الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاَّم [1،2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فإن أخبار الأخيار دواءٌ للقلوب، وجلاءٌ للألباب من الدنس والعيوب، وإن النفس تستروح إلى مطالعة أخبار من تقدم، والمطلع على أخبار من درج، ووقائع من غاب في غابر الموت وما خرج، ومآثر من رقى إلى سماء السيادة وعرج، يعود وكأنه عاصر أولئك وجلس معهم على نمارق الأسرة، واتكأ بينهم على وسائد الأرائك، وأفاد ذلك حزماً وعزماً وموعظةً وعلماً، وهمةً تذهب هماً وبياناً يزيل وهناً ووهماً، وعوناً للاقتداء بهم في جميل الخصال ونبيل المآثر والفعال.

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم     بعد المماتِ جمال الكتب والسيرِ

هذا شيءٌ من فوائد دراسة أخبار المتقدمين، وشخصيات السلف والعلماء رحمهم الله أجمعين، وهي الإفادة من تلك السير في أمورٍ نقتدي بهم فيها.

ويعلم الإنسان المسلم عظمة التاريخ الإسلامي، وعظمة هذه الأمة التي أنجبت هؤلاء الشخصيات، ويحس وهو يقرأ في أخبارهم أنه يعيش معهم، وربما كان في ذلك جلاءٌ لهمومه، وذهابٌ لأحزانه، وحملاً له على التخلق بأخلاق الكرام، وهذا هو المهم -فعلاً- عند الاطلاع على أخبار العلماء والأئمة المتقدمين.

وسنعرض -إن شاء الله تعالى- لحياة الإمام أبي عبيد القاسم بن سلَّام رحمه الله تعالى.. عن أخلاقه، وحياته، وعلمه، وفضله، وكلام أهل العلم حوله، وشيءٍ من كتبه وآثاره وأخباره.

عاش الإمام أبو عبيد -رحمه الله تعالى- في العصر العباسي الأول، حيث ولد سنة: (151هـ)، وتوفي سنة: (224هـ)، ويكون بهذا قد عاصر سبعةً من خلفاء بني العباس، من المنصور المتوفى سنة: (158هـ) إلى المعتصم المتوفى سنة: (227هـ)، وبذلك يكون قد عاصر المهدي محمد بن عبد الله ، والهادي موسى بن محمد ، والرشيد هارون بن محمد، الذي حكم ثلاثاً وعشرين سنة، والأمين وَلَد هارون، واسمه محمد بن هارون ، وتولى خمس سنين، ويكون أبو عبيد -رحمه الله- قد عاصر -أيضاً- أخا الأمين ، المأمون عبد الله بن هارون الذي حكم عشر سنين، وآخر من عاصره من خلفاء بني العباس هو: المعتصم محمد بن هارون ، الذي حكم تسع سنين أيضاً.

وهذه الفترة التي سبق أن وصفناها بأنها كانت أيام عز الدولة العباسية وازدهارها، وكانت فيها الحالة الاقتصادية من أحسن ما يكون، حتى أن هارون الرشيد -رحمه الله تعالى- طلب من أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وقاضي الناس في ذلك الوقت أن يؤلف كتاباً في السياسة الاقتصادية للدولة، فألف له كتاب الخراج ، لتنظيم بيت مال المسلمين واقتصاد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت.

وفي هذه الحقبة -أيضاً- حصلت فتنة خلق القرآن، ومر بالمسلمين محنة شديدة -جداً- طالت علماء أفذاذاً، فمنهم مَن قُتل، ومنهم مَن أُخذ فحُبس، ومنهم مَن جُلد وضُرب، ومنهم مَن قُطعت عنه النفقة..

ونحو ذلك من أنواع الأذى، ومنهم مَن مُنع مِن التدريس، ثم تنسموا الرحمة بعدما لبثوا في العذاب المهين خمسة عشر عاماً، وذلك عندما جاء الخليفة المتوكل سنة: [232هـ] الذي أعاد السنة ورفع المحنة.

أبو عبيد القاسم بن سلاَّم اسمه: القاسم ، وأبوه سلاَّم بن عبد الله ، ويُكنى الإمام القاسم بن سلاَّم بـأبي عبيد ، وهو بغدادي، خراساني الأصل، من مدينة هرات ، وهي مدينة عظيمة مشهورة من مدن خراسان ، وهي المعروفة اليوم في بلاد أفغانستان ، وهو تركي مولى الأزد، ومولى الأنصار الخزاعي، والمولى كما سبق أن ذكرنا هو: المعتَق إذا انتسب بنسبك .. إذا أعتقتَ شخصاً فانتسب إليك، فيقال عنه: فلان الفلاني بنسبتك أنت مولاهم، وأبوه سلاَّم كان عبداً رومياً لرجلٍ من هرات .

