مقام الصابرات
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
لئن كان أمر الله تعالى في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا..} [آل عمران:200].
قد خوطب به الرجال فإن النساء قد خوطبن بذات الأمر فإنهن شقائق الرجال في الأحكام ولئن كان الصبر للرجال واجب ولازم فهو للنساء أوجب وألزم، فالرجال كثيرًا ما يجدون ما يدفعون به عن أنفسهم بينما النساء غالبًا لا يجدن ما يدفعن به عن أنفسهن إلا بالصبر وتفويض الأمر لله، والصبر كما قال ابن القيم : "هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها"، ومع التمعن والتدبر في الآية الكريمة فهناك فرق بين الصبر والتصبر والمرابطة، فالصبر هو ما صدر عن الإنسان من امتناع عما لايليق من الأمور والأفعال.
وأما المصابرة فهي المقاومة للخصم في ميدان الصبر.
وأما المرابطة فهي المداومة على ذلك كله.
والمرأة المسلمة جمعت بين هذا كله وكان الصبر والمصابرة والمرابطة أقوى سلاح في يدها في ميدان الجهاد والدعوة، وهذا السلاح لا يقل عن الأسلحة التي يحملها الرجال فاللمرأة دورٌ عظيم في عملية الإصلاح والبناء وذلك لأنها نصف المجتمع أو يزيد، ثم أنها تلد النصف الآخر، ولئن كان للمصلحين من الرجال دور كبير في إرشاد المرأة وتوجيهها وحضها على فعل الخيرات وترك المنكرات بالدروس والمحاضرات أو الأشرطة، فإن جانب الاتصال المباشر بمجتمع النساء كما هو يكاد يكون معدومًا بالنسبة لهم، وهنا تظهر الحاجة إلى وجود المرأة العالمة والداعية والمصلحة، والتي تبني الرجال وتصنع الأبطال وتساهم في نصرة الإسلام في عدة أدوار إما كأم أو زوجة أو ابنة، وخير مثال وأفضلهم والتي اتصفت بالصبر والحكمة أم المؤمنين (خديجة رضي الله عنها) ففضلها كبير وعظيم على كل المسلمين، فعندما بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم كانت السيدة خديجة رضي الله عنها أول من آمن به من النساء والرجال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيدة خديجة يصليان معًا سرًا إلى أن ظهرت الدعوة .
وتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا من التعذيب والتكذيب من قومه فكانت السيدة خديجة رضي الله عنها دائمًا إلى جانبه، تخفف عنه وتهون عليه ما يلقى من أكاذيب المشركين من قريش، وكانت له الملجأ والملاذ فكانت بجانبه أول أيام الوحي عندما رجع إليها صلى الله عليه وسلم مسرعًا وكان يرجفK وقال لها: «زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما لي يا خديجة» وأخبرها الخبر وقال: «قد خشيت على نفسي» فقالت رضي الله عنها: "كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق" (صحيح البخاري ).
وكانت بجانبه دائمًا في أصعب وأشد الأوقات ويوم أن حوصر صلى الله عليه وسلم والمسلمين في شعب أبي طالب، والذي استمر ثلاث سنوات من العذاب والتجويع فكانت رضي الله عنها بجانبه دائمًا فاستحقت منزلتها عنده صلى الله عليه وسلم، حيث كان يفضلها على سائر زوجاته حتى بعد موتها، وكان يكثر ذكرها بحيث أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها وربما ذبح الشاه ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فقلت: "له كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة" فيقول لها: «أنها كانت وكان لي منها ولد» ( صحيح البخاري ).
وقال عنها صلى الله عليه وسلم: «لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس ورزقني الله منها أولادًا إذ حرمتني النساء» (حسنه الشوكاني)، ومن كرامتها أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها غيرها طول حياتها، وقد بشرها الله عز وجل في الجنة ببيت من فضة لا صخب فيه ولا نصب، وكانت وفاتها مصيبه كبيرة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم..
وهناك نماذج لصبر الأمهات اللاتي تحملن من أجل أن تخرج للأمة علماء كـ(أم الإمام أحمد بن حنبل) يقول: "كنا نعيش في بغداد وكان والدي قد توفي وكنت أعيش مع أمي، فإذا كان قبل الفجر أيقظتني وسخنت لي الماء ثم توضأت -وكان عمره آنذاك عشر سنين- يقول وجلسنا نصلي حتى يؤذن الفجر هو وأمه رحمها الله، وعن الآذان تصحبه أمه إلى المسجد ونتتظره حتى تنتهي الصلاة لأن الأسواق حينئذ كانت مظلمة، وقد يكون فيها السباع، ثم يعودان إلى البيت بعد أداء الصلاة"، وعندما كبر أرسلته أمه لطلب العلم قال أحد العلماء : "لأم أحمد بن حنبل من الأجر مثل ما لابنها هي التي دلته على الخير".
وإن في زماننا المعاصر لخير مثال للصبر والمصابرة والمرابطة والجهاد كالمرأة الفلسطينية، وهذا لما لاقته سواء قبل الاحتلال الصهيوني أو بعده، فهناك من ولدت في ظل هذا الاحتلال الغاشم وكبرت وأصبحت أمًا فهي صبورة منذ ولادتها على الظلم والتجويع والتهجير والحرمان من أبسط مقومات الحياة، لكن النساء الفلسطينيات لم ييأسن بل تمسكن بالحياة والكفاح والجهاد، ولم يتركن بلادهن بل عملن على إنشاء جيل آخر مقاوم ومجاهد، فربوا أولادهن على التمسك بالحق والأرض المقدسة والأقصى، فربما تجد أن كل الأمهات الفلسطينيات أما لها ابن شهيد أو أسير، وهناك من تفقد جميع أبنائها في إحدى غارات الاحتلال الوحشية، ومن لها ابن فدائي رفض ترك أرضه ورفض العيش بذل تحت الاحتلال واختار الشهادة في سبيل الله عز وجل، واختار أن يفجر نفسه في أعداء الأمة ويلقى ربه وجسده ممزق كل ذلك في سبيل الله، فللابن الشهيد الأجر والثواب والشهادة، وللأم مثله إن شاء الله؛ لأنها من أحسنت وصبرت على مصيبة فراقه.
نهلة عبد الله