الإمام علي بن المديني [2،1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده.

والصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين، خير خلق الله وخاتم رسله أجمعين، وعلى آله وصحبه الذين ساروا على هديه واقتفوا سنته ومنهجه القويم، ومن تبعهم بإحسانٍ وتأسى بهم إلى يوم الدين.

أيها الإخوة: لقد منَّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأن أنزل فيهم كتابه وحَفِظَه، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .

وكان من توابع هذه المكرمة الإلهية: حفظ السنة لأجل حفظ الكتاب؛ لأن الله عز وجل جعلـها تبياناً، فقـال سبحانه وتعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44] .

وكان ما حـرم رسـول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] .

فكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الأهمية؛ لأن فهمها فهمٌ لكتاب الله، وكان الاعتناء بصحتها من العبادات العظيمة؛ لأنه لا يمكن التوصل إلى معرفة الوحي الصحيح الذي نعرف به معاني الكتاب وما أنزل إلينا ربنا من الأحكام الشرعية إلا عن طريق الدليل الصحيح؛ ولذلك توجهت وانصرفت جهود أئمة الإسلام لحفظ السنة وتنقيتها وتمييز صحيحها عن سقيمها وضبطها، وصار الأمر كما روى مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، عن محمد بن سيرين ، قال: [لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، ويُنْظَر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم] وصار عندنا هذا العلم -علم الجرح والتعديل-الذي ليس عند أي أمة أخرى من الأمم على الإطلاق.

ومن العلماء الذين قيضهم الله عز وجل لتمييز الحديث الصحيح من السقيم:

القسم الأول: مَن تكلم في أكثر الرواة: مثل: ابن معين ، وأبي حاتم الرازي .

القسم الثاني: من تكلم في كثير من الرواة: كـمالك وشعبة .

القسم الثالث: من تكلم في الرجل بعد الرجل: كـابن عيينة ، والشافعي رحمهما الله تعالى.

ومن العلماء الأعلام الذين حفل بهم تاريخ السنة في هذه الأمة، ومن الذين كان لهم إسهامات ضخمة في هذا العلم -وهو الذي سنتحدث عن سيرته إن شاء الله في هذه الليلة- الإمام علي بن المديني رحمه الله تعالى.

ويكفينا أنه شيخ البخاري ، وأنه الذي قال البخاري فيه: "ما استصغرت نفسي عند أحدٍ إلا عند علي بن المديني".

فمتى عاش هذا الإمام؟ وما هي الظروف التي رافقت حياته، والأحوال التي كانت موجودة في ذلك الوقت؟

هذا قبل أن ندخل في سيرته الذاتية، وجهوده في طلب العلم، ونشر السنة، وتمييز الحديث.

أما العصر الذي عاش فيه علي بن المديني رحمه الله تعالى:

فإنه وُلِد رحمه الله وقد مضى على خلافة المهدي العباسي أكثر من سنتين؛ لأن ولادته رحمه الله كانت سنة (161هـ).

وتوفي الإمام ابن المديني وقد مضى من خلافة المتوكل قرابة سنتين؛ لأن وفاته رحمه الله كانت سنة (234هـ).

فيكون ابن المديني رحمه الله قد عاش (73) سنة، وعاصر خلالها من خلفاء بني العباس ما بين المهدي والمتوكل ، فيكون قد عاصر:

- المهدي.

- و الهادي.

- و الرشيد.

- و الأمين.

- و المأمون.

- و المعتصم.

- و الواثق.

وعاصر جزءاً من خلافة المتوكل في آخر عمره.

استقرار الدولة الإسلامية في زمن ابن المديني

لا شك أن هذه الفترة كانت فترة استقرار في الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ووصلت إلى أوج قوتها وعظمتها، حتى قال ابن طبا طبا رحمه الله: "واعلم -عَلِمْتَ الخيرَ- أن هذه الدولة -العباسية- من كبار الدول، ساست العالَمَ سياسةً ممزوجةً بالدين والمُلك، فكان أخيار الناس وصلحاؤهم يطيعونها تديناً، والباقون يطيعونها رهبةً أو رغبةً، ثم مكثت فيهم الخلافة والمُلك حدود ستمائة سنة".

وكانت هذه الدولة -ولا شك- في أولها وفي قوتها غُرَّةً في جبين الدهر، وتاجاً على مفرق العصر، كما ذكر ذلك المؤرخون.

وبطبيعة الحال كان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت مجتمعاً قوياً، وكانت فيه الأموال كثيرة، وظهرت طبقات من الأغنياء، وظهرت مظاهر الترف والبذخ والتفنن في العُمْران.. وغير ذلك.

وكان من أشهر خلفاء هذه الفترة: هارون الرشيد رحمه الله، الذي امتدت رقعة المملكة في عصره إلى معظم الدنيا، ولَمْ يَجتمع على باب خليفة من الشعراء، والأمراء، والعلماء، والفقهاء، والقرَّاء، والقضاة، والكتَّاب، ما اجتمع على باب الرشيد رحمه الله.

وكذلك انتشر في ذلك العهد القُصَّاص الذين كانوا يتكسبون بإيراد القصص والأساطير على الناس مما لا يكون له صحة غالباً، فحصل من علماء أهل السنة تبيان حال هؤلاء القُصَّاص، وقال ابن المديني رحمه الله: أكذب الناس ثلاثة:

- القُصَّاص.

- والسُّؤَّال -أي: الذين يسألون.

- والوجوه -أي الوجهاء- قلت: فما بال الوجوه؟

قال: يكذبون في مجالسهم، ولا يُرَدُّ عليهم.

فهذا شيء مما كان في عصره.

الحركة العلمية في زمن ابن المديني

أما بالنسبة للحركة العلمية، فلا شك أنها كانت حركة علمية قوية جداً في ذلك الوقت، وصارت بغداد حاضرة العالم الإسلامي، يأتي إليها طلاب العلم من كل صوب وحدب، ويقصدونها لينهلوا منها، وكان منهم بطبيعة الحال: علي بن المديني رحمه الله الذي قدم بغداد، ونَبَغ في المدن الإسلامية في ذلك الوقت من المحدِّثين عدد من أهل العلم:

فمن الذين نبغوا في البصرة ؟

يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وكلاهما قد توفي في سنة (198هـ) وأخذ عنهما ابن المديني رحمه الله وتخرج.

وكذلك نبغ فيها أيضاً: إسماعيل بن عُلَيَّة ، وعفان بن مسلم ، وأبو الوليد الطيالسي .

