اغتنم فراغك قبل شغلك


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

الحمد لله القائل في كتابه، ممتناً على عباده: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:33-34].

فإذاً: هذه الشمس وهذا القمر، وهذا الليل، وهذا النهار من نعم الله، ولو لم يكن هناك ليلٌ ولا نهار، ولا شمسٌ ولا قمر، ولم يكن هناك زمن يقضي فيه العباد أعمالهم، فكيف سيكون الحال؟ ولذلك كان هذا الزمن نعمة من نعم الله، جعله الله ليستفيد منه العباد: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62].

جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، ولذلك لما كان هذا الزمان نعمة مسئول عنها العبد، كانت محاسبة الله للكفار شديدة، فإن الله يؤنبهم يوم القيامة، لما أعطاهم العمر المديد ففرطوا فيه قال الله عز وجل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

تأنيب، أولم نعمركم في الدنيا؟! ولكن ليست هناك منفعة، ولا تذكر أحد، وجاءكم النذير، ويمدح الله المؤمنين عندما يدخلون الجنة فيقول: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].

يعني: أنهم استغلوا الأيام وصاموا فيها، وعبدوا الله فيها، ولذلك يوم القيامة في الجنة كوفئوا على هذا الاستغلال للوقت: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24] أي: في الدنيا.

عمر الإنسان ما هو؟ هو لحظات.. دقائق.. ساعات.. أيام.. شهور.. سنوات، وهذه الشجرة، يا ابن آدم! إنما أنت لحظات، فإن ذهبت لحظة ذهب بعضك حتى يذهب الإنسان كله، ولذلك الله عز وجل عندما يعطي العبد نعمة يسأله عنها: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه) حديثٌ صحيح.

وحتى لا يشعر العباد بالبخس، ولا تفوتهم الفرصة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -ويجب أن نشعر أن هذا الحديث موجه إلى كل واحدٍ منا- قال: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك؛ لأن الشباب فيه من الطاقة والحيوية ما ليس في الهرم، وصحتك قبل سقمك؛ قبل أن يأتيك مرض يشغلك، وغناك قبل فقرك؛ أي: قبل أن تأتي حاجة أو مصاريف كثيرة تقضي على المال وتفتقر، فاغتنم المال الذي بين يديك وتصدق منه قبل أن تفتقر، فأنت لا تدري ماذا سيحدث لك في المستقبل، وفراغك قبل شغلك؛ فكل الفراغ الذي يحصل لك في الدنيا اغتنمه، فقد تنشغل في الدنيا، وقيل: اغتنم فراغك في الدنيا قبل أن تنشغل بالعذاب في الآخرة- وحياتك قبل موتك، فعلى وجه الإجمال اغتنم حياتك قبل موتك، وهو حديثٌ صحيح.

وسنركز أيها الإخوة على واحدة من هذه الخمس وهي: اغتنم فراغك قبل شغلك:

أريد أن أسألكم سؤالاً: حديث: (اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) هذا الحديث يدور على عدة أشياء.

أليس بعض هذه الخمس يدخل في بعض؟ يعني: فراغك قبل شغلك يدخل في حياتك قبل موتك، والوقت هذا واحد، وثانياً: الصحة، وثالثاً: المال.

لأن الصحة من الشباب، والمال منصوص عليه في الحديث، الواحد منا إذا كان عنده وقت وصحة ومال، استطاع أن يفعل كل شيء، يعني من الناس من يكون صحيحاً لكنه مشغول بالكسب، ومن الناس من قد يكون متفرغاً ليس عنده شغل، لكنه مريض معلول أليس كذلك؟

لكن الشخص الذي عنده صحة وعنده وقت، يستطيع أن يكسب مالاً ويستطيع أن يعمل أشياء كثيرة جداً، فعنده الآن أهم مسألتين في النعم بعد نعمة الإيمان وهما: الصحة والوقت، الوقت الذي هو الفراغ، لذلك جاء النص عليهما في الحديث الآخر: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس؛ الصحة والفراغ) ولذلك قال العلماء: أهم نعم الله عز وجل على العبد ثلاث: الإيمان والصحة والفراغ.

فأن يجد إيماناً وصحةً وفراغاً فهو رأس المال كله، ومعنى مغبون فيهما كثير من الناس، الغبن: أن تشتري سلعة بأكثر من قيمتها الحقيقية، أو تبيع سلعة بأقل من قدرها، هذا غبن أيضاً، وأكثر الناس مفرطون في الصحة والفراغ، ولذلك فهم مغبونون أشد الغبن، وهناك قلة من الناس لم يغبنوا، كما نص عليه الحديث قال: ( نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس ) يعني: هناك قليل تلافوا ذلك الغبن، وهؤلاء القليل هم الفائزون.

استغلال الوقت مهم جداً لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها).

يتحسرون على ساعة، والساعة لحظة، أي: مدة من الزمن، يقال: للفترة القصيرة من الزمن في لغة العرب ساعة، لا يتحسر أهل الجنة على شيء، إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها، ويبلغ مقدار أهمية استغلال الوقت في الإسلام مبلغاً عجيباً لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل).

يعني: استغل كل شيء، لو قامت القيامة وتستطيع أن تغرس فسيلة في يدك، فاغرسها ثم مت، وهذا الوقت -أيها الإخوة- من نعم الله عز وجل، وله ميزات عجيبة، فهو سريع التقضي أبي التأتي، يذهب بسرعة ولا يمكن أن يرجع، وهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك، بعض الناس يقول: هذا عنده غيرة، وهذا ليس عنده غيرة، هناك غيرة مهمة جداً، وهي الغيرة على الوقت، الواحد قد يغار على عرضه، ويغار على أهله، لكن هناك غيرة مهمة، وهي الغيرة على الوقت الذي يذهب ويهدر، فإذا صارت هناك غيرة على هذه الأوقات المهدرة حصل كمالٌ عظيم للمسلم، قال صاحب صيد الخاطر : ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظةً في غيره قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة، فإذا علم الإنسان وإن بالغ في الجد بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته، فإن كان له شيءٌ من الدنيا -يعني عنده أموال مثلاً- وقف وقفاً وغرس غرساً يأكل منه الطير والحيوان فيكون له أجر- الناس الذين عندهم مزارع وبساتين، وعندهم حدائق في بيوتهم، لو نووا بهذا الغرس أنه لله، فإذا أكل منه طير أو حيوان فإنهم يؤجرون على نيتهم هذه؛ وقف وقفاً أو غرس غرساً وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له.

الذين يعملون بتحديد النسل ويقولون: نحن لا نريد إنجاب أطفال، ويكفي اثنان أو ثلاثة هؤلاء يفوتهم أجر كبير، لماذا؟

لأن الإنسان لو كان عنده سبعة أولاد أخيار، أو بعضهم، فإنه يؤجر على هؤلاء؛ لأن كل واحد من الأولاد سيصلي ويحج ويصوم ويدعو ويطلب العلم، ويذكر الله، والأب له مثل أجورهم إذا كان هو الدال على الخير وربَّى أولاده على هذا، وبعض الآباء يتركون أولادهم في الشوارع ثم يأتي الدعاة إلى الله فيلتقطونهم من الشوارع ليدخلوهم في معترك الحياة الإسلامية الصحيحة، ثم بعد ذلك نقول: الأب يؤجر لأن ولده أصبح مستقيماً، وهو لم يتعب في تربيته ولم يُجهد نفسه في أن يصبح ابنه كذلك، وهذا أجره ليس لأبيه، وإنما للداعية الذي اهتدى على يديه.