ويُحكى أن سلاَّماً خرج يوماً وأبو عبيد في الكُتَّاب، وكان أول ما يبدأ به الصبيان في ذلك الوقت هو حفظ كلام الله تعالى عند الكتاب، فلما سلاَّممر بالكتَّاب قال للمعلم: "علمي القاسم فإنها كيِّسة" وهذا يدل على أن الرجل صاحب لُكْنة أعجمية لا يحسن العربية؛ فهو يؤنث المذكر، وهذا موجود إلى اليوم، تجد الأعاجم إذا بدءوا في الكلام بالعربية يؤنثون المذكر، ويذكرون المؤنث، فهذا من طبيعة من أراد أن يبدأ يتكلم من الأعاجم العربية أن يقع منه هذا الخلط، ولكن هذا الرجل العامي أكرمه الله تعالى بولدٍ صار من كبار علماء العربية، ومرجعاً في هذا الشأن.

أبو عبيد القاسم بن سلاَّم بمدينة هرات من مملكة خراسان ، وكان مولده على الأرجح في سنة: (157هـ)، وقيل: غير ذلك، وكانت سنة وفاته في: (224هـ) على الأصح، وهذا الذي نقله أخص تلاميذه وهو علي بن عبد العزيز البغوي ، وبناءً على ذلك يكون قد عُمِّرَ (73) سنة.

وضعه أبوه عند الكتَّاب مع ابن مولاه، ثم لما انتهى من تلقي القرآن عند الكُتَّاب رحل في طلب العلم إلى بغداد ، والكوفة، والبصرة ، وتنقل في البلدان، وطلب العلم، وسمع الحديث، ودرس الأدب، ونظر في الفقه.

دخل بغداد في سنة: (176هـ) تقريباً، وسمع فيها من سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، وكذلك سمع من فرج بن فضالة .

ودخل الكوفة في سنة: (177هـ)، وسمع فيها من شريك بن عبد الله النخعي.

ودخل أبو عبيد البصرة في سنة: (179هـ) أيضاً وأراد أن يسمع فيها من حماد بن زيد ، ولكن لم يدركه، فإنه لما دخل البصرة علم أنه قد توفي رحمه الله تعالى.

حماد بن زيد ، شيخ أهل البصرة ، مات في نفس السنة، (179هـ)، فـأبو عبيد ارتحل إلى البصرة ليسمع من حماد، ففاته ولم يدركه، وتأسف على ذلك أسفاً بالغاً كما سيأتي.

ودخل أيضاً الرقة، وسمع من محدثيها، فيقول أبو عبيد -رحمه الله- عن نفسه: جلست إلى معمر بن سليمان بـالرقة وكان من خير من رأيت، والرقة : مدينة على الفرات وهي معروفة -الآن- من بلاد سورية ، سمع فيها من مُعمَّر بن سليمان، بتشديد الميم، وهذا غير معمر الأزدي- معمر بن راشد اليمني رحمه الله، أو معمر بن راشد الأزدي - الذي سكن في اليمن فترة من حياته.

بعد هذا التجوال رجع أبو عبيد -رحمه الله- إلى خراسان موطنه الأصلي، وعمل هنالك مؤدباً لآل هرثمة ، والمؤدب: الذي يربي الأولاد ويعتني بهم، ويخلقهم بالأخلاق الحسنة، ويحملهم على الأدب الجم .. ويعلمهم الصلاة والطهارة، والأمور الأساسية التي ينبغي أن يتعلمها كل ولدٍ من الأولاد، كان هذا الشيء منتشراً في أولاد الكبار في ذلك الوقت أنهم يحرصون على الاتيان بمؤدبٍ لأولادهم.

فـهرثمة بن أعين من كبار قواد هارون الرشيد ، وأبو عبيد في أول حياته تولى تأديب أولاد آل هرثمة ، ثم اتصل بـثابت بن نصر بن مالك الخزاعي يؤدب ولده، وكان ثابت قد تولى طرسوس ، وهي: مدينة بثغور الشام ، بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم ، وتُعرف أيضاً بـطرطوس ، ولما تولى ثابت على طرسوس وحكمها ثماني عشرة سنة، ولَّى أبا عبيد القاسم بن سلاَّم قضاء طرسوس ، فتولاها له ثماني عشرة سنة، وأصبح قاضياً لـطرسوس ، وعلى ذلك يكون أبو عبيد رحمه الله قد تولى القضاء فيها سنة: (192هـ)، إلى سنة: (210هـ).

بعد هذه المدة الطويلة في القضاء عاد أبو عبيد من طرسوس إلى بغداد ، وهناك اتصل بـعبد الله بن طاهر والي خراسان وكان ابن طاهر يُجري عليه في الشهر ألفي درهم.

قال أبو العباس أحمد بن يحيى : قدِم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدثٌ في حياة أبيه يريد الحج، فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم ، فوجَّه إسحاق إلى العلماء، فأحضرهم ليراهم طاهر، فقال طاهر : اجمع العلماء وأتِ بهم إلي لأراهم، وليَعْلَم ما عندهم من العلم، فحضر أصحاب الحديث والفقه، وأُحْضِر ابن الأعرابي ، وأبو نصر صاحب الأصمعي ، ووجِّه إلى أبي عبيد القاسم بن سلاَّم في الحضور، فأبى أن يحضر، وقال: العلم يُقْصَد -العلم يؤتى ولا يأتي، إذا أراد أن يتعلم أو يسمع فيأتي هو، أما أن نأتي إليه فلا- ورفض الاتيان، وكان عبد الله بن طاهر يُجري له في الشهر ألفي درهم، وكان من عادة العلماء في ذلك الوقت أنهم يُفرَّغون للعلم ويُجرى عليهم من بيت المال مرتب يكفيهم في حياتهم لمعيشتهم , ويتفرغون للعلم، فكان يُجرَى لـأبي عبيد -رحمه الله- في الشهر ألفي درهم، وهو مبلغ كبير.