وفي غيرها من أمصار المسلمين كان هناك أئمة أعلام، لكن لماذا ركزنا على البصرة ؟

لأن ابن المديني رحمه الله نشأ فيها.

وكان هارون الرشيد رحمه الله معروفاً بالتواضع لأهل العلم، حتى أن أبا معاوية الضرير محمد بن خازن يقول: أكـلتُ عنـده -عند الرشيد - يوماً ثم قمت لأغسل يديَّ، فصب الماء عليَّ وأنا لا أرى، ثم قال -أي: الخليفة-: يا أبا معاوية ! أتدري من يصب عليك الماء؟

قلت: لا.

قال: يصب عليك أمير المؤمنين.

قال أبو معاوية : فدعوت له.

فقال هارون : إنما أردت تعظيم العلم.

وبعد هارون الرشيد اشتهر من الخلفاء: المأمون ، وقد وصفه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بقوله: "كانت له بصيرة بعلوم متعددة؛ فقهاً وطباً وشعراً وفرائض وكلاماً ونحواً وغريبَ حديثٍ وعلمَ النجوم".

ولكن الرجل اغتالته عقول المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وحصل أيضاً أن المأمون قد شجع حركة الترجمة في ذلك العصر من لغة اليونان.. وغيرها من اللغات.

ولما اتسعت الفتوحات أرسل المأمون من يشتري المصنفات والخزائن -خزائن الكتب من المدن المختلفة- وفرَّغ من يترجمها، وأُودعت في بيتٍ يسمى: "بيت الحكمة" وكان قد أسسه هارون الرشيد ، فعمد المأمون على تزويده بشتى الكتب، حتى أصبح بيت الحكمة من أكبر خزائن الكتب في العصر العباسي، لكن هذه الترجمة لم تمر دون ضريبة، فقد دخل عن طريق هذه الترجمة ما دخل من الانحرافات على الجسم الإسلامي أو المجتمع الإسلامي، وهذا هو عصر علي بن المديني رحمه الله.

لا شك أن هذه الفترة كانت فترة استقرار في الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ووصلت إلى أوج قوتها وعظمتها، حتى قال ابن طبا طبا رحمه الله: "واعلم -عَلِمْتَ الخيرَ- أن هذه الدولة -العباسية- من كبار الدول، ساست العالَمَ سياسةً ممزوجةً بالدين والمُلك، فكان أخيار الناس وصلحاؤهم يطيعونها تديناً، والباقون يطيعونها رهبةً أو رغبةً، ثم مكثت فيهم الخلافة والمُلك حدود ستمائة سنة".

وكانت هذه الدولة -ولا شك- في أولها وفي قوتها غُرَّةً في جبين الدهر، وتاجاً على مفرق العصر، كما ذكر ذلك المؤرخون.

وبطبيعة الحال كان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت مجتمعاً قوياً، وكانت فيه الأموال كثيرة، وظهرت طبقات من الأغنياء، وظهرت مظاهر الترف والبذخ والتفنن في العُمْران.. وغير ذلك.

وكان من أشهر خلفاء هذه الفترة: هارون الرشيد رحمه الله، الذي امتدت رقعة المملكة في عصره إلى معظم الدنيا، ولَمْ يَجتمع على باب خليفة من الشعراء، والأمراء، والعلماء، والفقهاء، والقرَّاء، والقضاة، والكتَّاب، ما اجتمع على باب الرشيد رحمه الله.

وكذلك انتشر في ذلك العهد القُصَّاص الذين كانوا يتكسبون بإيراد القصص والأساطير على الناس مما لا يكون له صحة غالباً، فحصل من علماء أهل السنة تبيان حال هؤلاء القُصَّاص، وقال ابن المديني رحمه الله: أكذب الناس ثلاثة:

- القُصَّاص.

- والسُّؤَّال -أي: الذين يسألون.

- والوجوه -أي الوجهاء- قلت: فما بال الوجوه؟

قال: يكذبون في مجالسهم، ولا يُرَدُّ عليهم.

فهذا شيء مما كان في عصره.

أما بالنسبة للحركة العلمية، فلا شك أنها كانت حركة علمية قوية جداً في ذلك الوقت، وصارت بغداد حاضرة العالم الإسلامي، يأتي إليها طلاب العلم من كل صوب وحدب، ويقصدونها لينهلوا منها، وكان منهم بطبيعة الحال: علي بن المديني رحمه الله الذي قدم بغداد، ونَبَغ في المدن الإسلامية في ذلك الوقت من المحدِّثين عدد من أهل العلم:

فمن الذين نبغوا في البصرة ؟

يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وكلاهما قد توفي في سنة (198هـ) وأخذ عنهما ابن المديني رحمه الله وتخرج.

وكذلك نبغ فيها أيضاً: إسماعيل بن عُلَيَّة ، وعفان بن مسلم ، وأبو الوليد الطيالسي .

وفي غيرها من أمصار المسلمين كان هناك أئمة أعلام، لكن لماذا ركزنا على البصرة ؟

لأن ابن المديني رحمه الله نشأ فيها.

وكان هارون الرشيد رحمه الله معروفاً بالتواضع لأهل العلم، حتى أن أبا معاوية الضرير محمد بن خازن يقول: أكـلتُ عنـده -عند الرشيد - يوماً ثم قمت لأغسل يديَّ، فصب الماء عليَّ وأنا لا أرى، ثم قال -أي: الخليفة-: يا أبا معاوية ! أتدري من يصب عليك الماء؟

قلت: لا.

قال: يصب عليك أمير المؤمنين.

قال أبو معاوية : فدعوت له.

فقال هارون : إنما أردت تعظيم العلم.

وبعد هارون الرشيد اشتهر من الخلفاء: المأمون ، وقد وصفه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بقوله: "كانت له بصيرة بعلوم متعددة؛ فقهاً وطباً وشعراً وفرائض وكلاماً ونحواً وغريبَ حديثٍ وعلمَ النجوم".

ولكن الرجل اغتالته عقول المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وحصل أيضاً أن المأمون قد شجع حركة الترجمة في ذلك العصر من لغة اليونان.. وغيرها من اللغات.