عندما يربي الأب ابنه تربية إسلامية؛ مثلاً: لو عندك سبعة أولاد تربوا تربية إسلامية على يديك فلو متّ فإن كل عمل صالح يعملوه فإن لك مثل أجره، من غير أن ينقص من أجورهم شيء.

عرفنا الآن نعمة أو أهمية أن يكون للإنسان أولاد، وعملية الإنجاب لها فوائد مثل تكثير نسل المسلمين، وغيرها من الفوائد الكثيرة التي تنشأ من الإنجاب، وهؤلاء الغافلون المتأثرون بدعوات تحديد النسل، يعملون عملهم في أوساط المسلمين، من يصنف كتاباً -إن كان من أهل العلم- فإن تصنيفه هو ولده المخلد، أما من ينجب ولداً يعيش مثلاً ستين سنة ومات، كان هذا العمل الصالح في هذه الستين سنة فقط، ويكون الأب له نصيب منه بحسب جهده، لكن العالم عندما يصنف كتاباً فإنه يستفاد من الكتاب مئات السنين، فإن تصنيف العالم ولده المخلد، ونحن الآن عيال -مثلاً- على كتاب فتح الباري ، عيال على كتب علماء السلف ، عيال على صحيح البخاري عيال على صحيح مسلم ، وعلى مسند أحمد ، وعلى كتب أهل الحديث، وعيال على مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه، فكل حرفٍ نقرأه في هذه الكتب ونستفيد منه ونحضر فيه موضوعاً ونلقيه إلى الناس فيعود الفضل لأولئك العلماء.

فإن تصنيف العالم هو ولده المخلد، فمن نقل إلينا سيرة الإمام أحمد فتأثر الناس بها، والإمام أحمد يصله الأجر في قبره بسبب تأثر الناس بسيرته، لو شخصاً -مثلاً- تعرض لاضطهاد فقرأ فتنة الإمام أحمد وثبت، فإن للإمام أحمد أجر ثبات هذا الرجل، لأن عمل الإمام أحمد

قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ

في الجانب المقابل هناك أشخاص هامشيون، بعض الناس وجوده مثل عدمه، بل إن وجوده ضار، أليس ذلك صحيحاً؟ وهناك أناس لو ماتوا لكان أفضل، وهناك أناس لو ماتوا لما حصل أي نوع من التغيير أو النقصان، لا في بيته، ولا في مدرسته، ولا في عمله، ولا في مجتمعه، لكن هناك أناس لو مات أحدهم تأثر البيت من موته؛ لأنه كان يملأ فراغاً عظيماً في ذلك البيت، وكذلك لو مات مدير لتأثرت الدائرة كلها، بسبب موت ذلك المدير الصالح في دائرته التي يعمل فيها، وهناك مدرس لو مات لحزن الطلاب عليه، وأصبح هناك نقص في المدرسة بموت هذا المدرس:

قد مات قومٌ      وهم في الناس أحياءُ

الإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا طاقات فعالة، لها أثر في الواقع، أنت إذا لم يكن لك أثر في الواقع، فمعناه أن عندك خطأ كبيراً في منهجك، ويجب أن تراجع نفسك: لماذا ليس لك أثر في الواقع؟

يقول ابن الجوزي وهو يتحدث في مدينة بغداد : رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع، أو بقراءة كتابٍ في غزاةٍ أو سمر؛ بطولات.. معارك.. كلام.. وأشياء الحروب، أو سمر، ونحن نضيف الآن، أفلام الفيديو، والتلفزيون، والجرائد، والمجلات، والكتب الغثائية التي ترمى يومياً في الأسواق، وتملأ رفوف المكتبات، روايات وقصص مدمرة، سبحان الله! اخترع أهل الباطل كتاباً اسمه كتاب الجيب، لماذا؟ لأنه يدخل في الجيب، قصة أو غيرها، وهناك كتب اسمها مقاس فرنسي صغير بحجم الكف، لماذا؟ لأنه يمكن لأي شخص أن يأخذه معه أينما ذهب.

وقد لا تجد مثل هذه الخدمة في الكتاب الإسلامي، لكن قد بدأت تظهر كتيبات صغيرة تحمل في الجيب وأشياء من الأذكار وغيرها، لكن تأمل أن بعض الناس يقتلون وقتهم قتلاً بهذه الأشياء؛ إن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع أو بقراءة كتاب في غزاةٍ أو سمر، وإن طال النهار فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، نحن الآن نقول: على الكورنيش أو في الأسواق- فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر- سفينة العمر تجري وسترسو على شاطئ الموت وما عندهم خبر، شرائع الإسلام متكاملة يعضد بعضها بعضاً، ولذلك إذا أمر الشرع بشيءٍ، أمر بتهيئة أسبابه ونهى عما يخالفه ويضاده، فمثلاً:

لماذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال؟ لأن أقل ما فيها مضيعة الوقت.

ولذلك نهى السلف عن السؤال عن الأشياء التي لم يقع، وهؤلاء الناس دائماً يقولون: أرأيت لو كان كذا، أرأيت لو حصل كذا!!

وهذا شيء بسيط، هذا من كثرة السؤال والقيل والقال، بجانب انشغال الناس الآن بالزينات والكماليات ومتاع الدنيا وانشغال النساء بالبهارج، المشكلة أن الناس -أقصد الأغنياء- يظنون أن حالتهم ستستمر كما هي! بعض الناس يقول: المهم النظر في الحالة الراهنة فحسب، فهذه حالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه معافى وينسى المرض فيستبعده، هل يخطر ببالك الآن وأنت صحيح أنك قد تصاب بمرض شديد جداً؟

الواحد الآن وهو غني وراتبه كبير، وعقاراته تدر، هل يتصور الآن في حال الغنى أنه قد يفتقر؟

لا يتصور؛ لأنه لم ير شيئاً بعينيه مثل الإفلاس أو المرض، ولذلك هو يظن أن حاله سيدوم، كلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل!

الواحد لو ظل معافى خمسة أيام، يمكن أن يخشى المرض، ولو بقي شهراً أو سنة ما أصابه مرض، كل هذا الطول في الزمن هو أيضاً يستبعد بازدياد أن يحدث له مرض، وهذه بالضبط مشكلة الناس عندما يكبرون في السن، فيرى نفسه الآن عاش عشرين سنة، أو أربعين سنة فيقول: إيه باقي!

يقول: عشت أربعين، ما دام عاش أربعين بالنظر إلى الماضي يقول: ستين، فأمله يزداد في العيش لأنه عاش وما حدث له شيء، فهو إذاً يأمل.. يأمل.. وهذا الذي يقتل الناس فما هو الأمل المحمود والأمل المذموم؟

الأمل المحمود: هو أن يأمل في الخير وهذا جيد، لكن الأمل المذموم هو الذي يدعو إلى التسويف كما سيمر معنا.

فالعاقل الذي يأخذ بالاحتياط، فإذا مرض أو افتقر فعنده رصيد والحمد لله، إذا ما مرض أو افتقر لا يتضرر! الناس أنواع: طالب وموظف، وأعزب ومتزوج، وصغير وكبير، هناك بعض الناس الذين يعيشون في نوع من العافية، لا يفكرون في المستقبل وهذه هي المشكلة، فمثلاً: الطالب يظن أنه في المستقبل إذا تخرج من الجامعة فإنه سيكون لديه وقت أطول، وسيتحرر من الدراسة ومن الامتحانات وأن الوقت سيتسع بالنسبة له، لكن في الغالب لا يكون ذلك، وتمر بالموظف أوقات يتمنى أن يكون فيها في حياة الدراسة، دع الآن موظفاً يدخل الجامعة التي درس فيها قبل عشر سنوات، ماذا سيكون شعوره؟

سيقول: أين أيام زمان! أيام كان الواحد ليس عنده مسئوليات، أيام كان الواحد عنده عطلة الربيع وعطلة صيفية، وعطلة خميس، بالنسبة للناس الذين في وظائفهم عطلة خميس، ويقول: الدراسة -تنتهي- مثلاً الساعة الثانية، لكن العمل يستمر حتى الليل أحياناً.

