حكمة إبراهيم الخليل


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

إن الله قص علينا في كتابه من أخبار الأنبياء ما هو فعلاً مجالٌ للاقتداء والاقتفاء بأولئك الأنبياء، بل إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم وبهديهم: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].

والأنبياء على مراتب، وقد فضل الله بعضهم على بعض: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] وأفضل الأنبياء على الإطلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والذي يليه في الفضل والمرتبة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، هذا النبي الجليل الكريم الذي قام يدعو إلى الوحدانية ويحارب الشرك، وهذا أهم ما تميزت فيه دعوته من خلال عمله ومناظراته مع أهل الكفر، وكان مع ذلك إنساناً تتجلى فيه المعالم الجليلة التي أودعها الله في نفسه، وكان شخصية متكاملة، وهو بحق أبو الأنبياء، وهو الذي آتاه الله نبوة عظيمة، ومرتبة جليلة.

وُلد إبراهيم عليه السلام في أرض بابل، وهي أرض الكلدانيين كما ذكر ذلك مؤرخو الإسلام، واسم أبيه آزر كما قال الله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74] وقال الطبري رحمه الله: قال عامة السلف من أهل العلم: كان مولد إبراهيم عليه السلام في عهد النمرود، هذا الملك الطاغية الظالم الغشوم، الذي جعل نفسه إلهاً يعبد، وحمل الناس على ذلك، وفي هذه البيئة الفاسدة من عبادة الأوثان والأصنام عاش إبراهيم عليه السلام، فلا يوجد أثر للوحدانية ولا للتوحيد؛ لأن البشرية كانت قد انحرفت في ذلك الوقت، فأراد الله أن يعيدها إلى التوحيد، فابتعث فيهم إبراهيم.

عاش إبراهيم عليه السلام في هذه البيئة، ولما شب تزوج بـسارة وكانت عقيماً لا تلد، وكان منذ صغره صائب الرأي، ثاقب الفكر، راجح العقل، قوي الحجة كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51].

وقد ابتلاه الله بكلمات قيل: هن سنن الفطرة خمس في الرأس وخمس في الجسد، فأتمهن، فجازاه الله بالإمامة: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124] وهكذا لا تكون المراتب العالية إلا بعد المجاهدة، فمن أراد أن يكون قدوة للناس وأن يكون إماماً يؤتم به، فلا بد أن يجاهد نفسه حاملاً لها على طاعة الله والتزام أوامره، فلما أدى الأمانة؛ رزقه الإمامة: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] بما أمره الله به، وكان من صبره وجلده أنه اختتن كبيراً كما جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدُّوم) القدُّوم بالتشديد اسم آلة، وفي رواية: بالقدوم وهو اسم موضع.

ولما عرف إبراهيم التوحيد؛ سار إلى الله تعالى بخطى ثابتة يدعو قومه، فكان أول ما بدأ به دعوة أبيه إلى الإسلام وإلى التوحيد، فقد كان أبوه من عباد الأصنام ومن سدنتها، فبدأ به كما قال الله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] وهكذا الترتيب في الدعوة يا معشر الدعاة! فيبدأ بالأقربين: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [مريم:41-45].

فكان جواب الأب الظالم الغشوم: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ [مريم:46] هل أنت تريد أن تبتعد وتترك هذه الآلهة وتخرج عن عبادتها؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ [مريم:46] عن هذه المفارقة للآلهة وهذه الدعوة التي أتيت بها: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46] فارقني وابتعد عني وإلا رجمتك، كان هذا جوابه، فبماذا أجاب الولد البار بأبيه المشرك؟ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [مريم:47]. هذا هو الأسلوب الدعوي الجذاب الذي حاول فيه إبراهيم الخليل، أن يكسر حجة أبيه وأن يعيده إلى جادة الصواب، لقد استخدم هذا الأسلوب الموجب للعطف والحنان، لكي يهدئ من ثورة أبيه المشرك ويحاول اجتذابه، لم يبدأ إبراهيم بالحديث عن غزارة علمه أو قوة حجته، وإنما تكلم بهذا النداء "يا أبتِ" المنطوي على غاية التواضع لهذا الأب له لعله يهتدي، كما أنه لم يصف أباه بالجهل ونفسه بالعلم وإنما قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي [مريم:43] وهكذا تكون الدعوة مع كبار السن ومع الآباء والأجداد بالتلطف والرفق وإدخال عامل العاطفة والحنان والمناشدة والنداء؛ عل الله أن يفتح بذلك قلباً أغلف أو أذناً صماء أو عيناً عمياء.