فلما قال: (العلم يُقْصَد) ورفض أن يأتي، قطع إسحاق عنه الرزق -أي: المرتب- وكتب إلى عبد الله بن طاهر بالخبر أن أبا عبيد امتنع، لكن هذا الامتناع أثر في نفس عبد الله بن طاهر ، فكتب رسالة يقول فيها: صَدَقَ أبو عبيد في قوله، وقد ضاعفتُ له الرزق من أجل فعله هذا، فأعطه فائته، أي: كلما خصمت عليه ومنعته فأعطه وأدر عليه بعد ذلك ما يستحقه، وكان لهذه المعاملة أثر في العلاقة الطيبة بين أبي عبيد -رحمه الله- وبين الأمير عبد الله بن طاهر ، فكان أبو عبيد إذا ألف كتاباً أهداه إلى عبد الله بن طاهر، وكان الآخر يقدر ذلك ويكافئه عليه.

ويروى أن أبا عبيد -رحمه الله- لما ألف كتاب غريب الحديث وعرضه على عبد الله بن طاهر، وكان الأمراء في ذلك الوقت -بطبيعة الحال- لهم اهتمام بالعلم والأدب، فيعرفون أهمية الكتب، فلما نظر فيه قال: "إن عقلاً بعث صاحبَه على عمل مثلِ هذا الكتاب لحقيقٌ ألا يُحْوَجَ إلى طلب المعاش" فأجرى له عشرة آلاف درهم كل شهر، فعاش أبو عبيد مكرماً، وهيأ الله له من يكفيه هموم المعاش، ويتفرغ لطلب العلم، ولم يكن صاحب تزلف ولا وقوف على الأبواب، ولذلك عمل -كما قلنا في بداية أمره- في تأديب أولاد الكبار، وعمل قاضياً مدة طويلة، ثم بعد ذلك صار متفرغاً للتعليم وللتأليف، وكان يُجرى عليه رزقه.

بعد عودة أبي عبيد إلى بغداد واتصاله بـعبد الله بن طاهر لم تطُل إقامته هناك، فرحل من بغداد إلى مصر والشام بصحبة الإمام العلم المشهور يحيى بن معين -رحمه الله تعالى- وقدم دمشق طالب علم، مع أنه كان قاضياً (18) سنة، وكان علماً وعالماً؛ لكن رحل إلى دمشق وسمع من هشام بن عمار ، وسليمان بن عبد الرحمن ، وحدَّث عنهما، وكانت رحلته في سنة: (214هـ) تقريباً، وفي سنة: (219هـ) خرج إلى مكة حاجاً، وأكرمه الله بأداء المناسك ودخل المدينة النبوية ، ويدل على ذلك أنه لما شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم ما بين عير وثور ) وهذا الحديث فيه كلمة (عير وثور ) وهي من الكلمات الغريبة التي يُتَوَقَّع أن توجد، وهذا الحديث يوجد في كتاب غريب الحديث لـأبي عبيد ، لأن هذا الكتاب يشرح فيه أبو عبيد -رحمه الله- الألفاظ الصعبة والغريبة في الأحاديث، وهذا أشهر كتاب لـأبي عبيد ، وعُرف واشتُهر به.

فطبيعة الحال لما مر بكلمتي (عَير وثور) شرحهما، وأنهما اسم جبلين، فقال: عير بـالمدينة معروف وقد رأيته، وهذا يدل على أنه دخل المدينة.

ثم إنه -رحمه الله- ذهب إلى مكة ، وتوفي فيها في المحرم من سنة: (224هـ)، ودُفن في المعلاة ، مقبرة أهل مكة .

وقيل: إنه رأى رؤيا قبل أن يموت في مكة ، وكان قد عزم على الخروج من مكة إلى العراق في صباح اليوم التالي، فرأى رؤيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً وعلى رأسه قومٌ يحجبونه، والناس يدخلون عليه ويسلمون عليه ويصافحونه، قال: فلما دنوتُ أدخل مع الناس مُنِعْتُ، فقلت لهم: لِمَ لا تخلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فقالوا لي: لا والله لا تدخل ولا تسلم عليه، وأنت غداً ذاهب إلى العراق. كيف تخرج العراق غداً ثم تريد أن تسلم عليه؟!

فقال: فقلت لهم -وهذا كله في المنام-: إني لا أخرج إذاً، فأخذوا علي العهد ألا أخرج، ثم خلوا بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت وسلمت عليه وصافحته، فلما أصبح أبو عبيد -رحمه الله- بعد هذه الرؤيا، فاسخ كَرِيَّه -أي: الشخص الذي اتفق معه على الكِراء إجارة القافلة أو الدابة من مكة إلى العراق ، فسخ معه عقد الإجارة- وجلس في مكة إلى أن توفي بها، ودُفن فيها رحمه الله تعالى.

