ألف باء في مواجهة الأعداء


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فاعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فقد كانت الأحداث القريبة موضع اهتمام وتفاعل وتعلق، ثم عندما انقضى من هذه الأحداث ما هو مباشر في العدوان رأينا أن كثيراً من الناس انصرف تفكيرهم عن مثل هذه القضية، ولم يعد لنفوسهم تأثر أو تعلق، وربما مضوا إلى حياتهم كأن لم يكن شيئاً.

والواجب ألا يكون الغالب على أحوالنا: ردود أفعال مؤقتة، وانفعالات نفسية عارضة، وحيرة وتردد، وهدوء ورجوع بعد كل حدث وبعد كل قضية.

وهذه بعض الخطوات العملية التي لابد أن نأخذ بها، وقبل الشروع في ذكرها أود أن أبين مدى وحدود هذه الخطوات التي نتحدث عنها وفائدتها، فأقول مستعيناً بالله جل وعلا:

الأمر الأول: ما نتحدث به يخصنا نحن؛ فهو يتعلق بي وبك وبهذا وذاك، بعيداً عن الدوائر التي لا نملك الآن أن يكون لنا تغيير فاعل فيها، وبعيداً عن الجهات التي عليها مسئوليتها، وعليها واجباتها، وليس من مهمتنا أن نوزع التهم، وأن نجعل التقصير هنا وهناك ثم لا ننظر إلى أنفسنا، ولا نعرف تقصيراتنا، نحن ندرك أن هناك خللاً وقصوراً عند الحكام والأمراء، وأن هناك ضعفاً وقلة في أداء المهمات كما ينبغي عند الدعاة والعلماء، ولكن لا ينبغي أن نقول: هؤلاء قصروا، وهؤلاء فرطوا، ثم نقعد بدون عمل إما بإحباط ويأس، وإما بعدم مبالاة واكتراث، وإما بعدم استشعار للمسئولية ومعرفة للدور.

فمن هنا لابد أن يكون هناك مصارحة ومناصحة واضحة تخصنا مباشرة، وتتوجه إلينا بعيداً عما قد نتعلل بأننا لا نستطيعه أو لا نحسنه.

الأمر الثاني: التنبيه على أن الانتفاع بالأحداث، والاستفادة من المصائب والمشكلات لا ينبغي أن يكون مؤقتاً غير دائم، ولا ينبغي أن يكون ظاهرياً غير راجع إلى الأصول والثوابت والمرتكزات والمنطلقات.

الأمر الثالث: أن كثيراً من الناس ينظر إلى الأمور الكبيرة، ويرى أنه لا قبل له بها، ولا يوجه إلى أمور يستطيع أن يأخذ بها وأن يعملها، فلعلنا بهذا الحديث أن نسد مثل هذه الثغرة بعون الله سبحانه وتعالى.

الأمر الرابع: ألف باء، وألف باء كما تعرفون هي حروف الهجاء، والمقصود: أننا نريد أن نبدأ بالأصول، وبالأشياء والقواعد والأركان الأساسية، حتى لا يقول قائل عندما نتحدث الآن: لم تتحدث عن هذا ونحن نعرفه؟

فأقول: إن كنا نعرفه فهل نحن قائمون به؟ وهل نحن مداومون عليه؟ وهل نحن متواصون فيما بيننا بالحفاظ عليه؟

فكثيرة هي الثغرات وأوجه القصور التي نقع فيها، ليس تجاه أمور من النوافل أو التطوعات أو الزيادات بل كثيراً ما تكون في الفرائض والأركان والواجبات.

نشرع بعون الله سبحانه وتعالى مستعينين به سائلينه التوفيق والسداد في ذكر بعض الجوانب الفكرية في مواجهة الأعداء:

أولاً: الجانب الفكري: ونعني به جانب التصور والاعتقاد والمعرفة للحقائق والمبادئ، وصورة ما يحيط بنا في هذه الحياة، وكيف نزن الأمور، وكيف نقوّم الأشخاص، وكيف نتخذ المواقف، وكيف تتضح لنا الرؤية، حتى نأخذ بما هو واجب ولازم ونافع ومفيد في مواجهة ما يحل بنا من الخطوب والأحداث.

