تصفية النفوس من الأحقاد


الحلقة مفرغة

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد حتى ترضى؛ سبحانك لا إله إلا أنت، اللهم طهر قلوبنا من النفاق والغل والحقد والحسد يا رب العالمين، واجعلنا ممن يأتيك يوم القيامة بقلب سليم.

إخواني! إن هناك كثيراً من الآداب المفقودة بين المسلمين، وهذه الآداب المفقودة تسبب أنواعاً من الوقوع في الإثم والعدوان، وكثيراً من الناس يستهينون بباب الأخلاق والآداب؛ مع أن باب الأخلاق والآداب من الأمور العظيمة التي هي من مزايا هذه الشريعة ومن محاسنها، وبعض الناس يهتمون بأمور المعتقد والفقه والعلم، وينسون أن هذا الدين لا بد أن يكون المسلم فيه متخلقاً بأخلاق الإسلام متأدباً بآداب الشريعة.

ومن مآسينا في هذا الزمان، وفي ظل دائرة الابتعاد عن الإسلام يوجد هناك كثير من النقص والعيب، ومن ضمنه هذه الأمور المفقودة في باب الأخلاق والآداب، وهذا باب واسع جداً، وسنتكلم إن شاء الله في هذه الليلة عن واحد من هذه الأشياء التي هي مفقودة عند الكثيرين، أو موجود ضدها عند الكثيرين، ونبين إن شاء الله موقف الإسلام من هذه القضية، وكيف ينبغي على المسلم أن يفعل تجاه هذا المرض، وعنوان درسنا لهذه الليلة: تصفية النفوس من الأحقاد.

الحقد مرض خطير ومتفش في هذا الزمان، وكثير من الناس يحقدون على بعضهم البعض، والحقد بين المسلمين كما ذكرنا من مآسينا في هذا العصر.

معنى الحقد وما ينبني عليه

الحقد من معانيه الضِّغْنُ والانطواء على البغضاء، وإمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها، أو سوء الظن في القلب على الخلائق؛ لأجل العداوة أو طلب الانتقام، والغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي فوراً رجع إلى الباطل، واحتقن في النفس فصار حقداً.

والحقد من مرادفاته: الضغينة، والغل، والشحناء، والبغضاء ... وغيرها.

وموضوع الحقد موضوع خطير جداً؛ لأنه يودي إلى مهالك، الحقد قد يتداخل مع الحسد والغضب، ولكن هناك اختلاف، فالحقد رذيلة بين رذيلتين؛ لأنه ثمرة الغضب، أي: يتولد من الغضب، وهو يثمر الحسد ويؤدي إليه، فاجتمع في الحقد أطراف الشر.

والحقد حين تحليله أيها الإخوة يتبين من عناصره ما يلي:

أولاً: الكراهية الشديدة والبغض العنيف.

وثانياً: الرغبة في الانتقام وإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد.

وثالثاً: تخزين العنصرين السابقين في قرارة النفس، وتغذيتهما بالأوهام والتصورات والاسترجاعات المختلفة للمشاهد، مع مثيرات جديدة للكراهية والرغبة في الانتقام.

تتفاعل هذه كلها تفاعلاً يأكل نفس الحاقد من الداخل، وتتغلغل هذه الدوافع في النفس تغلغلاً يسبب التآكل الداخلي والانهيار في النهاية في نفس الحاقد.

ولكي نبين كيف يتولد الحقد من الغضب، نقول: إنك قد تغضب على إنسان، أو إن الشخص قد يغضب على أخيه، أو على إنسان فيريد الانتقام منه، فإذا لم يستطع أن ينتقم منه ليشفي غيظ قلبه ويثأر لنفسه، ولم يستطع أيضاً أن يصفح عنه ويسامحه؛ لأنه لا يقدر على ذلك ماذا يحدث؟

آثار الحقد على الحاقد والمحقود عليه

تتخزن هذه الطاقة الكريهة في النفس، ويحتقن هذا الحقد في النفس، ويظل دفيناً يتحرك ويشتعل داخلياً كلما رأيت الإنسان الذي تحقد عليه، وكلما ذكر اسمه على مسمعك، أو تذكرت شيئاً من أفعاله وأقواله، أو مشهداً من المشاهد التي حصلت فيها لهذا الشخص مواقف معك، فيتفاعل عندك هذا الخلق (الحقد).