لكن عندما تذهب إلى الطالب يقول: الآن عندي خطط في طلب العلم، وعندي خطط في الدعوة، وعندي خطط في صلة الرحم، وعندي خطط، انتظر حتى أتخرج وأتفرغ من همّ الدراسة وهمّ الامتحانات، وأتفرغ إن شاء الله وأفعل هذه الأشياء كلها، وأنفذ المخططات، لكن عندما يتخرج تقع الواقعة، فينشغل بالوظيفة، والوظيفة ليست سهلة، الآن الوظائف مع مرور الزمن تتعقد ويحصل فيها من الصعوبة أكثر من ذي قبل! ولذلك لا تفكر أبداً وأنت طالب أنك إذا دخلت حياة الوظيفة، أنك ستدخل عالماً من الفراغ الذي ستستغله في كثيرٍ من الأعمال الصالحة، بل إنك وأنت طالب عندك من الإمكانيات ما ليس عند الموظف، فلا تغتر واغتنم فراغك قبل شغلك.

أنت الآن لم تتزوج بعد، الواحد أحياناً يقول: الآن عزوبية، والأوقات مختلطة، لكن غداً أتزوج وأجلس في بيت وأستقر، وسيصير عندي وقت كبير، لكن فكر الآن في قضية الزواج، الزواج مسئولية وسوف يأتيك أولاد، وتحدث عندك روابط اجتماعية، وستزور أهل الزوجة، وعم الزوجة، وعمتها، وخال الزوجة،وخالتها، وأقرباءك الذين لم تكن تعمل لهم حساباً، ستضطر أن تعمل لهم حساباً بعد الزواج، الإنسان عندما يكون فرداً قد لا يزور بعض أقربائه، لكن عندما يتزوج طبيعة الوضع تفرض عليه، سيأتيه أقرباء له بزوجاتهم ليتعرفوا على زوجته، وهو يضطر لأن يزورهم أيضاً، ويدخل في معمعة من الزيارات العائلية، ويضطر لحضور مناسبات كثيرة، لأنه متزوج، طبعاً، والزواج ليس سيئاً لكن نقول: اغتنم فراغك قبل شغلك، الزواج عبادة، يفتح لك أبواباً من الأجر، لكن هناك أشياء تستطيع أن تفعلها قبل الزواج ولا تستطيع أن تفعلها بعد الزواج، هناك عبادات تستطيع أن تستكثر منها قبل الزواج ما لا تستطيع أن تستكثر منها بعد الزواج.

مثلاً السفر في طلب العلم: الآن إذا تزوجت قد يصعب عليك أن تقوم بهذه العبادة، وعندما يكون لك أولاد كثيرون يصعب عليك دائماً أن تأتي بعمرة وراء عمرة، لكن عندما تكون فرداً يسهل عليك أن تخرج كثيراً، قد تبيت في مكان آخر لتواصل عبادة أو طاعة أو طلب علم؛ لأنه ليس لك زوجة، لكن عندما يصبح عندك زوجة يجب أن ترجع إلى العش وتبيت فيه، وسيصعب عليك أن تترك الغداء عند أولادك وعند أهلك، لكن عندما تكون طليقاً من هذه الناحية يمكن أن تفعل أشياء لا تفعلها في حال الزواج، ستنشغل في بناء بيت! وقد تنشغل في مشروع تجاري إضافي، وقد تنشغل في شراء أغراض، فالذين عندهم أولاد لو فكر أحدهم فقط في قضية تطعيم الأولاد، وكل ما مرض ولد تريد أن تأخذه إلى المستشفى، هذه لوحدها بند كبير في الأوقات المصروفة، وكذلك شراء الأغراض من السوق واستئجار بيت، وتأثيثه، وتوفير مال لشراء سيارة ودفع لفواتير الهاتف والكهرباء، وشراء للملابس، وهناك حاجات كثيرة جداً ستستهلك الوقت، لا تحسب أنك في المستقبل ستتفرغ أكثر، الآن استغل الوقت.

أيضاً من الأشياء الأخرى: الإنسان عندما تكبر مسئولياته الاجتماعية، ويصبح عدد أفراد أسرته أكثر أو -مثلاً- يكبر أبوه ويصبح غير قادر على العمل، وتزداد الرعية واحداً، سيحتاج إلى أن يصرف على بيت ثانٍ، وهناك أناس كانوا يصرفون على بيت، وأصبحوا الآن يصرفون على بيتين، وقد يصرف على ثلاثة بيوت، فيضطر أن يعمل عملاً إضافياً في المساء، أو يشترك في مشروع تجاري غير الوظيفة من أجل أن يلاحق المسئوليات.

لا تظن أنك ستجزم أنك تتفرغ في المستقبل أبداً، الآن قد يكفيك راتب لشراء السلع لكن ما تدري غداً تقل الرواتب أو أن السلع ترتفع أسعارها! مع التضخم الذي يعيشه العالم اليوم، فالشيء الذي ستشتريه الآن بعشرة ريالات في المستقبل قد لا تشتريه إلا بخمسين ريالاً، وستضطر أن تعمل أكثر لتكسب أكثر، لكي تستطيع أن تشتري.

هذا الاضطرار قد يكون مذموماً؛ لأنه انشغال بالدنيا عن الآخرة، لكن أحياناً هناك أشياء ملجئة فعلاً وتعتبر عبادة، أنك تصرف على بطون جائعة، وعلى أناس محتاجين، لكن هذه العبادة قد تشغلك عن عبادة أخرى كنت تستطيع أن تعملها في الماضي!

اغتنم فراغك قبل شغلك!

الشخص عندما يكون في مقتبل عمره، يكون ذهنه صافياً، لذلك كان عمر بن الخطاب يجعل في مشورته الشباب بالإضافة إلى الشيوخ، نوعية معينة من الشباب، لماذا؟

لصفاء أذهانهم، كان يبتغي حدة عقول الشباب، فكان ابن عباس في مشورة عمر ، وكان عمره ثلاث عشرة سنة، لكن ذهنه حاد، قد ينقدح في ذهنه من الأفكار ما لا يأتي في أذهان الشيوخ؛ لأنه ليس عنده مسئوليات، ما عنده أولاد إذا مرضوا اهتم بهم، ولا عنده أولاد إذا تخرجوا من الجامعة يهتم أين سيذهبون ويتوظفون، ولا عنده أولاد إذا كبروا سيبحث للولد عن زوجة، وإذا كان عنده بنت فسيحمل همَّ زواجها، هذه الهموم وهموم المستقبل والأولاد تكدر صفاء ذهن الشخص، ولذلك بعض الشباب يحفظ قرآناً فيريد من أمه أو من أبيه أن يحفظ معه بنفس المعدل، يقول: يا أمي! لماذا لم تحفظي؟ أنا حفظت كذا بفترة، تقول: لكن ذهنك غير ذهنها، والهم الذي عندك غير الهم الذي عندها، ولذلك تجد كثيراً من كبار السن يقولون: يا ولدي! ذهبت علينا أيام، يا ولدي! الآن لا نستطيع أن نحفظ، لا نستطيع أن نصلي مثلكم صلاة التراويح، لأن الإنسان مع الزمن يستهلك، حواسه تضعف، ولذلك كان من الدعاء النبوي: (اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا -ليس فقط هذا- واجعله الوارث منا) يعني اجعله زائداً بحيث كأنه يفيض بعد موتنا، أو ورثه لأولادنا.

