رسالة إلى الطبيب المسلم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة.. حديثنا في هذا اليوم -إن شاء الله- عن بعض الأمور المتعلقة بالطبيب المسلم.. سنتكلم عن الطبيب المسلم، وسنتعرض من خلال كلامنا في هذا الموضوع لموقف الطبيب المسلم من المريض ومن المحتضر، وبعض النقاط المهمة التي تحصل -أحياناً- في المستشفيات وفي غرف العمليات، وبعض العمليات الجراحية، وقضايا تتعلق بجهاز الإنعاش، وبعض الأمور المتعلقة بعلاقة النساء والرجال داخل المستشفيات.

والكلام عن صفات الطبيب المسلم كلام طويل، ولكن لن نتطرق إليه بالتفصيل في هذه المحاضرة، بل سوف تكون محاضرة عامة أشبه بجمع بعض النقاط التي تصادف الإخوان الأطباء والطبيبات في المستشفى، فبادئ ذي بدء أقول لكم أيها الإخوة: إن الطبيب المسلم ليس هو ذلك الإنسان الذي أخذ الشهادة، أو درس مجموعة معينة من الكراسات في علم الطب في أي حقل من حقوله؛ حتى حصل على تلك الورقة التي تخبر وتثبت بأنه وصل إلى الدرجة الفلانية في حقل الطب، وإنما الطبيب المسلم حقيقة هو داعية إلى الله عز وجل بالدرجة الأولى، وإن المجال الذي يعمل فيه الطبيب المسلم يؤهله للقيام بدور كبير في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي تصحيح واقع كثير من الناس.

والداعية إلى الله -عموماً- قد يواجه في المجتمع بصدود كبير، وبمقاومات عنيفة، وعوامل كثيرة تجعله لا يستطيع أن يوصل ما يريد إيصاله من الأفكار الإسلامية الصحيحة إلى الناس، ولكن الطبيب عنده فرصة ذهبية لا تكاد توجد لغيره، وهذه الفرصة أنه الآن يتعامل مع شخص في حالة ضعف، والشخص عندما يكون مريضاً أو على وشك الموت؛ فإنه يكون في حالة من التقبل لتقوية صلته بالله أكثر من أي شخص آخر، وهنا تبرز قضية الجانب الإيجابي الذي يتمتع به كثير من الأطباء، والذي لا يوجد لغيرهم من المسلمين الذين يقومون بالدعوة إلى الله في أماكن أخرى.

في البداية -أيها الإخوة- سنتحدث عن موقف الطبيب المسلم من المريض.

تصبير المريض وجعله يرضى بقضاء الله

الحقيقة أنه عندما يوجد أمامك مريض فهذه فرصة كبيرة لتعليم هذا المريض أشياء كثيرة جداً، وستصادف بطبيعة الحال كما ترى أنت في الواقع العملي أكثر مما أراه أنا أو غيري، سترى فرصة للتصحيح ينبغي أن تستغلها، فمثلاً: ينبغي للطبيب المسلم أن يذكر المريض بالرضى بالله عز وجل وبقضاء الله، ويذكره بمثل حديث: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير...) لأن المريض قد يكون في حالة من اليأس والقنوط، ويحس مع تزايد الألم ومع وطأة المرض عليه بأنه في حالة قد لا يشفى منها وقد يقنط من رحمة الله، والشخص في الحالة الطبيعية قد لا يأتي في نفسه هذا اليأس، ولكن الشخص في حالة المرض وتحت وطأة المرض قد يوجد عنده هذا الإحساس، وأنت -يا أخي- بصفتك طبيباً وأنتِ بصفتك طبيبة لا بد من استغلال هذه الفرصة لوضع الدواء الإسلامي الناجح؛ لتبيين قضية الرضى بقضاء الله، ومساعدة المريض بالألفاظ الطيبة التي تصبره على ما يعيشه من المحنة ومن التعب النفسي والجسدي.