كان استغفار الابن لأبيه في بداية دعوته؛ لما لم يتبين له بعد إصرار أبيه على الشرك: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ [التوبة:114] لكن لما: تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ [التوبة:114] ومات على الشرك: تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام البخاري : (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة -سواد وغبرة- فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين، فيقال: يا إبراهيم! انظر ما بين رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ -أي: ضبع، متلطخ قذر منتن- فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار) قال الحافظ رحمه الله: وفي رواية إبراهيم بن طهمان : (فيؤخذ منه فيقول: يا إبراهيم! أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني، قال: انظر أسفل، فينظر فإذا ذيخٌ يتمرغ في نتنه) ضبع في صورة قبيحة ورائحة منتنة.

وفي رواية أيوب : (فيمسخ الله أباه ضبعاً فيأخذ بأنفه - أي: إبراهيم يأخذ بأصابعه أنفه من نتن الرائحة- فيقول: يا عبدي! أبوك هو؟ فيقول: لا وعزتك) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : قيل الحكمة في مسخه لتنفر نفس إبراهيم منه، لئلا يبقى في النار على صورته، فيكون غضاضة على إبراهيم، وهكذا ينتهي الأب المجرم بهذا المصير المخزي؛ لما رفض سماع كلام الولد الصالح، فماذا عسانا نقول لأولئك القوم الذين غلوا في طغيانهم وفجورهم، فلما هدى الله أولادهم إلى الصراط المستقيم من قاموا لهم بالنصيحة وبينوا لهم الطريق القويم، ولكن أخذتهم العزة بالإثم فلا يريدون الرجوع عن طريق الغواية إلى طريق الحق والهداية، ويصرون على الباطل ويستهزئون بالولد الصالح وهو يدعوهم إلى الله تعالى وإلى ترك الفجور والخنا على الكبر والشيب، وترك الخمرة في نهاية العمر، ولكن لا فائدة، فأي مصير ينتظرهم وهم المعرضون عن التذكير والنصح؟ فتباً لتلك الأفئدة ما أقواها على النار! وهي لا تقوى على النار.

انطلق إبراهيم الخليل في دعوة قومه: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:85-87]. فماذا كان جواب القوم؟ وبأي شيء اصطدم إبراهيم الخليل في أول دعوته؟

لقد اصطدم بجدار عجيب، لقد اصطدم بعقبة كئود، لقد اصطدم بعائق كبير إنه تقليد الآباء والأجداد، فكان الرد من قومه على دعوته: قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:74] ... وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:51-54].واليوم يكون عائق تقليد الآباء والأجداد عائقاً كبيراً يصد عن ترك العادات والتقاليد المخزية المنافية للشريعة المتينة التي تنتشر في أوساط الناس لجهلهم، فكلما أردت أن تعلم شخصاً شيئاً من أحكام الصلاة ونحو ذلك، قال: وجدت أبي هكذا يصلي، ويستمر الخاطئ على الخطأ، وهكذا لو قلت: هذه عادة قبيحة، هذا جهل، قال: هكذا وجدنا أنفسنا منذ صغرنا وعلى هذا تربينا ونشأنا.

لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54] فما معنى إذاً الاستمرار على العادات والتقاليد المخالفة للشريعة والشعور بالعيب والنقص إذا تركها الشخص؟ لا شك أن في ذلك سفاهة عقل وبعداً عن الحق وتقديماً للآباء والأجداد على الله ورسوله، وهذا مبدأ في غاية الخطورة، يذوق منه الدعاة الويل اليوم في واقع الناس.

وكان إبراهيم عليه السلام قد أوتي حجة من الله، مؤيداً بالوحي، ينطق لسانه بالحق والحكمة، فبدأ في مناظرة قومه: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75] فهو من المؤمنين والمسلمين، ولم يشرك إبراهيم قط: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76] والقوم موجودون حضور وشهود: رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76] فكيف أتخذ رباً يأفل! فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:77-78].