ولما اتسعت الفتوحات أرسل المأمون من يشتري المصنفات والخزائن -خزائن الكتب من المدن المختلفة- وفرَّغ من يترجمها، وأُودعت في بيتٍ يسمى: "بيت الحكمة" وكان قد أسسه هارون الرشيد ، فعمد المأمون على تزويده بشتى الكتب، حتى أصبح بيت الحكمة من أكبر خزائن الكتب في العصر العباسي، لكن هذه الترجمة لم تمر دون ضريبة، فقد دخل عن طريق هذه الترجمة ما دخل من الانحرافات على الجسم الإسلامي أو المجتمع الإسلامي، وهذا هو عصر علي بن المديني رحمه الله.

بالنسبة لنسبه رحمه الله فهو: علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السندي -مولاهم- البصري، المعروف بـابن المديني .

ونسبة علي بن المديني إلى السندي نسبة ولاء، ليس من القوم، وإنما هو مولاهم.

وأما لقب المديني بفتح الميم وكسر الدال، فإنها نسبة إلى المدينة ، والقياس بالنسبة إلى المدينة أن يقال: مدني، المدني، ولكن هذه الكلمة جرت على غير القياس.

وقال ياقوت الحموي: "المشهور عندنا أن النسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم : مدني -مطلقاً- وإلى غيرها من المدن مديني، للفرق لا لعلة أخرى". وهذا رأي من الآراء.

قال: وربما رده بعضهم إلى الأصل، فنسب إلى مدينة الرسول أيضاً: مديني، قال: وعلى هذه الصيغة يُنسب أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السندي والمعروف بـابن المديني ، كان أصله من المدينة ونزل البصرة .

أما كنيته رحمه الله فهي: أبو الحسن ، كما قال ذلك معاصره محمد بن سعد رحمه الله تعالى، ولعله لم يكن له ولد يسمى بالحسن، لكن قد يكون كني بكنية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث أن اسمه يوافق اسمه، فأخذ الكنية من ذلك.

أصل الإمام علي بن المديني من المدينة المنورة ، ولكنه بصري الدار، ولد بـالبصرة في خلافة المهدي العباسي في سنة (161هـ) كما تقدم.

ومن الذي ارتحل من المدينة إلى البصرة ؟ هل هو أبوه أو جده؟

في هذه المسألة خلاف.

ووالد ابن المديني يروي عن عبد الله بن دينار وطبقة من علماء المدينة .

كان والد الإمام علي بن المديني من العلماء، وهو: عبد الله بن جعفر بن نجيح السندي ، ويكنى: بـأبي جعفر ، روى عن عدد من العلماء، مثل:

إبراهيم بن مُجَمِّع ، وثور بن زيد الديلي ، وجعفر بن محمد الصادق ، وزيد بن أسلم ، وسعيد بن جبير.. وغيرهم كثير من العلماء العشرات الذين ذُكروا في ترجمته فيمن روى عنهم.

قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "وأبوه - أبو علي بن المديني - محدثٌ مشهور، روى عن غير واحد من مشيخة أنس بن مالك رحمه الله تعالى".

إذاً: أبوه محدثٌ مشهور، كما قال الحافظ ابن تغري بردي رحمه الله.

ولعله قد أصابه تغير في آخر عمره، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في التقريب في ترجمته: "ضعيف، تغيَّر حفظه بآخر عمره"، فهذا سبب ضعفه، أما هو من حيث الأصل، فهو محدثٌ مشهورٌ.

كانت أم ابن المديني جدها جمهان وهو من المحدثين، وكانت عاقلة لبيبة، ويدل على ذلك أن علي بن المديني -ولدها- لما غاب في إحدى السفرات وترك أمه بـالبصرة فترة طويلة، فعندما رجع إلى البصرة ، فرحت به وقرت عينها برجوعه بعدما اكتسب علماً، فقالت له كما ينقل هو عنها: غبتُ عن البصرة في مخرجي إلى اليمن -وكان مخرجه قرابة ثلاث سنوات- وأمي حية، قال: فلما قدمت عليها، جعلت تقول: يا بني! فلانٌ لك صديق، وفلانٌ لك عدو.

فقلت لها: من أين علمتِ يا أُمَّة؟

قالت: كان فلانٌ وفلانٌ -وذكرت فيهم: يحيى بن سعيد - يأتون مسلِّمين فيعزونني ويقولون: اصبري، فلو قـدم عـليك -أي: ولدك- سرك الله بما ترينه، فعلمتُ أن هؤلاء محبوك وأصدقاؤك، وفلانٌ وفلانٌ إذا جاءوا قالوا لي: اكتبي إليه وضيقي عليه وحرجي عليه ليقدم عليكِ... إلخ الكلام.

فكانت تستدل على الصداقة والعداوة من حرصهم على مصلحته، فالذين يتظاهرون بالحرص عليها، ويقولون: ضيقي عليه.. حرجي عليه، بيني له أنك غضبانة عليه إذا لم يرجع في الحال، فعلمت أن هؤلاء لا يتكلمون في مصلحته.

فكانت تعرف أصدقاءه من أعدائه من هذه القرينة، ولذلك يُسجل لها موقف عظيم في أنها لم تضجر لغياب ولدها الطويل ما دام ذلك في مصلحة الولد، وأنه قد ذهب في تحصيل العلم.

أما ما كان لـعلي بن المديني رحمه الله من الأولاد، فقد ذُكِر أن له ولدان، هما: محمد ، وعبد الله ، وقد رويا عن أبيهما، وكان يصطحب معه أولاده إلى مجالس المحدثين، وقد ورد في ذلك قصة وقعت لـمحمد بن علي بن المديني حيث يخبرنا عنه ابنه جعفر ، فيقول: سمعت أبي يقول: خرج أبي إلى أحمد بن حنبل يعوده وأنا معه، قال: فدخل عليه وعنده يحيى بن معين وذكر جماعة من المحدثين، قال: فدخل أبو عبيد القاسم بن سلاَّم ، فقال له يحيى بن معين : اقرأ علينا كتابك الذي عملته للمأمون - غريب الحديث ، وهو من الكتب المشهورة في تبيان معاني الكلمات الغريبة أو الصعبة في الأحاديث- فأخذه أبو عبيد فجعل يقرأ ويبدأ بالأسانيد ويدع تفسير الغريب.

قال: فقال له أبي -أي: علي رحمه الله-: يا أبا عبيد ! دعنا من الأسانيد نحن أحذق بها منك.

فقال يحيى بن معين لـعلي بن المديني : دعه يقرأ على الوجه، فإن ابنك محمداً معك، أي: إذا كنت حاذقاً بهذا العلم، فإن ولدك يحتاجه.

