حسن الخاتمة


الحلقة مفرغة

أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد..

لعل من حسن الطالع وحسن الأمر أن يكون حديثنا في الوعد الحق في هذا الشهر الكريم ونحن في العشر الأواخر، وهذه كلها مبشرات، فرمضان بالنسبة للشهور الباقية من السنة كيوسف بالنسبة لإخوته الأحد عشر، فإذا كانت الشهور الأحد عشر هي إخوة يوسف فرمضان هو يوسف لأنه كان أسيراً عند أبيه يعقوب -ولله المثل الأعلى- فرمضان أسير عند خالقنا وأسير عند المسلمين.

ويعقوب لم يرتد إليه بصره لما رأى قمصان أبنائه الأحد عشر، وإنما ارتد إليه بصره لما شم قميص يوسف، ولما وجد ريح قميصه قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [يوسف:94] فالقلب يشم ريح التوبة وعبير الاستقامة وعبير حسن الخاتمة في هذه الأيام الطيبة مع ريح رمضان ومع قميص رمضان ومع جلباب رمضان.

وموضوع حسن الخاتمة نبحث عنه كلنا، ويجب أن نبحث عنه كلنا، وأنت لما تزرع شجرة عنب لا تظن أنك تجني منها الشوك، فكذلك لا تظن أنك تظلم الناس ثم تموت بحسن خاتمة، ولا تظن أنك تفتري على الناس، وتحقر من شأنهم، وتتكبر عليهم، وتتألى عليهم، أو تصيّر نفسك من طينة أو من عجينة غير الطينة والعجينة التي خلق منها الناس، وتظن أن هناك حسن خاتمة تنتظرك!

والرسول صلى الله عليه وسلم هيأه تفوقه أن يكون واحداً فوق الجميع، فعاش بتواضعه واحداً بين الجميع، وهكذا يجب أن نكون، أي: يجب أن يكون الشخص محمدي النزعة، محمدي السلوك، محمدي التصرف.

وحسن الخاتمة له محاور وأسباب، وقد يتعجب الإنسان ويقول: هل لي دخل في موضوع حسن الخاتمة؟ فهو شيء مقدر لا دخل لي فيه.

فهذا ما يقوله البعض، ولكن نحن طالما نبحث وندقق ونفهم ديننا حق الفهم، فنقول: الأمر كما قال جعفر الصادق : أراد بنا وأراد منا، أراد الله بنا قضاءً وقدراً، وأراد منا عملاً، فما أراده بنا -القضاء والقدر- واراه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا.

فبهذا تتضح الصورة.

فأنا مسير في أمر لا أحاسب عليه، ومخير في كل أمر أحاسب عليه، قال تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

وهل سوء الخاتمة للإنسان دخل فيه؟

نعم، هي من فعل العبد، وله كل الدخل في حسنها أو قبحها، فحسن الخاتمة من صنع الإنسان وفعله؛ لأنه كما يزرع فسوف يحصد.

أما كونه كتب عليه رزقه وأجله وشقي أم سعيد، فهذا الشقاء وتلك السعادة في علم الله؛ لأنه لا يقع في كون الله إلا ما يعلم رب العباد، وهو العليم الخبير، ولكن لم يكتب على الكافر كفراً، وإنما الكافر هو الذي كتب ذلك على نفسه بعمله.

وأما قول الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] فالمعنى: أن من شاء من البشر أن يهتدي هداه الله، ومن شاء الضلالة فليمدد له الرحمان مدا، قال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، وقال سبحانه: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3] إذاً فالهداية بدايتها من العبد، ومن يطرق الباب يفتح له.

ومن هذا قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فإنهم طرقوا باب الهداية، وأناخوا رواحلهم على باب الله ففُتح لهم، وباب الله ليس عليه باب ولا بواب، أي: أن باب الله دائماً مفتوح لا يغلق، وكلمة باب تعني له رتاج، فهذا هو تعريف الباب، ولكن باب الله باب مجازي، فلا باب ولا بواب، يعني: لا يوجد ملك يقف على الباب ويقول: يدخل فلان أو لا يدخل، وليس هناك دعوة تصعد في الثانية ليلاً فيقال لها: ارجعي الملائكة الآن نائمون!

وأما قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:21]، فالمراد: ننزله بقدر لكن ليس من الباب، وإنما لعلم الله أن هذا يصلح في هذا الوقت لا في هذا الوقت، وبهذه الطريقة وليس بهذه الطريقة، وبهذه الكمية لا بهذه الكمية.

