النص القرآني بين منهج المعرفة الإسلامية وطرق البحث
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
النص القرآني بين منهج المعرفة الإسلامية وطرق البحثالمُتصفِّح للشبكة العنكبوتية هذه الأيام، يُلاحظ ارتفاع وتيرة الكتابات المُضلِّلة التي تَمسُّ قدسية النص القرآني، وتَهبِط به إلى مستوى ناسوتي، يَتناقض مع الطبيعة الإلهية المُطلَقة للقرآن، ومع أن القرآن الكريم - مهما حاول البعض مِن المُرجِفين المسَّ بقدسيَّتِه، والانتِقاص مِن اعتباره - لا يحتاج إلى حماية مِن أحد مِن البشر؛ لأن الله -تعالى- قد تكفَّل بحفظِه وفقًا للقانون الإلهي المركزيِّ: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، إلا أن المُنافَحة عنه إنصافًا للحقيقة، وانتصارًا للعقيدة، تبقى غايةً ساميةً، تتطلَّبها مُقتضيات تعظيم كتاب الله، والذَّود عنه.
والقرآن كما يَعلم الجميع، هو كتاب هداية للناس؛ كما يقول الله - سبحانه وتعالى - عنه: ﴿ إِنَّ هَذَا القرآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، ومِن ثَم فهو ليس كتابًا في الطبِّ، أو الفيزياء، أو الفلك، أو الفلسفة، أو نحو ذلك مِن العلوم، ومع أن ما ورَد فيه مِن إشارات عِلمية تُفيد الدَّلالة الحسية للاستقراء، فإنه يَنبغي أن يتمَّ التعامُل معها على أنها ما هي إلا إضاءات ربانية؛ لحثِّ الإنسان على السعي للبحث العلمي، والتفكُّر بالخلق، بدءًا مِن ذات الإنسان، وانتهاءً بآفاق الكون، وربط نتائج الظواهر الطبيعيَّة والاجتماعية وغيرها بأسبابها؛ وذلك بهدف التعرُّف على تلك الأسباب التي تقف وراء هاتيك الظواهر، ورصد النتائج المُنبثِقة عنها؛ لغرض السيطرة عليها، والتمكُّن مِن تسخيرها بنجاح عند المعالَجة؛ تحقيقًا لمبدأ جلبِ المنافع، ودرءًا للأضرار، على قاعدة: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية: 13]، ورفضًا للأساطير والخرافة، باعتماد العقل المتأمِّل، والعِلم المُجرَّب، في نهج تأمُّليٍّ استقرائيٍّ مُتطوِّر فريد، أرسى أساسًا صلبًا للتعامُل مع حقائق الحياة، والظواهر الكونية، بعيدًا عن الهوى الذاتي، والغرَضِ الشخصيِّ، في وقت لم يكن فيه العِلم على هذه الدرجة مِن الرقيِّ والتقدُّم.
ومعروف أن الله - سبحانه وتعالى - قد فصَّل القرآن الكريم على عِلمه المُحيط بكل شيء باللغة العربية؛ ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [فصلت: 3]؛ حيث تميَّز هذا التفصيل بالعِلم الإلهيِّ اليَقينيِّ الشامل والمُطلَق، حاملًا حقائق الوجود الغيبيَّة، والظواهر الكونية المَحسوسة كما هي كلها، فجاء القرآن مُحكَمًا، خاليًا مِن أيِّ شك، أو اختِلاف، أو تناقُض، فأعجزَ بذلك دهاقِنة العرَب، وهم أرباب الفصاحة والبيان، ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، وبهذه الخواصِّ المُحكَمة، اتَّسم النص القرآني بقُدسيةٍ مطلَقة على قاعدة: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [فصلت: 42]؛ بما يَعني أن الاقتراب المتجسِّد مِن مُراد الله في فهم النص، هو مسؤولية الإنسان بعد استِحضار وسائل الفهم الصحيح، التي تتجسَّد في التدبُّر العَقليِّ، والإلمام التام ببيان اللغة العربية، ومعرفة السياق، والإحاطة بأسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والإحاطة الشاملة بالعلوم الإسلامية - النقلية منها والعقلية - حتى لا يَتقاطع الفهم البحثيُّ مع مدلول النص بأيِّ شكل مِن الأشكال، وبذلك يَتفادى أن يُجادل الباحث في آيات الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، فيَهلِك ويُهلك.