كانوا يعبدون الأصنام والأوثان فأراد بهذه الطريقة الذكية أن يستدرجهم بالكوكب والقمر والشمس إلى إقامة الحجة عليهم، والقوم يشاهدون هذه الظاهرة، وقال إبراهيم في نهاية كلامه: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام:79-80] خوفوه بالآلهة، خوفوه بالأنداد والأصنام، ولكن إبراهيم يقول: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا [الأنعام:80-82] لم يخلطوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، بشرك أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

أقام عليهم الحجة فأفحمهم وأسكتهم، ولذلك قال الله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83] ولا يجوز الاعتقاد بأي حال من الأحوال أن إبراهيم كان مشركاً أو أنه كان لا يعرف ربه، أو أنه كان محتاراً شاكاً فهذا قول الضلال، فإن إبراهيم كان موحداً وهذه طريقة للدعوة وللاستدراج وللإقناع والتنـزل مع الخصم، ولا تدل بأي حال من الأحوال أبداً على إن إبراهيم كان مشركاً أو مشككاً أو متحيراً، فإن الله قال عنه: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] وقال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله: ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوماً ما: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] ولا في أي وقت من الأوقات، لم يكن إبراهيم عليه السلام من المشركين.

لم يكن إبراهيم بذلك الرجل يناقش الضعفاء والعامة ويترك الأقوياء والكبراء، وإنما كان يثبت الحق عند الجميع، لم يكن ليخاف في الله لومة لائم، ولذلك لما وصلت القضية إلى النمرود ، قام إبراهيم لله بالحجة بين يديه فأمره ونهاه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة:258] ألم تر إلى هذا الحقير! ألم تر إلى.. وتتعجب منه ومن حاله وغروره: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258] بدلاً من أن يشكر هذه النعمة إذا به يكفر ويشرك: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258] بدلاً من أن يشكر نعمة الملك إذا به يدعي أنه رب، ويقول إبراهيم أمامه: إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] بكل صلافة ووقاحة، أنا أحيي وأميت، فيأخذ رجلاً ويقتله، وآخر حكم عليه بالقتل فيعفو عنه، ويقول: أحييته، فلما يرى الداعية الفقيه أن هناك مجالاً للطاغية أو للفاسق والفاجر في المناقشة في أمرٍ الحق فيه واضح، ولكن يريد أن يرد، ينتقل إلى أمر لا يمكن فيه أن يرد: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258] بهت وتحير واضطرب وتغير وأسقط في يده، فماذا عساه أن يقول الآن؟ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258] وهكذا قام إبراهيم لله بالحجة على هذا الطاغية.

انتهز إبراهيم فرصة خروج قومه في عيدٍ لهم إلى خارج البلد على عادةٍ منهم وتقليد من التقاليد، بعد أن أقام عليهم الحجة: قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:54-58] لما خرجوا ادعى إبراهيم المرض: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89].

وذلك لكي يعقد لهم هذه الخطة التي تبين لهم في النهاية سفه الرأي وضلالة، فلما خرجوا دخل بيت الأصنام وراغ عليهم ضرباً باليمين، بفأس في يديه راح يكسرها حتى جعلها جذاذاً حطاماً مكسرة كلها إلا كبيراً لهم وضع الفأس في يده إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار، أراد أن ينبههم أيضاً فكيف بالله الواحد القهار؟ ترك الكبير والفأس معلقة في يد الكبير، كأنه يقول لهم: إنه غار من أن تعبد معه هذه الصغار، ليقول لهم بطريقة غير مباشرة: فكيف بالواحد القهار تعبدون معه هذه الأحجار؟!

فرجع القوم من عيدهم، ويا لهول ما رأوا! لأن أعظم شيء عندهم عبادة هذه الأصنام، فكان الهم الوحيد لهم: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59] وبدأ التحقيق والبحث والسؤال وجمع الأقوال واتجهت الأنظار إلى إبراهيم الخليل: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60] كان فتىً عندما فعل ذلك، كان في مقتبل العمر: سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:60-61]. هذه المحاكمة والنهاية للإجرام الذي فعله، بدأت المحاكمة العلنية وتقاطر الناس من كل مكان وبدأ التحقيق مع هذا الذي فعل: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:62] كان بإمكانه بأن يقول من البداية: أنا فعلتها ولا يخشى في الله لومة لائم، لكن عنده أمل أن يقتنع القوم: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] قيل: هي تورية، وقيل: إن كان ينطق فهو الذي فعله، استخدم إبراهيم عليه السلام هذا الأسلوب لإقناع قومه: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63].