عندما يشاء الله للعبد الهداية إنما ذلك بعد أن توجد دواعيها؛ لأن رب العباد أنزل الشرع وعلمه إيانا رسوله صلى الله عليه وسلم، وتركنا على المحجة البيضاء، وبالعامية: (هذه سكة السلامة وهذه سكة الندامة)، فبين طريق الهداية من طريق الغواية، ونؤكد أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر قد قاله لـأبي جهل ، ولم يزد لـأبي بكر ساعة زيادة، أي: لم يختص أبا بكر بساعة، أي: لم يقل له: تعال نعطيك درساً خصوصياً في الهداية، وكذلك لم يقل لـعلي بن أبي طالب تعال لنتكلم معك في الهداية ليل نهار، ولا نتكلم مع عمك أبي لهب إلا دقيقتين!

فكما أوصل المعلومة لـعلي أوصلها لـأبي لهب ، وكما أوصلها لـأبي بكر أوصلها لـأبي جهل ، فما الذي حدث؟

سعى أبو بكر فطرق ففُتح له فدخل، بينما أبو جهل أعرض وولى فأخذ ثمن إعراضه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على هدايته، فكان يقول: (اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك) أي: عمرو بن هشام الذي هو أبو جهل ، أو بـعمر بن الخطاب ، فلما بشر خباب بهذا الدعاء بدأ بـعمرو بن هشام ؛ لأنه أحد صناديد قريش، وبهدايته يهتدي كثير.

وقد أمضى الرسول صلى الله عليه وسلم وقتاً طويلاً معهم؛ طلباً لهدايتهم، حتى قال الله: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس:5-6].

ولما وكل الأنصار إلى إيمانهم يوم حنين قال لهم: (لو شئتم لقلتم: جئت مكذباً فصدقناك، وعائلاً فأغنيناك، ولو قلتم لصدقتم وصدقتم، أما ترضون أن يعود الناس بالأسلاب والغنائم وتعودون أنتم برسول الله؟ قالوا: رضينا رضينا، وبكى القوم وابتلت لحاهم).

فالهداية أولاً من العبد؛ لأنها لو كانت مقصورة على أناس محددين فقط، لكنت عند أن تقول: يا فلان! لماذا لا تصلي؟ لقال لك: عندما يهديني الله، وإن قلت: يا فلانة! لماذا لا تتحجبين؟ لقالت: عندما يهديني الله، وإن قلت: يا فلان! لماذا لا تتوب من الربا فسيقول: عندما يهديني الله، وهكذا.

أو قد يقول: ادع لنا! وبدلاً من أن ندعو الله له فليسلك هو الخطوات، كالمدخن مثلاً، إن قلت له: لماذا تدخن؟ فيقول: يا شيخ ادع لنا! فأقول: والله دعائي أحد أمرين: إما أن يستجاب أو لا يستجاب، لكن إقلاعك أنت عن التدخين هذه هي الحقيقة الكائنة.

ونحن الآن قد عكسنا الدالة الحسابية، أي: يقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2] ونحن قلنا: أوجد المخرج ثم أتق الله عز وجل.

فازرع شجرة التقوى يأتيك المخرج، ويثمر مخرجك، ولا تسأل عن المخرج وأنت لم تزرع.

والعبد هنا يريد أن يمتحن الله والله لا يمتحن، بل الله يمتحن عباده، لا أن يمتحن العباد ربهم، فلا ينبغي أن يقال: أوجد لي مخرجاً حتى أتقي، وفي قصص بني إسرائيل قال إبليس لعيسى: هل أنت روح الله؟ قال: نعم. قال: فإذا كنت تحب الله فألق نفسك من فوق هذا الجبل، ولننظر كيف ينقذك رب العباد! قال: يا لعين! الله الذي يمتحن عباده، وليس للعبد أن يمتحن ربه. فلا نقلب الموازين، ولا نجرب مع الله، فالله لا يجرب معه.

فلنكثر من العمل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: (يا رسول الله! ادع الله أن أكون رفيقاً لك في الجنة، فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود) أي: صل واستقم وأنا أشفع لك، وهذا كما تقول لابنك: يا بني! مدير المدرسة أو رئيس الجامعة يعرفني، أو الأساتذة زملائي فإياك أن تفضحني أمامهم، ذاكر بجد حتى إذا كلمتهم أكون رافعاً رأسي، فيقولون: ما شاء الله ابنك خطه جميل، وإجابته جميلة، وهو منمق ومهذب، وسلوكه متميز؛ فيعطونك الدرجة، لا لأن أبيك من ضمن الفريق فيجاملونك لأجله.

حتى لجنة الرأفة نفس القضية، أي: لو أتينا للشفاعة لشخص أتى بثمانية وأربعين في المائة، وبقيت عليه درجتان لينجح، فهذا فيه شفاعة، أما شخص أتى بصفر في المائة، فهذا ليس له شفاعة!

إذاً: فالحاصل أن حسن الخاتمة وسوءها مبني على سابقة الأعمال.

الصدق

ونتحدث الآن عن كيفية المحاولة لتحسين الخاتمة.