فنقول: لابد لنا من أمور كثيرة، منها:

وضوح الرؤية والبصيرة في الدين من أهم الأمور

وضوح الرؤية وقوة العصمة: ونعني بذلك أن نكون على بصيرة من ديننا، وبينة من أمرنا، وقوة في اعتقادنا، ورسوخ في يقيننا، ولا يكون عندنا شك من أمرنا، ولا حيرة في ثوابتنا، ولا تذبذب في أصولنا، ووراء ذلك كله أن نعرف كل ما يحيط بنا، وكيف نتعامل معه.

يقول الحق سبحانه وتعالى في بيان شافٍ وفي آيات متوالية توضح لنا هذه الحقيقة: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:104-106]، ثم يأتي النداء من بعد: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ *وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس:108-109].

وهذه الآيات العظيمة فيها بيان هذه الحقيقة المهمة، يبينها قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) فإن شكك الناس في ثوابتنا وعقائدنا وتصوراتنا، وإن كان عند بعضهم حيرة، وإن كان غير المسلمين يعارضون عقائدنا ويخالفونها، وإن كانت الأمم والمجتمعات لا تعرفها ولا تدري ماهيتها، ولا تعتقد بصحتها، فكل ذلك لا يضرني، قال سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وزيادة تثبيت وزيادة توضيح: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ثم زيادة في هذا التثبيت والتوضيح: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي: في كل الأحوال والاضطرابات والمخالفات والمعارضات ابق على نهجك القويم، وتصورك الصحيح، واعتقادك السليم، ويقينك الجازم دون أدنى شيء من التردد، ومن هنا يأتي هذا الوضوح؛ ليكون هو الفيصل الفارق بين المؤمن المعتقد اعتقاد الحق وبين غيره، كما قال سبحانه: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]، وتكون الرؤيا واضحة لنا؛ لأن العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين ولو بعد حين، لا يتغير ذلك ولا يتبدل بما تتغير به الأحوال والظروف المحيطة، بل نوقن بهذا يقيناً جازماً، كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] فلئن أصيبت الأمة في مرحلة من الزمان بنكبات وهزائم فلا يعني ذلك أن هذا نهاية المطاف، بل نوقن من خلال هذه الرؤية الواضحة والقوة الإيمانية الجازمة أنها إنما هي مراحل وابتلاءات، وأن وراءها بعد ذلك ما يحقق الله به وعده، وينجز لعباده نصره، إذا هم أخذوا بالمهم من اتباع الأوامر واجتناب النواهي وتغيير الأحوال على وفق مراد الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

الصراع بين المسلمين وأعدائهم مستمر إلى قيام الساعة

ليس هناك جولة واحدة ولا ميدان واحد إذا كُسرنا فيه أو هُزمنا فيه فقد انتهى الأمر، كما رأينا من أحوال بعض الناس وما في نفوسهم من إحباط ويأس، أو فيما لهم من انشغال وانصراف عن مهمات الأمور وعن الانشغال بأحوال المسلمين.

وما أحسن قول القائل في تعبيره عن استمرارية هذه المواجهات، وأنها ليست في مرحلة ولا في ميدان واحد:

قطفوا الزهرة.

قالت: من ورائي برعم سوف يثور.

قطفوا البرعم.

قالت: غيره ينبني في رحم الجذور.

قلعوا الجذر من التربة.

قالت: إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور.

كامن ثأري بأعماق الثرى.

وغداً سوف يرى كل الورى: كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور.

تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور.

أي: أنه لابد من اليقين بمواصلة المواجهة بين الحق والباطل، وأنه لابد أن تكون النفوس مهيأة لذلك وعالمة به من خلال وضوح رؤيتها وفق نهجها واعتقادها.

إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا.

فالريش قد يسقط من أجنحة النسور.

والعطش الطويل لا يخيفنا.