وهنا كأن القوم قد أسقط في أيديهم: فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ [الأنبياء:64-65] لم يعلوا جواباً ولم ينطقوا بكلمة؛ لأن الحجة قوية فعلاً، هل فعله هذا؟ إذا كان لم يفعله هذا وفعله إبراهيم، فلماذا نعبد هذا إذاً وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، نعبد أصناماً لا تستطيع أن تدفع عن نفسها؟!

وإن كان فعله هذا غيرة على نفسه من الصغار، فكيف إذاً بالواحد القهار؟ ! فـ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ [الأنبياء:65] لقد ألجمتهم الحجة والكلمة البينة القاطعة، وهكذا يجب أن تكون الدعوة بلسان واضح صريح وحجة بينة دامغة تسكت المعاند وتلقمه حجراً.

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:66-67]. ولكن الذي يبتلى به كثير من الناس هو العناد والمكابرة رغم وضوح الحق: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:68] وانتقموا من أجلها: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68] جمعوا الحطب وأججوا النيران، وألقوا إبراهيم فيها جزاءً أمام الناس، ولكن الذي خلق النار قادر أن يسلب منها خاصية الإحراق: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. فكانت برداً قلع منها الحر، وسلاماً على إبراهيم: لا يؤذيه لا حرها ولا بردها: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء:70] وهكذا ينجي الله أولياءه وعباده الصالحين من الشرور إذا هم توكلوا عليه وأنابوا إليه، وهذا درسٌ عظيمٌ ينبغي أن يتأمل فيه كل إنسان يقوم لله بالحجة. إن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار عنه غير الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك كان فيها أجر لمن قتلها، من قتل وزغاً من أول ضربة كان له مائة حسنة، والثانية خمسون حسنة، كله تذكير بعهد إبراهيم، وأمر إبراهيم، وكان لـعائشة رمح تقتل به الأوزاغ.

قال ابن عباس : [كان قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل] حسبي الله: يكفيني، ونعم الوكيل، ولذلك نجاه الله من النار، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب ولأولي الأبصار.

فاعقلوا واتعظوا يا أيها المسلمون! من سيرة هذا النبي الجليل، أحبوه من قلوبكم؛ لما قام لله بالحجة والحق، أَحِبُّوه؛ لأنه كان إماماً وقدوة، أَحِبُّوه؛ لأنه كان موحداً لا يخاف في الله لومة لائم.

اللهم اجعلنا على ملة إبراهيم، وارزقنا اتباع التوحيد والدين القويم إنك أنت الغفور الرحيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام المتقين، وحامل لواء الحمد يوم الدين، وصاحب الشفاعة العظمى الذي ترغب إليه الخلائق كلهم حتى إبراهيم، كما جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

أيها المسلمون: لم يكن إبراهيم داعيةً إلى التوحيد فحسب، وإنما كان إنساناً كريماً يكرم الضيف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان أول من أضاف الضيف إبراهيم) ومعلوم خبر الملائكة الذين أتوا إليه، وكانوا يريدون القضاء على قوم لوط الذي كان من آل إبراهيم موحد مثله: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:24-25] فرحب بهم ولو أنه لا يعرفهم، وفتح الباب لأجلهم، دخلوا عليه فقالوا سلاما، أي: بابه مفتوح للضيوف، فراغ إلى أهله خفية حتى لا يشعروا بالحرج، لأنه يريد أن يقدم لهم ضيافة: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] جاء بعجل سمين على وجه السرعة، عجل مشوي على الرضف المحمى، طعام نفيس للضيوف، ولم يقل: تعالوا وإنما قربه إليهم ودعاهم إلى الأكل فقال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27]؟ حتى يبتدءوا، لأن الناس يجلسون على الطعام ينتظرون إشارة المضيف، وإبراهيم يسارع ويقول: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] وسائر أنواع كرم الضيف تجدها في سيرته عليه السلام وهو يكرم أولئك الملائكة الذين لم يأكلوا؛ لأنهم لا يأكلون.