لا شك أن مثل هذا الإمام العلم -كما تعودنا سابقاً في الأعلام الذين سمعنا سيرتهم- لا يمكن أن يكونوا قد خرجوا من فراغ، فإنه لا بد أن يكون هذا نتاج اعتناء وتربية علماء تخرج على أيديهم، لا بد أن يكون هناك وسط علمي وعلماء كبار تخرج أبو عبيد على أيديهم، فمن هم شيوخه؟

- عبد الملك بن قريب الأصمعي المشهور، الأصمعي البصري اللغوي أبو سعيد.

- علي بن حمزة الكسائي الكوفي أحد القراء السبعة.

- أبو عبيدة معمر بن المثنى.

- يحيى بن زياد الفراء.

- هشام بن عمار مقرئ أهل الشام .

- إسماعيل بن عياش عالم الشام ومحدثها.

- سفيان بن عيينة العالم الجليل المشهور الثقة الكوفي ثم المكي محدث الحرم ، الذي يعد من أشهر شيوخ أبي عبيد .

- عبد الرحمن بن مهدي العالم الكبير الذي تقدمت سيرته رحمه الله.

- عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث.

- هشيم بن بشير الواسطي .

- يحيى بن سعيد القطان .

- كذلك من الذين تخرج عليهم أبو عبيد في الفقه وهو الذي فتَّق له المسائل واعتنى به ووجهه إلى الفقه هو: محمد بن الحسن الشيباني ، تلميذ أبي حنيفة ، والذي تعلم منه أبو عبيد أشياء كثيرة، ومن ذلك ما رواه فقال:

كنا مع محمد بن الحسن إذ أقبل الرشيد الخليفة، فقام إليه الناس كلهم إلا محمد بن الحسن فإنه لم يقُم، ومعلوم ما حكم القيام للداخل، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) وأن الصحابة لم يكونوا يقومون للنبي صلى الله عليه وسلم لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك، وأن القيام للشخص الداخل دون سببٍ منهيٌّ عنه، وأن القيام إليه لإدخاله أو إجلاسه أو معانقته بعد سفر أمرٌ لا بأس به، وأن القيام عليه أمرٌ محرم أيضاً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عاتب الصحابة على وقوفهم وهو جالسٌ في الصلاة، وقال: (كدتم تفعلون فعل فارس والروم آنفاً) يعني: أنهم يقفون على رءوس ملوكهم وهم جلوس، إلا ما يكون من أمر تعظيم الخليفة أمام الأعداء مثلما وقف المغيرة وغيره على رأس النبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية أمام الكفار ليروا الكفار منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان لـمحمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله- أثرٌ بالغ في فقه أبي عبيد .

ولَمَّا رتب الذهبي -رحمه الله- في ترجمة حماد بن أبي سليمان فقيه العراق المتوفى سنة: (120هـ) رتب أجيال الفقهاء، قال: فأفقه أهل الكوفة : علي وابن مسعود ، أول ما تأسست هذه البلدة الإسلامية أفقه من نزل بها: علي بن أبي طالب ؛ لأنه قُتل في الكوفة ، وابن مسعود الصحابي الجليل أفقه من نزل الكوفة ، وأفقه أصحابهما -من تلقى عنهما العلم-: علقمة ، وأفقه أصحاب علقمة : إبراهيم النخعي ، وأفقه أصحاب إبراهيم : حماد بن أبي سليمان ، وأفقه أصحاب حماد : أبو حنيفة ، وأفقه أصحابه: أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبو يوسف في الآفاق، وأفقههم: محمد بن الحسن المذكور، وأفقه أصحابه: الشافعي رحمه الله.

ومعنى ذلك أن أبا عبيد قد عاصر الشافعي ؛ لأنه إذا كان شيخه محمد بن الحسن الشيباني ، ومحمد بن الحسن الشيباني أفقه من درس على يديه الشافعي ، فمعنى ذلك أن أبا عبيد قرين للشافعي ، وقد جلس معه عند محمد بن الحسن ، وتفقه كلٌ منهما على محمد بن الحسن ، وله مناظرات مع الشافعي رحمه الله.

وأبو عبيد كان لا يأنف أن يستفيد من أقرانه، فأخذ كتب الشافعي فنسخها، أي: كتبها ليطلع عليها ويستفيد منها، ولذلك تجد أبا عبيد في كتبه، ينقل عن أقوال الصحابة والتابعين وشيوخه إلى المعاصرين، فينقل من أقوالهم، كما فعل ذلك في كتاب الأموال ، وهو كتاب مشهور، فنقل من أقوال الصحابة والتابعين ومن شيوخه ومعاصريه.

وروى الحديث عن القاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم ، وتفقه على يديه أيضاً، وقال: جالستُ أبا يوسف ومحمد بن الحسن ، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي ، فما هِبْتُ أحداً في مسألة ما هبتُ أحمد بن حنبل .