وفي ظل هذا الهَدي الإلهيِّ تمكَّن الجيل النبويُّ مِن الصحابة والتابعين ومَن تلاهم مِن استيعاب النهج الرباني القرآني على مُراداته الحقيقية، مما مكَّنهم في التطبيق العمَليِّ مِن بناء حضارة إنسانية زاهرة، تخطَّت ذاتها في المكان والقيَم؛ لتشعَّ بالعطاء والنور على العالَمين؛ حيث لا تزال بصماتها - حتى بعد أن أخذت بالتراجُع عن الدور، وبعد أن دبَّت فيها عوامل الضعف والانحلال - تَحمِل في طياتها خميرة إلهامِ التحضُّر المعاصر في الكثير مِن إرهاصاته العِلمية، والفلسفية، والفنية.
ولا جرم أن هذا التوافُق الإيقاعيَّ بين القرآن والعِلم، هو منهج رباني مُحكَم، يُراعي حاجة الإنسان المُلحَّة للتوازن بين الروح والمادة، ويَكبح جماح النزق المَهْووس لترجيح عُنصر المادة تحت وطأة قصور عقل الإنسان عن استيعاب ما وراء المحسوس، بما يفسح المجال للعِلم والعقل بتجاوز حدود طاقتهما لدى الباحث غير المُتسلِّح بمنهجية المعرفة الإسلامية، فيقع في خطأ الحكْم بإقحام تصورات العِلم التجريبي المُغرِض وحسب، خلافًا لقاعدة ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، فيقع منه التناقُض عندئذ؛ كما يتوهَّم مِن أصيب بعمى الاستلاب والانبِهار بمُعطَيات الحضارة المُعاصِرة، بما أبدعَتْه مِن مُنجَزات عِلمية وتكنولوجية مِن المُستشرِقين مِن أصحاب الغرض السيِّئ، والنُّخَب المُستغرِبة، بخطأ القياس، فيَعمدون إلى تَشويش الاستِنتاجات عن عمد، للطعن بصدقيَّة وحْي النص القرآني وإسقاط الأنسنَة عليه زورًا وبُهتانًا.
لذلك؛ فإن التعامل مع القرآن الكريم يَنبغي أن يتمَّ وفقًا لمنهجية العلوم الإسلامية المُعتمَدة في هذا المجال حصرًا، فكما أن علوم الطب تُدرس بمنهجيات لا تصحُّ إلا في بحث العلوم الطبية، وأن علوم الفيزياء لا تُدرَس إلا مِن خلال المنهجية المُعتمدة في بحثها، وهكذا..
فإنه لا يصحُّ أيضًا مِن بابٍ أولى أن تَجري دراسة القرآن، وبحث نصوصه، إلا مِن خلال منهجية علوم القرآن، والمَعرفة الإسلامية المُتراكِمة في هذا المجال، بدءًا مِن مرحلة نزول القرآن، وانتهاءً بعَصرِنا الراهن، مِن دون أيِّ انتقائية تجزيئيَّة مَقصودة.
وتقتضي الموضوعية أن يَنتبه الباحث إلى ما أثبتَتْه نتائج العلوم الصرفة المُعاصِرة مِن مُعطَيات تطابقَت مع حقائق القرآن، تعني أن ذلك التوافُق لم يكن محضَ صُدفة، بل هو يأتي مصداقًا لقول الله -تعالى-: ﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [سبأ: 6]، في سياق تراتبية جدلية صارمة لا انفصام لها، تجعل العِلم الحق الخالي مِن الغرض المُسبق وسيلةً مُضافة للهداية إلى صراط الله العزيز الحميد، لا وسيلةً للتضليل، والتزييف، وطمس للحقيقة، كما دأب على ذلك المُبطِلون.