فالماء يبقى دائماً بباطن الصخور.

هزمت الجيوش إلا أنكم لم تهزموا الشعور.

قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور.

فستظل الجذور إذا بقيت العقائد والمبادئ والتصورات، ومن هنا لابد لنا من إحياء هذه المعاني والتواصي بها.

أهمية تصحيح الخلل عند بعض المسلمين

معرفة الخلل وطريقة العمل أساس فكري لابد من توضيحه، فكثيرة هي الأسئلة التي دارت بخواطر الناس: ما الذي يجري بنا؟ ولماذا حل بنا ما حل بنا؟ وما هي الأسباب ونحن أمة الإسلام؟ ولم حل ذلك ونحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟!

لابد أن نوقن بمعرفة هذه الأمور من خلال آيات القرآن، وتوضيحات سنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، هذا تحليل وتعليل قرآني لابد من التسليم به، ومعرفة أن ما جرى وما يجري إنما هو من أثر فساد الناس وكثرة الذنوب، فلما وقع بالصحابة ما وقع في يوم أحد -وكان ثقيلاً على النفوس، شديداً على القلوب، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم الصفوة المختارة من أصحابه- قالوا مقالتهم كما جاء في قوله عز وجل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] فرد الله عليهم: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

ولو أننا أخذنا هذا المبدأ بكل قوة ووضوح وصراحة ومواجهة لكان لنا من إصلاح أحوالنا أثر كبير وتغيير ظاهر،

ويكفينا أن نذكر بعض أقوال علمائنا في بيان الآثار المتولدة عن بعض الذنوب والمعاصي من بعض الأفراد، فكيف إذا تعاظم ذلك وكثر وعمَّ وساد وانتشر وفشى في الأمة إلا من رحم الله؟!

قال ابن القيم: من آثار المعاصي والذنوب: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الحق، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال، يقول: وكل هذه تتولد عن المعصية والغفلة من ذكر الله كما يتولد الزرع من الماء.

فإذا كان هذا في هذا الباب، فكيف بنا لا نلتفت إلى ما نحن فيه من غفلة عظيمة ومن معاصٍ كثيرة؟!

يقول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

ولو رجعنا إلى أسلافنا لرأينا كيف كان الشعور عندهم بأثر المعاصي في دقيق الأمور وجليلها، كما جاء عن ابن مسعود -وهو يروى مرفوعاً وموقوفاً-: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، كانوا يرجعون كل شيء يحصل من الخلل إلى خللهم فيما نسوا من أمر الله، أو فيما اجترءوا عليه من حدود الله، ومن مقالات السلف: إن أحدنا ليجد أثر الذنب في خلق زوجته ودابته.

وقد علمنا كثيراً من تعليلهم وتحليلهم لأسباب ما يحل بهم، وأنه بأثر ذنوبهم.

وضوح الرؤية وقوة العصمة: ونعني بذلك أن نكون على بصيرة من ديننا، وبينة من أمرنا، وقوة في اعتقادنا، ورسوخ في يقيننا، ولا يكون عندنا شك من أمرنا، ولا حيرة في ثوابتنا، ولا تذبذب في أصولنا، ووراء ذلك كله أن نعرف كل ما يحيط بنا، وكيف نتعامل معه.

يقول الحق سبحانه وتعالى في بيان شافٍ وفي آيات متوالية توضح لنا هذه الحقيقة: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:104-106]، ثم يأتي النداء من بعد: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ *وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس:108-109].