إذاً: الشاهد: أنه كان رحمه الله يعتني بأخذ أولاده إلى مجالس الحديث.

وهذه فائدة مهمة بالنسبة لطلبة العلم ألا يحرموا أولادهم العلم وخاصة إذا بلغوا سناً يميزون به ويستفيدون من الحضور، فعليهم أن يأخذوا أولادهم إلى مجالس العلم، وبعض الطلبة ينسى أخذ أولاده إلى حلق العلم، حتى قال بعض المحدثين -وربما صدق في ذلك- أربعة لا فائدة منهم: فذكر:

- حارس الدرب، ومنادي القاضي، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب العلم، وابن المحدث؛ لأن أغلبهم يشتغل عن أولاده، فلا يهتم بتربيتهم ألبتة.

وأرَّخ البخاري رحمه الله لوفاة شيخه علي بن المديني في يوم الإثنين، ليومين بقيا من ذي القعدة، سنة: (234هـ)، فهذه سنة وفاة علي رحمه الله تعالى.

أمابالنسبة لسيرة هذا الإمام وأخلاقه، فإنه -رحمه الله- كان صاحب ورعٍ ونزاهةٍ.

قال ابن حبان في الحديث عن الأئمة النقاد في الحديث: "مِن أورعهم في الدين، وأكثرهم تفتيشاً عن المتروكين، وألزمهم بهذه الصناعة على دائم الأوقات:

أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني رحمة الله تعالى عليهم أجمعين"، فعدَّ علي بن المديني منهم.

أبو نعيم وتزكيته لابن المديني

والقصة المشهورة في خروج بعض المحدثين إلى أبي نعيم الفضل بن دكين ، وهذه القصة أخرجها الخطيب رحمه الله بسنده إلى أبي العباس بن عقدة يقول: خرج أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني إلى الكوفة إلى أبي نعيم ، فدلس يحيى بن معين أربعة أحاديث على أبي نعيم ، فلما فرغوا، رفس أبو نعيم يحيى بن معين حتى قلبه، ثم قال: أما أحمد فيمنعه ورعه من هذا، وأما هذا -أي: علي بن المديني - فتحنيثه -أي: عبادته وتقواه- يمنعه من ذلك, وأما أنت فهذا من عملك.

قال يحيى: "فكانت تلك الرفسة أحب إليَّ من كل شيء".

وقد وردت القصة بسياق آخر مختلف: أن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ومعهما ثالثٌ صغيرٌ في السن ذهبوا إلى أبي نعيم الفضل بن دكين ، فقال يحيى لـأحمد: أريد أن أختبر الرجل.

قال: لا حاجة إلى ذلك، فقال: لا بد من اختباره، فأخذ من أحاديث أبي نعيم عشرة أحاديث كلها من رواية أبي نعيم الفضل بن دكين وجعل على رأسها واحداً ليس من حديثه.. وهكذا جعل على كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديث أبي نعيم ، ثم جاء إليهم فجلسوا، وكان على دكة له -مكان مرتفع -مسطبة- جلسوا عليها- فبدأ يحيى بن معين بسرد الأحاديث، على طريقة الطلاب والشيوخ، يقول: حدثكم فلان عن فلان عن فلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثكم فلان عن فلان، والشيخ يوافق، وبهذا يكون مجلس الحديث والطالب يحدث عن الشيخ بعد ذلك بهذا المجلس، ولما سرد عليه مجموعة من الأحاديث -في كل ذلك وأبو نعيم يهز برأسه موافقاً- فلما بلغ الحديث الذي ليس من حديثه، توقف أبو نعيم وقال: اضرب عليه، فهذا ليس من حديثي، ثم سرد الأحاديث التي بعدها، وكل ذلك يوافق عليه حتى وصل إلى حديث، فقال: اضرب عليه فهذا ليس من حديثي، فلما تكررت، فطن لها أبو نعيم -فطن أن القضية قضية اختبار- فقال: أما هذا -أي: أحمد بن حنبل- فأورع من أن يفعل ذلك، وأما هذا فأقل من أن يفعل ذلك، وإنه من عملك يا كذا، وأخرج رجله فرفسه فوقع من على الدكة، فلما رجعوا قال أحمد : ألم أقل لك؟ -أي: أن الرجل ثقة- فقال يحيى رحمه الله: لرَفْسَتُه أحب إليَّ من كذا وكذا.

في هذه الرواية أن علي بن المديني اصطحبهم، وأن أبا نعيم الفضل بن دكين شهد له بأن تحنثه -أي: تقواه وعبادته- يمنعه من أن يفعل هذا.

وكان علي بن المديني رحمه الله حريصاً على طاعة الله وأداء واجباته، فجاءت قصة:

قال أحمد بن حنبل : حضرت عند إبراهيم بن أبي الليث ، وحضر علي بن المديني ، وعباس العنبري ، وجماعة كثيرة، فنودي لصلاة الظهر، فقال علي بن المديني: نخرج إلى المسجد، أو نصلي هاهنا؟ إلى آخر القصة.

فكان الذي اقترح أو الذي ابتدأ باقتراح الخروج إلى المسجد هو علي بن المديني رحمه الله، ولعله جاء بالكلام على طريقة سؤال؛ لأنه يرى أن هناك في المجلس من هو أكثر منه علماً.

وكان رفيقاً حميماً للإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكان صديقاً أيضاً للعالم الرباني محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، ولذلك يقول عن صداقته للشافعي: كان الشافعي لي صديقاً، وكان سبب معرفتي إياه عند ابن عيينة ، وكان ابن عيينة يجله ويعظِّمه -ابن عيينة شيخٌ للشافعي ، وشيخٌ أيضاً لـعلي بن المديني ، وتعرَّف علي بن المديني على الشافعي عند ابن عيينة - وهكذا لا زال الأخيار يتعرف بعضهم على بعض عند الأخيار، وكانت مجالس العلماء وسيلة للتعارف بين طلبة العلم، ويستفيدون أشخاصاً أجلاء من خلال هذه الحِلَق والتلاقي، وهذا هو الوضع الطبيعي للوضع المتوقع لهذه الحِلَق التي هي حِلَق ذكر الله؛ لأنها تضم الأخيار والطيبين والعلماء، ومنها تنطلق وتعقد أواصر التعارف. وهذه أيضاً فائدة من الفوائد التي ينبغي التوقف عندها.