وهكذا فإن على الباحث عند دراسته للقرآن أن يعمل في ذات الوقت على استِكناه الإيقاعات التوافُقيَّة بين النص القُرآنيِّ وبين العِلم، ووَفقًا لمقاييس منهجية علوم القرآن الصرفة المُعتمَدة في المعرفة الإسلامية؛ لكي يتفاعل بشكل موضوعي مُنصِف مع تصوُّرات القرآن عن الكون والحياة، كما يُريدها القرآن، لا كما يُريدها الباحث، ليس لمجرَّد كشف الحقيقة في تلك القراءة المنهجية للنص مِن منظور مدرَسيٍّ فحسب؛ بل بقصد تفجير طاقة الإبداع الإنسانية وفقًا لحقيقة مُرادات النص أيضًا؛ لكي يرفد الحضارة الإنسانيَّة بعناصر الاستمرار، ويُمدَّها بمُقوِّمات البقاء، ويؤمن لها مُستلزمات التطور والارتقاء، بمنظور مسؤوليات استِخلافه الرباني في الأرض، وتكليفه بإعمارها؛ حيث لا يَنطوي القرآن بهذه الإيقاعيَّة العجيبة، كما يلحظ المهتمُّون بالدراسات القرآنية، على أي تناقُض بينه وبين العِلم على طول الخطِّ، كما يَزعم أولئك المُتنطِّعون قصدَ التشويه والتضليل.
لذلك ينبغي على الباحث - إضافةً إلى حرصِه على تدبُّر آيات القرآن الكريم بعناية فائقة - أن يَستحضِر أمامه أدوات البحث، والتفسير، وغيرها مِن العلوم المساعِدة، عندما يُريد الاقتراب المُتجسِّد مِن فَهم النص؛ لأنه بهذا التدبُّر المؤمن، وتوفير متطلبات الإعانة للتدبُّر مِن منهجية سليمة، ومراعاة عوامل الظرف المكانيِّ والزماني لنزول النص، يتمكَّن مِن الوصول إلى الفهم الصحيح للنص القرآني، ويَقترِب مِن مراد الله بالنص إلى أدنى حدٍّ، على أن تنحيَة منهجية المَعرفة الإسلامية عن عمد، والتوسُّل بطُرُق غريبة عنها في التناول لاستحضار الدلالات على مراداتها يؤدِّي بلا شك إلى تعطيل الوعي عن التدبُّر المطلوب في الدراسة، ويُبعد العقل عن التفكير المتعمِّق في مَدلولات النص القرآني، وبالتالي تكون عملية الرجوع إلى الحدس الشخصيِّ المُتاحة بحوزة الباحث، عائقًا أمام استقراء الحقيقة القرآنية، وتُشجِّع على إفراز ظاهرة تثاقُف المُتفَيقِهين، وتعالُم المَهووسين، الذين يبحثون في ثنايا النص بأُفقٍ ضيِّق، ويَنحون باتجاه التعسُّف المقصود بسبب العَجز عن أخذ تلك المعايير العِلمية بنظر الاعتبار، عند التعاطي مع مدلولات النص، خاصة أن المُخاطَب بالقرآن الكريم الذي لا تَنقضي عجائبه، هو عقل الإنسان؛ لكي يَفهمَه على مراد الله، ويَستنبِط البيان مِن داخل القرآن بالدرجة الأولى، كلما فتح الله عليه طريق الاستِنباط السويِّ، على تأصيل ﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37]، وبالتالي فالعقل هو المعنيُّ الأول بالخطاب القرآني: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 21]، الذي لا يَتقاطع أبدًا مع النهج الاستِقرائي التجريبي المُحايد بكل أبعاده.
إن الانسِياق المُتهافِت إلى ثقافة الطعن، والتشكيك، والإرجاف، والعزوف عن تمعُّن النص القرآني بمقاييس الفهم اللُّغويِّ العربي الفصيح، الخالي مِن أيِّ عُجمة رطنَت بها ألسنة المُتنطِّعين بالغزو الثقافي، الذي هبَّ علينا برياح "العَصْرَنة"، وربما تسرَّبت تداعياته السلبية إلى أدبياتنا اللُّغوية، وأساليبنا التفسيرية، فأفسدت علينا - بالإضافة إلى ما تقدَّم مِن مُعوِّقات - ذائقة التأمُّل، وحجمت فينا قدرة التمكُّن مِن الفهم الصحيح للنص القرآني كما ينبغي؛ مما عطَّل عملية التواصُل اللغوي الخلاق مع نهجِ المَعرفة الإسلامية، عند تدبُّر النص القرآني الغنيِّ بالدلالات المُتجدِّدة حتى تقوم الساعة، فحرَموا أنفسهم، وحرَموا البشرية مِن فيض العطاء الإلهي اللامحدود، الذي يُفتَرض أن يُدام تفجيره بالتدبُّر المُتطلِّع؛ لتأمين تدفُّقه المُستمرِّ بالخير العميم عليهم، وعلى الناس أجمعين.