خطب ومحاضرات
الإمام الحسن البصري [1، 2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
وبعد:
فالحمد لله الذي قيض لهذه الأمة رجالاً ينيرون لها الطريق، ويحيون السنة، ويميتون البدعة، ويجددون الدين، ويتخلقون بأخلاق الأنبياء، فيكونون قدوة للناس، ومصلحين لأحوالهم، ومعلمين لهم، ومذكرين لهم بربهم.
ولا شك أن التعرف على سير هؤلاء العلماء الأجلاء من الأمور المطلوبة للإنسان المسلم ليقتدي، وتنوُّع القدوات مهمٌّ؛ لأن كل قدوة قد يكون له جانب من التفوق ليس عند الآخر، فإذا حرص الإنسان على تتبع أحوالهم، اجتمع فيه الخير.
وحديثنا في هذه الليلة -إن شاء الله تعالى- عن الإمام العلم الحسن البصري رحمه الله تعالى.
واسمه: الحسن بن يسار ، يلقب بـالبصري، ويُدعى تارة: بـابن أبي الحسن .
وكنيته رحمه الله: أبو سعيد .
وأبوه اسمه: يسار ، كان مولىً لـزيد بن ثابت في أحد الأقوال.
وأمه: خَيْرَة ، كانت مولاة لـأم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها.
يسار تزوج بـخَيْرَة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فولدت له الحسن لسنتين بقِيَتا من خلافة عمر رحمه الله.
وقال يونس عن الحسن : [قال لي
وكانت أم سلمة تبعث أم الحسن في الحاجة، فعندما تحتاج أم سلمة إلى شيء تبعث إليه أم الحسن ، ويبقى الولد عند أم سلمة رضي الله عنها، فيبكي وهو طفل، فتسكته أم سلمة بثدييها، وتخرجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وكانت أمه منقطعة لخدمة أم سلمة ، فكان الصحابة إذا أُخرج إليهم الحسن رضي الله عنهم يدعون له، فقيل: إنه أُخرج لـعمر رضي الله عنه، فدعا له، وقال: [اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس].
قال ابن كثير رحمه الله: وأمُّه خَيْرَة مولاة لـأم سلمة ، كانت تخدمها، وربما أرسلتها في حاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع، فتشاغله أم سلمة بثدييها، فيدران عليه.
وهذه مسألة تحصل في الواقع، من أن المرأة الكبيرة حتى لو انقطعت عن الزوج وعن الولادة بسبب الحنان قد يدر لبنها، ولذلك تكلم العلماء في حكم هذا اللبن، واختلفوا هل له حكم أم لا؟
وهل تكون أماً له من الرضاع؟
وهل تثبت به المحرمية؟
وكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة رضاعته من أم سلمة رضي الله عنها، من الثدي المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونلاحظ كذلك أثر بركة دعاء الصحابة رضي الله عنهم لهذا المولود، وكيف نشأ وصار بعد ذلك.
ولذلك يجب أن يكثر الإنسان من الدعاء لذريته، فقد يكون صلاحهم بدعائه، ودعوة منه قد تكون سبباً لصلاح الولد، ولذلك ندعو لهم ولا ندعو عليهم.
وفي كلام كثير من الصالحين دعاء للذرية: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].
كان الحسن رحمه الله في خلقته رجلاً جميلاً وسيماً، قال محمد بن سعد يصفه: كان الحسن رحمه الله جامعاً، عالماً، رفيعاً، فقيهاً، ثقةً، حجةً، مأموناً، عابداً، ناسكاً، كثيرَ العلم، فصيحاً، جميلاً، وسيماً.
وقال الذهبي : قلت: كان رجلاً تامَّ الشكل، مليحَ الصورة، بهياً، وكان من الشجعان الموصوفين.
وقال أبو عمرو بن العلاء : نشأ الحسن بـوادي القرى ، وكان من أجمل أهل البصرة ، حتى سقط عن دابته فحدث بأنفه ما حدث.
وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة : إذا نظرت إلى رجل أجـمل أهل البصرة ، وأهيبهم، فهو الحسن ، فأقرئه مني السلام.
وقال الأصمعي عن أبيه: "ما رأيت زنداً أعرض من زند الحسن البصري ، كان عرضه شبراً" وهذا يدل على اكتمال خلقته وقوته وجسمه رضي الله عنه ورحمه.
كان يرافق بعض المشهورين بالشجاعة، كـقَطَرِي بن الفجاءة ، والمهلب بن أبي صُفْرة ؛ ولذلك تعلم الشجاعة وتربى عليها.
قال هشام بن حسان : كان الحسن أشجع أهل زمانه.