أما تلاميذ أبي عبيد رحمه الله، فإنه لما طار صيته في الآفاق، وسارت بتصانيفه الركبان، قصده الطلاب والحفاظ للأخذ منه والدراسة على يديه، وممن درس عليه بعضُ شيوخه وأقرانه، فسمعوا منه، وقال: كنت في تصنيف هذا الكتاب -غريب الحديث- أربعين سنة، وهذا مما يدل على عظمة هذا الكتاب، وهو كتاب مطبوع.

وكان لـأبي عبيد -رحمه الله تعالى- منزلة عظيمة عند الكبار من أئمة عصره، قال حمدان بن سهل : سألت يحيى بن معين عن الكتابة عن أبي عبيد والسماع منه؟ فتبسم، وقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد ؟! أبو عبيد يُسأل عن الناس.

ومِن شيوخه وأقرانه الذين حدثوا عنه: أحمد بن حنبل رحمه الله، شيخ الإسلام، الإمام المشهور.

سعيد بن الحكم المصري ، الثقة الثبت الفقيه.

علي بن عبد الله المديني ، أعلم أهل عصره بالحديث والعلل، المتوفى سنة: (234هـ) بـسامراء .

أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، فإنه ممن درس أيضاً على أبي عبيد .

وكيع بن الجراح، الإمام الحافظ.

يحيى بن معين ، سيد الحفاظ، وإمام أهل الجرح والتعديل.

ومن أشهر تلاميذ أبي عبيد القاسم بن سلاَّم : إبراهيم بن إسحاق الحربي .

أحمد بن يحيى البلاذري ، الكاتب صاحب فتوح البلدان .

عباس بن محمد الدوري .

عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، الإمام، شيخ الإسلام، صاحب سنن الدارمي .

عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، الحافظ الإمام صاحب التصانيف الكثيرة جداً والمشهورة.

علي بن عبد العزيز البغوي ، وهو أشهر تلاميذه من جهة الملازمة، وأشدهم له ملازمة، وأثبتهم فيه، وهو راوي كتب أبي عبيد ، حتى عُرِف بوراق أبي عبيد، لزم أبا عبيد حتى مات.

أبو عبيد القاسم بن سلاَّم رحمه الله صاحب شمائل وخصال عالية وفريدة.

أخلاق أبي عبيد في طلب العلم

فمن جهة الأخلاق العلمية فإنه كان حريصاً على العلم، وهذا من أهم سمات طالب العلم أن يكون حريصاً على العلم، له نهمة وحرص على العلم يدون الفائدة ويركض وراءها حتى يحصلها، ولا يكون هذا إلا إذا كان نهماً صاحب نَهْم، كما قال البخاري رحمه الله في سبب حفظه: (النهم والمطالعة) كثرة المطالعة وأن يكون الإنسان نهماً، أي: عنده همة في الحرص على الفوائد والعلوم.

قال أبو عبيد : دخلت البصرة ؛ لأسمع من حماد بن زيد ، فقدمت فإذا هو قد مات، فشكوت ذلك إلى عبد الرحمن بن مهدي ، فقال: مهما سُبِقْتَ به فلا تُسْبَقَنَّ بتقوى الله عز وجل، يعني: مهما فاتك فلا يفوتنك تقوى الله عز وجل.

وقال أيضاً: سمعني عبد الله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ: وا أسفاه على فلان الذي ما أدركته، مات قبل أن آخذ عنه، فقال لي: يا أبا عبيد ! مهما فاتك من العلم فلا يفوتنك العمل؛ لأن العمل هو القصد، أول العلم التقوى والعمل، فلو قال أحد الآن: لماذا نتعلم؟! ولماذا يتعلم طالب العلم؟!

نقول: من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم، فلا بد من القصد أن يكون حسناً.

فما هي نية طالب العلم في تعلمه؟

لا بد من تحديد الأهداف:

أولاً: لينال خشية الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

ثانياً: ليعمل به، فإذا صار هدفُ طالب العلم الخشية والعمل، صح توجهه، وطابت نفسه، وزكى.

وكثيرٌ من الناس ربما يطلبون العلم لجمع العلم .. يطلبون العلم شهوةً في العلم .. يطلبون العلم للشهادة .. للمال .. ليكون صاحب قضاء .. ونحو ذلك، ومثل هذا لا يبارك له في علمه، ولا يستفيد ولا يُستفاد منه، لكن إذا طلبه لخشية الله، وليعمل به ويؤجر على العمل ويرفعه الله درجات، فهذا الذي يستفيد ويُستفاد منه.

وكان أبو عبيد -رحمه الله- متأدباً غاية الأدب مع العلماء، يقول عن نفسه: "ما أتيت عالماً قط فاستأذنت عليه، ولكن صبرت حتى يخرج إليَّ، وتأولت قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ [الحجرات:5]".

وقال أيضاً: "ما دققت على مُحدِّثٍ بابه قط وإنما أنتظر حتى يخرج ثم أفاتحه برغبتي" وهذا يدل على أدبه رحمه الله مع الشيوخ، ما كان يزعج أحداً، ولا يطرق الباب وإنما ينتظر، وهذا ما فعله ابن عباس -رضي الله عنه- كما قال: [كنت آتي بيت الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأريد أن أسمع منه الحديث، فأجلس على بابه في القيلولة حتى أنام، أتوسد العتبة، فتُسْفِي الريح على وجهي التراب؛ لكن أتحمل حتى يخرج إلي، ويعاتبني لماذا لم أطرق عليه].