أول عنصر من عناصر حسن الخاتمة: الصدق مع الله عز وجل، وأول شيء في الصدق مع الله: صدق النية وتجريدها.

أي: يجب أن أصدق النية أولاً في أي عمل أقدم عليه، فإن قلت: سأذهب لزيارة فلان لوجه الله، وربما أجد عنده فلاناً فهو دائماً يزوره، وأنا لي مصلحة معينة عنده، فحينها لا يوجد صدق نية.

قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].

أي: ولا تنس نصيبك من الدنيا في زراعة الآخرة فيها، فالدنيا لا تنفصل عن الآخرة، وإنما هذا عند الغرب، أما عندنا فالدنيا مصنع ومزرعة، وفي الآخرة جني الثمرات، فلابد من صدق النية في العمل.

أما مقولة: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً..) فهي مقولة خائبة لم يقل بها أحد، وليست حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تذكر حتى في (الموضوعات) لـابن الجوزي.

وهذه المقولة تسبب هزة في اليقين، وتوحي لك كأنك تعيش أبداً وأنت لن تعيش أبداً، وبالتالي فهذه الحكمة باطلة من أولها، ولم يقل هذا رسول الله ولا أحد من الصالحين، وهذه انتشرت بين الناس كانتشار النار في الهشيم.

إذاً: فصدق النية أمر هام، وقد تحدثنا عن الإمام مالك أنه جاءه أبو جعفر فقال له: يا إمام! وطئ لنا كتاباً -يعني: ذلل وسهل- وتجنب فيه رخص ابن عباس ، وشدائد ابن عمر ، وغرائب ابن مسعود ، وذلك أن عبد الله بن عباس كان يعتمد على التيسير، وابن عمر يعتمد على التشديد، وابن مسعود يأتي بالغرائب التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعها أحد، فالناس يتعجبون منه ويقولون: من أين أتيت بهذا الكلام؟! وغرائبه مشهورة.

فكتب كتابه الموطأ في الفقه، وهو أول كتاب، ويعتبر مرجعاً فقهياً عظيماً، وكان الإمام مالك إذا حدث يقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: حديث كذا، في الفقه أو في الحديث، فيدخل ويغتسل ويتطيب ويسرح لحيته ويلبس ثوباً أبيض، ويخرج على الناس قائلاً: نحن نحدث عن رسول الله، بلغني عن فلان، حدثني فلان عن فلان عن فلان عن صاحب هذا القبر الشريف، ويضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما كتب الكتاب قال له أبو جعفر نطبع منه، أي: نعمل منه نسخاً ونوزع في الأمصار، فقال مالك : لا، لا أدري مدى صدقي فيه، أي: أريد صدق النية فقط، قيل: وكيف نعرف نيتك؟ قال: ضعوه على سقف الكعبة سنة، فإن وجدتموه كاملاً فهذا دليل على صدق نيتي، وإن محيت منه كلمة أو سطر أو حرف فصدقي فيه نظر، فجاءوا بعد سنة فوجدوه كاملاً كما هو، فقال: صدقت نيتي فيه يا أمير المؤمنين.

تجديد النية

لابد من صدق النية ثم تجديدها، فكيف أجدد النية؟

لقد وضع لي ربي صلوات بين الحين والآخر، ففي الساعة الخامسة صباحاً آتي إلى المسجد، وكذا الساعة الثانية عشرة، ثم الساعة الثالثة أيضاً، ثم الساعة السادسة كذلك، ثم الساعة الثامنة، هذا كله لكي أجد لنفسي فرصة فأبحث ماذا عملت بين كل وقتين، فإذا اغتبت فلاناً فإني أستغفر الله أولاً بأول، وأعزم أن أتصل به الآن وأستسمحه، وأتأمل ماذا عملت أيضاً فأستغفر الله وأنزع.

وهكذا يكون حالي بين كل وقتين من أوقات الصلاة، فلابد أن يقف أحدنا كل ثلاث أو أربع ساعات مع نفسه، هذا أمر لابد منه.

ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن نهراً يجري بباب أحدكم يغتسل فيه خمس مرات في اليوم، هل يبقي ذلك من درنه شيئاً؟ قالوا: لا، قال: هكذا الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا كما يمحو الماء الدرن).

إذاً: فيجب أن نصدق في تجديد النية أولاً بأول، وقد كان لنا علماء يكتبون سيئاتهم في ورق، ويجلس أحدهم يستغفر الله منها في الليل، فليست كتابة للإحصاء فقط، حتى رأى أحدهم من يقول له في منامه: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70].

فـ(حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم)، حتى الملائكة عندما يأتون لمحاسبة العبد الصالح يقولون: (قد كفانا مؤنته، وحاسب نفسه قبل أن نحاسبه).

فلابد من المحاولة للسير في درب الصادقين مع الله سبحانه وتعالى وتجديد النية؛ لأن النية تضعف كل فترة، فتحتاج للتجديد بصورة مستمرة، فأسأل نفسي: لماذا أفعل كذا أو كذا؟

فمثلاً: عند أن أخرج للعمل يومياً ماذا أريد؟ هل أفعل ذلك حتى أحصل على راتب قوي جميل أعيش به عيشة هنية، ثم أستمتع بالحياة؟

لا، وإنما أجدد نية العمل بأنني أعين على حركة دولاب الحياة، أي: حركة سير الحياة؛ لأنني كمسلم مكلف أن أعين الحياة على أن تسير.

وهنالك من المسلمين من هو أبسط من هذا، أي: يأخذ الحياة ببساطة شديدة، وهي بسيطة ولكن نحن عقدناها، فنحن وجدنا في الحياة لنعيشها لا لنفهمها، أي: ليس من الضروري أن أفهم، وإنما أفهم شيئاً واحداً فقط، وهو أني موجود في الحياة من أجل أن أزرع فيها خيراً، أو أعمل الخير، وأعمر الحياة بمرضاة الله عز وجل.

فإذا ألجأت الظروف أحد المسلمين أن يحيد عن هذا الطريق المستقيم فليعد وليجدد النية وليستغفر مرة أخرى، ويجدد ويبدأ صفحة جديدة.

أهمية الاستمرار في تجديد النية

وإذا ألجأته مرة أخرى وثانية وثالثة ولو مائة مرة، فليستغفر وليتب، وفي الحديث: (ما أذنب من استغفر من الذنب ولو عاد إليه مائة مرة).

بل يقول الله في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض ذنوباً ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لجئتك بقرابها مغفرة).

وقال الرجل الصالح: يا رب! أنا أنا وأنت أنت، أنا العواد إلى الذنوب، وأنت العواد إلى المغفرة، فعاملني بفضلك ولا تعاملني بعدلك، العباد لك غيري كثير، لكن لا رب لي سواك، فاغفر لي وارحمني.

فيتملق لله، ويتودد إليه بهذا المنطق، وينيخ راحلته على باب الله عز وجل، فأهم شيء في موضوع تجديد النية أن تتوب من الذنوب أولاً بأول.

وهل نحن محاسبون على نياتنا؟ قد تسبق نية المرء عمله، مثل أن أقول: إن شاء الله قبل أن ينتهي رمضان سأخرج كذا وكذا من الصدقة، وليس لها دخل بالزكاة أو زكاة الفطر، فجاءت أمور عطلتني وأنا صادق في النية، فالأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من هم منهم بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة).

في عام من أعوام المجاعة رأى رجل من بني إسرائيل جبلاً من حصى ورمال وأحجار، وليس في يده ما يعطي الفقراء، فقال يا رب! وعزتك وجلالك لو كان هذا الجبل طعاماً لوزعته على عبادك ابتغاء مرضاتك، فقال الله: يا موسى! بلغ عبدنا أنا قد قبلنا منه صدقته.

فالذي يعطي هو الكريم سبحانه، فلِمَ التيئيس من الله سبحانه وتعالى! والكافر المستمرئ المعصية، والمجرم الظالم للناس والحقود والحسود الذي لا يريد خيراً بالناس، والذي ليس له رأفة بأحد لا بإنسان ولا حيوان، الذي يريد أن يكون مفترساً، فهذا هو الذي ينتقم منه رب العباد، وهو الجبار عليه.

لكن العبد المسلم يتصف ويعيش مع صفات الجمال لله عز وجل كالرحيم والودود والغفور والعفو والستار، ونحوها، وينقمع وينخاف من الصفات الأخرى كالجبار والمنتقم والقهار ونحوها.

وقد يتساءل متسائل فيقول: نوعية الذنوب التي يقترفها العبد وبها تسوء الخاتمة والعياذ بالله: من السرقة، والقتل، والزنا، والغيبة، ونحوها، كيف يبدل الله سبحانه وتعالى هذه السيئات إلى حسنات؟ وماذا يصنع العبد في الدنيا لنيل ذلك؟

من أنواع الصدق صدق الجوارح، وهذا من الصدق مع الله أيضاً، ونحن لا زلنا تحت عنوان: الصدق مع الله.

وصدق الجوارج معناه: أنت تغسل يديك جيداً، ألم تقل السيدة سكينة عن الإمام الشافعي : رحم الله الشافعي كان يحسن الوضوء.

وهذا صاحب مذهب، ونحن قد نجد طفلاً صغيراً عندنا يحسن الوضوء، لكن لا يحسن الوضوء الحقيقي، فما هو الوضوء الحقيقي؟ الوضوء الحقيقي: أنا أغسل يدي من الذنوب، وكانت العرب تقول: نظيف اليد، ويسمى هذا في البلاغة: كناية، أي: كناية عن استقامته، فلا يأخذ رشوة بها، ولا يضرب أحداً، ولا يأخذ مالاً حراماً، ولا يلمس شيئاً يحرم عليه، إذاً: فهو نظيف اليد من الذنوب.

وعندما يتمضمض هل المراد المضمضة فقط؟ لا، فقد يكون الفم نظيفاً، والصائم فمه أنظف، لكن عندما أتمضمض أقول: لا داعي للغيبة ولا للنميمة ولا للكذب، فهذا الوضوء هو وضوء الفم، وهكذا.

فعند أن أستنشق لا أشم ما حرم الله عز وجل، وعند أن أغسل وجهي أعزم أن العين لا ترى والأذن لا تسمع شيئاً حرمه الله، وإن مسحت الرأس فأعزم أن العقل هذا لا يفكر إلا في الله وفي رحمته وفضله ونصر دينه، وعند غسل الرجلين أقول: إن هاتين الرجلين لن أمشي بهما إلا إلى بيت الله، وإلى مجالس العلم والخير، كصلة الرحم، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، والتهنئة في الخير، والتعزية عند البلاء.

وهذا من إسباغ الوضوء على المكاره، بل هذا هو الإسباغ الحقيقي، فعند أن أتوضأ، لا ينبغي أن أكتب خطاباً لهيئة معينة يدخل به إنسان السجن ظلماً، أو أن أكتب كلمة أسيء بها إلى عائلة أو إلى أسرة أو إلى بلد ظلماً وعدواناً، بل هذا الفم الذي يتمضمض لا ينبغي أن يخرج منه هذا أبداً.

فالفم الذي يخرج منه القرآن لا يصلح أن يخرج منه شيء آخر.

عمارة الوقت بالطاعة

المحور الثالث في الصدق مع الله -وهو الأخير-: تعمير الوقت بالطاعة. أي: أن أعمر الوقت بالطاعة، قال أحد الصالحين: أحتسب عند الله نومتي كما أحتسب عنده قومتي، أي: عندما ينام، يقول: لماذا أنام؟ فإن كنت أنام كي أقوم مرة أخرى لعمل الطاعة، ولأن أفتح صفحة جديدة من تعمير الدنيا بأمر الله، وبفضله وبطاعته وبكرمه وبقانونه، فنومي أثاب عليه، فبعض الناس نومه في ذاته عبادة.

وأما الظالم فنومه خير من يقظته؛ لأنه طالما وهو موجود فنومه أحسن، وهو مثل الطفل كثير الصراخ، فإنهم يهدهدونه ويهدئونه لينام، فإذا نام قالوا: الحمد لله نام، وهذا -أي: الطفل- غير مؤذ إلا في الصياح فقط، بينما الثاني مؤذ في كل شيء، فنومه أفضل.

فينبغي أن أعمر الوقت بالطاعة بحيث يظهر أثر هذه الطاعات في سلوكياتي مع الناس، وقد أقول: لا دخل لك بالصلاة؛ فصلاتي بيني وبين ربي، لكن إن لم تنهني صلاتي عن الفحشاء والمنكر والبغي فما فائدتها؟!

فإن قال قائل: قد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـحنظلة : (هذه ساعة وتلك أخرى).

فنقول: وأي ساعة تلك التي لـحنظلة ؟ يقول حنظلة : عندما نكون معك نشعر بأننا نطير في السماء، فلما نعافس النساء والأولاد نعود إلى الدنيا، فمسألته أن طاعته بلغت مائة في المائة، فلما يترك الرسول تتراجع الطاعة إلى خمسة وتسعين في المائة، فهو يريد أن يطيع دوماً مائة في المائة، فكأن النبي قال له: لا، الأمر مرة خمسة وتسعون، ومرة مائة في المائة.

فالصحابة ظل الرسول عليه الصلاة والسلام يرفع في إيمانياتهم حتى صاروا فوق الأفق، واستمر سيرهم هكذا فوق الأفق.

ولو قال أحد: إذا كانت طبيعة الحياة الدنيا من حيث العمل مثلاً تعرقل الإنسان عن أداء العبادات، وتحديداً الصلاة في وقتها، فما الحيلة؟

نقول: لا شيء يعطل الإنسان عن الصلاة ووقتها، وأوقات الصلاة خمسة، ما بين كل وقت ووقت هناك أول الوقت ووسطه وآخره، ولا يوجد عمل في الدنيا إلا وفيه راحة، فلا يوجد عمل عشر ساعات دفعة واحدة.

وما العذر الذي تقبله مصادر الشريعة الإسلامية في تقصير العبد في فريضة فرضت عليه؟

الجواب: الموت، أما إن كان حياً فهو مكلف بها، إلا إن كان مغمىً عليه، أو مجنوناً أو نائماً أو طفلاً، أما من كان وسط عملية جراحية فيلزمه أن يصلي ويصوم.

تجديد التوبة من جميع المعاصي ومنها أمراض القلوب

من علامات حسن الخاتمة تجديد التوبة، أي: التوبة من معاصي الجوارح ومعاصي القلوب، أو كبائر الجوارح وكبائر القلوب، ونسردها الآن سريعاً:

فمن أمراض القلب: الكبر، والعجب، والرياء، والأمن من مكر الله.

ومن الكبر، والعجب، والرياء أن يظهر أمام الناس بصورة مثل صورة النفاق، أي: أن يرائي الناس، فأمام الناس يصلي على مهله، وفي البيت -والعياذ بالله- ينقرها، ويظلم زوجته، وهو يتكلم عن حسن التعامل مع الزوجات أمام الناس.

فهذه من أمراض القلوب.

ومنها: الحقد والحسد والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، ثم عدم الخوف من الله. فهذه كبائر أمراض القلب.

فالكبر معروف، وكذلك العجب، وأما الرياء فمثاله: أن يظهر المرائي أمام الناس بصورة وهو على غيرها حقيقة، أو يشرك مع الله في العمل غيره، فمثلاً: يجد رئيس المصلحة ذاهباً لصلاة الظهر فيقول: ما شاء الله عليك، أنت رجل صالح وأنا وراءك، وإذا غاب لم يصل، فهذا مرائي.

وأما الحقد: فهو أن تضمر للناس شراً، وتعتبر نفسك ذئباً والناس أمامك شياه، وتترقب من الناس أي ثغرة أو عيب حتى تهجم عليهم، فهذا هو الحقود والعياذ بالله.

وإن قال قائل: أليس الحقد من مخلوقات الله سبحانه وتعالى؟

نقول: كل شيء مخلوق لله، لكن الإنسان هو الذي ينمي الحقد في قلبه، وهذا في القلب الذي لم يمتلئ بالإيمان بعد؛ لأن الحقد والحسد والرياء والعجب مثل الخفافيش أو البوم والهوام، فإنها تبقى في البيت المغلق الخرب، لكن افتح الأبواب، وأدخل أشعة الشمس وتيار الهواء النقي، فستهرب هذه الأشياء، وهكذا إذا دخل نور الإيمان إلى قلب العبد انقشعت كل هذه الآفات.

التحذير من الحسد

وأما الحسد: فهو أن تتمنى زوال نعمة الغير، يقول الإمام الشافعي :

ألا قل لمن بات لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه لأنك لم ترض لي ما وهب

فجزاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب

الحسود عنده مصيبتان: المصيبة الأولى: أنه ناقم على عدل الله في الكون؛ لأنه غاضب أنك أخذت وظيفة وهو لم يأخذ، أو أخذت رتبة أكبر منه، أو أن الناس يحبونك ولا يحبونه، أو يقبلون عليك ولا يقبلون عليه.

وأما إن كان يرى في نفسه كفاءة لهذا فهذه مصيبة أخرى؛ فقد جمع حسداً مع كبر.

المصيبة الثانية: أنه يأكل نفسه إذا رأى نعمة جاءت إلى غيره، وأنت خالي الذهن منه، يعني: أنت نائم في بيتك ومستريح أن جاءك الخير، والناس يحبونك ويستمعون إليك، وأخذت وظيفة أو مركزاً اجتماعياً أو خيراً معيناً، وهو لم ينله هذا كله، فيتقطع حسداً وغيظاً، ولذا قال العلماء:

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله

فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله

أي: كمثل شخص معه كرة قوية، فمن غيظه يضربها في الحائط بقوة، فترتد بنفس القوة على وجهه.

والحسود ليس عنده مقام الرضا، كشارب البحر، فشارب البحر لا يزيده الشرب إلا عطشاً، فهو كلما وجد نعمة عند الغير تقطع حسداً أو غيظاً، ويزداد كلما ازدادت النعمة على الغير.

وليس من الحسد أن أتمنى أن أكون مثل فلان، فهذا حق مشروع؛ لأن هذه غبطة لا حسد، والغبطة: هي تمني مثل تلك النعمة مع عدم تمني زوالها.

وألأم الحاسدين من يتمنى أن يكون صاحب النعمة مثله، والعرب كان عندهم فريق من الحساد، هذا هو عملهم، أي: الحسد، فيقولون له: تعال نريد منك أن تحسد ناقة فلان!

فيقول له الحاسد: أشر إليها، فينظر إليها نظرة ويقول: يا غلام! ائتني بجزء من لحمها، فبعد خطوات تقع الناقة صريعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدخل الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر)، ولكن نحن لا نعول على الحسد كثيراً؛ حتى لا تكون حياتنا رهينة لفلان.

وإذا اكتشفنا أن فلاناً حسود بطبيعته، أو يظهر هذا عليه، فأول ما نراه نقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وهذه تبطل الحسد إن شاء الله، ونكبر، كما ورد في سورة الكهف: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39].

وإذا أراد إنسان من نفسه ألا يحسد أحداً فكذلك يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وكلما رأى نعمة مثل أن يسمع أن هناك ولداً صغيراً يحفظ القرآن، فإنه يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أو ما شاء الله تبارك الله، وعندما يرى بيتاً جميلاً، يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أما من أين هذا؟ وكيف حصلتم عليه؟ ونحو ذلك، فلا داعي له، ولا نريد أن نخوض في قضية الحسد كثيراً؛ لأنه موضوع كبير.

أما الغبطة فهي مشروعة، فالمؤمن يغبط والمنافق يحسد.

وماذا يصنع المؤمن إذا أعجبه شيء؟ يقول: اللهم ارزقني كما رزقت فلاناً.

وقد قال الله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32].

لأن الذي أعطى هذا المال هو الله سبحانه، فخزائنه لا تنفد، فإن أعطاه علماً أسأله سبحانه أن يعطيني، وأتمنى له الخير، والله سيزيدني، وأشكر ربنا على النعمة، وعندما نجد علامة أو رجلاً ثرياً يوجه ماله للخير، أو حاكماً صالحاً يعمل خيراً، فندعو له ونقويه لا أن نحطمه.

خطر الأمن من مكر الله

من أمراض القلوب أيضاً: الأمن من مكر الله، ومثاله: أن تجد شخصاً ليس له في الصلاة ولا في الزكاة ولا في عمل الخيرات نصيب، وتسأله عن حاله فيقول: الحمد لله على ما يرام، إيماني ما شاء الله، لو وزع على المسلمين كلهم لدخلوا الجنة إن شاء الله!!

فهذا آمن من مكر الله، ولا يأمن من مكر الله إلا كل خاسر، قال تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، فالأمن من مكر الله مصيبة وكبيرة من الكبائر.

فالعبد المؤمن لا يأمن، فالصحابة الذين بشروا بالجنة ازداد خوفهم وما ازداد أمنهم، فهذا أبو بكر الصديق يقول: لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدامي في الجنة.

وقالوا لـعثمان : متى الراحة؟ قال: عندما تصير الرجل اليسرى بجوار اليمنى داخل عتبة الجنة. فهذه هي الراحة، وبغير هذا لا توجد راحة.

التحذير من القنوط

ومن أمراض القلوب أيضاً: القنوط من رحمة الله، والقنوط هو اليأس من رحمة الله، والقانط إنسان قد يكون كثير الذنوب، ولكن يجب أن يسأل نفسه: هل ذنوبي أكبر أم عفو الله؟ فعفو الله أكبر، فعفوه يستغرق الذنوب، ووده يضيء القلوب، وحبه يدهش العقول.

ما تقع تحته كل الذنوب

إن عدم الخوف من الله عندما يتبخر من قلب العبد تحل الذنوب مكانه، وكل الذنوب تقع تحت عنوان عدم الخوف من الله.

فينبغي للإنسان أن يعود نفسه الخوف من الله ويربيها عليه.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

وإن قال أحد: مكتوب في صحيفة كل أحد أنه سيصنع كذا أو كذا فأين المفر من المقدور؟

فنقول: لم يلزم الله الكافر بالكافر ولكنه علمه، والكافر هو الذي عمل الكفر واختاره لنفسه، فلا يستقيم أن يأتي أحد يوم القيامة ويقول لربه: لو كتبتني في السعداء مع أبي بكر وعمر لكنت صالحاً! فهو سبحانه قد علم أزلاً أنك لن تكون مثلهم فهو العليم الخبير، والعبد هو الذي خط بنفسه قدره، وأعماله هي التي خطت له هل هو من أهل النعيم أم من أهل الجحيم.

ومن ولد أعمى أو أخرس أو أبكم فهذا يدل على أن الله أراد به خيراً، فلما حرمه من نعمة البصر ماذا صنع به؟ قال الله له في الحديث القدسي: (لقد سلبت حبيبتيك في الدنيا، هذا وجهي أبيحه لك تنظر له بكرة وعشياً، لا أجد لك جزاءً أكثر من هذا)، وهذا أعلى ثواب في الجنة، ولما قال ربنا: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] والمزيد هو مشاهدة وجه رب العالمين، فالأعمى ولد هكذا لكي يكرمه رب العباد، وربما لو كان هذا الأعمى مبصراً لافترى بعينيه.

ويقال: كل ذو عاهة جبار.

ونقول: لا، ليس بجبار، ولكنه مبدع، فإذا وجدت شخصاً عنده شيء ناقص فإنك تجده مبدعاً بفضل الله.

إثبات اختيار الإنسان في تصرفاته كلها

لقد كتب في اللوح المحفوظ السيرة الذاتية لكل إنسان منا، ومن ضمن ذلك الرزق، والله سبحانه وتعالى يعلم أن هذا المخلوق الذي خلقه سيصنع يوم كذا كذا، والعبد هو الذي يختار ذلك الفعل بنفسه، وهو مخير في أفعاله، فهو لا يعلم ماذا قدر له.

فأنت مخير لأن تذهب برجليك إلى المسجد أو إلى السينما، وأن ترى الحق أو الباطل، فأنت مخير في تصرفاتك التي تثاب وتعاقب عليها، فمن طرق الباب يسر الله له الدخول أو أزاح عنه العقبات، والخلقة كلها واحدة، أي: خلقنا جميعاً على الفطرة، وقد خرجنا من بطون أمهاتنا بدون سيئات.

المسارعة إلى الخيرات

ومن أسباب حسن الخاتمة أيضاً: المسارعة إلى الخيرات، فكلما وجدت باب خير لا أتوانى، فإن وجدت باب صدقة تصدقت، أو كفالة يتيم كفلت، أو صوم صمت، فلا تأخر المعروف حتى في الدنيا، خرج النبي صلى الله عليه وسلم فوجد العباس وأبا بكر وعمر على الباب، أي: على باب رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا يريدون أن يزعجوه، فقال: (فيم كنتم تتحدثون

وقد كانت عندهم أعمال، فـأبو بكر كان تاجراً وعمر كان يعمل في الزراعة، وكان العربي يعمل حتى الظهيرة، وبعد الظهيرة يكون عنده قيلولة، فإذا كان لديه عمل آخر يذهب إليه، وإن لم يكن عنده عمل يجلس، وربنا يضع البركة.

وقد عملوا إحصائية في دولة إسلامية فوجدوا أن العامل يعمل سبع وعشرين ثانية، أهذا مسلم!

وهذه إحصائية من مؤسسة محترمة نثق بها.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيم كنتم تتحدثون؟ قالوا: كنا نتحدث في المعروف يا رسول الله! قال: وماذا قلتم؟ قال أبو بكر : إن خير المعروف تعجيله، وقال عمر : وأنا قلت يا رسول الله: إن خير المعروف ستره، وقال العباس : إن خير المعروف تصغيره) يعني: أصغّره، فأقول: أنا لم أعمل شيئاً.

فقال صلى الله عليه وسلم: (إن في المعروف الثلاثة، فإن عجلته هنأته، وإن سترته تممته، وإن صغرته عظمته).

إذاً: فـأبو بكر يقول: خير المعروف تعجيله، أي: إذا أردت أن تعمل معروفاً فبسرعة، وقال عمر : خير المعروف ستره، أي: إذا عملت معروفاً فاستره، واحذر من الرياء والتسميع.

وقال العباس : خير المعروف تصغيره، يعني: تقول: أنا لم أعمل شيئاً.

فجمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأقر ما قالوه بقوله: (إن في المعروف الثلاثة: إن عجلته هنأته، وإن سترته تممته، وإن صغرته عظمته).

ولابد في المسارعة إلى الخيرات، من اتباع السنة، أي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)، فاقتف أثر رسول الله، وما خان الرسول عليه الصلاة والسلام أحداً قط، وما كذب قط، وما تهجم على أحد قط. فلابد أن يكون الرسول قدوة ثم تذكر الآخرة.

قال أحد الصالحين: لو فاتني ذكر الآخرة ساعة لفسد قلبي. وأناس لا يذكرون الموت حتى يموتوا، حتى إذا قلت له: احذر الموت قال: فال الله ولا فالك، ابعد الشر.

من أسباب حسن الخاتمة إصلاح عيوب النفس

ثم من أسباب حسن الخاتمة: إصلاح عيوب النفس، فكل إنسان فينا له عيوب، فاعرض نفسك على الكتاب والسنة، أو على عالم رباني، أو على أخيك المسلم الذي إن رآك غافلاً ذكرك، وإن رآك ذاكراً أعانك.

سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

اللهم أحسن لنا خاتمتنا في الأمور كلها يا رب العالمين، وارزقنا قبل الموت توبة الهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين غير فاتنين ولا مفتونين، غير خزايا ولا نداما ولا مبدلين.

اللهم هيأ لبناتنا الأزواج الصالحين، ولأبنائنا الزوجات الصالحات، واصرف عن مجتمعاتنا الإسلامية شياطين الإنس والجن.

اللهم أعن حكامنا ببطانة الخير التي تعينهم على الحق يا رب العالمين، ووفقنا وإياهم لما تحب وترضى، اللهم أظلنا بعرشك يوم لا ظل إلا ظله، واسقنا من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب، واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم يا رب تسليماً كثيراً آمين.