وهذه الآيات العظيمة فيها بيان هذه الحقيقة المهمة، يبينها قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) فإن شكك الناس في ثوابتنا وعقائدنا وتصوراتنا، وإن كان عند بعضهم حيرة، وإن كان غير المسلمين يعارضون عقائدنا ويخالفونها، وإن كانت الأمم والمجتمعات لا تعرفها ولا تدري ماهيتها، ولا تعتقد بصحتها، فكل ذلك لا يضرني، قال سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وزيادة تثبيت وزيادة توضيح: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ثم زيادة في هذا التثبيت والتوضيح: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي: في كل الأحوال والاضطرابات والمخالفات والمعارضات ابق على نهجك القويم، وتصورك الصحيح، واعتقادك السليم، ويقينك الجازم دون أدنى شيء من التردد، ومن هنا يأتي هذا الوضوح؛ ليكون هو الفيصل الفارق بين المؤمن المعتقد اعتقاد الحق وبين غيره، كما قال سبحانه: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]، وتكون الرؤيا واضحة لنا؛ لأن العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين ولو بعد حين، لا يتغير ذلك ولا يتبدل بما تتغير به الأحوال والظروف المحيطة، بل نوقن بهذا يقيناً جازماً، كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] فلئن أصيبت الأمة في مرحلة من الزمان بنكبات وهزائم فلا يعني ذلك أن هذا نهاية المطاف، بل نوقن من خلال هذه الرؤية الواضحة والقوة الإيمانية الجازمة أنها إنما هي مراحل وابتلاءات، وأن وراءها بعد ذلك ما يحقق الله به وعده، وينجز لعباده نصره، إذا هم أخذوا بالمهم من اتباع الأوامر واجتناب النواهي وتغيير الأحوال على وفق مراد الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

ليس هناك جولة واحدة ولا ميدان واحد إذا كُسرنا فيه أو هُزمنا فيه فقد انتهى الأمر، كما رأينا من أحوال بعض الناس وما في نفوسهم من إحباط ويأس، أو فيما لهم من انشغال وانصراف عن مهمات الأمور وعن الانشغال بأحوال المسلمين.

وما أحسن قول القائل في تعبيره عن استمرارية هذه المواجهات، وأنها ليست في مرحلة ولا في ميدان واحد:

قطفوا الزهرة.

قالت: من ورائي برعم سوف يثور.

قطفوا البرعم.

قالت: غيره ينبني في رحم الجذور.

قلعوا الجذر من التربة.

قالت: إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور.

كامن ثأري بأعماق الثرى.

وغداً سوف يرى كل الورى: كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور.

تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور.

أي: أنه لابد من اليقين بمواصلة المواجهة بين الحق والباطل، وأنه لابد أن تكون النفوس مهيأة لذلك وعالمة به من خلال وضوح رؤيتها وفق نهجها واعتقادها.

إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا.

فالريش قد يسقط من أجنحة النسور.

والعطش الطويل لا يخيفنا.

فالماء يبقى دائماً بباطن الصخور.

هزمت الجيوش إلا أنكم لم تهزموا الشعور.

قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور.

فستظل الجذور إذا بقيت العقائد والمبادئ والتصورات، ومن هنا لابد لنا من إحياء هذه المعاني والتواصي بها.

معرفة الخلل وطريقة العمل أساس فكري لابد من توضيحه، فكثيرة هي الأسئلة التي دارت بخواطر الناس: ما الذي يجري بنا؟ ولماذا حل بنا ما حل بنا؟ وما هي الأسباب ونحن أمة الإسلام؟ ولم حل ذلك ونحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟!

لابد أن نوقن بمعرفة هذه الأمور من خلال آيات القرآن، وتوضيحات سنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، هذا تحليل وتعليل قرآني لابد من التسليم به، ومعرفة أن ما جرى وما يجري إنما هو من أثر فساد الناس وكثرة الذنوب، فلما وقع بالصحابة ما وقع في يوم أحد -وكان ثقيلاً على النفوس، شديداً على القلوب، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم الصفوة المختارة من أصحابه- قالوا مقالتهم كما جاء في قوله عز وجل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] فرد الله عليهم: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

ولو أننا أخذنا هذا المبدأ بكل قوة ووضوح وصراحة ومواجهة لكان لنا من إصلاح أحوالنا أثر كبير وتغيير ظاهر،

ويكفينا أن نذكر بعض أقوال علمائنا في بيان الآثار المتولدة عن بعض الذنوب والمعاصي من بعض الأفراد، فكيف إذا تعاظم ذلك وكثر وعمَّ وساد وانتشر وفشى في الأمة إلا من رحم الله؟!