تأثر ابن المديني بأخلاق مشايخه

كان علي بن المديني رحمه الله حريصاً على حضور مجالس العبادة والذكر بصحبة الصالحين، يقول ابن المديني رحمه الله: كنا عند يحيى بن سعيد القطان، فلما خرج من المسجد خرجنا معه - القطان هذا من كبار العلماء- فلما صار بباب داره وقف ووقفنا معه، فانتهى إليه الروبي -ولعل هذه صفة، أو اسم لشخص كان قارئاً يجيد قراءة القرآن- فقال يحيى لما رآه: ادخلوا، فدخلنا -رأى هؤلاء الجماعة وفيهم قارئ حسن الصوت، أدخلهم جميعاً لعله يكون مجلساً إيمانياً، جلسوا في المجلس- فقال للروبي: اقرأ، فلما أخذ في القراءة، قال علي المديني: فنظرت إلى يحيى قد تغير وجهه انفعالاً وتأثراً بالقراءة حتى بلغ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40] غُشِي عليه -أي: على يحيى رحمه الله- وكان هناك باب قريب منه، فانقلب عليه، فأصاب فقار ظهره وسال الدم، فصرخت النساء، وخرجنا فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا -خرجوا لأجل تمكين النساء من الدخول للمعالجة المعاينة، وهذا من الأدب، قال: فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا، ثم دخلنا عليه فإذا هو نائم على فراشه وهو يقول: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40] -يكرر الآية التي سمعها من القارئ- فما زالت فيه تلك القرحة حتى مات رحمه الله، وقد ذكر هذه القصة الذهبي في سير أعلام النبلاء .

إذاً: علي بن المديني رحمه الله ممن عايش أولئك الأئمة، وهم أناس يخافون الله، يبكي الواحد منهم عند سماعه لكتاب الله تعالى حتى يُغشَى عليه، ولذلك يكتسبون مع العلم الخشوع، لم تكن المسألة فقط مجرد فوائد علمية، أو مجرد معلومات، إنما أشياء مع الخشوع، والأدب، والإيمان، والتقوى، والزهد.. وهكذا يتعلمون العلم والأدب.. العلم والإيمان جميعاً، وهذه هي الطريقة الصحيحة في التعليم، وليست إلقاء المعلومات.

وكثيرٌ من المَجالس التي تَحصل ربما يكون قصارى ما فيها إلقاء معلومات، أما أن يتأثروا من بعض الحاضرين أو من الشيخ فهذا قليل مع الأسف! ولذلك فإن صحبة العلماء العاملين الصالحين هي المكسب الحقيقي وهي الفائدة.

وكان علي بن المديني رحمه الله يتتبع شيوخه في جانب العبادة، فقال ابنٌ لـيحيى بن سعيد : إن أباه كان يختم القرآن في كل يوم. قال علي : فتفقدته وأنا معه في البستان، فختمه في ذلك الوقت، فكان يتتبع شيخه ليتأسى به، ونحن نعرف أن القرآن لا يفقه في أقل من ثلاثة أيام؛ ولكن لأسباب ذكرها العلماء، وقد كان بعض السلف يختمون في كل يوم.

وكذلك من الأشياء التي تأثر بها علي بن المديني رحمه الله، من القصص التي حصلت له ونقشت في قلبه أشياء:

قال محمد بن نصر : سمعت علي بن المديني يقول: إني أزور امرأة عبد الرحمن بن مهدي بعد موته - عبد الرحمن بن مهدي من كبار العلماء، وهذا وفاء لـعبد الرحمن كان يزور أهله- فرأيت سواداً في قبلة البيت، فقلت: ما هذا؟

فقالت: هذه موضع استراحة عبد الرحمن ، كان يصلي بالليل، فإذا غلبه النوم وضع جبهته على هذا الموضع، أي: اتكأ عليه حتى لا يستغرق، فإذا غلبه النوم، وضع جبهته على هذا الموضع.

تواضع علي بن المديني

وكذلك فإن علياً رحمه الله كان من المتواضعين، ومما يدل على تواضعه وحسن خلقه الآتي:

كان ابن المديني رفيقاً وصديقاً وقريناً لـأحمد بن حنبل ، لكنه كان يقول: قال لي سيدي أحمد بن حنبل : لا تحدث إلا من كتاب.

وقال مرة: نهاني سيدي أحمد بن حنبل أن أحدث إلا من كتاب.

وقال فيه: لنا فيه أسوة حسنة.

- وكان رحمه الله لا يتردد في الاستفادة ممن هو أصغر منه في السن، وكان يقول: إن العلم ليس بالسن.

- قال محمد بن يونس القديمي البصري وهو أحد تلاميذ ابن المديني: "قال لي ابن المديني : عندك ما ليس عندي"، وهذا من التواضع، فلو حصل لبعض الناس ربما تظاهر أمام التلميذ أنه يعرف المعلومة منذ زمن بعيد، أما أن يقول: إنني استفدتها منك، أو عندك ما ليس عندي، فهذا بعيد عمن لم يكن من أهل التواضع، فكان ابن المديني يقول لتلميذه محمد بن يونس القديمي : عندك ما ليس عندي.

وكان إذا مُدِحَ يأبى ذلك ويحول الكلام، فعندما ذكر له قول محمد بن إسماعيل البخاري : ما تصاغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ، قال: ذروا قوله، هو ما رأى مثل نفسه.

خطر في ذهن أحمد بن حنبل أن يسافر مع علي بن المديني إلى مكة، ولكن خوفه على ذهاب تلك الأخوة والمحبة ترك السفر معه، حيث قال أحمد بن حنبل: إني لأشتهي أن أصحبك إلى مكة ، وما يمنعني إلا خوف أن أمَلَّك أو تَمَلَّني.

قال علي بن المديني : فلما ودعته، قلت: أوصني.

قال أحمد بن حنبل: اجعل التقوى زادك، وانصب الآخرة أمامك.

فالعادة أن الأدنى يطلب الوصية من الأعلى.

علي بن المديني رحمه الله كان قريناً لـأحمد وصديقاً له ولم يكن تلميذاً، ومع ذلك يقول لـأحمد رحمه الله: أوصني، وهذا من تواضعه رحمه الله تعالى.

وفيه من الفائدة: أنه أحياناً ربما ترك الأخ مخالطة أخيه الطويلة خشية حدوث الملل من الصحبة، حفاظاً على المودة، أو دواماً وإبقاءً للعلاقة بحيث لا تفتر، أي: ترك الخلطة الزائدة إبقاءً لدرجة الأخوة ألَّا تنزل أو تهبط.

