغة والنحو.. وغير ذلك.

قال ابن رجب واصفاً شيخه ابن القيم: "تفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير، وأصول الدين لا يجارى، وإليه فيها المنتهى، والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط لا يُلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية وله فيها اليد الطولى.. وغير ذلك".

وقال ابن كثير رحمه الله في وصفه: "سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، ولا سيما علم التفسير والحديث، ولما عاد شيخ الإسلام ابن تيمية من الديار المصرية سنة (721هـ)؛ لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علماً جماً مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة".

وقال الذهبي رحمه الله: "عُني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره".

وقال ابن حجر: "كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف ، ومن الأشياء التي حصلت له مناظرة مع أكبر من يشار إليه بالعلم عند اليهود، جرت له مناظرة معه بـمصر".

وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- قد حج مرات كثيرة، وجاور بـمكة ، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يُتعجب منه، وألف كتابه: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ، مدة إقامته بـمكة ، بما فتح الله عليه .. يقول: "وكان هذا من بعض النُزْول والفتح التي فتح الله بها عليّ حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً، فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله، وأصبح ببابه مقيماً، وبحماه نزيلاً".

ومن الأشياء التي حصلت له بـمكة : أنه مرض مرضاً شديداً استعصى على الأطباء، فقال: لقد أصابني أيام مقامي في مكة أسقام مختلفة، ولا طبيب ولا أدوية كما في غيرها من المدن، فكنت أستشفي بالعسل وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً.

وقال في هذا المرض الذي انقطعت فيه حركته، وحصل له فيه شيء من الألم كثير: "إنه كان يقرأ على ماء زمزم الفاتحة ويشرب، فحصل له شفاء لم يحصل له على يد الأطباء".

لقد ألف كتبه في أحوال، منها: أحوال الغربة والسفر، كما ألف كتاب مفتاح دار السعادة ، وكذلك كتاب زاد المعاد ، ألفه في حال السفر لا الإقامة، والخاطر متفرق، والقلب في كل وادٍ منه شعبة، كما وصف رحمه الله.

وكان شديد المحبة للكتب، وجمع كتباً لم يتهيأ لغيره -كما يقول ابن كثير - عشر معشار ما اجتمع عنده -رحمه الله- من كتب السلف والخلف، كان مغرماً بجمعها، وحصل ما لا يحصى، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم، وكان لا يبخل -رحمه الله- في إعارتها.

وقد تولى الإمامة بالجوزية، والتدريس في الصدرية -أسماء مدارس- وتصدى للفتوى والتأليف، وقد سجن بسبب بعض الفتاوى، كفتواه في الطلاق الثلاث بلفظ واحد، التي تابع فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وعامة أهل الأرض مطبقون على أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثاً، كما هو قول أهل المذاهب الأربعة.

وكذلك حصل له أذى بسبب تأليفه رسالة إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل، وتابع فيها شيخ الإسلام رحمه الله، المتابع لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، في مسائل التوسل، ومقاومة أنواع الشرك.

كان ابن القيم حسن القراءة، كثير التودد، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يحقد على أحد، وكان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، وكان ذا خلق عظيم رحمه الله تعالى.

ومن خلقه: تواضعه الذي يظهر في أشياء كثيرة من كتبه، ومن ذلك: قصيدة يظهر فيها تواضعه أنشدها لبعض طلابه، وهو العلامة الصفدي رحمه الله، يقول ابن القيم عن نفسه في هذه القصيدة:

بُني أبي بكر كثير ذنوبه     فليس على من نال من عرضه إثم

بُني أبي بكر جهول بنفسه     جهول بأمر الله أنى له العلم

بُني أبي بكر غدا متصدراً     يعلم علماً وهو ليس له علم

بُني أبي بكر غدا متمنياً     وصال المعالي والذنوب له هم

بُني أبي بكر يروم ترقياً     إلى جنة المأوى وليس له عزم

بُني أبي بكر لقد خاب سعيـه     إذا لم يكن في الصالحات له سهم

بُني أبي بكر لما قال ربه     هلوع كنود وصفه الجهل والظلم

فو الله لو أن الصحابة شاهدوا     أفاضلهم هم الصم والبكم

هذا ما وصف به حاله -رحمه الله- وتواضعه، مع أنه كان ذا عبادة شديدة، وكان ذا تأله وتهجد واستغفار بالأسحار، وافتقار إلى الله عز وجل، وطول قيام، وحج مرات كثيرة، حتى قال ابن كثير رحمه الله: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقة في الصلاة يُطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله، وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، ويقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي.