قال ابن القيم: من آثار المعاصي والذنوب: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الحق، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال، يقول: وكل هذه تتولد عن المعصية والغفلة من ذكر الله كما يتولد الزرع من الماء.

فإذا كان هذا في هذا الباب، فكيف بنا لا نلتفت إلى ما نحن فيه من غفلة عظيمة ومن معاصٍ كثيرة؟!

يقول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

ولو رجعنا إلى أسلافنا لرأينا كيف كان الشعور عندهم بأثر المعاصي في دقيق الأمور وجليلها، كما جاء عن ابن مسعود -وهو يروى مرفوعاً وموقوفاً-: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، كانوا يرجعون كل شيء يحصل من الخلل إلى خللهم فيما نسوا من أمر الله، أو فيما اجترءوا عليه من حدود الله، ومن مقالات السلف: إن أحدنا ليجد أثر الذنب في خلق زوجته ودابته.

وقد علمنا كثيراً من تعليلهم وتحليلهم لأسباب ما يحل بهم، وأنه بأثر ذنوبهم.

ثانياً: الجانب العملي، وكما أشرت في مقدمة الحديث نحن نتحدث في ألف باء، أي: في الأصول والأسس؛ لأن هذه الأصول والأسس قد اعتراها الضعف، وجرى فيها النقص، وعظمت فيها الغفلة، فنحن في حاجة إلى مراجعتها.

والمقصود بالجانب العملي: توجيهات وتذكير بأعمال لابد من الأخذ بها.

الطاعة يستنزل بها النصر

لابد من كثرة الطاعات، ونحن نعلم أن استنزال النصر إنما يكون بحسن الصلة بالله، والتقرب إليه، وإعلان البراءة من معاصيه، ومخالفة أمره سبحانه وتعالى، وهذا أمر مهم نحتاج إليه، فننادي بنداء نوجهه إلى أنفسنا جميعاً: حافظوا على أداء الصلوات، وعلى وجه الخصوص فرائض الصلوات، كما قال عز وجل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله) رواه مسلم ، ونحن نعرف هذا، ولكنني أقول: هل كل الناس يؤدي هذا؟

ألسنا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من آخر ما يُحل من عرى هذا الدين الصلاة؟

ألسنا نعرف أن من شبابنا ومن شيباتنا من يترك الصلاة فلا يؤديها مطلقاً، أو يؤخرها ويجمعها، أو لا يلتفت إليها؛ ويجعلها آخر موضع في اهتماماته؟! وأولئك منا وفينا ومن بيننا، ثم لا ننظر إلى أثر ذلك، ولا نلتفت إلى أن بسببه يقع كثير مما قدره الله عز وجل من البلاء والفتنة، نسأل الله عز وجل السلامة!

عباد الله! احرصوا على شهود الجماعات؛ فإن المساجد تشكو إلى الله قلة المصلين في كثير من الأوقات والأحوال، بل وفي كثير من البلاد ما هو أعظم وأكثر مما في بيئتنا ومجتمعاتنا، والله عز وجل يقول: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31]، ويقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، ويقول: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3]، ويقول: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ [الحج:35]، وكل ذلك خطاب بصيغة الجمع.

وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي تعرفونه في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، وقال ابن مسعودرضي الله عنه وأرضاه أثراً نحب أن نلفت أنظار الجميع إليه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا -يعني: صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- وما يتخلف عنها -أي: الجماعة- إلا رجل معلوم النفاق) رواه مسلم .

فلو طبقنا هذه القاعدة التي كانت سارية المفعول عند الصحابة لصلحت أحوالنا، فكم منا في مجتمعاتنا من يصدق عليه وصف النفاق؟!

كم هم المتخلفون عن الصلاة في الجماعات، السائرون في الغي واللهو الشهوات؟!

هؤلاء لم يلتفت نظرهم إلى حديث أبي هريرة عند البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، فآمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم).