فصفاء الذهن نعمة، ينبغي أن تستغلها الآن في طلب العلم وفي الحفظ والتفكير السليم.

الإنسان -أيها الإخوة- لا يدري ماذا تخبئ له الأيام! الآن هو قد يكون صحيحاً، لكن في المستقبل قد يمرض مرضاً مزمناً -نسأل الله العافية- اسأل كثيراً من المرضى، قل للمرضى الذين عندهم أمراض مزمنة، قل لهم: قبل أن تصابوا بهذا المرض كيف كنتم؟ كانوا شباباً وكانوا في صحة، لكن بعد ذلك تجد الواحد منهم مرض مرضاً شديداً؛ الآن إما أنه في المستشفى، أو في الفراش في البيت لا يخرج إلا نادراً، وقد يريد من يحمله لقضاء حوائجه، بعض الناس لا يحسب هذا الحساب، قال الشاعر:

يسر الفتى طول السلامة والبقا     فكيف ترى طول السلامة يفعلُ

يُرد الفتى بعد اعتدالٍ وصحةٍ     ينوء إذا رامَ القيام ويحملُ

انظر إلى كبيرٍ في السن كيف يقوم! يقوم على مراحل! يمكن على اليد الأولى ثم على الرجل الأولى ثم على اليد الثانية ثم على الرجل الثانية، وربما يحمل حملاً، لكن انظر في شاب تجده يستوفز إذا أراد أن يقوم قام مرةً واحدة.

اغتنم فراغك قبل انشغالك بأمراض، وقبل انشغالك بتعب الشيخوخة وأمراضها، وهؤلاء الشباب الذين لم يقدّروا لهذا السن قدره عليهم أن يتمعنوا جيداً:

أترجو أن تكون وأنت شيخٌ      كما قد كنتَ أيام الشبابِ

لقد كذبتك نفسك ليس ثوبٌ      دريسٌ كالجديد من الثيابِ

ثوب دريس: بال من الاستعمال.. ليس مثلك؛ الناس مختلفون، بعض الناس عندهم عقارات تدر عليهم أرباحاً -وصاحب العقار جالس في البيت- ليس عنده شيء إلا أنه يحصل في آخر السنة الأجرة، وهناك رجل أبوه غني قد يصرف عليه وعلى بيته، ورجل أبوه فقير يصرف هو على نفسه وعلى أبيه، وهناك أناس عائلتهم غنية، فإخوانه أغنياء، وأعمامه أغنياء، وأخواله أغنياء، لو أراد أن يستلف لوجد من يسلفه، ولو غاب وجد من يصرف على بيته، لكن بعض الناس قد يضطر أن يصرف على عدة عوائل، وبعض الناس أولادهم في صحة وقد لا يذهب إلى الطبيب أو العيادة إلا في السنة مرة، أو ما يذهب إلا نادراً، وهناك أناس عندهم أولاد مرضى قد يضطر للسفر من أجل علاجهم، ويقضي فترات طويلة يتنقل في مستشفيات! وتخيل أن رجلاً عنده ولد مصاب بمرض من الأمراض، كيف يكون وضعه مع الولد؟ تراه دائماً منشغلاً بالولد، فإذا ارتفعت الحرارة ذهب إلى الدكتور في المستشفى، فإذا لم يجد العلاج ذهب للثاني وذهب للثالث، فإذا لم يجد في الظهران ذهب إلى الرياض أو إلى جدة ، وقد يضطر للسفر إلى مصر أو إلى أمريكا بحثاً عن العلاج، والسفر يحتاج إلى تذاكر وإلى أموال تنفق فيها، وإلى جهود وأوقات، وهذا كله من أجل العلاج وليس بالسهل.

وردني سؤال يتعلق بأحكام الطهارة -الوضوء- كأن يكون على اليد حائل -مثلاً مرهم- يمنع وصول الماء .

القصة: أن عائلة فيها ولدان مرضهما أنه ظهر طفح في الجلد ثم أصبح بثوراً، ثم تحولت إلى أورام سرطانية دقيقة أو صغيرة لها جذور في الجلد إلى الداخل، ولا يمكن لهذا المريض أن يرى النور -يعني: النور يضره جداً- فلذلك لا يمكن أن يجلس تحت أنوار، ولا في أشعة الشمس، ولا حتى أمام نور شاشة التلفزيون، ولابد أن يضع نظارة طوال الوقت ما عدا وقت النوم، ولابد أن يدهن الجلد كله بمرهم عازل للضوء (عازل للأشعة أربعة وعشرين ساعة) والمرض لا يعرف له علاج في العالم، وفي المستقبل قد يزداد حتى يضرب في مناطق الأعصاب فيسبب آلاماً رهيبة.

الآن تأمل حال الأم المنشغلة بهؤلاء الأولاد، كيف يكون البيت بلا نور! لابد أن تساعدهم في دهن الجسم بالمرهم دائماً.

تصور بيتاً فيه أولاد فيهم عاهات، أو كبار في السن وفيهم عاهات، يحتاج هذا المريض إلى شخص يأخذه، وآخر يطعمه وآخر يسقيه، ويحتاج إلى من يخرج له الفضلات، وينقله من الحمام إلى الغرفة، وغيرها من الأعمال .

والله عز وجل له حكمه، ولله في خلقه شئون، لكن نحن بسبب الصحة غافلون، ولو أردت أن تعرف شيئاً من الحقيقة فادخل إلى مستشفى من المستشفيات، وتأمل في حال المرضى في الأقسام المختلفة، سئل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله هل يجوز زيارات المستشفيات للاعتبار، قال: نعم!

يمكن للشخص أن يذهب للمستشفيات ليعتبر، وعندما نعلم هذه الأشياء لا بد أن نتأثر لكي نستغل الصحة التي نحن فيها الآن، لأننا لا نعلم حقيقةً ماذا سيحدث لنا في المستقبل، قد يحدث لنا مرض أو عدة أمراض أو مرض مزمن -نسأل الله العافية- لكن الإنسان عليه أن يتعظ ويأخذ عبرة.

فنعود ونقول: الناس أصناف، منهم من دخله كبير، ومنهم من دخله يحتاج إلى عمل شديد، الإنسان الذي عنده شركات، غير العامل الذي يشتغل في الشمس وفي البناء ساعات طويلة، والشخص الذي في بداية الزواج غير الشخص الذي عنده أولاد، والشخص الذي في بداية الوظيفة، ليس مثل الشخص الذي عنده تطور في الوظيفة ودخل فيها وتشعب، وازدادت مسئولياته الوظيفية، ما هو المقصد من وراء ذكر هذه المسألة؟

أن الله عز وجل يؤاخذ الناس على حسب النعم التي أعطاهم إياها.

فأنت لا تتخيل -مثلاً- أو لا تظن أن الشخص الذي عنده عقارات تأتيه الإيجارات هكذا في نهاية السنة وهو جالس! لا. وإنما يتعب ويعمل مثل العامل الذي يضطر أن يشتغل ست عشرة ساعة في اليوم في الشمس وفي البرد أحياناً، لا تتخيل أن الرجل الذي عنده وقت سواء كان طالباً أو أعزب أن حسابه عند الله مثل الرجل المتزوج الذي عنده مسئوليات وأولاد، وهكذا.