وقال جعفر بن سليمان : كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقَدِّمُه.
فهذه ميزة في الحسن رحمه الله، وهو معروف برقة القلب وبالوعظ، ولو سألت إنساناً وقلت له: ما هو انطباعك عن الحسن ؟ فسيقول لك: هو زاهد وواعظ. وهذا صحيح؛ لكنه قلَّما يُعرف بأن الحسن كان رجلاً شجاعاً مقداماً مقاتلاً، وكان يُقَدَّم في القتال، كان قوي البنية، شديد البأس، وهذا يدل على أن الإنسان الزاهد الواعظ ليس من طبعه الضعف، ولا تلازم بين ضعف البدن والزهد وأن يكون واعظاً، فقد يكون الإنسان واعظاً رقيق القلب، وهو من أشجع الشجعان، ولا تعني الشجاعة وقوة الجسد غلظة القلب بالضرورة أبداً.
كما أن رقة القلب وكثرة البكاء من خشية الله تعالى والوعظ لا تعني أن الواعظ يجب أن يكون ضعيف البدن، لا. فهذا الحسن رحمه الله قوي البنية، ومع ذلك فهو رقيق القلب للغاية.
وأما من جهة الجهاد، فإنه رحمه الله كان كثير الجهاد ويخرج للقتال، ولذلك لا انفصام بين العالم والمجاهد، لا انفصام بين الوعظ والجهاد، كلها أمور تجتمع في شخصيات السلف رحمهم الله.
أما فصاحته وبلاغته، فإنه رحمه الله تعالى كان فصيحاً بليغاً.
قال حماد بن زيد : سمعت أيوب يقول: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر، فتكلم قوم من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء. وهذا الفرق بين من يخرج كلامه من القلب بنور الكتاب والسنة، وبين من يخرجه بتكلف كأنه يقيء قيئاً.
وقال أبو عمرو بن العلاء : ما رأيت أفصح من الحسن البصري ، ومن الحجاج بن يوسف الثقفي، فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن.
وقال له رجل: أنا أزهد منك وأفصح، قال: أما أفصح فلا -الزهد لا أزكي نفسي به؛ أما الفصاحة فنعم- قال: فخذ عليَّ كلمة واحدة، قال: هذه. أي: التي أنت قلتها الآن.
وقيل للحجاج: من أخطب الناس؟
قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة . يعني: الحسن رحمه الله تعـالى.
ومن جهة لباسه وزينته وطعامه ربما يظن بعض الناس أن الحسن عندما كان واعظاً، أنه يلبس أسمالاً بالية وثياباً مرقعة؛ ولكن الرجل كان جيد اللباس، ليس عنده تعارض بين الزهد وبين جودة اللباس وجماله، فقال ابن عُلَي عن يونس : كان الحسن يلبس في الشتاء قباءً حِبَرَة، وطيلساناً كردياً، وعمامة سوداء، وفي الصيف إزارَ كتَّانٍ، وقميصاً، وبرداً حِبَرَة.
وقال أيوب : ما وجدتُ ريح مرقة طُبِخَت أطيب مِن ريح قِدر الحسن .
وقال أبو هلال : قلَّما دخلنا على الحسن ، إلا وقد رأينا قِدراً يفوح منه ريح طيبة.
وكان يأكل الفاكهة، فلم يكن الحسن صوفياً مثل هؤلاء الصوفية الذين يتعمدون أن يُرى عليهم اللباس البالي والمرقع، ولا يأكلون اللحم ولا الفاكهة، بل كان يعتني بأمر حاله، ويتجمل لإخوانه، كيف وهو يُغْشَى؟!
فالواحد إذا كان لوحده ربما يلبس ما شاء، لكن إذا كان يتصدى للناس، ويأتونه ويسألونه، ويقتربون منه، ويجلسون حوله، فلا بد أن يكون طيب الرائحة، حسن الثياب، يتجمل للناس، حتى يحبوه.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأعياد والجُمع يتزين.
أرْسِلَت إليه جُبَّة، فعرض عليه عمر رضي الله عنه أن يلبسها ويتزين بها للوفود؛ لأن الناس يهتمون بالمظاهر، ولا يناسب أن يكون العالم مظهره رث، وهيئته بالية، ورائحته غير طيبة، وثيابه غير نظيفة، بل إنه يكون نظيف الثياب، طيب الرائحة؛ لأنه يُغْشَى ويُخْتَلَط به، وهكذا يجب أن يكون الدعاة إلى الله الذين يأتون إلى الناس ويخالطونهم، فيجب أن يكون أحدهم كالشامة بين الناس، لا بأس أن يكون ثوب أحدهم حسناً، ونعله حسنة، ورائحته طيبة، وثيابه مرتبة، لكن الإنكار على مَن أسرف، (كُلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ، ومخيلة) المشكلة في السَّرَف والخُيَلاء، وإضاعة الأموال في التوافه، ووضع المال في شيء لا يستحق؛ كالمبالغة في الزينة، والزخرفة.