أخلاق أبي عبيد في الحرص على الفوائد

كان أبو عبيد -رحمه الله تعالى- يفرح فرحاً شديداً لتحصيل العلم والفائدة، حتى ربما حرمه الفرح من النوم، فقال عن نفسه: :كنت في تصنيف هذا الكتاب غريب الحديث أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من الكتاب -أفواه الرجال أي: العلماء- فأبيت ساهراً فَرِحَاً فَرَحَاً مني بتلك الفائدة- مِن الفَرَح بالفائدة التي حصَّلها ودوَّنها في كتابه غريب الحديث ربما ما جاءه النوم.

ومِن حرصه على الفائدة: القصة المشهورة التي حدثت له في زيارته للإمام أحمد -رحمه الله- وهي قصة جميلة، قال: زرت أحمد بن حنبل ، فلما دخلت عليه في بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس -وهذا يدل على محبة أحمد لـأبي عبيد القاسم بن سلاَّم - فقلت: يا أبا عبد الله ! أليس يقال: -أي: في الأثر- (صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر دابته أو مجلسه) أي: صاحب البيت أحق بصدر البيت من الضيف أو من أي شخص آخر، وكذلك الدابة أولى بصدر الدابة من الشخص الآخر، لأنه صاحب الحق، فلا يجوز للضيف أن يعتدي ويجلس في صدر المجلس بدون إذن صاحب البيت.

قال الإمام أحمد : نعم، يَقْعُدُ ويُقْعِدُ مَن يريد، أي: ما دام أنه صاحب الحق فلو أقعد مَن يريد فلا حرج على هذا الضيف من أن يجلس في صدر المجلس، فقلت في نفسي: خذ إليك أبا عبيد فائدة.

ثم قلت: "يا أبا عبد الله ! لو كنتُ آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم" أي: لو كانت زيارتي لك بقدر حقك علينا وعلى قدر ما يليق بك من منزلة لرابطنا كل يوم عندك وأتيناك، فقال: لا تقل ذاك! فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنةٍ إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم.

قال: قلت: هذه فائدة أخرى يا أبا عبيد .

فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله أي: اجلس مكانك وارتاح ولا داعي أن تقوم معي، فقال الإمام أحمد: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار ويؤخذ بركابه.

قال: قلت: يا أبا عبد الله مَن عَن الشعبي ؟ أي: من حدثكم عن الشعبي هذه العبارة- قال: ابن أبي زائدة ، عن مجالد عن الشعبي.

قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة، ثلاث فوائد.

فكان يفرح بالفوائد ويجمعها ويراجعها، ويعدد الفوائد واحدة واثنتين وثلاث حتى لا ينساها.

وقد أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وكان يطلب عليه العلم، فقال زيدٌ متواضعاً: [أتُمْسِـكُ بـي -يعني: بركاب دابتي- وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنتم آل البيت لكم حق- فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: إنا هكذا نصنع بالعلماء].

أخلاق أبي عبيد في تعظيم العلم واحترام أهله

وأما في تعظيمه للعلم وإكرامه لطلبة العلم فما كان يهين العلم كما يفعل بعض الناس الذين يهينون العلم ويضعونه في غير موضعه، ويأتون به الأبواب، لا بد أن يكرم العلم مثلما فعل أبو عبيد رحمه الله.

وهذه قصة أخرى له: كان طاهر بن عبد الله بـبغداد ، هذا الأمير كان يود أن يأتي إليه أبو عبيد ؛ ليسمع منه كتاب غريب الحديث في منزله، ويُقال: إن فلاناً أتى عنده أبو عبيد (المؤلف) إلى البيت، وحدَّثه بالكتاب، فرفض أبو عبيد القاسم بن سلاَّم ، إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تريد أن تسمع؟

ولما قدِم علي بن المديني ، وعباس العنبري ، إلى أبي عبيد طلباً لسماع كتابه غريب الحديث كان يحمل كل يومٍ كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما به، مع أنهما جاءا إليه يطلبانه، فكان يذهب إليهما، هؤلاء أهل العلم وطلبة العلم يُؤتَون ويكرَمون، ووضع العلم عندهم وضع في مكان ومحل مناسب، هذه حكمة، إجلالاً لعلم علي بن المديني وعباس العنبري ، كان أبو عبيد يأتي إليهما ليحدثهما في بيتهما، ويصون العلم ويُكرمه من أن يُؤتى به إلى الأبواب.

أخلاق أبي عبيد في نسبة الفضل لأهل الفضل

كان أبو عبيد -رحمه الله- حريصاً على الأمانة العلمية وعزو العلم لأهله، ونسبة الفضل إلى أهل الفضل، فكان يقول: مِن شُكْر العلم أن تستفيد الشيء -إذا حصلت على فائدة- فإذا ذُكِر لك قلتَ خفي عليَّ كذا وكذا ولم يكن لي به علمٌ حتى أفادني به فلان كذا وكذا، فهذا شُكْر العلم.