وقد يتسخط بعض المرضى، وقد يسبون المرض أو أعراض المرض، ولكن عندما نرى هذا الحديث في صحيح الإمام مسلم ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب فقال: (ما لك تزفزفين؟ قالت: الحمى، لا بارك الله فيها. فقال: لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) كما أن هذا الفرن الحار وهذه النار الحامية تذهب الخبث أو الشوائب في الحديد حتى يخرج معدناً صافياً نقياً، كذلك هذه الأمراض تنقي المريض من الخطايا، فأنت إذاً تفتح له باب الأمل، وتفتح له باب رحمة الله، وتقول له: رب ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وهذه فرصة لمحو كثير من الذنوب والخطايا التي قد لا تمحى إلا بالمرض، لأن كثيراً من توبة الناس واستغفارهم خاطئة فيها خطأ، ولكن إذا جاء المرض يمحو الله به من السيئات ما لا يمحوه بالتوبة والاستغفار.

وقد يصل المريض إلى درجة أن يتمنى الموت، تجده يصرخ -مثلاً- في الغرفة ويدعو على نفسه بالموت، أو يدعو الله أن يميته تحت هذا الضغط من الألم، فعند ذلك تبين له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي) هذه مبادئ أساسية، وهذه الأحاديث -يا إخوة- يمكن أن الشخص العادي لا يجد لها مجالاً عملياً مثل ما يجدلها الطبيب، ولكن أنت بواقعك تستطيع أن تطبق هذه الأحاديث وتعمل بها في الواقع كثيراً.

العمل مع المرض الخبيث

وأحياناً يكون مرض المريض خبيثاً، قد يصاب بسرطان أو غيره، فماذا يجب عليك في هذه الحالة؟

يلجأ كثير من الأطباء إلى إخفاء واقع المرض السيئ عن المريض، وعدم إخباره نهائياً بحالته الصحية، وهذه المسألة مع ما فيها من الإيجابيات حتى لا تسوء نفسية المريض؛ فإنه لا بد -أيضاً- من إخباره بوضع معين حتى يتأهب للموت، قد يكون لم يوصِ بعد، فهو يحتاج إلى أن يوصي مثلاً، وقد يكون رجلاً عنده معاصي كثيرة يريد أن يتوب منها، فأنت لا بد أن تتوسط بين تبيين وضعه تماماً بحيث أنه -مثلاً- لا ييأس، أو بحيث أنه لا يصاب بإحباط، وبين أن تبين له مدى الخطورة التي يستعد بعدها، فلا بد -مثلاً- أن تبين له وتقول له: يا أخي! الأعمار بيد الله، قد يكون هذا المرض مميتاً وقد تشفى بإذن الله، نحن لا ندري، لكن أنت عليك أن تتأهب لملاقاة الله عز وجل في أي وقت.. كلمات تشعر صاحب المرض الخبيث أنه قد يقدم على الله في أية لحظة فيستعد.

إذاً: السلبية من عدم إخبار المريض نهائياً بحالة المرض الخبيث الذي هو فيه، هي: أن المريض لا يتمكن من القيام بتصرفات معينة، مثل التوبة، ومثل كتابة الوصية، فأنت تتلافى هذه السلبية وتتوسط بأسلوبك الهادئ المتزن بين سلبية إشعاره باليأس كأن تقول: معك سرطان -مثلاً- مفاجأة، وبين أنك تطمئنه تماماً؛ بحيث أن الرجل يظن أنه ليس فيه شيء نهائياً، وأنه سيقوم بعد أيام، وإذا به تفاجئه المنية.