وهذه عبارة مشابهة للعبارة التي جاءت عن شيخه في هذه المسألة، وهي القعود من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ثم الصلاة ركعتين، حتى يتعالى النهار، ومن عباراته المشهورة: "بالصبر والفقه تنال الإمامة في الدين".

وأما تأثره بـابن تيمية رحمه الله فكان تأثراً شديداً جداً، فإنه التقى به سنة (712هـ)للهجرة، ولازمه إلى سنة (728هـ)، إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وهو الذي كانت هدايته على يديه، ويصف توبته على يد شيخه بقوله:

يا قوم والله العظيم نصيحـتي     من مشفق وأخ لكم معوان

جربت هذا كله ووقعت فـي     تلك الشباك وكنت ذا طيران

مثل علم المنطق والكلام والفلسفة وغير ذلك ..

حتى أتاح لي الإله بفضله     ومن ليس تجزيه يدي ولساني

فتى أتى من أرض حران فيا     أهلاً بمن قد جاء من حران

فالله يجزيه الذي هو أهله     من جنة المأوى مع الرضوان

أخذت يداه يدي وسار فلم     يرم حتى أراني مطلع الإيمان

ورأيت أعلام المدينة حولها     نزل الهدى وعساكر القرآن

ورأيت آثاراً عظيماً شأنها     محجوبة عن زمرة العميان

ووردت كأس الماء أبيض صافياً     حصباؤه كلآلئ التيجان

ورأيت أكواباً هناك كثيرة     مثل النجوم لوارد الظمآن

يصف السنة التي قاده إليها شيخه بالحوض الذي فيه أكواب يغرف منها ويشرب ..

ورأيت حول الكوثر الصافي الذي     لا زال يشخب فيه ميزابان

مثل الميزابين في الآخرة التي تصب في نهر الكوثر، ميزابان في حوض السنة، أو ميزابان في حوض الحق يصبان فيه ..

ميزاب سنته وقول إلهه     وهما مدى الأيام لا ينيان

الكتاب والسنة ..

والناس لا يردونه إلا مـن الـ     ألف أفراد ذوو إيمان

وردوا عذاب مناهل أكرم بهـا     ووردتم أنتم على عذاب هوان

هذه الهداية التي كُتبت لـابن القيم -رحمه الله- على يدي شيخه الذي لازمه، وأخذ عنه العلم والفقه والطريقة السُنْية السَّنية، وكان يشكو إلى شيخه وينصحه شيخه بأشياء، كما قال مرة: جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، فقال: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشرب قلبك كل شبهة تمر عليك، صار مقاماً للشبهات، قال: فانتفعت بوصيته في دفع الشبهات انتفاعاً عظيماً.

وقال: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مرة: "العوارض والمحن والابتلاءات هي كالأمراض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها، لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن".

وكان شيخ الإسلام يتابع تلميذه في حفظه للوقت والابتعاد عن الملهيات، فقد قال: "قال لي يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: المباح ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطاً للنجاة -أو نحو هذا الكلام- قال: فالعارف يترك كثيراً من المباح ابقاءً على صيانته، ولا سيما إذا كان المباح برزخاً بين الحلال والحرام". أي: من قسم المشتبهات.

لقد نصر ابن القيم -رحمه الله- شيخه ووفى له وامتحن بسببه وأوذي مرات، وحبس معه في السجن بالقلعة منفرداً، ولم يُطلق سراحه إلا بعد موت الشيخ، وتعرض للأذى لما اقتنع بالحق ونشره، وأوذي حتى ضرب وطيف به وأهين مضروباً بالدرة مرة من المرات.

ومن الأشياء التي نقموا عليه: مسألة تحريم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فتاوى الطلاق، وكان مقاوماً للتقليد والتعصب المذهبي، وهذا ما جلب عليه عداوة كثير من أتباع المذاهب.

وكذلك نقده اللاذع للفلسفة وعلم الكلام، فإنه كذلك قد جلب عليه عداوة الفلاسفة ، وكان يتضح في تأليفه جداً مسألة اتباع الدليل، وهذه من أعظم خصائص المنهج السلفي، تقديم الكتاب والسنة وأقوال الصحابة على قول كل أحد آخر، وكان -رحمه الله- يستطرد في المسائل، ويذكر أوجهاً كثيرة قلما تحصل لغيره، حتى لا تكاد تجد تحليلات بعض المسائل مثلما تجدها في كلام ابن القيم رحمه الله، حيث كان طويل النفس في عرض المسائل.