قال قتادة : دخلنا على الحسن وهو نائم، وعند رأسه سَلَّة، فجذبناها؛ فإذا فيها خبز وفاكهة، فجعلنا نأكل، فانتبه -أي: من النوم- فرآنا، فتبسم- ارتاح جداً أن يرى إخوانه يأكلون من طعامه؛ لأنه يؤجر- وهو يقرأ: أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] إشارة إلى الآية التي فيها: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ ... [النور:61] إلى أن قال: أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] فإذا علمت أن صديقك يرضى إذا أكلتَ من بيته، ولو كان غير موجود، أو بدون إذن، فلا يحتاج الأمر إلى إذن، لا يشترط إذن الصديق إذا أذن لك في بيته أن تأكل منه، فلو أعطاك مفتاح البيت وأذن لك بدخوله، وأنت تعلم أنه يرضى أن تأكل من طعامه، فلا حرج عليك أن تفتح الثلاجة وتأكل من طعامه مما هو موجود في البيت دون إفساد، وهذا الحسن رحمه الله لما رأى إخوانه يأكلون من فاكهته وهو نائم سره ذلك، وقرأ الآية: أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61].
وعن جرثومة قال: رأيت الحسن يُصفِّر لحيته في كل جمعة.
وقال أبو هلال رأيت الحسن يغير بالصفرة.
فمن السنة تغيير الشيب بالحناء.. بالكتم، والصفرة شيء إلى الحمرة، أو اللون البني لا بأس بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيِّر الشيب وجنبوه السواد) و(نهى عن الخضاب بالسواد) و(ليأتين أقوام في آخر الزمان يخضبون بالسواد لهم حواصل كحواصل الحمام لا يدخلون الجنة ولا يريحون ريحها) وحوصلة الحمامة: مثلما يكون من هذا الشكل الهلالي، الذي يجعلونه في اللحى من العبث بها، بحيث يكون هيئتها كحوصلة الحمامة، ويصبغونها بالسواد، فيكون سوءاً على سوء.
فهذا الحسن رحمه الله كان يغير الشيب، ونحن نُهينا عن نتف الشيب؛ لأن كل شعرة بيضاء تكون لصاحبها نوراً يوم القيامة إذا شاب في طاعة الله، فإذا ظهر له الشيب فإنه يفرح؛ لأنه يكون له نوراً يوم القيامة إذا شاب في طاعة الله، وهذا من مراعاة النفس؛ لأن النفس تكره الشيب، فلما نهينا عن نتفه رُخِّص لنا بصبغه وتغييره بغير الأسود.
أما بالنسبة لعبادته رحمه الله، وخشيته لله، وتقشفه، فإنه مع كونه جيد الملبس والمطعم، لكنه كان زاهداً، كان يصوم أيام البيض، والإثنين والخميس، وأشهر الحرم.
وحكى ابن شوذب عن مطر قال: "دخلنا على الحسن نعوده فما كان في البيت شيء -لا فراش، ولا بساط، ولا وسادة، ولا حصير- إلا سريراً مرمولاً هو عليه، حَشْوُهُ الرمل" والسرير المرمول: الذي نسج وجهه بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير، فيسمى مرمولاً.
وقال حمزة الأعمى : ذهبت بي أمي إلى الحسن ، فقالت: يا أبا سعيد ! ابني هذا قد أحببت أن يلزمك، فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنتُ أختلف إليه، فقال لي يوماً: [يا بني! أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابكِ في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطَّلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين] هذه الوصية بالبكاء من خشية الله، ودمع العين من هيبة الله تعالى وخوفه، وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي -لم يكن يأمر الناس بالشيء وهو لا يفعل، بل كان يقول ويفعل، ويفعل قبل أن يقول- وربما جئت إليه وهو يصلي، فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوماً: إنك كثير البكاء -دائماً تبكي- فقال: [يا بني! ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ، يا بني! إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار إذا رحمك ستجد نفسك قد نجوت من النار].
قال إبراهيم اليشكري: "ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة". كأنه الآن قبل قليل جرت عليه مصيبة.
وقال أحد مَن رآه: "لو رأيتَ الحسن ، لقلتَ: قد بُث عليه حزن الخلائق". أي: جُمِعَتْ عليه.
وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز ، كأن النار لم تخلق إلا لهما، وكانا قليلاً الضحك والمزاح. لأنه إذا كان كثير البكاء من خشية الله فإن ذلك ولا شك سيؤثر في مزاحه وضحكه، فمن كان كثير البكاء كان قليل الضحك، ومن كان كثير الخشية والهيبة كان قليل المزاح.
ومن حسن خلقه: أنه كان سمحاً في بيعه وشرائه، فكان إذا اشترى شيئاً وكان في ثمنه كسر جبره لصاحبه، كان يشتري بريال إلا ربع فيترك الربع للبائع، أو بريال ونصف فيترك النصف للبائع، وما ذاك إلا من طيب خلقه، لا يدقق ويفتش ويأخذ الكسور، وإذا اشترى السلعة بدرهم ينقص دانقاً -لأن الدرهم يقسم إلى دوانق، والدانق بعض الدرهم- كمَّله درهماً، يقول: خذ الدرهم كاملاً، أو بتسعة ونصف كمله عشرةً مروءةً وكرماً.
والآن بعض الناس يقولون: هناك صناديق للهيئات الخيرية في البقالات، الهيئة الخيرية أولى من صاحب البقالة، وهذا جيد وطيب، يأخذ هذه القروش ويضعها في هذا الصندوق من صناديق التبرعات، وهذا جيد أنه يجود بهذه الكسور لله تعالى.
رأيت مرة منظراً غريباً في أحد البقالات الكبيرة: أجنبي كافر أعطى البائع الريالات وأخذ الفكة ووضعها في الصندوق الخيري، مع أنه كافر! لكن صحيحٌ هو لا ينتفع بها عند الله يوم القيامة؛ لأن الله تعالى لا يجزي الكافر بحسناته يوم القيامة: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] لكن يعطونها في الدنيا، إنما يؤثر فيك أن ترى كافراً يتبرع لصندوق الإغاثة، أو لصندوق الفقراء.. وهو كافر!!
وباع الحسن -رحمه الله- بغلة، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد ؟ -اتفقوا على الثمن ورضوا، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد ؟- قال: لك خمسون درهماً، أزيدك؟ -أي: هل تحتاج إلى زيادة؟- قال: لا. رضيت، قال: بارك الله لك. وهذا عين ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث ودعا: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).
وقد أثنى العلماء -رحمهم الله تعالى- على الحسن بالغ الثناء:-
ولما استهل أبو نعيم في الحلية ترجمة الحسن البصري رحمه الله، قال: "ومنهم حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن ، الفقيه الزاهد، المشمر العابد، كان لفضول الدنيا وزينتها نابذاً، ولشهوة النفس ونخوتها واقذاً". والوقيذ أو الوقذ: أن يُضرب الشيء حتى يسترخي ويموت، أو يشرف على الموت، فكان لشهوته كابتاً.
وعن علقمة بن مرثد قال: "انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فمنهم: الحسن بن أبي الحسن ، فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، ما كنا نراه إلا أنه حديث عهد بمصيبة".
قال الحسن : [نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئاً].
كان مشهوراً جداً بالمواعظ، وكانت مواعظه مؤثرة، لأن العبارات رقيقة تخرج من القلب، وعلى رسم الكتاب والسنة، [ويحك يابن آدم! هل لك بمحاربة الله طاقه، إنه من عصى الله فقد حاربه، واللهِ لقد أدركت سبعين بدرياً، أكثرُ لباسهم الصوف -أي: من زهدهم في الدنيا لا يجدون ولا يحرصون على التنعم- ولو رأيتموهم لقلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب، ولقد رأيتُ أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم ما يجد عنده إلا قوته، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله عز وجل، فيتصدق ببعضٍ وإن كان هو أحوج ممن يتصدق به عليه]. يعني: هذا المتصدِّق محتاج أكثر من المتصدَّق عليه؛ لكن يجودون لله تعالى.
وعن خالد بن صفوان ، قال: لما لقيت مسلمة بن عبد الملك بـالحيرة ، قال: يا خالد ! أخبرني عن حسن أهل البصرة ، قلت: أصلح الله الأمير، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم مَن قِبَلي به:
أشبه الناس سريرةً بعلانية هذا أولاً، السريرة تطابق العلانية؛ لا رياء، ولا نفاق، ولا كذب، ولا تصنع، ولا مجاملات.
- وأشبه قولاً بفعل. قوله يشبه فعله، لا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، قوله وفعله مستويان متطابقان.
- إن قعد على أمر قام عليه، وإن قام على أمر قعد عليه.