وصية المريض إلى الطبيب

وقد يسر المريض للطبيب في حالة الاحتضار بأسرار معينة، وقد يوصيه بوصايا ما يطلع عليها أحد، لكن هذا عندما يجد نفسه في حالة احتضار، فقد يقول للطبيب مثلاً: قل لأبي كذا، أو قل لأمي أو قل لإخواني كذا، أو أوصي بأن يخرج من مالي كذا، أو أني -مثلاً- ظلمت عمالاً معينين، أكد على أهلي بأن يخرجوا حقوقهم أو رواتبهم ... الخ، ففي هذه الحالة لا بد أن ينقل، فإن من مهمات الطبيب المسلم أن ينقل إلى أولاد الميت أو أوليائه بأمانة تامة كل ما أخبره به المريض عند احتضاره، فأنت قد تسمع من الرجل وصايا ما يسمعها غيرك؛ لأنك كنت موجوداً في تلك اللحظة.

عدم إكراه المريض على الطعام والشراب

كذلك -أيها الإخوة- حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح أو الحسن، الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن عقبة بن عامر مرفوعاً: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله يطعمهم ويسقيهم) فالذي يفكر بمنظور مادي بحت؛ قد يجد أنه لا بد من أن يأكل المريض الطعام كله، أو لا بد أن يلتهم هذه الأطباق كلها، ولكن الحديث يقول: ( فإن الله يطعمهم ويسقيهم ) وبالتأمل وبالتجربة تجد فعلاً أن المريض يتحمل، أحياناً يعيش على مقادير ضئيلة من الطعام والشراب لا يعيش عليها غيره! أو أنه يبقى بحالة معينة على مقادير ضئيلة من الطعام والشراب لا يبقى عليها غيره! وهذا بسبب أن الله يساعده، وعلى قدر البلاء تكون المعونة -كما قال العلماء.

إذاً: قضية إكراه المرضى على الطعام والشراب ليست مسألة واردة أو محبذة في وضع المريض، ولكن هناك أشياء لا بد منها، مثلاً: هناك سائل معين مغذٍّ في حالته لا بد أن يأخذه، ففي هذه الحالة لا نقول له: اعزل السائل هذا ولا تأخذه لأن الله يطعمه.. بل لا بد من اتخاذ الأسباب.

زيارة المرضى

وهنا تذكير في أثناء مرور الأطباء على المرضى في الغرف: أن ينوي الطبيب بإتيانه للمريض أنه يعوده لتحصيل الأجر، فإن بعض الإخوان من الأطباء قد يمر على المرضى بحكم أن هذا عمل، وأنه لا بد أن يقوم بالجولة المعينة على الغرف الفلانية والأسرة الفلانية، وينسى في غمرة هذا العمل أن ينوي في قلبه أنه الآن يمر عليهم ليس فقط لمعالجتهم والتأكد من أحوالهم، أو أن هذا العمل موكل إليه وهذا التوزيع المعين، وإنما -أيضاً- ينوي أن يمر للعيادة لتحصيل الأجر العظيم؛ لأن في عيادة المريض أجراً عظيماً، فعن ثوير عن أبيه قال: أخذ علي بيدي فقال: انطلق بنا إلى الحسن بن علي نعوده، فوجدنا عنده أبا موسى الأشعري ، قال علي لـأبي موسى: عائداً جئت أم زائراً؟ فقال: عائداً. فقال علي : فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، ولا يعوده مساءً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) والخريف هو المخرف، أي: الثمار المجتناة في الجنة، طوال ذهابه وعودته وهو يمشي في خرافة الجنة، في الثمار المجتناة التي تكون له في الجنة.

فإذاً: لا ننسى تحصيل هذا الأجر، ولذلك نجد بعض الإخوة الأطباء عندهم روح طبية في زيارتهم، فتجده لو مر بمريض ليس بمريضِهِ وليس بمكلف بالمرور عليه، تجد أنه يأتي ويسلم: السلام عليكم، كيف أنت يا أخي؟ هل تحتاج شيئاً؟ وهذه الأشياء ليست علاجاً، فهو لن يعطيه إبراً أو أدوية، وإنما يعطيه كلمات، وقد لا يكون المريض تابعاً لنفس الطبيب، لكن هذه الكلمات ينوي بها العيادة ولن يخسر شيئاً؛ لأنه سيمر بسريره وسرير غيره، فيحصل أجراً عظيماً، فهذه فرص للأجر لكم تستطيعون تحصيلها، ليس كغيركم من الزوار الذين لا يأتون إلا جزءاً من ساعة معينة في اليوم، وقد لا يأتي يومياً، وأنت يومياً تستطيع أن تكسب هذا الأجر.