وكذلك المرأة -مثلاً- عندما تكون فتاة في مقتبل العمر ليس عندها مسئولية، أمها هي التي تطبخ وهي التي تنظف البيت، أو أن في البيت خادمات -والعياذ بالله من خادمات السوء- هذه المرأة عندما تكبر وتتزوج، وهي متزوجة قبل الأولاد حسابها يتغير عندما يأتيها أول ولد، وحسابها غير ذلك عندما يصير لها ولدان، وحسابها يختلف عندما يصير عندها خمسة أو سبعة أولاد.

ولذلك اغتنم فراغك قبل شغلك، هذه حكم نبوية لها مدلولات عظيمة، لكن أكثر الناس لا يعلمون، وأكثر الناس لا يفقهون، ولا يتفكرون، ولا يتعظون، تستهلكهم الحياة دون أن يخططوا شيئاً للمستقبل ودون أن يحتاط الآن للمستقبل.

كذلك يضاف إلى ما سبق قبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى: أن الناس بالنسبة للإجازات مختلفون، مثلاً الطالب قد يكون عنده عدة أنواع من الإجازات كما ذكرنا، إجازة صيفية وأحياناً تكون شهرين أو شهرين ونصف أو ثلاثة شهور، إجازة الربيع أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وقد تكون عنده إجازات مختلفة، بخلاف الموظف فإنه قد لا يكون عنده إلا شهر أو شهر ونصف، وعطلة نهاية الأسبوع.

إن الشاب يختلف عن رب الأسرة، فالطالب عندما تكون عنده إجازة يستغلها فيما يشاء، لكن رب العائلة عندما تصبح عنده إجازة يشغلها في أشياء مختلفة، كأن تكون عنده حاجة تحتاج إلى تصليح أو يريد أن يسافر، وهكذا تجد أن إجازات بعض الناس هي أشغال في الحقيقة، أكثر من أيام الوظيفة، بينما إجازات بعض الناس هي عبارة عن فراغ في فراغ في فراغ.

فالمقصود الآن: أن المسئولية أمام الله والحساب يوم القيامة ليس الناس فيه سواء.

عندنا الآن سؤال:

ما هي الجوانب التي يحرص الإنسان على أن يؤسس فيها نفسه في فراغه قبل أن ينشغل؟

الآن لو صار عندك فراغ، لو كنت شاباً في مقتبل العمر ما هي الجوانب التي تستغل فيها فراغك، لتؤسس فيها نفسك؟ طبعاً بداية العمر هذه فترة تأسيسية، مثل البناء تضع الأساسات ثم تبني، فترات الشباب هي فترات تأسيس في الحقيقة، للعاقل فترات الشباب فترات تأسيس وبناء، ولذلك ينبغي أن تستغل في عدة أمور، نذكر اثنين منها:

تعويد النفس على الأعمال الصالحة والعبادات المختلفة

الأول: مجاهدة الشاب المتفرغ لنفسه في تعويدها على الأعمال الصالحة والعبادات المختلفة:

وهذه نقطة مهمة جداً، العبادة إذا جاءت في البداية مبكرةً تصادف موقعاً جميلاً، وتدخل فيه وتترسخ وتصبح سجية، يعني: لو أن شاباً تعود على قراءة جزء من القرآن يومياً، وعلى إدراك تكبيرة الإحرام دائماً، وعلى صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإن هذا التأسيس سيصبح سجية فسيستمر فيه طيلة حياته، لكن لو أتيت بشخص كبير في السن وقلت له: أنت غير متعود على قراءة جزء قرآن في اليوم، نريد أن نعودك على قراءة جزء من القرآن في اليوم؟ وأنت كنت لا تصوم النوافل وسنعودك على أن تصوم النوافل دائماً؟ هل تتوقع أنها ستكون مسألة سهلة؟

لا. أبداً، العبادة إذا جاءت على شغل لا ترسخ في النفس، لكن لو جاءت العبادة على فراغ في النفس فإنها تصبح عادة وطبعاً وسجية، ولذلك الآن ندرك خطأ الفكرة التي يظنها كثير من الناس حينما يقول: يا أخي! هذا شاب، دعه يتمتع بعمره وبشبابه، تريدون أن تؤذوا الشباب وتنكدوا عليهم، وتريدون أن تضيعوا عليه أحلى أيام عمره وزهرة شبابه، وهؤلاء الذين يفكرون بهذا التفكير مساكين.

إذا أردت الدليل فاستمع معي إلى هذا الحديث:

في البخاري ومسلم وغيرهما: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل فلا تفعل، فإن لجسدك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، أو حظاً -كما في بعض الروايات- صم وأفطر، صم من كل شهرٍ ثلاثة أيام، فذلك صوم الدهر) -الحسنة بعشرة أمثالها، ثلاثة في عشرة بثلاثين كأنه صام الشهر كله، وثلاثة أيام من الشهر الذي بعده، وكأنه صام الشهر الذي بعده، وهكذا حتى كأنه صام الدهر، قلتُ: (يا رسول الله! إن بي قوةً أو إن لي قوةً) وكان عبد الله بن عمرو في فترة شباب؛ فقال: إن لي قوةً، هو أصلاً يستغل شبابه في قيام الليل وصيام النهار، لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم منه أن يعتدل في عبادته قال: إن بي قوةً (قال: فصم صوم داود عليه السلام، صم يوماً وأفطر يوماً- وفي رواية: ذكرتُ للنبي صلى الله عليه وسلم الصوم، فقال: صم من كل عشرة أيامٍ يوماً ولك أجر التسعة، قلت: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل تسعةٍ أيامٍ يوماً ولك أجر الثمانية، فقلت: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل ثمانية أيام يوماً ولك أجر السبعة، قلتُ: إني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل -يعني يتدرج معه- حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً)، يعني: من كل يومين يصوم يوماً، وفي رواية أن عبد الله قال: (فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك) يعني: أنك تصوم يوماً وتفطر يوماً لا يوجد أفضل من هذا، أفضل الصيام صيام داود، لكن صيام داود -أيها الإخوة- مشروطٌ بأمرٍ ورد في حديث وهذا الأمر مهم.

والحديث في تكملته أنه صلى الله عليه وسلم لما وصف صيام داود قال: (ولكنه كان لا يفر إذا لاقى) كان لا يفر إذا لاقى، يعني: لم يكن هذا الصوم ليعجزه ولا ليضعفه عن الجهاد، فإذا كان صيام يوم وإفطار يوم سيجعلك تضعف عن القيام بالوظائف الأساسية، بيتك، وأهلك، وعملك، وصلاتك، وجهادك، وطلبك للعلم، فإنك قد انشغلت بمفضول عما هو أفضل منه، هذا شرط صيام يوم وإفطار يوم.

سؤال: كيف تعود الأعمش رحمه الله على إدراك تكبيرة الإحرام بحيث قال الراوي: أن الأعمش لم تفته تكبيرة الإحرام ستين عاماً؟

معناها: أنه كان متعوداً منذُ الصغر على إدراك تكبيرة الإحرام، فلذلك ينبغي أن يتعود الإنسان في أوقات الفراغ على العبادة، وهذا مهم جداً للشاب، تأسيس نفسه على العبادة وأنواع الأذكار، وأنواع العبادات حتى ينطلق:

اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ     فعسى أن يكون موتك بغته

كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ     ذهبت نفسه الصحيحة فلته

ماذا تعني كلمة: وقت الفراغ؟

في وقت الفراغ شيء مهم في مفهوم (أيش معنى وقت الفراغ) بعض الناس يظن أن المعنى: اعمل كل شيء، البعض يظن أن وقت الفراغ هو بعد أن يقوم بكل أعماله ويقول: إذا زاد الوقت طلبنا العلم ودعونا إلى الله.