وهذه أمور موجودة لا نحتاج إلى إفاضة القول فيها، لا سيما صلاة الفجر، تلك الفريضة التي رحم الله من يؤديها اليوم جماعة، وأصبح من يصليها جماعة يشهد له بأنه أعظم الناس إيماناً، وأكثرهم صلاحاً، وأجلهم فضلاً، وأعظمهم مرتبة، وهي من الفرائض التي لابد لكل مسلم أن يحافظ عليها، ولكن صار الحفاظ عليها فرقاناً بين إسلام والتزام، وبين تفريط وتضييع، والله عز وجل يقول: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] أي: تشهده الملائكة.

وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون عند صلاة الفجر والعصر)، وترفع الملائكة شهادتها لمن يشهدون الصلاة، فكم من مسلم لا يحظى بتلك الشهادة، ولا يكتب في تلك الصحائف، ولا يدرج اسمه في تلك التقارير المرفوعة إلى علام الغيوب سبحانه وتعالى؟!

ثم نقول بعد ذلك: ما الذي جرى؟ وما الذي حصل؟!

التقرب إلى الله بالصيام له أثر في نزول النصر

الصيام من أفضل الطاعات، فزد من الصيام والتقرب إلى الله عز وجل بذلك؛ فإنه ضرب من العبادة ولون من التربية والتزكية، وسبيل من أسباب القوة في الإرادة والعزيمة، فضلاً عن قوة الطاعة والاستجابة ومغالبة النفس وأهوائها، ونحن نعلم فضائل الصيام وآثاره، وما ينبني عليه من أثر في أجر الدنيا وفي ثواب الآخرة، والأمر في هذا واضح جلي.

فضل الإنفاق في سبيل الله عز وجل

أيها المسلم! أكثر من الإنفاق في سبيل الله عز وجل؛ فإن ذلك من نصرة الدين، ومن تقوية المسلمين، ومن مواجهة المعتدين، وإذا لم تسخ نفوسنا بالإنفاق في سبيل الله لنصرة دين الله فكيف نزعم أنه يمكن أن نجود بأنفسنا؟! الجهاد الأعظم بالنفس لابد أن تكون النفوس مهيأة له بكثير من الأسباب والأحوال، فمن لم يستطع مجاهدة نفسه للقيام بالطاعات وأداء الفرائض، ومن لم يغالب نفسه في شهوتها في هذا المال وتعلقها به، فكيف يجود بنفسه؟!

نحن نعرف الآيات الكثيرة التي تقرن جهاد النفس بالمال، بل وتقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم)، والله سبحانه وتعالى يقول: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38].

وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع) وهي سمات نعرف أننا واقعون فيها، فإذا دعينا في الملمات، وعند حصول الكوارث، وعند نزول البلايا تحركنا وأنفقنا شيئاً من أثر العاطفة المتأججة المؤقتة العارضة، ثم بعد ذلك نعود إلى ما نحن فيه!

خاطبوا أنفسكم، وحاسبوها اليوم: كم من المال تنفق باستمرار ودوام؟! مواجهتنا مع الأعداء ليست عارضة ولا عابرة، ومقارنة ما ننفقه في مقابل ما ينفقونه -للأسف الشديد- مقارنة محزنة ومؤسفة، فالتنصير -الذي يسمونه التبشير- نعلم من الإحصاءات الموثقة أن هناك نحواً من أربعة آلاف وستمائة قناة وإذاعة أعدت للقيام بنشر النصرانية، وتبث بلغات أكثر من أن تحصر وأن تحصى، ويُطبع من الإنجيل -رغم ما فيه من التحريف- لا أقول: الملايين ولا عشرات الملايين بل مئات وآلاف الملايين، وقد طبع بأكثر من ستمائة لهجة ولغة! وما ينفقونه في كل عام أكثر من أن يحصى، ونحن نوقن بقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36]، لكن كيف نواجه أعداءنا ونحن لا ننفق مثلهم؟