الاهتمام بالأحكام الشرعية التي تهم المريض

كذلك من الأمور المهمة بعلاقة المريض بالطبيب والتي يحصل فيها غفلة كبيرة: الاهتمام بالأحكام الشرعية التي تهم المريض، مثل: قضايا الطهارة، استقبال القبلة، وكيفية الصلاة، فإن كثيراً من المرضى ونتلقى أسئلة كثيرة جداً عن بعض المرضى يقول: تركت الصلاة بالكلية فترة المرض؛ لأني لم أكن أظن أن الصلاة تجب علي في تلك الحال! أو يقول: إن البول يخرج مني باستمرار في أثناء وجودي، أو إن عندي مرضاً معيناً لا أستطيع أن أتطهر، وقد لا أستطيع أن أذهب إلى دورة المياه للإخراج، وقد أخرج في سريري وأنا جالس، وقد تتلوث الأغطية بهذه النجاسات، فكيف أصلي؟!

والطبيب يرى بعينه حالة المريض، فينبغي له أن يتفقه في أشياء.. كيف يصلي المريض؟ كيف يتطهر المريض؟ ما معنى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]؟ إذا كان لا يستطيع أن يصلي إلا بالنجاسة في ثيابه يصلي بالنجاسة في ثيابه.. إذا لم يقدر على أن يتوضأ ولا أن يؤتى له بالماء ليتوضأ يساعده الطبيب بأن يأتي له -مثلاً- بعلبة من الرمل أو التراب النظيف حتى يتيمم عليه، ينبغي أن يكون بجانب كل غرفة مرضى إناء من الرمل أو التراب بدل إناء الزهور هذا الذي قد لا يكون له فائدة؛ حتى إذا طلب المريض شيئاً وما يستطيع أن يتوضأ يأتي له الطبيب بهذا الإناء من الرمل يضرب عليه، ويمسح ظاهر كفيه ووجهه، فقد صار الآن طاهراً يؤدي الصلاة، وإذا استطاع الطبيب أن يوجهه إلى القبلة وجهه إلى القبلة، إذا لم يقدر على أن يتحرك نهائياً وبعض الأجهزة متصلة به فيصلي على حسب حاله ولو إلى غير القبلة، ويشرح له الطبيب أنه يجوز له الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء؛ لأنه من أصحاب الأعذار.

إذاً: لا بد أن يكون لك موقف يا أخي، لا تقل: أنا عملي أنني فقط أحط السائل، وأرى لهذا، وأعالج وأكشف.. لا، أنت ترى الآن مسلماً أمامك لا يعرف كيف يصلي، لا يعرف كيف يعبد الله، ومن المهم أن يبقى الإنسان المسلم متصلاً بالله في الصلاة وغير الصلاة وبعض الأطباء يقول: ليس لي دخل، أنا ما علي من صلاة، هذه بينه وبين الله.. نعم. بينه وبين الله، ولكن أنت تستطيع أن تقدم شيئاً، تستطيع أن تساعد، تستطيع أن تغير، ليس هناك مشايخ وعلماء في المستشفيات يبينون للمرضى، ولو وجد قد لا يستطيعون الدخول في كل وقت، فأنت تبين للمرضى كيفية الطهارة والصلاة بالنسبة إليهم، وهناك نشرة لطيفة كتبها الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين في كيفية طهارة المريض وصلاته، صفحة أو صفحتين تقرؤها وتحفظ ما فيها وتنتهي القضية.