حرص ابن المديني على مصلحة إخوانه

وكذلك فإن علي بن المديني رحمه الله كان حريصاً على أهل الحديث، ناصحاً لهم، وإذا وجد فائدة لأحدهم ذكرها له، فقال سعيد بن سعد البخاري نزيل الري: سمعت مسلم بن إبراهيم يقول: كانت الكتب التي عند أبي داود لـعمرو بن مرزوق ، وقال: عمرو رجل كثير الغزو -يغزو في البحر- فكانت الكتب عند أبي داود إلى أن مات أبو داود ، فلما مات أبو داود حولها عمرو بن مرزوق .

قال سعيد : فقال لي علي بن المديني : اختلف إلى مسلم بن إبراهيم ، ودع عمرو بن مرزوق .

قال: فأتيت مسلماً في يوم مجلس عمرو بن مرزوق، فقال لي: اليوم مجلس عمرو بن مرزوق كيف جئتني؟

فقلت: إن علي بن المديني أمرني أن آتيك.

فكان علي بن المديني رحمه الله ينصح الشخص بمن يفيده أكثر، فربما يكون هذا الشخص ليس متقناً في الحديث، أو ليس له ذاك الباع، أو كان مشتغلاً بالغزو، فلن يحصل له كثير تفنن، أو إتقان، أو غيره أعلم منه! بل كان يقول للطالب: اترك هذا وائت هذا؛ من أجل فائدته، فأمر علي بن المديني سعيد بن سعد البخاري بالاختلاف إلى مسلم بن إبراهيم ، وترك الأخذ عن عمرو بن مرزوق ؛ لأن مسلم بن إبراهيم إمام ثقة، وأما عمرو بن مرزوق فكان متكلَّماً فيه عند ابن المديني ، ولم يكن بثقة في علم الحديث؛ لكنه من جهة أخرى كان مجاهداً كبيراً.

وهكذا دأب الإنسان الحريص على مصلحة إخوانه أنه يخبرهم بالفائدة، يقول: هذا الشيخ أحسن وأفيد لك، هذا أغزر علماً، الزم فلاناً، دع هذا واذهب إلى الآخر، لا لهوى شخصي، وإنما حرصاً على مصلحة أخيه، أو على مصلحة الطالب.

ومن باب عدم الحسد -أيضاً- على الإنسان أن يدل غيره على الخير، وعلى المكان الأكثر فائدة، وعلى الشيخ الأكثر علماً، هذا من دأب أهل العلم.

ابن المديني وتوقيره لأهل العلم

كان علي بن المديني رحمه الله موقراً لأهل العلم، فجاء عن إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب ، قال: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه علي بن المديني، وابن الشاذكوني ، وعمرو بن علي، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين.. وغيرهم، يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً وإعظاماً.

هذا من تبجيله مع قرنائه لأهل العلم.

وذكر الخطيب أيضاً، عن فتح بن نوح النيسابوري ، قال: أتيت علي بن المديني ، فرأيت محمد بن إسماعيل جالساً عن يمينه، وكان إذا حدث ابن المديني التفت إلى البخاري كأنه يهابه، مع أن البخاري تلميذ عند علي بن المديني ؛ لكن علي بن المديني كان يلتفت إلى البخاري في كل معلومة أو كلام أو حديث؛ هيبةً له، وكأنه ينظر هل يوافق عليه محمد بن إسماعيل أو عنده اعتراض؟ وكذلك نظرة احترام وهيبة إلى محمد بن إسماعيل مع أنه كان تلميذاً عند علي بن المديني رحمه الله.

مباسطة ابن المديني وحسن خلقه

وكان رحمه الله تعالى أيضاً صاحب خلق حسن وصاحب مباسطة:

فمن المباسطات التي حصلت له مع بعض أصحابه قال جعفر بن محمد الصائغ : اجتمع علي بن المديني ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل ، وعفان بن مسلم . فقال عفان مباسطاً لهم: ثلاثةٌ يضعَّفون في ثلاثة...

طبعاً بعض الرواة ثقة، لكنه ضعيف في شيخ معين، فمثلاً: هشيم ثقة، لكنه يضعَّف في الزهري ، لماذا؟ لأنه دخل عليه في مجلس قصير، فسمع منه عشرين حديثاً، فلم يحفظها هشيم ، بل كتبها كتابة، فلما خرج هشيم من عند الزهري ، فُقِدَت الورقة، فصار هشيم يحدِّث مما علِق في ذهنه من حديث الزهري ، فاختلط عليه حديث الزهري، فـهشيم يضعَّف في الزهري ، لكنه في غير الزهري ثقة، فهناك رواة ثقات في كل شيخ إلا في شيخ معين يكون عليهم ملاحظة، أو ضعف لسبب من الأسباب، فهؤلاء: ابن أبي شيبة ، وعلي بن المديني ، وأحمد بن حنبل ، وعفان بن مسلم كلهم ثقات، ولا يوجد ضعف في أحدٍ منهم أبداً.

فيقول عفان بن مسلم مباسطاً لهم: ثلاثة يُضعَّفون في ثلاثة:

- علي بن المديني في حماد بن زيد .

- و أحمد بن حنبل في إبراهيم بن سعد .

- و أبو بكر بن أبي شيبة في شريك .

قال علي بن المديني ، ورابعٌ معهم.

قال: ومن ذلك؟

قال: عفان في شعبة .

وقال عبد الله بن علي بن المديني : حدثني أبي، قال: جعل إنسان يحدث عن ابن المبارك عن الواقدي .

فقال: صرنا إلى بحر الواقدي ، أي: دخلنا في بحر الواقدي والواقدي معروف بضعفه.

والقصة المشهورة في خروج بعض المحدثين إلى أبي نعيم الفضل بن دكين ، وهذه القصة أخرجها الخطيب رحمه الله بسنده إلى أبي العباس بن عقدة يقول: خرج أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني إلى الكوفة إلى أبي نعيم ، فدلس يحيى بن معين أربعة أحاديث على أبي نعيم ، فلما فرغوا، رفس أبو نعيم يحيى بن معين حتى قلبه، ثم قال: أما أحمد فيمنعه ورعه من هذا، وأما هذا -أي: علي بن المديني - فتحنيثه -أي: عبادته وتقواه- يمنعه من ذلك, وأما أنت فهذا من عملك.

قال يحيى: "فكانت تلك الرفسة أحب إليَّ من كل شيء".