لقد كان إبراهيم مسلماً لأمر ربه لا يخرج عن طاعته، وكان استسلامه لأمر الله عجيباً يتمثل ذلك في عدة مواقف منها:

حادثة ذبح ابن إبراهيم

في حادثة الذبح المشهورة، إبراهيم ما كان ينجب من زوجته، ومع ذلك يدعو الله ولو كان في الكبر، يقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100] ولم يقل: هب لي ولداً ذكراً وإنما مِنَ الصَّالِحِينَ يريد صالحاً؛ لأن مجرد الولد قد يكون عاراً وشناراً على أبويه: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100] فتعلم يا عبد الله! يا أيها المتزوج! كيف تطلب الولد من الله من سيرة أبيك إبراهيم رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100].

المهم أن يكون صالحاً: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:101-102] لما كبر الولد وشب وأطاق السعي مع أبيه، إذا بهذا الابتلاء العظيم من الله: يرى إبراهيم في المنام رؤيا ورؤيا الأنبياء حق: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] الولد من تربية الوالد: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:102-103] الولد والوالد: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قلبه على قفاه لكي لا يشاهد علامات التألم عند الذبح، فربما يتردد، فشرع في الذبح ولكن الله كان يريد أن يبتلي ابتلاء يرفع به درجة ذلك النبي وولده: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:104-106].

أن يذبح الولد الذي جاءه الآن بعد انتظار سنين طويلة دون إنجاب، بعدما بلغ معه السعي، فأي استسلام هذا! وأي طاعة لأمر الله! وفداه الله بذبح عظيم صار شعاراً وسنة وإلى الآن يذبح الناس الضحايا تذكيراً بسيرة ذلك النبي الكريم.

ترك إبراهيم لزوجه وولده في مكة

أيها الإخوة: لقد كان إبراهيم عليه السلام آية من آيات الله سبحانه وتعالى، كان إبراهيم نبياً كريما، تجلى استسلامه أيضاً لله لما ترك ولده وأم الولد في مكة في أرض ليس فيها بشر ولا زرع لأن الله أمره بهذا، ورفض أن يتردد ومضى حتى علمت ولحقت به أم الولد تقول: أين تتركنا في هذا المكان؟ حتى علمت أن الله أمره بهذا، فقالت: لن يضيعنا. كان إبراهيم يرجع ليتفقد أولاده وتركته، فهو يرعى مصلحة الأسرة فلما رأى الزوجة التي عند ولده فيها فساد واعوجاج أمر بطلاقها، ولما رأى الزوجة التي تليها صالحة بارة، أمر بإبقائها.

في حادثة الذبح المشهورة، إبراهيم ما كان ينجب من زوجته، ومع ذلك يدعو الله ولو كان في الكبر، يقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100] ولم يقل: هب لي ولداً ذكراً وإنما مِنَ الصَّالِحِينَ يريد صالحاً؛ لأن مجرد الولد قد يكون عاراً وشناراً على أبويه: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100] فتعلم يا عبد الله! يا أيها المتزوج! كيف تطلب الولد من الله من سيرة أبيك إبراهيم رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100].

المهم أن يكون صالحاً: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:101-102] لما كبر الولد وشب وأطاق السعي مع أبيه، إذا بهذا الابتلاء العظيم من الله: يرى إبراهيم في المنام رؤيا ورؤيا الأنبياء حق: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] الولد من تربية الوالد: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:102-103] الولد والوالد: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قلبه على قفاه لكي لا يشاهد علامات التألم عند الذبح، فربما يتردد، فشرع في الذبح ولكن الله كان يريد أن يبتلي ابتلاء يرفع به درجة ذلك النبي وولده: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:104-106].

أن يذبح الولد الذي جاءه الآن بعد انتظار سنين طويلة دون إنجاب، بعدما بلغ معه السعي، فأي استسلام هذا! وأي طاعة لأمر الله! وفداه الله بذبح عظيم صار شعاراً وسنة وإلى الآن يذبح الناس الضحايا تذكيراً بسيرة ذلك النبي الكريم.