فمثلاً: إذا حصلتَ على فائدة مِن شُكْر هذه الفائدة أن تذكر مَن الذي علمك إياها، وتعزوها لصاحبها الذي استفدتها منه، فكأنك تقول: إنها ليست من كدي ولا من عقلي ولا من استنتاجي واستنباطي وإنما علمني إياها فلان، فذِكْر اسم الشيخ الذي علمك الفائدة في المجلس، أو أن تقول: كنت أجهل الأمر الفلاني حتى شرحه لي فلان، وكان يخفى عليَّ معنى الكلمة الفلانية حتى سمعتُه من فلان، هذا من التواضع ومن الأدب ومن معرفة الفضل لأهل الفضل.

وقال أبو محمد عبد الغني بن سعيد المصري : علقت حكاية أبي عبيد مستفيداً لها ومستحسناً، وجعلتها حيث أراها في كل وقت -كأنه كتبها وعلقها على الجدار- لأقتدي بـأبي عبيد ، وأتأدب بآدابه، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، وهذا مِن الشُّكْر: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].

وكان أبو عبيد يقول عن نفسه: "ما كان عليَّ من حفظ خمسين حديثاً مئونة" أي: ما يشق عليه حفظ خمسين حديثاً سنداً ومتناً في مجلس واحد، وهذا مما يسر الله له الحفظ .. خمسون حديثاً في مجلس واحد ليس فيه مشقة عليه سنداً ومتناً.

أخلاق أبي عبيد في صدقه مع الآخرين

روى الخطيب -رحمه الله- حكاية عن أبي عبيد القاسم بن سلاَّم أنه جاءه الحسن بن حربوية ، فقال: أريد أن أسألك عن سؤالين قال: ما هما؟ قلت: دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص:17] ما معنى الأيد؟

قال أبو عبيد : القوة.

قلت: فما معنى: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص:45]؟ قال: القوة، والأبصار: العقول. قلت: ما بال إحداهما لم تثبت فيها الياء دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص:17] إنما بالكسرة بدون ياء؟ وهذه أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص:45] ثبتت فيها الياء مع أن كلاهما بمعنى: القوة؟!

قال: عمل الكاتب الذي كتب.

قال: فاندفعتُ أسأل عن مسألة أخرى ثالثة، فقال أبو عبيد مذكراً للسائل: أنت قلتَ: مسألتين يرحمك الله؟ قال: قلت: ما أحسب حضر المجلس أحدٌ أبعد مني منزلاً، فقال أبو عبيد معلماً إياهُ: الصدق وإن كان يرحمك الله، فأنت إن قلت مسألتين فعليك أن تلتزم بمسألتين، فإن أردت أكثر فاستأذن، لكن أن تقول: أريد أن أسألك سؤالين، ثم تسأل سبعة أو خمسة أو ثلاثة. لا، أين الصدق؟ انظر: كيف كان يتعامل بالصدق حتى في هذه الأشياء الدقيقة.

فمن جهة الأخلاق العلمية فإنه كان حريصاً على العلم، وهذا من أهم سمات طالب العلم أن يكون حريصاً على العلم، له نهمة وحرص على العلم يدون الفائدة ويركض وراءها حتى يحصلها، ولا يكون هذا إلا إذا كان نهماً صاحب نَهْم، كما قال البخاري رحمه الله في سبب حفظه: (النهم والمطالعة) كثرة المطالعة وأن يكون الإنسان نهماً، أي: عنده همة في الحرص على الفوائد والعلوم.

قال أبو عبيد : دخلت البصرة ؛ لأسمع من حماد بن زيد ، فقدمت فإذا هو قد مات، فشكوت ذلك إلى عبد الرحمن بن مهدي ، فقال: مهما سُبِقْتَ به فلا تُسْبَقَنَّ بتقوى الله عز وجل، يعني: مهما فاتك فلا يفوتنك تقوى الله عز وجل.

وقال أيضاً: سمعني عبد الله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ: وا أسفاه على فلان الذي ما أدركته، مات قبل أن آخذ عنه، فقال لي: يا أبا عبيد ! مهما فاتك من العلم فلا يفوتنك العمل؛ لأن العمل هو القصد، أول العلم التقوى والعمل، فلو قال أحد الآن: لماذا نتعلم؟! ولماذا يتعلم طالب العلم؟!

نقول: من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم، فلا بد من القصد أن يكون حسناً.

فما هي نية طالب العلم في تعلمه؟

لا بد من تحديد الأهداف:

أولاً: لينال خشية الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

ثانياً: ليعمل به، فإذا صار هدفُ طالب العلم الخشية والعمل، صح توجهه، وطابت نفسه، وزكى.

وكثيرٌ من الناس ربما يطلبون العلم لجمع العلم .. يطلبون العلم شهوةً في العلم .. يطلبون العلم للشهادة .. للمال .. ليكون صاحب قضاء .. ونحو ذلك، ومثل هذا لا يبارك له في علمه، ولا يستفيد ولا يُستفاد منه، لكن إذا طلبه لخشية الله، وليعمل به ويؤجر على العمل ويرفعه الله درجات، فهذا الذي يستفيد ويُستفاد منه.