هذه من الأشياء الأساسية -طلب العلم والدعوة إلى الله- إذا أردت أن تعرف المعنى الصحيح لهذا، تأمل معي في آخر سورة الشرح: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:5-8].

فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب، ما معنى هذا؟

قال أهل العلم كما في تفسير ابن كثير : فإذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها -يعني: الأمور المهمة، مثل البيت والأكل والأهل والأولاد- فانصب في العبادة وقم إليها نشيطاً، قال بعض المفسرين: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، وقال بعض المفسرين: فانصب في الدعاء، وقال بعضهم: فإذا فرغت من الجهاد فانصب في العبادة.

وهذا يدلك على شيء مهم جداً، وهو أن أوقات الفراغ هي غير أوقات العبادات المفروضة في أوقات معينة، منها صلاة الجماعة، ومثل الجهاد إذا حان وقته، وهكذا.

طلب العلم

والأمر الثاني -أيها الأخوة- هو قضية طلب العلم؛ وطلب العلم من الأمور المهمة، التي ينبغي أن يستغل الإنسان وقته فيها، لذلك يقول عمر رضي الله عنه: [تفقهوا قبل أن تسودوا] ما معنى قبل أن تسودوا؟

يعني: قبل أن تصبح إنساناً ذا شأن، وصاحب مسئوليات وصاحب منصب، وقبل أن تصبح سيداً متصدراً للناس، تفقه فإنك غداً عندما تصبح منشغلاً بذلك المنصب أو بتلك السيادة، ربما لا تجد وقتاً كافياً لطلب العلم، وأيضاً، فإن السيادة تحتاج إلى فقه، وإلا فكيف يقود الناس إنسانٌ جاهل، لذلك يقول عمر : [تفقهوا قبل أن تسودوا] ولذلك كان علماؤنا رحمهم الله، لا يضيعون وقتاً بغير فائدة، فترى وقتهم مقسوماً بين القراءة والتصنيف، وبين الإفتاء والقضاء، وبين الحفظ والتدبر والعبادة، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتدريس، حتى أن بعضهم كان لهم ثلاثة عشر درساً في اليوم، ويقرأ عليهم أحياناً في الطريق، وهم يمشون ويسألون العلماء في الطريق، وربما إذا دخل بعضهم الخلاء أمر القارئ أن يرفع صوته، حتى يستغل وقته وهو في الخلاء، فيسمع العلم، وربما فكروا بالمسألة وعلموها أو تعلموها وهم في النزع الأخير من حياتهم على فراش الموت، وأكل بعضهم الطعام نيئاً لعدم وجود الوقت للطبخ وكان بعضهم يختصر الوجبات، فيقتصر على وجبة في اليوم، وينتقون الأكلات السهلة التحضير، وسهلة المضغ ليوفروا وقتاً لطلب العلم، وإذا انشغل أحدهم ببري القلم وهو يكتب انطلق لسانه بذكر الله أو مراجعة المسائل حتى لا يتوقف عن عمل مفيد، لكن انظر الآن! إذا كان أحدنا يكتب ويستغل وقته، وأراد أن يبري القلم يتأمل في البراية، ويطالع في المرايا التي خلف المبراة.

وكانوا لا ينامون إلا قليلاً؛ حتى ربما خفق رأس بعضهم في كتابه، هكذا كانوا حريصين جداً على طلب العلم، ومن المشاكل الكبرى أن ترى طالب العلم يبرز للناس، ويتصدر قبل أن يتأسس علمياً فينزلق في مزالق، ويقع في مطبات وحفر شيطانية؛ من إفتاء الناس بغير علم -مثلاً- وسيأفل سريعاً ويزوى؛ لأنه تصدر وليس عنده أساس علمي قوي، يعرف كلمتين، فإذا انتهت الكلمتان التي يعرفها انفض الناس من حوله، بعض الخطباء والوعاظ وطلبة العلم يبرز للناس ولم يتأسس بعد، عنده حصيلة قليلة، فإذا ألقى كذا خطبة، أو كذا درساً انتهى الذي عنده، حتى لو كان -مثلاً- مع رفقاء له يعلمهم، فإذا علم فلاناً وفلاناً وفلاناً شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين انتهت الحصيلة، وصاروا مثله في النهاية؛ لأنه لم يستغل وقته في الطلب، والمسلم الجيد هو الذي لا يزال الناس يجدون عنده ما يحتاجون إليه.

ولذلك يجب علينا أن ننظر ونعتبر من بعض العلماء الذين بارك الله في أوقاتهم، سبحان الله -مثلاً- أنت إذا نظرت في حال شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله، تجد من حاله عجباً، طبعاً هذا الرجل أسس نفسه على العلم منذُ الصغر، أسس نفسه على الأصول، يعني: على القرآن ودواوين السنة، عنده أصول أسس نفسه عليها، وهو لا يزال يراجعها، ولذلك ترى حلقات الشيخ أكثرها قراءة وهو يسمع، يعني: يقرأ عليه أكثر مما يعلق، فهو لا يزال يراجع الأصول، ولذلك عندما تأتي النازلة ليفتي فيها الشيخ، فعنده الأصول وهي قد اختمرت في ذهنه بمرور السنين وتواليها، آيات وأحاديث كثيرة جداً اختمرت في ذهنه، تأسست نفسه في العلم، فلو جاءت نازلة أفتى فيها، لكن لو جاء طالب علم، وجاءت نازلة، سيبحث في الكتب والدواوين وأقوال العلماء، والأشباه والنظائر، ويرى الأمور، ثم بعد ذلك قد تكون فتواه صحيحة وقد تكون عوجاء، ولذلك ترى الآن العلماء الحقيقيين وإن كانوا قلة وندرة، إلا أن عندهم القدرة على الكلام في مستجدات العصر بعلم شرعي، وإلا فهناك أناس يفتون بجهل في مستجدات العصر، ولذلك مثل الشيخ حفظه الله الذي لديه خلفية قوية في أصول الإسلام، لا يحتاج إلى أن يفتش وينقب دائماً في الكتب ويبحث مثل طالب العلم، فإنه إذا أراد أن يفتي في مسألة يبحث فيها!

وأيضاً -أيها الإخوة- الداعية إلى الله مهم جداً أن يؤسس نفسه، قبل أن تتراكم عليه المسئوليات -وهذه القاعدة مهمة- قبل أن تتراكم عليه المسئوليات الدعوية والتربوية، فإن الإنسان إذا كان يسير في طريق الدعوة والتربية فإن مسئولياته في ازدياد من يومٍ إلى آخر، وإذا كان مخلصاً عاملاً نشيطاً، فإن مسئولياته ستزداد يوماً بعد يوم، وإن رعيته التربوية ستكبر وتتضخم، فإذا لم يكن عنده أساسٌ قوي، فكيف سيقوم بمواجهة هذه المسئوليات والاضطلاع بها؟

ولذلك تجد بعض المشايخ الكبار، قد لا يجد وقتاً للقراءة أحياناً، لأنه يتنقل من مكان إلى مكان، يلقي محاضرة هنا وهناك، ودرساً هنا وهناك، ويتصل الناس به ويستفتونه.

الشيخ ابن عثيمين قال كلمة جميلة، أقصد في جمال المدلول عندما كان يدرس في الحرم في رمضان، وكانت له حلقة بعد الفجر وحلقة بعد المغرب، وكان الناس يسألونه بعد الصلوات وبعد العصر، وكانت له غرفة مخصصة يتصل عليه الناس قال: والله إني أحياناً لا أجد وقتاً أقرأ فيه القرآن، فأحياناً يكون الإفتاء أفضل من تلاوة القرآن، وذلك بسبب حاجة الناس، خصوصاً للذي لم يهجره، ومن هنا -أيها الإخوة- كان لابد للدعاة الصادقين من إيجاد خطة لتفريغ الدعاة إلى الله، ويجب على أهل الغنى والثراء أن ينظروا في المشاريع الإسلامية، ويحاولوا أن يشاركوا فيها؛ لتفريغ الدعاة إلى الله لكي يتجولوا في بلاد الكفار، ليلقوا الدروس والمحاضرات، وتفريغهم لهذا المجال ولهذا العمل أفضل من أن يعمل أحدهم في شركة أو في مؤسسة يستهلك وقته فيها، وترتيب الرواتب لهم من أعظم أبواب الأجر؛ لأنه سيستطيع أن يعطي، ولذلك كان العلماء في الماضي لهم رواتب من بيت مال المسلمين، العالم ليس عنده عمل إلا طلب العلم، والتعليم، وهذا التفرغ هو الذي أنتج العلماء في الماضي.

الأول: مجاهدة الشاب المتفرغ لنفسه في تعويدها على الأعمال الصالحة والعبادات المختلفة:

وهذه نقطة مهمة جداً، العبادة إذا جاءت في البداية مبكرةً تصادف موقعاً جميلاً، وتدخل فيه وتترسخ وتصبح سجية، يعني: لو أن شاباً تعود على قراءة جزء من القرآن يومياً، وعلى إدراك تكبيرة الإحرام دائماً، وعلى صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإن هذا التأسيس سيصبح سجية فسيستمر فيه طيلة حياته، لكن لو أتيت بشخص كبير في السن وقلت له: أنت غير متعود على قراءة جزء قرآن في اليوم، نريد أن نعودك على قراءة جزء من القرآن في اليوم؟ وأنت كنت لا تصوم النوافل وسنعودك على أن تصوم النوافل دائماً؟ هل تتوقع أنها ستكون مسألة سهلة؟

لا. أبداً، العبادة إذا جاءت على شغل لا ترسخ في النفس، لكن لو جاءت العبادة على فراغ في النفس فإنها تصبح عادة وطبعاً وسجية، ولذلك الآن ندرك خطأ الفكرة التي يظنها كثير من الناس حينما يقول: يا أخي! هذا شاب، دعه يتمتع بعمره وبشبابه، تريدون أن تؤذوا الشباب وتنكدوا عليهم، وتريدون أن تضيعوا عليه أحلى أيام عمره وزهرة شبابه، وهؤلاء الذين يفكرون بهذا التفكير مساكين.

إذا أردت الدليل فاستمع معي إلى هذا الحديث:

في البخاري ومسلم وغيرهما: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل فلا تفعل، فإن لجسدك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، أو حظاً -كما في بعض الروايات- صم وأفطر، صم من كل شهرٍ ثلاثة أيام، فذلك صوم الدهر) -الحسنة بعشرة أمثالها، ثلاثة في عشرة بثلاثين كأنه صام الشهر كله، وثلاثة أيام من الشهر الذي بعده، وكأنه صام الشهر الذي بعده، وهكذا حتى كأنه صام الدهر، قلتُ: (يا رسول الله! إن بي قوةً أو إن لي قوةً) وكان عبد الله بن عمرو في فترة شباب؛ فقال: إن لي قوةً، هو أصلاً يستغل شبابه في قيام الليل وصيام النهار، لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم منه أن يعتدل في عبادته قال: إن بي قوةً (قال: فصم صوم داود عليه السلام، صم يوماً وأفطر يوماً- وفي رواية: ذكرتُ للنبي صلى الله عليه وسلم الصوم، فقال: صم من كل عشرة أيامٍ يوماً ولك أجر التسعة، قلت: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل تسعةٍ أيامٍ يوماً ولك أجر الثمانية، فقلت: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل ثمانية أيام يوماً ولك أجر السبعة، قلتُ: إني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل -يعني يتدرج معه- حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً)، يعني: من كل يومين يصوم يوماً، وفي رواية أن عبد الله قال: (فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك) يعني: أنك تصوم يوماً وتفطر يوماً لا يوجد أفضل من هذا، أفضل الصيام صيام داود، لكن صيام داود -أيها الإخوة- مشروطٌ بأمرٍ ورد في حديث وهذا الأمر مهم.

والحديث في تكملته أنه صلى الله عليه وسلم لما وصف صيام داود قال: (ولكنه كان لا يفر إذا لاقى) كان لا يفر إذا لاقى، يعني: لم يكن هذا الصوم ليعجزه ولا ليضعفه عن الجهاد، فإذا كان صيام يوم وإفطار يوم سيجعلك تضعف عن القيام بالوظائف الأساسية، بيتك، وأهلك، وعملك، وصلاتك، وجهادك، وطلبك للعلم، فإنك قد انشغلت بمفضول عما هو أفضل منه، هذا شرط صيام يوم وإفطار يوم.

سؤال: كيف تعود الأعمش رحمه الله على إدراك تكبيرة الإحرام بحيث قال الراوي: أن الأعمش لم تفته تكبيرة الإحرام ستين عاماً؟

معناها: أنه كان متعوداً منذُ الصغر على إدراك تكبيرة الإحرام، فلذلك ينبغي أن يتعود الإنسان في أوقات الفراغ على العبادة، وهذا مهم جداً للشاب، تأسيس نفسه على العبادة وأنواع الأذكار، وأنواع العبادات حتى ينطلق:

اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ     فعسى أن يكون موتك بغته

كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ     ذهبت نفسه الصحيحة فلته

ماذا تعني كلمة: وقت الفراغ؟

في وقت الفراغ شيء مهم في مفهوم (أيش معنى وقت الفراغ) بعض الناس يظن أن المعنى: اعمل كل شيء، البعض يظن أن وقت الفراغ هو بعد أن يقوم بكل أعماله ويقول: إذا زاد الوقت طلبنا العلم ودعونا إلى الله.

هذه من الأشياء الأساسية -طلب العلم والدعوة إلى الله- إذا أردت أن تعرف المعنى الصحيح لهذا، تأمل معي في آخر سورة الشرح: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:5-8].

فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب، ما معنى هذا؟

قال أهل العلم كما في تفسير ابن كثير : فإذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها -يعني: الأمور المهمة، مثل البيت والأكل والأهل والأولاد- فانصب في العبادة وقم إليها نشيطاً، قال بعض المفسرين: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، وقال بعض المفسرين: فانصب في الدعاء، وقال بعضهم: فإذا فرغت من الجهاد فانصب في العبادة.

وهذا يدلك على شيء مهم جداً، وهو أن أوقات الفراغ هي غير أوقات العبادات المفروضة في أوقات معينة، منها صلاة الجماعة، ومثل الجهاد إذا حان وقته، وهكذا.