هذه صورة من صور ضعفنا، وصورة من أسباب هزيمتنا، ومن أسباب بلائنا؛ لأننا لا نصنع كما صنع الصحب رضوان الله عليهم، فقد كانوا في كل ملمة بل وفي غير الملمات ينفقون إنفاقاً عظيماً جداً، كان الإنفاق أمراً فوق الزكاة وفوق الواجب، وكانت صدقاتهم لا تنقطع دائماً وأبداً، حتى كان من لم يجد يكتسب حتى يجد ما يتصدق به، كما ورد في الصحيح عن بعض الصحابة من الفقراء قال: (كان أحدنا لا يجد ما يتصدق به، فكان أحدنا يتحمل الحمالة لا يريد بها إلا أن يجد ما ينفقه في سبيل الله) أي: حتى لا يحرم نفسه من الأجر والثواب، فقد كانوا يتسابقون إلى الإنفاق؛ لأنهم يعلمون أن ذلك من أسباب قوة دين الله سبحانه وتعالى.

الدعاء وأثره في نزول النصر

لابد من استدامة الدعوات، فنحن سمعنا الدعاء يتكرر في المحاريب عند وقوع الكارثة، وعند حلول المصيبة، ثم الآن كأنما الألسن قد عجمت عن الدعاء، وكأنه لا يكون الدعاء إلا إذا كان في الصلاة وإذا كان في القنوت وإذا كان وراء الإمام، فهل نحن ندعو الآن بما ينبغي أن ندعو به من نصر الإسلام والمسلمين، ومن تثبيت إخواننا المسلمين؟! وهل انتهت قضية المسلمين في العراق؟! وهل انتهت من قبل قضيتهم في أفغانستان؟! وهل انتهت من قبل أكثر من نصف قرن في فلسطين وفي كشمير؟ وهل توقفت المواجهات في الشيشان؟ وهل وهل..؟!

نحن كأنما نشتغل بهذه الأمور المواجهة والمباشرة؛ فإن جاءت تحركنا بقدرها، واستيقظنا بحسبها، ثم عدنا إلى نومنا وغفلتنا وإعراضنا عن تعليق قلوبنا بربنا، ورفع أكفنا إليه، ودوام استمدادنا منه، وعظمة تضرعنا وذلنا وخضوعنا بين يديه سبحانه وتعالى.

ولا شك أننا نعلم ونوقن أن السلاح البتار الفتاك عند أهل الإيمان والاعتقاد الجازم هو الدعاء الخالص لله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي أن نغفل عن قوة هذا السلاح وأثره، ولقد كان -يوم كان الناس أهل إيمان وأهل صدق وحسن صلة بالله- سلاحاً يظهر أثره مباشرة، وكلنا يعلم أن سعداً كان مجاب الدعوة، فقد جاء رجل وتكلم بين يديه في طلحة والزبير ، فنهاه، فلم ينته، فدعا عليه، قال الراوي: فجاء جمل كأنما يشم الناس حتى عمد إلى هذا الرجل فبطش به وقتله! أي: استجاب الله دعوة سعد رضي الله عنه.

وسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة ادعت عليه امرأة زوراً وبهتاناً وافتراءً أنه أخذ شيئاً من أرضها، فلما ووجه بذلك، قال: كيف يكون هذا، وأنا أعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة)؟ ثم دعا فقال: (اللهم إن كانت كاذبة وهي تعلم أنها كاذبة، فأعم بصرها، واقتلها في دارها). فوقع الأمر كما دعا رضي الله عنه وأرضاه.

وكانت في قصص المواجهات والقتال أيضاً أحوال وسير عظيمة، منها: دعاء البراء بن مالك الذي قال له الصحابة في يوم اليمامة بعد أن اشتد وطال الحصار الذي ضربوه على مسيلمة وأصحابه: أنت من قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فادع الله لنا، فدعا وقال: (اللهم امنحنا أكتافهم، وانصرنا عليهم الغداة)، فما انتهى اليوم إلا بنصر عظيم للإسلام وأهله!