- وإن أمر بأمر كان أعْمَلَ الناس به، وإن نهى عن شيء كان أَتْرَكَ الناس له.
- رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه.
قال: حسبك يا خالد! كيف يضل قومٌ هذا فيهم؟!
فإذاً: الصالحون والعلماء والعباد والزهاد هم سراج وهاج يستضيء بهم الناس، والناس لا يهلكون وفيهم مثل هؤلاء، متى يهلك الناس؟ إذا انطفأت السرج، وإذا لم يوجد أحد ينير كيف يبصر العميان؟ ولذلك فإن وجود الدعاة في المجتمع رحمة لهذا المجتمع من عدة جهات:
أولاً: أنهم من أسباب رفع العذاب عنهم: إذا وجد الصالحون والمصلحون في مجتمع فهم من أسباب رفع العذاب عن المجتمع.
ثانياً: بهم يرزقون، وبهم يمطرون.
ثالثاً: هم مصدر العلم، ومنهم يتعلم الجهَّال.
رابعاً: هم مصدر الوعظ الذين يعظون الغافلين.
خامساً: هم مصدر القدوة.
سادساً: تنصلح أحوال الناس بمخالطتهم.
ولذلك كلما كثروا في المجتمع كان دليلاً على صلاح المجتمع وصحته، وإذا قلوا أو انعدموا فهذا دليل على مرض هذا المجتمع أو موته.
ولذلك يجب أن نحرص على تكثير الدعاة في المجتمع، ونفرح إذا رأينا عدد الصالحين في المجتمع يزيد؛ لأن هذا من أسباب سعادة المجتمع، أما إذا رأيت الصالحين ينقرضون ويقلون ويذهبون، ولا يأتي غيرهم، فهذا نذير شؤم وبلاء خطير.
وبعض الناس لا يقدرون قيمة الصالحين في المجتمع، ولذلك ينابذونهم العداء.. يجهلون قدرهم.. يذلونهم.. يسخرون منهم.. يستهزئون بهم، لا يعطونهم ما يجب لهم من الحق، ولا يقدمونهم في المجالس ويسمعون لكلامهم، فلذلك ترى أمر هؤلاء الصالحين في ضعف؛ لأن الناس لم يعرفوا قيمتهم، ولم يعرفوا قدرهم.
وأما إذا عرف المجتمع قدر الصالحين رأيتهم يُقَدَّمون في المجالس.. يقدمون في الحديث.. يُسْمَع لكلامهم.. يُنْزَل عند رأيهم، ويُبَتُّ حسب مشورتهم وأمرهم، ولذلك قال مسلمة لـخالد بن صفوان: كيف يضل قوم هذا فيهم؟!
وفي سير أعلام النبلاء يقول الذهبي: "كان الحسن سيد أهل زمانه علماً وعملاً".
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "الإمام الفقيه المشهور، أحد التابعين الكبار الأجلاء علماً وعملاً وإخلاصاً".
وقال العوام بن حوشب: "ما أشبه الحسن إلا بنبي".
وعن أبي قتادة، قال: "الزموا هذا الشيخ -أي:الحسن - فما رأيت أحداً أشبه رأياً بـعمر منه". يعني: من رجاحة عقل الحسن شبه رأيه برأي عمر.
ويقال: إن أنس بن مالك ، قال: [سلوا الحسن فإنه حَفِظَ ونسينا]. وهو الصحابي!
وقال مطر الوراق: "لما ظهر فينا الحسن جاء كأنما كان في الآخرة".
فهو يخبر عما عايَن. كأنه واحد كان في الآخرة، كان في القبر ورأى البرزخ ورأى الموت والجنة والنار، والبعث والميزان والصراط، فكأنه واحد جاء من الدار الآخرة، فهو يخبر الناس عما رآه هناك.
فهذا يكون من شدة تمثله لما أخبر الله به عن الدار الآخرة، كأنه جاء من الآخرة، وهذا يدل على تأثره.
وقال قتادة: [ما جمعت علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه -يعني: علم الحسن زائد- غير أنه إذا أُشْكِل عليه شيء كَتَبَ فيه إلى سعيد بن المسيب -وسعيد بن المسيب سيد التابعين- وما جالست فقيهاً قط إلا رأيت فضل الحسن].
وقال أبو هلال: [كنت عند قتادة ، فجاء الخبر بموت الحسن ، فقلت: لقد كان غُمِسَ في العلم غَمْساً، قال قتادة : بل نَبَتَ فيه، وتحقَّبه، وتشرَّبه، والله لا يبغضه إلا حروري]. والحروريون هم: الخوارج ، نسبة إلى بلدة حروراء ، التي كان أول أمرهم بها، خرجوا منها وفيها، ولذلك لا يبغض الحسن إلا رجل من الخوارج .