كذلك -مثلاً- إذا أغمي على شخص في عملية كيف يقضي الصلاة مرتبة عندما يقوم؟ تشرح له وتقول: لقد أغمي عليك -مثلاً- من الساعة الفلانية إلى الساعة الفلانية، من الوقت الفلاني إلى الوقت الفلاني، لقد فاتك كذا وكذا من الصلوات، فأنت تبين له ما هي الأشياء التي فاتته من الصلوات لكي يقضيها.

ما ينبغي على الأطباء في المستشفى التعليمي

كذلك بالنسبة للأطباء أو الأساتذة الذين في المستشفى التعليمي- والمستشفى التعليمي يتمرن فيه الطلاب على بعض الحالات المرضية التي قد تأتي، قد يجلس التلاميذ أو الطلاب في حالة انتظار للمريض الذي سيأتي، وهم يتلمسون الحالات النادرة، ويتسقطون أخبارها، وإذا جاء واحد بحالة نادرة فزعوا فوراً وأقبلوا ابتهاجاً، المريض مسكين وهم مبتهجون.. وجدنا حالة قلب، حالة قلب! يالله! ويقبلون على الطبيب وهم فرحون مبتهجون، لأنه أتت حالة قلب وأتى ليرى، وكل واحد يريد أن يكشف، وهذا المسكين يئن ويتألم وهذا يتبسم ويقبل فارح لأنه رآه..! فهنا على الأستاذ الدكتور أن ينهى الطلاب عن إظهار الابتهاج بالمريض مراعاة لشعوره.

وكذلك عند فحص هذا المريض يتجنب أن يظهر أهالي المريض أنه محل تجارب، كأن يقول: تعال اكشف أنت.. وقد يحتاج إلى علاج حتى يسكن ألمه، فيقول: لا، لابد أن يرى هذا كل الطلاب، دعه قليلاً يتألم.. إن شاء الله هذا لن يحدث، لكن من باب التذكير والتنبيه.

الحقيقة أنه عندما يوجد أمامك مريض فهذه فرصة كبيرة لتعليم هذا المريض أشياء كثيرة جداً، وستصادف بطبيعة الحال كما ترى أنت في الواقع العملي أكثر مما أراه أنا أو غيري، سترى فرصة للتصحيح ينبغي أن تستغلها، فمثلاً: ينبغي للطبيب المسلم أن يذكر المريض بالرضى بالله عز وجل وبقضاء الله، ويذكره بمثل حديث: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير...) لأن المريض قد يكون في حالة من اليأس والقنوط، ويحس مع تزايد الألم ومع وطأة المرض عليه بأنه في حالة قد لا يشفى منها وقد يقنط من رحمة الله، والشخص في الحالة الطبيعية قد لا يأتي في نفسه هذا اليأس، ولكن الشخص في حالة المرض وتحت وطأة المرض قد يوجد عنده هذا الإحساس، وأنت -يا أخي- بصفتك طبيباً وأنتِ بصفتك طبيبة لا بد من استغلال هذه الفرصة لوضع الدواء الإسلامي الناجح؛ لتبيين قضية الرضى بقضاء الله، ومساعدة المريض بالألفاظ الطيبة التي تصبره على ما يعيشه من المحنة ومن التعب النفسي والجسدي.

وقد يتسخط بعض المرضى، وقد يسبون المرض أو أعراض المرض، ولكن عندما نرى هذا الحديث في صحيح الإمام مسلم ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب فقال: (ما لك تزفزفين؟ قالت: الحمى، لا بارك الله فيها. فقال: لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) كما أن هذا الفرن الحار وهذه النار الحامية تذهب الخبث أو الشوائب في الحديد حتى يخرج معدناً صافياً نقياً، كذلك هذه الأمراض تنقي المريض من الخطايا، فأنت إذاً تفتح له باب الأمل، وتفتح له باب رحمة الله، وتقول له: رب ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وهذه فرصة لمحو كثير من الذنوب والخطايا التي قد لا تمحى إلا بالمرض، لأن كثيراً من توبة الناس واستغفارهم خاطئة فيها خطأ، ولكن إذا جاء المرض يمحو الله به من السيئات ما لا يمحوه بالتوبة والاستغفار.