لابد من كثرة الطاعات، ونحن نعلم أن استنزال النصر إنما يكون بحسن الصلة بالله، والتقرب إليه، وإعلان البراءة من معاصيه، ومخالفة أمره سبحانه وتعالى، وهذا أمر مهم نحتاج إليه، فننادي بنداء نوجهه إلى أنفسنا جميعاً: حافظوا على أداء الصلوات، وعلى وجه الخصوص فرائض الصلوات، كما قال عز وجل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله) رواه مسلم ، ونحن نعرف هذا، ولكنني أقول: هل كل الناس يؤدي هذا؟

ألسنا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من آخر ما يُحل من عرى هذا الدين الصلاة؟

ألسنا نعرف أن من شبابنا ومن شيباتنا من يترك الصلاة فلا يؤديها مطلقاً، أو يؤخرها ويجمعها، أو لا يلتفت إليها؛ ويجعلها آخر موضع في اهتماماته؟! وأولئك منا وفينا ومن بيننا، ثم لا ننظر إلى أثر ذلك، ولا نلتفت إلى أن بسببه يقع كثير مما قدره الله عز وجل من البلاء والفتنة، نسأل الله عز وجل السلامة!

عباد الله! احرصوا على شهود الجماعات؛ فإن المساجد تشكو إلى الله قلة المصلين في كثير من الأوقات والأحوال، بل وفي كثير من البلاد ما هو أعظم وأكثر مما في بيئتنا ومجتمعاتنا، والله عز وجل يقول: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31]، ويقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، ويقول: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3]، ويقول: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ [الحج:35]، وكل ذلك خطاب بصيغة الجمع.

وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي تعرفونه في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، وقال ابن مسعودرضي الله عنه وأرضاه أثراً نحب أن نلفت أنظار الجميع إليه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا -يعني: صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- وما يتخلف عنها -أي: الجماعة- إلا رجل معلوم النفاق) رواه مسلم .

فلو طبقنا هذه القاعدة التي كانت سارية المفعول عند الصحابة لصلحت أحوالنا، فكم منا في مجتمعاتنا من يصدق عليه وصف النفاق؟!

كم هم المتخلفون عن الصلاة في الجماعات، السائرون في الغي واللهو الشهوات؟!

هؤلاء لم يلتفت نظرهم إلى حديث أبي هريرة عند البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، فآمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم).

وهذه أمور موجودة لا نحتاج إلى إفاضة القول فيها، لا سيما صلاة الفجر، تلك الفريضة التي رحم الله من يؤديها اليوم جماعة، وأصبح من يصليها جماعة يشهد له بأنه أعظم الناس إيماناً، وأكثرهم صلاحاً، وأجلهم فضلاً، وأعظمهم مرتبة، وهي من الفرائض التي لابد لكل مسلم أن يحافظ عليها، ولكن صار الحفاظ عليها فرقاناً بين إسلام والتزام، وبين تفريط وتضييع، والله عز وجل يقول: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] أي: تشهده الملائكة.

وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون عند صلاة الفجر والعصر)، وترفع الملائكة شهادتها لمن يشهدون الصلاة، فكم من مسلم لا يحظى بتلك الشهادة، ولا يكتب في تلك الصحائف، ولا يدرج اسمه في تلك التقارير المرفوعة إلى علام الغيوب سبحانه وتعالى؟!

ثم نقول بعد ذلك: ما الذي جرى؟ وما الذي حصل؟!

الصيام من أفضل الطاعات، فزد من الصيام والتقرب إلى الله عز وجل بذلك؛ فإنه ضرب من العبادة ولون من التربية والتزكية، وسبيل من أسباب القوة في الإرادة والعزيمة، فضلاً عن قوة الطاعة والاستجابة ومغالبة النفس وأهوائها، ونحن نعلم فضائل الصيام وآثاره، وما ينبني عليه من أثر في أجر الدنيا وفي ثواب الآخرة، والأمر في هذا واضح جلي.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2907 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2729 استماع
فاطمة الزهراء 2694 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2627 استماع
المرأة والدعوة [1] 2541 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2533 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2533 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2485 استماع
خطبة عيد الفطر 2467 استماع
التوبة آثار وآفاق 2448 استماع