وقد وردت القصة بسياق آخر مختلف: أن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ومعهما ثالثٌ صغيرٌ في السن ذهبوا إلى أبي نعيم الفضل بن دكين ، فقال يحيى لـأحمد: أريد أن أختبر الرجل.

قال: لا حاجة إلى ذلك، فقال: لا بد من اختباره، فأخذ من أحاديث أبي نعيم عشرة أحاديث كلها من رواية أبي نعيم الفضل بن دكين وجعل على رأسها واحداً ليس من حديثه.. وهكذا جعل على كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديث أبي نعيم ، ثم جاء إليهم فجلسوا، وكان على دكة له -مكان مرتفع -مسطبة- جلسوا عليها- فبدأ يحيى بن معين بسرد الأحاديث، على طريقة الطلاب والشيوخ، يقول: حدثكم فلان عن فلان عن فلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثكم فلان عن فلان، والشيخ يوافق، وبهذا يكون مجلس الحديث والطالب يحدث عن الشيخ بعد ذلك بهذا المجلس، ولما سرد عليه مجموعة من الأحاديث -في كل ذلك وأبو نعيم يهز برأسه موافقاً- فلما بلغ الحديث الذي ليس من حديثه، توقف أبو نعيم وقال: اضرب عليه، فهذا ليس من حديثي، ثم سرد الأحاديث التي بعدها، وكل ذلك يوافق عليه حتى وصل إلى حديث، فقال: اضرب عليه فهذا ليس من حديثي، فلما تكررت، فطن لها أبو نعيم -فطن أن القضية قضية اختبار- فقال: أما هذا -أي: أحمد بن حنبل- فأورع من أن يفعل ذلك، وأما هذا فأقل من أن يفعل ذلك، وإنه من عملك يا كذا، وأخرج رجله فرفسه فوقع من على الدكة، فلما رجعوا قال أحمد : ألم أقل لك؟ -أي: أن الرجل ثقة- فقال يحيى رحمه الله: لرَفْسَتُه أحب إليَّ من كذا وكذا.

في هذه الرواية أن علي بن المديني اصطحبهم، وأن أبا نعيم الفضل بن دكين شهد له بأن تحنثه -أي: تقواه وعبادته- يمنعه من أن يفعل هذا.

وكان علي بن المديني رحمه الله حريصاً على طاعة الله وأداء واجباته، فجاءت قصة:

قال أحمد بن حنبل : حضرت عند إبراهيم بن أبي الليث ، وحضر علي بن المديني ، وعباس العنبري ، وجماعة كثيرة، فنودي لصلاة الظهر، فقال علي بن المديني: نخرج إلى المسجد، أو نصلي هاهنا؟ إلى آخر القصة.

فكان الذي اقترح أو الذي ابتدأ باقتراح الخروج إلى المسجد هو علي بن المديني رحمه الله، ولعله جاء بالكلام على طريقة سؤال؛ لأنه يرى أن هناك في المجلس من هو أكثر منه علماً.

وكان رفيقاً حميماً للإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكان صديقاً أيضاً للعالم الرباني محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، ولذلك يقول عن صداقته للشافعي: كان الشافعي لي صديقاً، وكان سبب معرفتي إياه عند ابن عيينة ، وكان ابن عيينة يجله ويعظِّمه -ابن عيينة شيخٌ للشافعي ، وشيخٌ أيضاً لـعلي بن المديني ، وتعرَّف علي بن المديني على الشافعي عند ابن عيينة - وهكذا لا زال الأخيار يتعرف بعضهم على بعض عند الأخيار، وكانت مجالس العلماء وسيلة للتعارف بين طلبة العلم، ويستفيدون أشخاصاً أجلاء من خلال هذه الحِلَق والتلاقي، وهذا هو الوضع الطبيعي للوضع المتوقع لهذه الحِلَق التي هي حِلَق ذكر الله؛ لأنها تضم الأخيار والطيبين والعلماء، ومنها تنطلق وتعقد أواصر التعارف. وهذه أيضاً فائدة من الفوائد التي ينبغي التوقف عندها.

كان علي بن المديني رحمه الله حريصاً على حضور مجالس العبادة والذكر بصحبة الصالحين، يقول ابن المديني رحمه الله: كنا عند يحيى بن سعيد القطان، فلما خرج من المسجد خرجنا معه - القطان هذا من كبار العلماء- فلما صار بباب داره وقف ووقفنا معه، فانتهى إليه الروبي -ولعل هذه صفة، أو اسم لشخص كان قارئاً يجيد قراءة القرآن- فقال يحيى لما رآه: ادخلوا، فدخلنا -رأى هؤلاء الجماعة وفيهم قارئ حسن الصوت، أدخلهم جميعاً لعله يكون مجلساً إيمانياً، جلسوا في المجلس- فقال للروبي: اقرأ، فلما أخذ في القراءة، قال علي المديني: فنظرت إلى يحيى قد تغير وجهه انفعالاً وتأثراً بالقراءة حتى بلغ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40] غُشِي عليه -أي: على يحيى رحمه الله- وكان هناك باب قريب منه، فانقلب عليه، فأصاب فقار ظهره وسال الدم، فصرخت النساء، وخرجنا فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا -خرجوا لأجل تمكين النساء من الدخول للمعالجة المعاينة، وهذا من الأدب، قال: فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا، ثم دخلنا عليه فإذا هو نائم على فراشه وهو يقول: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40] -يكرر الآية التي سمعها من القارئ- فما زالت فيه تلك القرحة حتى مات رحمه الله، وقد ذكر هذه القصة الذهبي في سير أعلام النبلاء .

إذاً: علي بن المديني رحمه الله ممن عايش أولئك الأئمة، وهم أناس يخافون الله، يبكي الواحد منهم عند سماعه لكتاب الله تعالى حتى يُغشَى عليه، ولذلك يكتسبون مع العلم الخشوع، لم تكن المسألة فقط مجرد فوائد علمية، أو مجرد معلومات، إنما أشياء مع الخشوع، والأدب، والإيمان، والتقوى، والزهد.. وهكذا يتعلمون العلم والأدب.. العلم والإيمان جميعاً، وهذه هي الطريقة الصحيحة في التعليم، وليست إلقاء المعلومات.

وكثيرٌ من المَجالس التي تَحصل ربما يكون قصارى ما فيها إلقاء معلومات، أما أن يتأثروا من بعض الحاضرين أو من الشيخ فهذا قليل مع الأسف! ولذلك فإن صحبة العلماء العاملين الصالحين هي المكسب الحقيقي وهي الفائدة.