والمسألة باختصار: اختزان وإمساك العداوة والبغض في القلب واستمرار تفاعلها.

وهذا المرض له آثار مدمرة على نفس الحاقد؛ لأنه يشغل القلب ويتعب الأعصاب، ويقلق البال، ويقض المضجع، وقد تظلم الدنيا في وجه الحاقد وتضيق به على سعتها، وتتغير معاملته حتى لأهله وأولاده؛ لأن الحقد يضغط عليه من كل جانب، وقد تتسع دائرة الحقد لتشمل الأبرياء كما لو كرهت امرأة زوجها لإهانته وشتمه لها وتعذيبها فقد تكره جميع الرجال، أو يظلم والد ولده ويذيقه ألوان العذاب ويقسو عليه ويحرمه ألوان العطف والحنان، فيكره الولد كل الآباء ... وهكذا.

والحقد في الغالب يكون بين الأقران، ولذلك فالضرة تحقد على ضرتها، والفقير يحقد على الغني، وكل من سلب نعمة يحقد على من أنعم الله عليه بها وهكذا، وكل صاحب رئاسة يحقد على من ينازعه الرئاسة، وكل إنسان يحقد على من يتفوق عليه بشيء.

وإذا كان للحاقد سلطة أو قوة فإنه يسعى للانتقام من كل من يظن أنه عدو له، والحاقد فيه شبه من الكفار الذين قال الله فيهم: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119] تأمل هذه الصورة الكريهة الشنيعة التي ذكرت في القرآن: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران:119] أي: أن هذا الحاقد المغتاظ يعض أنامله على من يحقد عليه.

الحقد داء دفين ليس يحمله     إلا جهول مليء النفس بالعلل

مالي وللحقد يشقيني وأحملـه     إني إذاً لغبي فاقد الحيل

سلامة الصدر أهنا لي وأرحب لي     ومركب المجد أحلى لي من الزلل

إن نمت نمت قرير العين ناعمها     وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي

وأمتطي لمراقي الجد مركبتي          لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي

فهذا التبرؤ أو هذا الشفاء من الحقد نعمة من الله سبحانه وتعالى، وليس أهنأ للمرء في الحقيقة ولا أطرد لهمومه ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب بريئاً من وساوس الضغينة وثوران الأحقاد، ومستريحاً من نزعات الحقد الأعمى، فإن فساد القلب بالضغائن داء عياء، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش كما يتسرب الماء من الإناء المثلوم.

حكم الحقد في الشريعة

أما حكم الحقد في الشريعة فإليكموه من هذه النصوص الشرعية:

قال البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد : باب الشحناء، والشحناء: هي العداوة إذا امتلأت منها النفس والبغض والحقد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا) وهذا الحديث مشهور موجود في الصحيحين وغيرهما، والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تباغضوا ) وهذا النهي للتحريم، لا يجوز لك وحرام عليك أن تبغض أخاك المسلم.

قال ابن رجب رحمه الله في شرح هذه اللفظة: ( لا تباغضوا ) نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة، والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم).

وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا [آل عمران:103] ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة، أي: لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، وكذلك رخصت الشريعة في الكذب في الإصلاح بين الناس،

لدفع الحقد والبغضاء وإزالتها من القلوب.

قال ابن رجب : ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغب الله في الإصلاح بينهم كما قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114] ما أعظم الأجر الإصلاح بين الناس، اكذب لكي تزيل الضغينة والبغضاء من القلوب، قل: لم يقل فيك كذا، أنا كنت حاضراً وما ذكر هذه الكلمة، اكذب فإن الكذب هنا حلال.

كل ذلك من أجل أن تلتئم قلوب المؤمنين، وأن تتصافى النفوس، وأن يكون المجتمع متآخياً مترابطاً على هدي هذه الشريعة.

عناية الإسلام بإزالة الضغائن من القلوب

والإسلام يتعاهد النفوس ليغسلها من أدران الحقد يومياً وأسبوعياً وفي كل عام، أما بالنسبة ليومياً فهناك حديث نذكره هنا مع اختلاف العلماء في صحته لنستشهد به في هذا الباب، وهذا الباب على أية حال ليس من أبواب الاعتقاد ولا الحلال والحرام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان) متقاطعان متدابران متهاجران متفارقان متكارهان، رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه ، قال البوصيري في الزوائد : هذا إسناده صحيح ورجاله ثقات، وقال العلامة الألباني : فيه عبيدة ، قال ابن حبان في الثقات : يعتبر حديثه إذا بين السماع وهو لم يبين السماع، فهذه العلة التي ذكرها، والشاهد من الحديث: قوله: (أخوان متصارمان) لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً.

أما بالنسبة لأسبوعياً: قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (تعرض أعمال العباد في كل جمعة مرتين، يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا) والآن تصور معي، في كل أسبوع تعرض الأعمال على الله، يغفر الله للمؤمنين إلا من بينه وبين أخيه شحناء فلا مغفرة، لهما، للشحناء.

وفي رواية أيضاً لـمسلم : (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أَنِظروا هذين حتى يصطلحا) فكم يفوته من الأجر العظيم كل أسبوع مرتين! يومان في الأسبوع الإثنين والخميس، يقال: (أنظروا هذين حتى يصطلحا) لا مغفرة لهذين حتى يصطلحا، حتى يفيئا.

إذاً: لا يجوز لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.

وبالنسبة للشيء السنوي لموضوع الأحقاد، لاحظ معي الحديث: (إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه) ويدع أهل الحقد بحقدهم لا مغفرة لهم حتى يدعوا الحقد، وحتى يخرجوا البغضاء من قلوبهم، حتى يتصافوا ويكونوا إخواناً كما أمر الله، وفي رواية: (فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن) المشرك ليس له مغفرة، والمشاحن ليس له مغفرة، تباً لهم على ما حرموا من هذا الخير العظيم وهذه المغفرة العظيمة بسبب الحقد والشحناء.

هذا في الأسبوع يومان وكل سنة، فقضية الأحقاد موقوف أصحابها عند رب العالمين، لا مغفرة لهم، فالمسألة جادة أيها الإخوة.

أثر تفشي الحقد على المجتمع

قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خطورة الحقد أيضاً: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين) لأن الصيام والصلاة والصدقة عبادات عظيمة، وإصلاح ذات البين نفعه متعد منتشر، وقال: ( فإن فساد ذات البين ) وتفسد ذات البين بالحقد والبغضاء والشحناء، قال: (إياكم وسوء ذات البين فإنه الحالقة) وفي الرواية الأولى: (فإن فساد ذات البين هي الحالقة) ما هي الحالقة؟ التي تحلق الإيمان كما تحلق الموسى شعر الرأس.

وقال أبو الدرداء : [ألا أحدثكم بما هو خير لكم من الصدقة والصيام؟ صلاح ذات البين، ألا وإن البغض هي الحالقة].

الحالقة: هي الماحية للثواب، ولذلك ورد في الرواية الأخرى: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، هي الحالقة؛ حالقة الدين لا حالقة الشعر) على علة في إسناده، فحالقة الدين تحلق الدين كما تحلق الموسى الشعر، وسميت داء لأنها داء القلب، والحقد يؤدي إلى ثمانية أشياء:

1- تمني زوال النعمة على من تحقد عليه.

2- الشماتة به إذا أصابه البلاء.

3- مهاجرته ومصارمته وإن طلبك .

4- الإعراض عنه استصغاراً له .

5- التكلم بالكذب والغيبة وإفشاء السر وهتك الستر في حقه.

6- محاكاته استهزاءً به وسخرية منه.

7- إيذاؤه وإيلامه بما يؤذي ويؤلم بدنه من ضرب وغيره.

8- التمنع عن حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة، هذا كله من شؤم الحقد وما يؤدي إليه الحقد.

كما جاء في دعاء مأثور: [اللهم إني أعوذ بك من خليل ماكر عيناه ترياني وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها] أما مرفوعاً فلا يصح، ولكن المعنى في هذا [الخليل الماكر عيناه ترياني وقلبه يرعاني إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها] هذه صفات الحاقد، إذا رأى حسنة كتمها وإذا رأى سيئة نشرها.

وصدور المؤمنين يا أيها المؤمنون لا محل لحقد فيها، لأن الأصل في صدورهم أنها سليمة مملوءة بالمحبة وإرادة الخير للآخرين، فلا مجال للغل فيها، وإن مرت الكراهية والبغضاء الموجودة بسبب فإنها تمر مرور عابر السبيل، لا يجد مكاناً يستقر، وهكذا العوارض الغريبة تنطرد من الوسط الذي لا يتقبلها.

الحقد من معانيه الضِّغْنُ والانطواء على البغضاء، وإمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها، أو سوء الظن في القلب على الخلائق؛ لأجل العداوة أو طلب الانتقام، والغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي فوراً رجع إلى الباطل، واحتقن في النفس فصار حقداً.

والحقد من مرادفاته: الضغينة، والغل، والشحناء، والبغضاء ... وغيرها.

وموضوع الحقد موضوع خطير جداً؛ لأنه يودي إلى مهالك، الحقد قد يتداخل مع الحسد والغضب، ولكن هناك اختلاف، فالحقد رذيلة بين رذيلتين؛ لأنه ثمرة الغضب، أي: يتولد من الغضب، وهو يثمر الحسد ويؤدي إليه، فاجتمع في الحقد أطراف الشر.

والحقد حين تحليله أيها الإخوة يتبين من عناصره ما يلي:

أولاً: الكراهية الشديدة والبغض العنيف.

وثانياً: الرغبة في الانتقام وإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد.

وثالثاً: تخزين العنصرين السابقين في قرارة النفس، وتغذيتهما بالأوهام والتصورات والاسترجاعات المختلفة للمشاهد، مع مثيرات جديدة للكراهية والرغبة في الانتقام.

تتفاعل هذه كلها تفاعلاً يأكل نفس الحاقد من الداخل، وتتغلغل هذه الدوافع في النفس تغلغلاً يسبب التآكل الداخلي والانهيار في النهاية في نفس الحاقد.

ولكي نبين كيف يتولد الحقد من الغضب، نقول: إنك قد تغضب على إنسان، أو إن الشخص قد يغضب على أخيه، أو على إنسان فيريد الانتقام منه، فإذا لم يستطع أن ينتقم منه ليشفي غيظ قلبه ويثأر لنفسه، ولم يستطع أيضاً أن يصفح عنه ويسامحه؛ لأنه لا يقدر على ذلك ماذا يحدث؟

تتخزن هذه الطاقة الكريهة في النفس، ويحتقن هذا الحقد في النفس، ويظل دفيناً يتحرك ويشتعل داخلياً كلما رأيت الإنسان الذي تحقد عليه، وكلما ذكر اسمه على مسمعك، أو تذكرت شيئاً من أفعاله وأقواله، أو مشهداً من المشاهد التي حصلت فيها لهذا الشخص مواقف معك، فيتفاعل عندك هذا الخلق (الحقد).

والمسألة باختصار: اختزان وإمساك العداوة والبغض في القلب واستمرار تفاعلها.

وهذا المرض له آثار مدمرة على نفس الحاقد؛ لأنه يشغل القلب ويتعب الأعصاب، ويقلق البال، ويقض المضجع، وقد تظلم الدنيا في وجه الحاقد وتضيق به على سعتها، وتتغير معاملته حتى لأهله وأولاده؛ لأن الحقد يضغط عليه من كل جانب، وقد تتسع دائرة الحقد لتشمل الأبرياء كما لو كرهت امرأة زوجها لإهانته وشتمه لها وتعذيبها فقد تكره جميع الرجال، أو يظلم والد ولده ويذيقه ألوان العذاب ويقسو عليه ويحرمه ألوان العطف والحنان، فيكره الولد كل الآباء ... وهكذا.

والحقد في الغالب يكون بين الأقران، ولذلك فالضرة تحقد على ضرتها، والفقير يحقد على الغني، وكل من سلب نعمة يحقد على من أنعم الله عليه بها وهكذا، وكل صاحب رئاسة يحقد على من ينازعه الرئاسة، وكل إنسان يحقد على من يتفوق عليه بشيء.

وإذا كان للحاقد سلطة أو قوة فإنه يسعى للانتقام من كل من يظن أنه عدو له، والحاقد فيه شبه من الكفار الذين قال الله فيهم: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119] تأمل هذه الصورة الكريهة الشنيعة التي ذكرت في القرآن: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران:119] أي: أن هذا الحاقد المغتاظ يعض أنامله على من يحقد عليه.

