ذكرى المثوى


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

a= 6000394>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران:102] لقد ألهانا ما في هذه الدنيا عن الاستعداد للدار الآخرة، إن هذا البهرج وهذه الزينة، إن هذه الألوان والسلع، إن هذه التسالي والألعاب، إن هذه الأفلام والمسلسلات، إن هذه الأسفار والسياحات، إن هذه الملابس والصناعات؛ قد ألهتنا عن الله تعالى والاستعداد للدار الآخرة، ولا يزال أهل الدنيا في غفلة حتى يأتيهم الموت، فإذا ماتوا انتبهوا.

الموت -يا عباد الله- حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تذكره وأمرنا بذلك فقال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) وامتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم، تعالوا بنا نتذكر شيئاً من الأمر الذي أمرنا به صلى الله عليه وسلم، وهو تذكر الموت، لعل الله تعالى أن ينعش قلوبنا بذكره، وأن يزيل الغفلة عن القلوب الصدئة، وأن يعود من انحرف إلى الجادة، وأن يزداد الذي سلك الجادة عبادة، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8] نَفِرُّ من الحوادث والأمراض إلى الأطباء والمستشفيات، نَفِرُّ من الموت والموت ملاقينا: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19] إنه مجيءٌ أكيدٌ ولابد: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [الأنعام:93] إن هذا الموت يا عباد الله آتٍ لا محالة، كيف بأمرٍ إذا نزل قطَّع الأوصال، أمر يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك؟

إنه حقاً أمرٌ عظيمٌ وخطبٌ جسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم، قال ابن مسعود رحمه الله: [ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله] وهذا الأمر قد نسيناه، دهانا مجرد ذكر الموت والحديث فيه، والكثير يغضب إذا ذكر الموت ويقول: تنغص علينا حياتنا وعيشتنا، تنغص علينا أكلنا ومعيشتنا، وذِكر الموت ليس لتكدير حياة الناس وإفساد مجالسهم ونزع السعادة منهم، ولكن لإصلاح حالهم وتنوير قلوبهم، وجعلهم مستعدين للقاء الله والقدوم عليه.

قيل للحسن رحمه الله: يا أبا سعيد ! كيف نصنع؟ نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله أن تخالل أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمنٌ؛ خيرٌ من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك الخوف.

وقال رحمه الله: كان من كان قبلكم يقربون هذا الأمر، كان أحدهم يأخذ ماءً لوضوئه ثم يتنحى لحاجته مخافة أن يأتيه أمر الله وهو على غير طهارة، فإذا فرغ من حاجته توضأ.

الاتعاظ بالموت للشباب والشيوخ

يا عبد الله! إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك وفرة مالك ولا كثرة احتشادك، أما علمت أن ساعة الموت ذات كربٍ شديد، وغصص وندامة على تفريط، رحم الله عبداً عمل لساعة الموت، وما نراه في المقابر أعظم عظةٍ وأكبر معتبر.

تمر بنا أيامٌ أيها الإخوة! تتابع علينا أخبار الوفيات، تتابع الجنازات وأخبار الأموات، هذا صديق، وهذا قريب، وهذا جار، قد اختطفهم الموت بأمر الله تعالى، وما نراه في المقابر أعظم عظة وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمولٌ غداً، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيُرجع عنه غداً ويترك وحيداً فريداً مرتهناً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

يا أيها الشاب! لا تغرنك الصحة والقوة والعافية، ولا يغرنك الشباب وكلام الأصحاب، لا يغرنك عِشاءٌ ساكن قد يوافي بالمنيات السحر، قد يأخذك على حين غفلة، وأنت لا ترى الموت يصل إليك، بل تراه بعيدا.

أيها المسلمون!

أيها الإخوان!

يا عباد الله! هذه ذكرى للشاب، أما من وخطه الشيب وأمد الله في عمره، وتخطاه الموت في سن الشباب فإن شيبه نذير الموت.

تقول النفس غَيِّرْ لون هذا      عساك تطيب في عمرٍ يسيرِ

فقلت لها المشيب نذير عمري     ولست مسوداً وجه النذير

قال صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة).

عظم أمر الموت

إذا جاءنا هذا الأمر من الله فهل إلى الطبيب من سبيلٍ، فتدعى الأطباء؟ أو إلى الشفاء طريقٌ فيرجى الشفاء؟ ما يقال إلا فلانٌ أوصى، ولماله أحصى، قد ثقل لسانه فلا يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه، وعرق الجبين، وتتابع الأنين، وثبت اليقين، وصدقت الظنون، وتلجلج اللسان وبكى الإخوان، هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، قد منعت الكلام فلا تنطق، وختم على لسان فلا ينطق، ثم حل بك القضاء، وانتُزعت النفس من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عوادك، واستراح حُسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهناً بأعمالك.