وقد يصل المريض إلى درجة أن يتمنى الموت، تجده يصرخ -مثلاً- في الغرفة ويدعو على نفسه بالموت، أو يدعو الله أن يميته تحت هذا الضغط من الألم، فعند ذلك تبين له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي) هذه مبادئ أساسية، وهذه الأحاديث -يا إخوة- يمكن أن الشخص العادي لا يجد لها مجالاً عملياً مثل ما يجدلها الطبيب، ولكن أنت بواقعك تستطيع أن تطبق هذه الأحاديث وتعمل بها في الواقع كثيراً.

وأحياناً يكون مرض المريض خبيثاً، قد يصاب بسرطان أو غيره، فماذا يجب عليك في هذه الحالة؟

يلجأ كثير من الأطباء إلى إخفاء واقع المرض السيئ عن المريض، وعدم إخباره نهائياً بحالته الصحية، وهذه المسألة مع ما فيها من الإيجابيات حتى لا تسوء نفسية المريض؛ فإنه لا بد -أيضاً- من إخباره بوضع معين حتى يتأهب للموت، قد يكون لم يوصِ بعد، فهو يحتاج إلى أن يوصي مثلاً، وقد يكون رجلاً عنده معاصي كثيرة يريد أن يتوب منها، فأنت لا بد أن تتوسط بين تبيين وضعه تماماً بحيث أنه -مثلاً- لا ييأس، أو بحيث أنه لا يصاب بإحباط، وبين أن تبين له مدى الخطورة التي يستعد بعدها، فلا بد -مثلاً- أن تبين له وتقول له: يا أخي! الأعمار بيد الله، قد يكون هذا المرض مميتاً وقد تشفى بإذن الله، نحن لا ندري، لكن أنت عليك أن تتأهب لملاقاة الله عز وجل في أي وقت.. كلمات تشعر صاحب المرض الخبيث أنه قد يقدم على الله في أية لحظة فيستعد.

إذاً: السلبية من عدم إخبار المريض نهائياً بحالة المرض الخبيث الذي هو فيه، هي: أن المريض لا يتمكن من القيام بتصرفات معينة، مثل التوبة، ومثل كتابة الوصية، فأنت تتلافى هذه السلبية وتتوسط بأسلوبك الهادئ المتزن بين سلبية إشعاره باليأس كأن تقول: معك سرطان -مثلاً- مفاجأة، وبين أنك تطمئنه تماماً؛ بحيث أن الرجل يظن أنه ليس فيه شيء نهائياً، وأنه سيقوم بعد أيام، وإذا به تفاجئه المنية.

وقد يسر المريض للطبيب في حالة الاحتضار بأسرار معينة، وقد يوصيه بوصايا ما يطلع عليها أحد، لكن هذا عندما يجد نفسه في حالة احتضار، فقد يقول للطبيب مثلاً: قل لأبي كذا، أو قل لأمي أو قل لإخواني كذا، أو أوصي بأن يخرج من مالي كذا، أو أني -مثلاً- ظلمت عمالاً معينين، أكد على أهلي بأن يخرجوا حقوقهم أو رواتبهم ... الخ، ففي هذه الحالة لا بد أن ينقل، فإن من مهمات الطبيب المسلم أن ينقل إلى أولاد الميت أو أوليائه بأمانة تامة كل ما أخبره به المريض عند احتضاره، فأنت قد تسمع من الرجل وصايا ما يسمعها غيرك؛ لأنك كنت موجوداً في تلك اللحظة.