وقال: [ما كان أحد أكمل مروءة من الحسن]. فالرجل كان بالإضافة إلى أدبه صاحب مروءة.
وعن حجاج بن أرطأة عن عطاء : قال: [عليك بذاك -أي: الحسن - ذاك إمام ضخم يُقتدى به].
وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام.
وقال بكر المُزَنِي: "مَن سره أن ينظر إلى أفقه ممن رأينا، فلينظر إلى الحسن".
كان في حلقة الحسن البصري التي في المسجد حديث، وفقه، وعلم القرآن، واللغة، والوعظ، فبعض الناس صحبه للحديث ليسمع منه المرويات، وبعض الناس صحبه للقرآن ليسمع منه التفسير، وبعض الناس صحبه للبلاغة ليتعلم منه اللغة والفصاحة والبيان، وبعض الناس صحبوه للوعظ ليتعلم منه الإخلاص والعبادة.
وقال أيوب السختياني: "لو رأيت الحسن ، لقلت: إنك لم تجالس فقيهاً قط". لنسيتَ كلام الفقهاء بجانب كلامه.
وقال الأعمش: "ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها". لأن الكلام الذي فيه حكمة لا يخرج إلا من رجل ارتضعها ووعاها فنطق بها.
وقال رجل لـيونس بن عبيد: "أتعلم أحداً يعمل بعمل الحسن ؟ قال: والله ما أعرف أحداً يقول بقوله، فكيف يعمل بمثل عمله؟! قال: صفه لنا، أنت رأيته...
هذا فائدة تربوية: الأجيال كانت تسأل عمن فات، فالذي لم ير الحسن يسأل من رأى الحسن ، يقول: صفه لنا، كيف هو؟ كيف شكله؟ كيف سَمْته؟ كيف عبادته؟ كيف وعظه؟ هات من كلامه شيئاً، هات من علمه.. من فقهه.. ماذا سمعت منه؟
الآن ربما يموت العالم ويخرج رجل من جيل جديد لم يرَ هذا العالم.. هل يسأل عنه؟
هل تراه يهتم بالجيل الذي مضى؟!
يقول لواحد من الذين عاصروا العالم أو عايشوه: صفه لنا، كيف سَمْته؟ كيف كلامه؟ هات لنا مسائل مما سمعته منه، نادراً! وهذه مشكلة؛ أن الأجيال لا تحرص على الارتباط بمن سبق، والسؤال عمن سبق، كان الواحد من السلف إذا ما رأى رجلاً فاضلاً صالحاً عالماً، فاته، مات قبل أن يولد هذا مثلاً، يسأل عنه: صفه لنا.. مهتم.
قال: كان إذا أقبل -إذا رأيته آتٍ- فكأنه أقبل من دفن حميمه -كأنه الآن دفن أحب الناس إليه، كيف يكون وجه المصاب بالمصيبة؟ هكذا كان وجهه من الخشوع- وكان إذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه -لو أتي بالأسير ليضرب عنقه، كيف يكون جلوسه؟ متخشعاً، هكذا كان جلوسه، لم يكن جلوسه جلوس أشر ولا بطر- وكان إذا ذُكِرَت النار عنده، فكأنها لم تخلق إلا له.
بينما بعض الناس الآن لو تليت عليهم الآيات التي فيها ذكر جهنم، يقول: هذه للكفار، الحمد لله نحن مسلمون، ولا نحتاج، ولسنا معنيين بالأمر، مع أن الإنسان ينبغي أن يخاف على نفسه لأنه لا يدري ماذا يختم له، فقد يُختم له والعياذ بالله بخاتمة أهل النار، فإذاً: لا بد أن يخاف على نفسه.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة : [أما بعد: فإنك لن تزال تعنِّي إليَّ رجلاً من المسلمين في الحر والبلاد، تسألني عن السنة كأنك إنما تعظمني بذلك، وأيْمُ الله لحسبك بـالحسن ، فإذا أتاك كتابي هذا فسل الحسن لي ولك وللمسلمين، فرحم الله الحسن ، فإنه من الإسلام بمنزل ومكان، ولا تقْرِيَنَّه كتابي هذا] لا يقرأ كتابي لئلا يعرف أنني مدحته، لا يقرأ الكتاب؛ ولكن عليك به.
فعظمت هيبته رحمه الله في القلوب، وكان أيضاً ممن يدخل على الولاة ويعظهم وينهاهم كما سيأتي.