الحقد داء دفين ليس يحمله     إلا جهول مليء النفس بالعلل

مالي وللحقد يشقيني وأحملـه     إني إذاً لغبي فاقد الحيل

سلامة الصدر أهنا لي وأرحب لي     ومركب المجد أحلى لي من الزلل

إن نمت نمت قرير العين ناعمها     وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي

وأمتطي لمراقي الجد مركبتي          لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي

فهذا التبرؤ أو هذا الشفاء من الحقد نعمة من الله سبحانه وتعالى، وليس أهنأ للمرء في الحقيقة ولا أطرد لهمومه ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب بريئاً من وساوس الضغينة وثوران الأحقاد، ومستريحاً من نزعات الحقد الأعمى، فإن فساد القلب بالضغائن داء عياء، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش كما يتسرب الماء من الإناء المثلوم.

أما حكم الحقد في الشريعة فإليكموه من هذه النصوص الشرعية:

قال البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد : باب الشحناء، والشحناء: هي العداوة إذا امتلأت منها النفس والبغض والحقد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا) وهذا الحديث مشهور موجود في الصحيحين وغيرهما، والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تباغضوا ) وهذا النهي للتحريم، لا يجوز لك وحرام عليك أن تبغض أخاك المسلم.

قال ابن رجب رحمه الله في شرح هذه اللفظة: ( لا تباغضوا ) نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة، والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم).

وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا [آل عمران:103] ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة، أي: لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، وكذلك رخصت الشريعة في الكذب في الإصلاح بين الناس،

لدفع الحقد والبغضاء وإزالتها من القلوب.

قال ابن رجب : ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغب الله في الإصلاح بينهم كما قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114] ما أعظم الأجر الإصلاح بين الناس، اكذب لكي تزيل الضغينة والبغضاء من القلوب، قل: لم يقل فيك كذا، أنا كنت حاضراً وما ذكر هذه الكلمة، اكذب فإن الكذب هنا حلال.

كل ذلك من أجل أن تلتئم قلوب المؤمنين، وأن تتصافى النفوس، وأن يكون المجتمع متآخياً مترابطاً على هدي هذه الشريعة.

والإسلام يتعاهد النفوس ليغسلها من أدران الحقد يومياً وأسبوعياً وفي كل عام، أما بالنسبة ليومياً فهناك حديث نذكره هنا مع اختلاف العلماء في صحته لنستشهد به في هذا الباب، وهذا الباب على أية حال ليس من أبواب الاعتقاد ولا الحلال والحرام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان) متقاطعان متدابران متهاجران متفارقان متكارهان، رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه ، قال البوصيري في الزوائد : هذا إسناده صحيح ورجاله ثقات، وقال العلامة الألباني : فيه عبيدة ، قال ابن حبان في الثقات : يعتبر حديثه إذا بين السماع وهو لم يبين السماع، فهذه العلة التي ذكرها، والشاهد من الحديث: قوله: (أخوان متصارمان) لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً.

أما بالنسبة لأسبوعياً: قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (تعرض أعمال العباد في كل جمعة مرتين، يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا) والآن تصور معي، في كل أسبوع تعرض الأعمال على الله، يغفر الله للمؤمنين إلا من بينه وبين أخيه شحناء فلا مغفرة، لهما، للشحناء.

وفي رواية أيضاً لـمسلم : (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أَنِظروا هذين حتى يصطلحا) فكم يفوته من الأجر العظيم كل أسبوع مرتين! يومان في الأسبوع الإثنين والخميس، يقال: (أنظروا هذين حتى يصطلحا) لا مغفرة لهذين حتى يصطلحا، حتى يفيئا.

إذاً: لا يجوز لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.

وبالنسبة للشيء السنوي لموضوع الأحقاد، لاحظ معي الحديث: (إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه) ويدع أهل الحقد بحقدهم لا مغفرة لهم حتى يدعوا الحقد، وحتى يخرجوا البغضاء من قلوبهم، حتى يتصافوا ويكونوا إخواناً كما أمر الله، وفي رواية: (فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن) المشرك ليس له مغفرة، والمشاحن ليس له مغفرة، تباً لهم على ما حرموا من هذا الخير العظيم وهذه المغفرة العظيمة بسبب الحقد والشحناء.

هذا في الأسبوع يومان وكل سنة، فقضية الأحقاد موقوف أصحابها عند رب العالمين، لا مغفرة لهم، فالمسألة جادة أيها الإخوة.