قال سفيان الثوري رحمه الله مبيناً حال شيخٍ كبيرٍ في استعداده للموت: رأيت شيخاً كبيراً في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر الموت أن ينزل بي، لو أتاني ما أمرته بشيء، ولا نهيته عن شيء، ولا لي على أحدٍ شيء، ولا لأحدٍ عندي شيء، أنتظر الموت، أنتظر أمر الله على عبادةٍ وطاعة.

لو أتانا الموت يا عباد الله! فقرع بابنا واستأذن للولوج -ولن يستأذن- لاحتجنا إلى سنوات طويلة نرتب أمورنا ونسدد حقوقنا، ولكن السلف كانوا على استعدادٍ دائم.

انظر يا أخي في غدك ودنو أجلك وقلة عملك، فقد كتب بعض أهل الحكمة إلى رجلٍ من إخوانه: يا أخي! احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دارٍ تتمنى الموت فيها فلا تجده؛ يُتمنى الموت في ذلك اليوم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] فلنحذر في هذه الدار قبل أن نصير إلى دارٍ نتمنى فيه الموت فلا يحصل.

قال يحيى بن معاذ رحمه الله: مصيبتان للعبد في ماله لم يسمع بمثلها الأولون والآخرون، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله، فأي مصيبة في المال أعظم من هذه؟ لو احترق، أو ذهب في الدنيا لأتى غيره بدلاً منه، يأتي هو ببدلٍ منه، لكن عند الموت يؤخذ منه كله، ولا يأتي ببدل، ويسأل عنه كله، وعن كل درهمٍ: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟

قيل لـعبد الله بن عمر رضي الله عنه: [توفي فلانٌ الأنصاري، قال: رحمه الله، قالوا: ترك مائة ألف، قال: لكن هي لم تتركه] وكيف تتركه وهنالك كتابٌ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.

حال خير الناس في سكرات الموت

( إن للموت لسكرات ) قالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدخل يديه في ركوة ماء ويمسح بها وجهه الشريف، وهو يحتضر يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) (ولما رأت فاطمة رضي الله عنها ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه قالت: واكرب أبتاه! فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم) ولما احتضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه تمثلت عائشة ببيت من الشعر:

أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى     إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فقال أبو بكر رضي الله عنه: [ليس كذلك يا بنية! ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ثم قال: انظروا ثوبيَّ هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت].

و عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه لما كان في مرضه الذي مات فيه، قال: " أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه، وأَحدَّ النظر وقال: قد أصبحنا، أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار ".

هذه كلمات أخرى لـمعاذ بن جبل لما نزل به الموت قال: [مرحباً بالموت زائراً مغيباً، وحبيباً جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر].

فكانوا ثابتين عند الموت لما كان لهم الثبات في الحياة، الطاعة في الحياة تثمر ثباتاً عند الموت، والمعصية في الحياة تثمر اللجلجة والحشرجة، وعدم التوبة وقلة الثبات عند الموت، ولذلك كان السلف رحمهم الله أثبت ما يكونون في تلك الساعة، وهي أحوج ما يكون فيها الإنسان إلى الإيمان، وإلى سلامة العقيدة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن ثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم هوِّن علينا سكرات الموت، وارزقنا الثبات عند الممات، اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة والعتق من النار.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

يا عبد الله! إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك وفرة مالك ولا كثرة احتشادك، أما علمت أن ساعة الموت ذات كربٍ شديد، وغصص وندامة على تفريط، رحم الله عبداً عمل لساعة الموت، وما نراه في المقابر أعظم عظةٍ وأكبر معتبر.

تمر بنا أيامٌ أيها الإخوة! تتابع علينا أخبار الوفيات، تتابع الجنازات وأخبار الأموات، هذا صديق، وهذا قريب، وهذا جار، قد اختطفهم الموت بأمر الله تعالى، وما نراه في المقابر أعظم عظة وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمولٌ غداً، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيُرجع عنه غداً ويترك وحيداً فريداً مرتهناً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

يا أيها الشاب! لا تغرنك الصحة والقوة والعافية، ولا يغرنك الشباب وكلام الأصحاب، لا يغرنك عِشاءٌ ساكن قد يوافي بالمنيات السحر، قد يأخذك على حين غفلة، وأنت لا ترى الموت يصل إليك، بل تراه بعيدا.

أيها المسلمون!

أيها الإخوان!

يا عباد الله! هذه ذكرى للشاب، أما من وخطه الشيب وأمد الله في عمره، وتخطاه الموت في سن الشباب فإن شيبه نذير الموت.

تقول النفس غَيِّرْ لون هذا      عساك تطيب في عمرٍ يسيرِ

فقلت لها المشيب نذير عمري     ولست مسوداً وجه النذير

قال صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة).