بطولات نادرة ترفع المعنويات


الحلقة مفرغة

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

هناك آياتٌ عظيمة يخبر الله تعالى فيها أنه عاوض من عباده المؤمنين، فباع واشترى عن أنفسهم وأموالهم إذا بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، قال الحسن رحمه الله: [بايعهم والله فأغلى ثمنهم] قال بعض السلف: ما من مسلمٍ إلا ولله عز وجل في عنقه بيعة وفىَّ بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] فهذا هو المبيع بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] وهذا هو الثمن: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111]وهذه شروط العقد: وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111] وهذا الضمان لأجل العقد: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] فلا أحد أوفى بعهده من الله، ثم طلب الاستبشار من المؤمنين: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

قال عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة: (اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترطُ لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]) وقول الله تعالى: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111] أي سواءً قُتِلُوا أو قَتَلُوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تكفل الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادٌ في سبيلي وتصديق برسلي، بأنه إذا توفاه الله أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمة).

وهذا البيع العظيم وصفه الله بالفوز العظيم، وعلى ذلك دارت رحى المعارك.

قام المسلمون يبذلون أنفسهم في سبيل الله، وضرب الصحابة المثل العظيم للتضحية بالروح في سبيل الله، والهجوم على الأعداء، ونقض النحر للعدو، والانغماس في جيشهم، والقتال حتى الموت، حتى أن جثة أنس بن النضر لم تعرف إلا من بنانه فقط، أما بقية الجسد فقد صار أشلاء، وجدوا فيه أكثر من سبعين ضربةً من سيفٍ ورمحٍ وسهمٍ، معنى ذلك أنه ظل يقاتل ويقاتل بالرغم مما أصابه حتى تلاشى ذلك الجسد، وتحول إلى أشلاء في سبيل الله، وصار التابعون ومن بعدهم على هذا المنوال، وقدمت الأمة شهداء، وأثبتت أنها أشجع أمة في العالم، ولم يوجد فدائيون مثلما وجد في هذه الأمة؛ لأنه لا يوجد محرك عند غيرهم يحركهم للشهادة كما يوجد في هذه الأمة، وهذا أمرٌ واضح، وقضية مفهومة، وجود الباعث على الشهادة، أن الحياة ستنتهي وتمضي، وأنها لذة عابرة، فلماذا لا تنفق من أجل شيء ثمين باقٍ وهو الجنة، لأجل تلك السلعة ضحى المضحون بأنفسهم وأموالهم، وأثبت المسلمون الشجاعة الفائقة في الحروب، لقد ردت هذه الآية أشخاصاً عن الهزيمة، وشجعت أشخاصاً على تقديم الروح في سبيل الله، فكان قائد المسلمين يتلوها وهو ذاهب إلى ميدان المعركة، ومن صدق مع الله صدقه الله.

طارق بن زياد ودخوله الأندلس

وقد دخل طارق بن زياد إلى الأندلس في ألف وسبعمائة رجل وقاتل جنود اللذريق ملك النصارى والذي جاءهم في تسعين ألف فارس يقاتلون المسلمين ثلاثة أيام واشتد في المسلمين البلاء فقال طارق : إنه لا ملجأ لكم بعد الله غير سيوفكم، أين تذهبون وأنتم في وسط بلادهم، والبحر من ورائكم محيطٌ بكم؟! وأنا فاعلٌ شيئاً إما النصر وإما الموت فقالوا: وما هو؟ قال: أقصد طاغيتهم -أي: ناحيته- فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي، ففعلوا ذلك فقتلوا اللذريق وجمعاً كثيراً من أصحابه، وهزمهم الله تعالى، وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام يقتلونهم قتلاً ذريعاً، ولم يقتل من المسلمين إلا نفر يسير.