وكان علي بن المديني رحمه الله يتتبع شيوخه في جانب العبادة، فقال ابنٌ لـيحيى بن سعيد : إن أباه كان يختم القرآن في كل يوم. قال علي : فتفقدته وأنا معه في البستان، فختمه في ذلك الوقت، فكان يتتبع شيخه ليتأسى به، ونحن نعرف أن القرآن لا يفقه في أقل من ثلاثة أيام؛ ولكن لأسباب ذكرها العلماء، وقد كان بعض السلف يختمون في كل يوم.

وكذلك من الأشياء التي تأثر بها علي بن المديني رحمه الله، من القصص التي حصلت له ونقشت في قلبه أشياء:

قال محمد بن نصر : سمعت علي بن المديني يقول: إني أزور امرأة عبد الرحمن بن مهدي بعد موته - عبد الرحمن بن مهدي من كبار العلماء، وهذا وفاء لـعبد الرحمن كان يزور أهله- فرأيت سواداً في قبلة البيت، فقلت: ما هذا؟

فقالت: هذه موضع استراحة عبد الرحمن ، كان يصلي بالليل، فإذا غلبه النوم وضع جبهته على هذا الموضع، أي: اتكأ عليه حتى لا يستغرق، فإذا غلبه النوم، وضع جبهته على هذا الموضع.

وكذلك فإن علياً رحمه الله كان من المتواضعين، ومما يدل على تواضعه وحسن خلقه الآتي:

كان ابن المديني رفيقاً وصديقاً وقريناً لـأحمد بن حنبل ، لكنه كان يقول: قال لي سيدي أحمد بن حنبل : لا تحدث إلا من كتاب.

وقال مرة: نهاني سيدي أحمد بن حنبل أن أحدث إلا من كتاب.

وقال فيه: لنا فيه أسوة حسنة.

- وكان رحمه الله لا يتردد في الاستفادة ممن هو أصغر منه في السن، وكان يقول: إن العلم ليس بالسن.

- قال محمد بن يونس القديمي البصري وهو أحد تلاميذ ابن المديني: "قال لي ابن المديني : عندك ما ليس عندي"، وهذا من التواضع، فلو حصل لبعض الناس ربما تظاهر أمام التلميذ أنه يعرف المعلومة منذ زمن بعيد، أما أن يقول: إنني استفدتها منك، أو عندك ما ليس عندي، فهذا بعيد عمن لم يكن من أهل التواضع، فكان ابن المديني يقول لتلميذه محمد بن يونس القديمي : عندك ما ليس عندي.

وكان إذا مُدِحَ يأبى ذلك ويحول الكلام، فعندما ذكر له قول محمد بن إسماعيل البخاري : ما تصاغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ، قال: ذروا قوله، هو ما رأى مثل نفسه.

خطر في ذهن أحمد بن حنبل أن يسافر مع علي بن المديني إلى مكة، ولكن خوفه على ذهاب تلك الأخوة والمحبة ترك السفر معه، حيث قال أحمد بن حنبل: إني لأشتهي أن أصحبك إلى مكة ، وما يمنعني إلا خوف أن أمَلَّك أو تَمَلَّني.

قال علي بن المديني : فلما ودعته، قلت: أوصني.

قال أحمد بن حنبل: اجعل التقوى زادك، وانصب الآخرة أمامك.

فالعادة أن الأدنى يطلب الوصية من الأعلى.

علي بن المديني رحمه الله كان قريناً لـأحمد وصديقاً له ولم يكن تلميذاً، ومع ذلك يقول لـأحمد رحمه الله: أوصني، وهذا من تواضعه رحمه الله تعالى.

وفيه من الفائدة: أنه أحياناً ربما ترك الأخ مخالطة أخيه الطويلة خشية حدوث الملل من الصحبة، حفاظاً على المودة، أو دواماً وإبقاءً للعلاقة بحيث لا تفتر، أي: ترك الخلطة الزائدة إبقاءً لدرجة الأخوة ألَّا تنزل أو تهبط.

وكذلك فإن علي بن المديني رحمه الله كان حريصاً على أهل الحديث، ناصحاً لهم، وإذا وجد فائدة لأحدهم ذكرها له، فقال سعيد بن سعد البخاري نزيل الري: سمعت مسلم بن إبراهيم يقول: كانت الكتب التي عند أبي داود لـعمرو بن مرزوق ، وقال: عمرو رجل كثير الغزو -يغزو في البحر- فكانت الكتب عند أبي داود إلى أن مات أبو داود ، فلما مات أبو داود حولها عمرو بن مرزوق .

قال سعيد : فقال لي علي بن المديني : اختلف إلى مسلم بن إبراهيم ، ودع عمرو بن مرزوق .

قال: فأتيت مسلماً في يوم مجلس عمرو بن مرزوق، فقال لي: اليوم مجلس عمرو بن مرزوق كيف جئتني؟

فقلت: إن علي بن المديني أمرني أن آتيك.

فكان علي بن المديني رحمه الله ينصح الشخص بمن يفيده أكثر، فربما يكون هذا الشخص ليس متقناً في الحديث، أو ليس له ذاك الباع، أو كان مشتغلاً بالغزو، فلن يحصل له كثير تفنن، أو إتقان، أو غيره أعلم منه! بل كان يقول للطالب: اترك هذا وائت هذا؛ من أجل فائدته، فأمر علي بن المديني سعيد بن سعد البخاري بالاختلاف إلى مسلم بن إبراهيم ، وترك الأخذ عن عمرو بن مرزوق ؛ لأن مسلم بن إبراهيم إمام ثقة، وأما عمرو بن مرزوق فكان متكلَّماً فيه عند ابن المديني ، ولم يكن بثقة في علم الحديث؛ لكنه من جهة أخرى كان مجاهداً كبيراً.

وهكذا دأب الإنسان الحريص على مصلحة إخوانه أنه يخبرهم بالفائدة، يقول: هذا الشيخ أحسن وأفيد لك، هذا أغزر علماً، الزم فلاناً، دع هذا واذهب إلى الآخر، لا لهوى شخصي، وإنما حرصاً على مصلحة أخيه، أو على مصلحة الطالب.

ومن باب عدم الحسد -أيضاً- على الإنسان أن يدل غيره على الخير، وعلى المكان الأكثر فائدة، وعلى الشيخ الأكثر علماً، هذا من دأب أهل العلم.