وبعضهم ذكر الأشخاص الذين تُحْسَد عليهم الأمة، قال:
أولهم: عمر بن الخطاب .
والثاني:الحسن بن أبي الحسن البصري .
فلقد كانا من درر النجوم علماً، وتقوىً، وزهداً، وورعاً، وعفةً، ورقةً، وتألُّهاً، وتنزهاً، ومعرفةً، وفصاحةً، ونصاحةً.
وكان سليم اللسان، نقي الأديم، محروس الحريم، يجمع مجلسه ضروبَ الناس، وأصنافَ اللباس، لما يوسعهم من بيانه، ويفيض عليهم بافتنانه، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقَّن منه التأويل، وهذا يسمع الحلال والحرام، وهذا يتبع في كلامه العربية، وهذا يحكي الفُتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، كالبحر العُجاج تدفقاً، وكالسراج الوهاج تألقاً، وهو صاحب الصدر الرحب، والوجه الصلب، واللسان العضد، بهجة العلم، ورحمة التقى، لا تثنيه لائمة في الله، يجلس تحت كرسيه: قتادة صاحب التفسير، وعمروٌ، وواصل ، وابن أبي إسحاق صاحب النحو، وفرقد السبخي صاحب الرقائق، هؤلاء وأشباههم ونظراؤهم.
أما ما كان عليه من الجرأة والصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فله مواقف، منها:
موقف الحسن مع عمر بن هبيرة
فقال الحسن : يا أبا عمرو ! -وهو الشعبي، أجب الأمير، فتكلم الشعبي ، فانحط في حِيَل ابن هبيرة ، -يعني: كأنه يلتمس له أعذاراً وأشياء- فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟!
قال: أيها الأمير! قد قال الشعبي ما قد سمعتَ.
قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟
فقال: يا عمر بن هبيرة ! يوشك أن يتنزل بك ملك من ملائكة الله تعالى، فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك.
يا عمر بن هبيرة ! إن تتقِ الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك ، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل.
يا عمر بن هبيرة ! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك.
يا عمر بن هبيرة ! لقد أدركتُ أناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة.
يا عمر بن هبيرة ! إني أُخوِّفك مقاماً خوَّفَكَهُ الله تعالى، فقال: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].
يا عمر بن هبيرة ! إن تكُ مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك ، وإن تكُ مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكََلَكَ الله إليه.
قال: فبكى عمر بن هبيرة ، وقام بعبرته. أي: أن البكاء متواصل -متأثر- وقام من المجلس ولا تزال عبرته فيه.
هذا ما كان من موعظة الحسن لهذا الأمير، وهذا كلام نادر حتى في لفظه، وفي طريقته وأسلوبه.
ولذلك من المهم أن نتعلم الأسلوب، ومثل هؤلاء العظماء ينبغي أن نتشبه بهم في أساليبهم.
وقد رُوِيَت هذه القصة بسياق آخر: أن عمر بن هبيرة الفزاري والي العراق لما دخل في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي في سنة [103هـ] وقال: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليه الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إليَّ بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلد من ذلك الأمر، فما ترون؟! -إذا أمرني بشيء فيه معصية مثلاً؟-.
فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تَقِيَّة.
فقال ابن هبيرة : ما تقول يا حسن ؟
فقال: يـابن هبيرة ! خَفِ الله في يزيد ، ولا تخَفْ يزيد في الله.
إن الله يمنعك من يزيد ، وإن يزيد لا يمنعك من الله.
وأُوْشِكَ أن يُبعث إليك ملَك فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك.
يـابن هبيرة! إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
موقف الحسن مع الحجاج
فكان يحصل ظلم عظيم، وخصوصاً ممن يبطش من أمثال الحجاج!
بعث الحجاج بن يوسف الظالم إلى الحسن وقد هَمَّ به -نوى له نية سوء- فلما دخل عليه، وقام بين يديه الحسن ، قال: يا حجاج ! كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن.
موعظة بكلمات يسيرة جداً، مثل هؤلاء ربما لا يمكن الكلام معهم، فسؤالان لخص بهما المسألة كلها، انتهت المهمة، وهي بهذه البساطة، والرجل إذا كان صاحب عبادة ودين؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلوب الأعداء رهبته فلا يجرءون عليه.