عبد العزيز بن زرارة وقتاله في سبيل الله

لما غزا المسلمون القسطنطينية سنة خمسين للهجرة جعل عبد العزيز بن زرارة يتعرض للشهادة، والتحمت الحرب، واشتدت المقارعة فشد على من يليه، وانغمس في جمهورهم؛ فشجرته العلوج برماحها، أي: اشتبك الجسد برماحهم، فاستشهد -رحمه الله- من كثرة رماح العدو في جسده واختلافها فيه.

علي بن أسد يطلب الشهادة فينالها

علي بن أسد كان رجلاً مسرفاً على نفسه بالمعاصي، قتل حراماً، وصنع أموراً عظاماً، فمر ليلةً بـالكوفة ، فإذا برجل مسلم يقرأ القرآن في جوف الليل: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] فقال علي : أعد، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، فعمد فاغتسل ثم غسل ثيابه فتعبد حتى عمشت عيناه من البكاء، وصارت ركبتاه كركبتي البعير أي: من كثرة سجوده، فغزا في البحر وهو كهل يظن بأنه لا يذهب إلى الجهاد، فلقي الروم مع المسلمين فقال: لا أطلب الجنة بعد اليوم أبداً، هذا هو اليوم الذي أطلب فيه الجنة، فاقتحم بنفسه في سفنهم فما زال يضربهم وينحاز، ويضربهم وينحاز، عندما اقتحم السفينة جعل يضربهم فيهربون من موضعٍ إلى موضع، يخشون جرأته وبأسه وشجاعته؛ يقتل من يقتل، ويهرب الباقي إلى طرفٍ في السفينة، حتى انكفأت السفينة فانقلبت؛ فغرق وعليه أدراع الحديد فمات شهيداً في البحر يرحمه الله.

ورمى العدو جند المسلمين بالنصل فقال معاوية رضي الله عنه: [أما إذا فعلوها فافعلوا، فكانوا يترامون بها، فتهيأ روميٌ لرمي سفينة أبي الفادية من المسلمين -سفينة عليها قائد هو: أبو الفادية- جعل هذا الرومي نصلاً مشتعلاً في طنجرة ليرميه على سفينة المسلمين، فرماه أبو الفادية بسهمٍ فقتله قبل أن يقذف الطنجرة؛ وخرت الطنجرة المشتعلة في سفينة النصارى فاحترقت بأهلها وكانوا ثلاثمائة] فكان يقال: رمية كرمية أبي الفادية قتلت ثلاثمائة نفر.

ابن الجزري وقتاله لعلج من النصارى

الحرب كانت بين الروم والمسلمين يوماً، وكان من النصارى رجلٌ مبارزٌ قال: يا معشر العرب! ليخرج منكم عشرون فارساً أبارزهم، فهابه الناس، وكان في عسكر المسلمين رجلٌ يعرف بـابن الجزري معروف بالنجدة، موصوفٌ بالشجاعة، فقال: أنا أخرج إليه وأستعين بالله عليه، وأعطي فرساً وسلاحاً فقال: لا أريد -أي: إلا ما معه- فانحدر بعد أن ودعه الرشيد ودعا له، ونزل معه عشرون فارساً ليودعوه، فلما صار في بطن الوادي قال الرومي: غدرتم يا مسلمون! طلبت عشرين فنزل واحدٌ وعشرون، فقالوا: ما يبارزك غير واحد، ونحن مودعوه وراجعون، فقال العلج: سألتك بالله أنت ابن الجزري ؟ قال: نعم. قال: كفء كريم، فرجع المسلمون، وتطاعنا حتى كلاَّ، واشتد الحر عليهما، والمسلمون والمشركون ينظرون إليهما فولى ابن الجزري كأنه منهزم فعطعط المشركون -أي: صاحوا إعجاباً- وضج المسلمون والعلج في أثره، ثم عطف ابن الجزري على العلج فجأة فاختطفه من سرجه، وما أوصله إلى الأرض إلا بعد أن حز رأسه عن جسده، فكانت مكيدة: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ [الأنفال:16] فكبر المسلمون تكبيرة واحدة، وزجوا في القتال ففتح الله عليهم.

ابن فتحون بطل من أبطال المسلمين

وكان ابن فتحون من أشجع المسلمين وكان المستعين يرى له ذلك المكان ويعظمه لشجاعته، حتى عرفت النصرانية بأسرها مكانته حتى أن النصراني كان إذا سقى فرسه فلم يشرب يقول له أصحابه النصارى: ما بك اشرب لماذا تخاف؟ اشرب أو رأيت ابن فتحون في الماء؟ فكان يضرب به المثل، فيخافه الأعداء، فغزا المستعين بلاد الروم، وتوافق المسلمون والمشركون صفوفه، فبرز علجٌ وسط الميدان ينادي هل من مبارز، فخرج إليه فارسٌ من المسلمين فتجاولا ساعةً فقتل المسلم؛ فصاح الكفار سروراً، وانكسرت نفوس المسلمين، ثم برز له آخر فقتل المسلم فجعل الرومي يكر بين الصفين ويقول: هل من مبارز واحد لاثنين؟! واحد لثلاثة؟! فضج المسلمون، فقيل للمستعين ما له إلا ابن فتحون ، فدعاه وقال: ما ترى يصنع هذا العلج، قال: هو بعيني، قال: فما الحيلة فيه؟ قال أبو الوليد ابن فتحون : ماذا تريد؟ قال: أن يكفى المسلمون شره قال: الساعة يكون ذلك إن شاء الله، فلبس قميص كتان واسع الأكمام، وركب فرساً بلا سلاح، وأخذ بيده سوطاً طويل الطرف، وفي طرفه عقدة معقودة، ثم برز إليه، فعجب النصراني منه يخرج إليه دون سلاح ومعه هذا السوط فقط، فحمل كل منهما على صاحبه، فلم تخطِ طعنة النصراني سرج ابن فتحون، فتعلق ابن فتحون برقبة فرسه لما قطع سرجه، ونزل إلى الأرض ثم استوى على سرجه، وحمل على النصراني فضربه بالسوط على عنقه فالتوى السوط على عنق النصراني، فأخذه بيده فاقتلعه وجاء به إلى المستعين، فألقاه بين يديه.

بطولات صاحب النقب

وهكذا لما حاصر المسلمون حصناً في إحدى غزواتهم فاستعصى على المسلمين، وكثر الأذى فيهم من رمي النصارى لهم، حتى قال قائلهم مسلمة بن عبد الملك: من يدخل النقب -وهو فتحة تلقى منها الفضلات والقاذورات- فإن كتبت له الشهادة فاز بالجنة، وإن كتبت له النجاة ذهب لباب الحصن ففتحه؟ فخرج رجل ملثم قال: أنا من سيدخل النقب، فدخل وكبر وقاتل، فسمع المسلمون صوته، فاقتحمه، فقاتل حتى وصل الباب ففتحه، وسمع المسلمون صوت التكبير فهجموا على الباب فدخلوا؛ ففتحوا الحصن؛ وانتهت المعركة على يد ذلك الرجل، ولكنه لم يعرف، فاشتهى مسلمة أن يعرفه ليكافئه، فنادى في جيش المسلمين بعد المعركة أين صاحب النقب؟

فلم يجبه أحد، فعاد الكرة فلم يجبه أحد، فقال في النهاية: إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي، فعزمت عليه بما لي عليه من الحق -أي: الطاعة في الإمرة، حقي عليه الطاعة- فحلف عليه إلا أن يأتيه في أي وقت شاء من ليل أو نهار، فجاء رجل ذات ليلة إلى حاجب مسلمة ، فقال: استأذن لي على الأمير، قال: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فلما صار بين يدي مسلمة قال: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثاً: ألا تبعثوا باسمه في صحيفةٍ إلى الخليفة، وألا تسألوه من هو، وألا تأمروا له بشيء، قال مسلمة: فذلك له، فقال الرجل باستحياء: أنا صاحب النقب، اتقِ الله -يا مسلمة- أحرجتني فأخرجتني، ثم انطلق مسرعاً فلم يدر من هو، فكان - مسلمة- لا يصلي بعدها صلاة إلا دعا فيها اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة.

عبد الله بن المبارك وجهاده

عبد الله بن المبارك رحمه الله كان من أولئك المجاهدين الذين كانوا لا يريدون أن يعرفوا في الغزو، مع شدة بلائهم في المعارك، فعن عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم؛ فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجلٌ من العدو فدعى إلى البراز؛ فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، فصعب ذلك على المسلمين وشق عليهم، ودعى النصراني للبراز فخرج إليه رجل من المسلمين ملثم، خرج إليه رجل من المسلمين يتخفى، فطارده ساعة فطعن المسلم النصراني فقتله، فازدحم المسلمون على أخيهم يريدون أن يعرفوا من هو الذي أنهى هذا الطاغية، قال: فنظرت إليه فإذا هو عبد الله بن المبارك وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا؟!

عبد الوهاب بن بخت وإقدامه في المعركة

وكذلك كان عبد الوهاب بن بخت رحمه الله لما انهزم الناس وانكشفوا جعل يكر على فرسه ويقول: ما رأيت فرساً أجبن منه، وألقى بيضته عن رأسه وصاح: أمن الجنة تفرون؟ يريد المسلمين، ثم تقدم في نحور العدو فمر برجل من المسلمين يقول: واعطشاه -يريد الماء- فقال عبد الوهاب : تقدم الري أمامك -إذا أردت الارتواء فإلى الأمام- يعني: في الجنة إذا قتلت، فخالط القوم فقتل وقتل فرسه.

نبذة من بطولات القائد ألب أرسلان

وكان المسلمون مع قلة عددهم أمام الكفار يثبتون في معارك كثيرة، وكانت أكثر معارك المسلمين فيما مضى ضد النصارى، وحفظ التاريخ لنا موقفاً عظيماً لقائدٍ مسلمٍ سلجوقي تركماني هو ألب أرسلان الملك العادل أبو شجاع من عظماء المسلمين، خرج إليه طاغية الروم أرمانوت في جحافل أمثال الجبال، في نحوٍ من مائتي ألف مقاتل، لا يدركهم الطرف، ولا يحصرهم العدد، كتائب متواصلة، وعساكر متزاحمة، كلما مر ببلدٍ من بلاد المسلمين أقطعها بطارقته وقال: هذه لك يا فلان، وهذه لك يا فلان، يوزعها عليهم حتى وزع بغداد عاصمة الخلافة، وقال للنصراني الذي وهبه البلد هو يأمل أن ينتصر فيوزع البلاد كما وعد وقال لمن جعل له بغداد : استوصِ بالخليفة خيراً، استوصِ بالشيخ، ارفق بذلك الشيخ -يزدري المسلمين- فخرج إليه ألب أرسلان رحمه الله في خمسة عشر ألف فارس فقط، فقال لجنده: أنا صابرٌ في هذه الغزاة صبر المحتسبين، وملاقيهم وحسبي الله عز وجل، فلما التقى الجمعان، ورأى ألب أرسلان كثرة جند الروم، ورأى ما يحير الألباب، ويطير الصواب؛ فأرسل يطلب الهدنة، وفي النهاية عزم على القتال، وكان اليوم يوم جمعة، يريد أن تكون المعركة يوم الجمعة لالتماس دعاء الخطباء، فلما زالت الشمس صلى وقال: ليودع كل واحدٍ صاحبه، فودع كل واحد من جيش المسلمين صاحبه، وتواعدوا على الموت، ولما تواجه الفريقان، نزل السلطان فصلى وسجد لله وعفر وجهه في التراب، ودعا واستنصر، وابتهل وتضرع، وبكى ثم قال: يا أمراء! من أحب أن ينصرف فلينصرف فما هاهنا سلطان يأمر، ولا عسكرٌ يؤمر، فإنما أنا اليوم واحدٌ منكم، وغادٍ معكم، فمن تواضعه لله أعلن تخليه عن الملك في ميدان المعركة تواضعاً لملك الملوك، قالوا: نحن معك تبعناك وأعناك فافعل ما تريد، فلبس الكفن الأبيض وتحنط -أي: وضع من الطيب ما يوضع للميت- ثم قال: إني عازمٌ على الحمل فاحملوا معي، فحملوا معه حملةً صادقة، فوقعوا في وسط العدو فألقى الله في العدو الرعب، فجعلوا يقتلون منهم كيف شاءوا، فلم ينج من النصارى إلا شريدٌ أو أسير، وأنزل الله نصره على المؤمنين، وأسر طاغية الروم أرمانوت، أسره مملوكٌ من مماليك المسلمين، فلما جيء به إلى ألب أرسلان وفي عنق النصراني حبل ملك النصارى، وقائد الجيش الذي كان يوزع بلاد المسلمين وهو يسير إلى المعركة جيء وفي رقبته حبل، فقال: ما تصنعوا بي؟ قال ألب أرسلان: ما تظن أني صانعٌ بك؟ قال: لا أشك أنك تقتلني، قال: أنت أقل في عيني من أن أقتلك، اذهبوا به فبيعوه، فطافوا به جميع العسكر والحبل في عنقه ينادى عليه بالدراهم والفلوس فما يشتريه أحد من المسلمين، حتى انتهوا في آخر العسكر إلى رجل من المسلمين قال: إن بعتمونيه بهذا الكلب الذي معي اشتريته، فجاءوا بالجندي ومعه الكلب الثمن، وبملك النصارى إلى ألب أرسلان مجروراً بالحبل، فأخبروه بأن هذا يريد شراءه بالكلب، فقال ألب أرسلان: الكلب خير منه؛ لأنه ينفع، وهذا لا ينفع، لكن خذوا الكلب، وادفعوا له هذا الكلب، ثم أمر بعد ذلك بإطلاقه وجعل الكلب قريناً له مربوطاً في عنقه وأوصله إلى بلاده؛ فلما رأى الروم ما حل بملكهم عزلوه عن الملك وكحلوا عينيه -أي: غوروهما وأذهبوهما- بعد أن رأوا أنه لا يساوي شيئاً، وهكذا كان حفظ الله للمسلمين عظيماً.

وقد دخل طارق بن زياد إلى الأندلس في ألف وسبعمائة رجل وقاتل جنود اللذريق ملك النصارى والذي جاءهم في تسعين ألف فارس يقاتلون المسلمين ثلاثة أيام واشتد في المسلمين البلاء فقال طارق : إنه لا ملجأ لكم بعد الله غير سيوفكم، أين تذهبون وأنتم في وسط بلادهم، والبحر من ورائكم محيطٌ بكم؟! وأنا فاعلٌ شيئاً إما النصر وإما الموت فقالوا: وما هو؟ قال: أقصد طاغيتهم -أي: ناحيته- فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي، ففعلوا ذلك فقتلوا اللذريق وجمعاً كثيراً من أصحابه، وهزمهم الله تعالى، وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام يقتلونهم قتلاً ذريعاً، ولم يقتل من المسلمين إلا نفر يسير.

لما غزا المسلمون القسطنطينية سنة خمسين للهجرة جعل عبد العزيز بن زرارة يتعرض للشهادة، والتحمت الحرب، واشتدت المقارعة فشد على من يليه، وانغمس في جمهورهم؛ فشجرته العلوج برماحها، أي: اشتبك الجسد برماحهم، فاستشهد -رحمه الله- من كثرة رماح العدو في جسده واختلافها فيه.