والأمر الثاني -أيها الأخوة- هو قضية طلب العلم؛ وطلب العلم من الأمور المهمة، التي ينبغي أن يستغل الإنسان وقته فيها، لذلك يقول عمر رضي الله عنه: [تفقهوا قبل أن تسودوا] ما معنى قبل أن تسودوا؟

يعني: قبل أن تصبح إنساناً ذا شأن، وصاحب مسئوليات وصاحب منصب، وقبل أن تصبح سيداً متصدراً للناس، تفقه فإنك غداً عندما تصبح منشغلاً بذلك المنصب أو بتلك السيادة، ربما لا تجد وقتاً كافياً لطلب العلم، وأيضاً، فإن السيادة تحتاج إلى فقه، وإلا فكيف يقود الناس إنسانٌ جاهل، لذلك يقول عمر : [تفقهوا قبل أن تسودوا] ولذلك كان علماؤنا رحمهم الله، لا يضيعون وقتاً بغير فائدة، فترى وقتهم مقسوماً بين القراءة والتصنيف، وبين الإفتاء والقضاء، وبين الحفظ والتدبر والعبادة، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتدريس، حتى أن بعضهم كان لهم ثلاثة عشر درساً في اليوم، ويقرأ عليهم أحياناً في الطريق، وهم يمشون ويسألون العلماء في الطريق، وربما إذا دخل بعضهم الخلاء أمر القارئ أن يرفع صوته، حتى يستغل وقته وهو في الخلاء، فيسمع العلم، وربما فكروا بالمسألة وعلموها أو تعلموها وهم في النزع الأخير من حياتهم على فراش الموت، وأكل بعضهم الطعام نيئاً لعدم وجود الوقت للطبخ وكان بعضهم يختصر الوجبات، فيقتصر على وجبة في اليوم، وينتقون الأكلات السهلة التحضير، وسهلة المضغ ليوفروا وقتاً لطلب العلم، وإذا انشغل أحدهم ببري القلم وهو يكتب انطلق لسانه بذكر الله أو مراجعة المسائل حتى لا يتوقف عن عمل مفيد، لكن انظر الآن! إذا كان أحدنا يكتب ويستغل وقته، وأراد أن يبري القلم يتأمل في البراية، ويطالع في المرايا التي خلف المبراة.

وكانوا لا ينامون إلا قليلاً؛ حتى ربما خفق رأس بعضهم في كتابه، هكذا كانوا حريصين جداً على طلب العلم، ومن المشاكل الكبرى أن ترى طالب العلم يبرز للناس، ويتصدر قبل أن يتأسس علمياً فينزلق في مزالق، ويقع في مطبات وحفر شيطانية؛ من إفتاء الناس بغير علم -مثلاً- وسيأفل سريعاً ويزوى؛ لأنه تصدر وليس عنده أساس علمي قوي، يعرف كلمتين، فإذا انتهت الكلمتان التي يعرفها انفض الناس من حوله، بعض الخطباء والوعاظ وطلبة العلم يبرز للناس ولم يتأسس بعد، عنده حصيلة قليلة، فإذا ألقى كذا خطبة، أو كذا درساً انتهى الذي عنده، حتى لو كان -مثلاً- مع رفقاء له يعلمهم، فإذا علم فلاناً وفلاناً وفلاناً شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين انتهت الحصيلة، وصاروا مثله في النهاية؛ لأنه لم يستغل وقته في الطلب، والمسلم الجيد هو الذي لا يزال الناس يجدون عنده ما يحتاجون إليه.

ولذلك يجب علينا أن ننظر ونعتبر من بعض العلماء الذين بارك الله في أوقاتهم، سبحان الله -مثلاً- أنت إذا نظرت في حال شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله، تجد من حاله عجباً، طبعاً هذا الرجل أسس نفسه على العلم منذُ الصغر، أسس نفسه على الأصول، يعني: على القرآن ودواوين السنة، عنده أصول أسس نفسه عليها، وهو لا يزال يراجعها، ولذلك ترى حلقات الشيخ أكثرها قراءة وهو يسمع، يعني: يقرأ عليه أكثر مما يعلق، فهو لا يزال يراجع الأصول، ولذلك عندما تأتي النازلة ليفتي فيها الشيخ، فعنده الأصول وهي قد اختمرت في ذهنه بمرور السنين وتواليها، آيات وأحاديث كثيرة جداً اختمرت في ذهنه، تأسست نفسه في العلم، فلو جاءت نازلة أفتى فيها، لكن لو جاء طالب علم، وجاءت نازلة، سيبحث في الكتب والدواوين وأقوال العلماء، والأشباه والنظائر، ويرى الأمور، ثم بعد ذلك قد تكون فتواه صحيحة وقد تكون عوجاء، ولذلك ترى الآن العلماء الحقيقيين وإن كانوا قلة وندرة، إلا أن عندهم القدرة على الكلام في مستجدات العصر بعلم شرعي، وإلا فهناك أناس يفتون بجهل في مستجدات العصر، ولذلك مثل الشيخ حفظه الله الذي لديه خلفية قوية في أصول الإسلام، لا يحتاج إلى أن يفتش وينقب دائماً في الكتب ويبحث مثل طالب العلم، فإنه إذا أراد أن يفتي في مسألة يبحث فيها!

وأيضاً -أيها الإخوة- الداعية إلى الله مهم جداً أن يؤسس نفسه، قبل أن تتراكم عليه المسئوليات -وهذه القاعدة مهمة- قبل أن تتراكم عليه المسئوليات الدعوية والتربوية، فإن الإنسان إذا كان يسير في طريق الدعوة والتربية فإن مسئولياته في ازدياد من يومٍ إلى آخر، وإذا كان مخلصاً عاملاً نشيطاً، فإن مسئولياته ستزداد يوماً بعد يوم، وإن رعيته التربوية ستكبر وتتضخم، فإذا لم يكن عنده أساسٌ قوي، فكيف سيقوم بمواجهة هذه المسئوليات والاضطلاع بها؟

ولذلك تجد بعض المشايخ الكبار، قد لا يجد وقتاً للقراءة أحياناً، لأنه يتنقل من مكان إلى مكان، يلقي محاضرة هنا وهناك، ودرساً هنا وهناك، ويتصل الناس به ويستفتونه.

الشيخ ابن عثيمين قال كلمة جميلة، أقصد في جمال المدلول عندما كان يدرس في الحرم في رمضان، وكانت له حلقة بعد الفجر وحلقة بعد المغرب، وكان الناس يسألونه بعد الصلوات وبعد العصر، وكانت له غرفة مخصصة يتصل عليه الناس قال: والله إني أحياناً لا أجد وقتاً أقرأ فيه القرآن، فأحياناً يكون الإفتاء أفضل من تلاوة القرآن، وذلك بسبب حاجة الناس، خصوصاً للذي لم يهجره، ومن هنا -أيها الإخوة- كان لابد للدعاة الصادقين من إيجاد خطة لتفريغ الدعاة إلى الله، ويجب على أهل الغنى والثراء أن ينظروا في المشاريع الإسلامية، ويحاولوا أن يشاركوا فيها؛ لتفريغ الدعاة إلى الله لكي يتجولوا في بلاد الكفار، ليلقوا الدروس والمحاضرات، وتفريغهم لهذا المجال ولهذا العمل أفضل من أن يعمل أحدهم في شركة أو في مؤسسة يستهلك وقته فيها، وترتيب الرواتب لهم من أعظم أبواب الأجر؛ لأنه سيستطيع أن يعطي، ولذلك كان العلماء في الماضي لهم رواتب من بيت مال المسلمين، العالم ليس عنده عمل إلا طلب العلم، والتعليم، وهذا التفرغ هو الذي أنتج العلماء في الماضي.