وكان أبو عبيد -رحمه الله- متأدباً غاية الأدب مع العلماء، يقول عن نفسه: "ما أتيت عالماً قط فاستأذنت عليه، ولكن صبرت حتى يخرج إليَّ، وتأولت قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ [الحجرات:5]".

وقال أيضاً: "ما دققت على مُحدِّثٍ بابه قط وإنما أنتظر حتى يخرج ثم أفاتحه برغبتي" وهذا يدل على أدبه رحمه الله مع الشيوخ، ما كان يزعج أحداً، ولا يطرق الباب وإنما ينتظر، وهذا ما فعله ابن عباس -رضي الله عنه- كما قال: [كنت آتي بيت الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأريد أن أسمع منه الحديث، فأجلس على بابه في القيلولة حتى أنام، أتوسد العتبة، فتُسْفِي الريح على وجهي التراب؛ لكن أتحمل حتى يخرج إلي، ويعاتبني لماذا لم أطرق عليه].

كان أبو عبيد -رحمه الله تعالى- يفرح فرحاً شديداً لتحصيل العلم والفائدة، حتى ربما حرمه الفرح من النوم، فقال عن نفسه: :كنت في تصنيف هذا الكتاب غريب الحديث أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من الكتاب -أفواه الرجال أي: العلماء- فأبيت ساهراً فَرِحَاً فَرَحَاً مني بتلك الفائدة- مِن الفَرَح بالفائدة التي حصَّلها ودوَّنها في كتابه غريب الحديث ربما ما جاءه النوم.

ومِن حرصه على الفائدة: القصة المشهورة التي حدثت له في زيارته للإمام أحمد -رحمه الله- وهي قصة جميلة، قال: زرت أحمد بن حنبل ، فلما دخلت عليه في بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس -وهذا يدل على محبة أحمد لـأبي عبيد القاسم بن سلاَّم - فقلت: يا أبا عبد الله ! أليس يقال: -أي: في الأثر- (صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر دابته أو مجلسه) أي: صاحب البيت أحق بصدر البيت من الضيف أو من أي شخص آخر، وكذلك الدابة أولى بصدر الدابة من الشخص الآخر، لأنه صاحب الحق، فلا يجوز للضيف أن يعتدي ويجلس في صدر المجلس بدون إذن صاحب البيت.

قال الإمام أحمد : نعم، يَقْعُدُ ويُقْعِدُ مَن يريد، أي: ما دام أنه صاحب الحق فلو أقعد مَن يريد فلا حرج على هذا الضيف من أن يجلس في صدر المجلس، فقلت في نفسي: خذ إليك أبا عبيد فائدة.

ثم قلت: "يا أبا عبد الله ! لو كنتُ آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم" أي: لو كانت زيارتي لك بقدر حقك علينا وعلى قدر ما يليق بك من منزلة لرابطنا كل يوم عندك وأتيناك، فقال: لا تقل ذاك! فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنةٍ إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم.

قال: قلت: هذه فائدة أخرى يا أبا عبيد .

فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله أي: اجلس مكانك وارتاح ولا داعي أن تقوم معي، فقال الإمام أحمد: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار ويؤخذ بركابه.

قال: قلت: يا أبا عبد الله مَن عَن الشعبي ؟ أي: من حدثكم عن الشعبي هذه العبارة- قال: ابن أبي زائدة ، عن مجالد عن الشعبي.

قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة، ثلاث فوائد.

فكان يفرح بالفوائد ويجمعها ويراجعها، ويعدد الفوائد واحدة واثنتين وثلاث حتى لا ينساها.

وقد أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وكان يطلب عليه العلم، فقال زيدٌ متواضعاً: [أتُمْسِـكُ بـي -يعني: بركاب دابتي- وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنتم آل البيت لكم حق- فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: إنا هكذا نصنع بالعلماء].

وأما في تعظيمه للعلم وإكرامه لطلبة العلم فما كان يهين العلم كما يفعل بعض الناس الذين يهينون العلم ويضعونه في غير موضعه، ويأتون به الأبواب، لا بد أن يكرم العلم مثلما فعل أبو عبيد رحمه الله.

وهذه قصة أخرى له: كان طاهر بن عبد الله بـبغداد ، هذا الأمير كان يود أن يأتي إليه أبو عبيد ؛ ليسمع منه كتاب غريب الحديث في منزله، ويُقال: إن فلاناً أتى عنده أبو عبيد (المؤلف) إلى البيت، وحدَّثه بالكتاب، فرفض أبو عبيد القاسم بن سلاَّم ، إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تريد أن تسمع؟

ولما قدِم علي بن المديني ، وعباس العنبري ، إلى أبي عبيد طلباً لسماع كتابه غريب الحديث كان يحمل كل يومٍ كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما به، مع أنهما جاءا إليه يطلبانه، فكان يذهب إليهما، هؤلاء أهل العلم وطلبة العلم يُؤتَون ويكرَمون، ووضع العلم عندهم وضع في مكان ومحل مناسب، هذه حكمة، إجلالاً لعلم علي بن المديني وعباس العنبري ، كان أبو عبيد يأتي إليهما ليحدثهما في بيتهما، ويصون العلم ويُكرمه من أن يُؤتى به إلى الأبواب.