جاء عن علقمة بن مرثد أنه قال: لما وَلِي عمر بن هبيرة العراق ، أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي ، فأمر لهما ببيت، وكانا فيه شهراً، ثم إن الخصيَّ -وكان عند الأمراء هذا النوع من الناس- غدا عليهما ذات يوم، فقال لهما: إن الأمير داخل عليكما، فجاء عمر بن هبيرة -الأمير- يتوكأ على عصاً له، فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يُنْفِذُ كُتُباً، أعرف أن في إنفاذها الهلكة -يعني: يعطيني أوامر في الكتب لو أنفذتها ففي إنفاذها الهلكة- فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل تريان لي في متابعتي له فرجاً؟ أي: هل أنا مكره؟
فقال الحسن : يا أبا عمرو ! -وهو الشعبي، أجب الأمير، فتكلم الشعبي ، فانحط في حِيَل ابن هبيرة ، -يعني: كأنه يلتمس له أعذاراً وأشياء- فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟!
قال: أيها الأمير! قد قال الشعبي ما قد سمعتَ.
قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟
فقال: يا عمر بن هبيرة ! يوشك أن يتنزل بك ملك من ملائكة الله تعالى، فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك.
يا عمر بن هبيرة ! إن تتقِ الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك ، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل.
يا عمر بن هبيرة ! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك.
يا عمر بن هبيرة ! لقد أدركتُ أناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة.
يا عمر بن هبيرة ! إني أُخوِّفك مقاماً خوَّفَكَهُ الله تعالى، فقال: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].
يا عمر بن هبيرة ! إن تكُ مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك ، وإن تكُ مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكََلَكَ الله إليه.
قال: فبكى عمر بن هبيرة ، وقام بعبرته. أي: أن البكاء متواصل -متأثر- وقام من المجلس ولا تزال عبرته فيه.
هذا ما كان من موعظة الحسن لهذا الأمير، وهذا كلام نادر حتى في لفظه، وفي طريقته وأسلوبه.
ولذلك من المهم أن نتعلم الأسلوب، ومثل هؤلاء العظماء ينبغي أن نتشبه بهم في أساليبهم.
وقد رُوِيَت هذه القصة بسياق آخر: أن عمر بن هبيرة الفزاري والي العراق لما دخل في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي في سنة [103هـ] وقال: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليه الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إليَّ بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلد من ذلك الأمر، فما ترون؟! -إذا أمرني بشيء فيه معصية مثلاً؟-.
فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تَقِيَّة.
فقال ابن هبيرة : ما تقول يا حسن ؟
فقال: يـابن هبيرة ! خَفِ الله في يزيد ، ولا تخَفْ يزيد في الله.
إن الله يمنعك من يزيد ، وإن يزيد لا يمنعك من الله.
وأُوْشِكَ أن يُبعث إليك ملَك فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك.
يـابن هبيرة! إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
الموقف من الحجاج لا شك أنه موقف صعب جداً؛ لأن الحجاج كان يقتل على أتفه وأدنى سبب، واخترع أساليب في التعذيب، وبدأ بأشياء من الظلم فتح بها أبواباً شنيعة، وكانوا أحياناً يفعلون بالناس أفعالاً لا تخطر بالبال، مثل: السلخ، يأتون بإنسان يسلخونه، يسلخون جلده عن سائر جسده سلخاً، وربما ولَّوا ذلك لبعض الكفرة، كما أن بعض أهل السنة أتى به أحد هؤلاء الظلمة، فوَلَّى سلخه ليهودي، قال لليهودي: اسلخه، فبدأ بسلخه من الرأس، حتى أن اليهودي رحمه، فضربه بالسكين في قلبه فمات، رحمه من إكمال السلخ.
فكان يحصل ظلم عظيم، وخصوصاً ممن يبطش من أمثال الحجاج!
بعث الحجاج بن يوسف الظالم إلى الحسن وقد هَمَّ به -نوى له نية سوء- فلما دخل عليه، وقام بين يديه الحسن ، قال: يا حجاج ! كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن.
موعظة بكلمات يسيرة جداً، مثل هؤلاء ربما لا يمكن الكلام معهم، فسؤالان لخص بهما المسألة كلها، انتهت المهمة، وهي بهذه البساطة، والرجل إذا كان صاحب عبادة ودين؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلوب الأعداء رهبته فلا يجرءون عليه.
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الإمام علي بن المديني [2،1] | 3110 استماع |
الإمام حسن البصري (1) | 3032 استماع |
الإمام حسن البصري (2) | 2840 استماع |
الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاَّم [1،2] | 2419 استماع |
الإمام ابن باز.... الفاجعة | 2207 استماع |
الإمام الزهري | 2204 استماع |
الإمام عبد الرحمن بن مهدي [2،1] | 1640 استماع |
الإمام الوزير ابن هبيرة [1، 2] | 1203 استماع |