رسالة منهج دراسة الأسماء والصفات


الحلقة مفرغة

للبيع أركان وشروط، فأركانه ثلاثة: الصيغة الدالة على الإيجاب والقبول، العاقدان محل العقد وهو السلعة والثمن. وشروطه كذلك ثلاثة: أن يكون المبيع مالاً متقوماً، وأن يكون مملوكاً لمن يلي العقد، وأن يكون معلوماً بما يميزه عن غيره من الأشياء.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

في هذه الليلة نستعرض وإياكم رسالة علمية في أحد موضوعات العقيدة، وهو توحيد الأسماء والصفات، وهذه الرسالة هي رسالة العلامة الشيخ الإمام/ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، بعنوان: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات .

وهذه الرسالة تثبت سلفية الشيخ رحمه الله تعالى في عقيدته، وسنعرض لشيء من ترجمته بعد عرض الرسالة بمشيئة الله تعالى، وكانت هذه الرسالة محاضرة قد ألقاها الشيخ رحمه الله في الجامعة الإسلامية في: (الثالث عشر من رمضان، سنة ألف وثلاثمائة واثنين وثمانين للهجرة) ومعلوم ما يشيع عند كثير من الناس المنتسبين إلى العلم في العالم الإسلامي من منهج المتكلمين في الأسماء والصفات، وإنكارهم لكثير من الصفات، وتأويلهم وتحريفهم بالأحرى لنصوص الصفات، ولا شك أن المجتمعات العلمية يكون فيها من هذا كثير، ويصل طلبة العلم إلى كتب ليست على طريقة السلف في الأسماء والصفات، فبين الشيخ رحمه الله تعالى بعض القواعد الأساسية في هذا الموضوع، ونبه في بداية رسالته إلى أمر مهم ألا وهو: أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في الموضوع من البدع التي يكرهها السلف .

وأن مباحث آيات الصفات التي دل عليها القرآن الكريم، ترتكز على ثلاث أسس مهمة.

الأساس الأول: تنزيه الله عز وجل أن تشبه أي صفة من صفاته صفة من صفات المخلوقين، فلا يشبه سبحانه وتعالى أحداً من المخلوقين، ولا تشبه صفاته سبحانه وتعالى أي صفة من صفات المخلوقين كما دل عليه قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقوله سبحانه وتعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]، إذاً أولاً: عدم المشابهة، بين الله وخلقه.

الأساس الثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا يصف الله عز وجل أعلم منه سبحانه وتعالى، لا يوجد أحد أعلم بالله من الله قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] وكذلك الإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

فإذاً القاعدة الثانية: يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أخل بأحد هذين الأصلين وقع في ضلال، وتجرأ على الله عز وجل، ونفى صفات أثبتها الله لنفسه سبحانه وتعالى، والله يثبت ما يشاء لنفسه عز وجل من صفات الكمال والجلال، فكيف يليق بجاهل مسكين أن يتقدم بين يدي رب السماوات والأرض، ويقول: هذا الذي وصفت به نفسك لا يليق بك! وهذا الذي وصفت به نفسك يلزم منه النقص! وأنا أريد أن أؤوله وأن ألغيه وأن آتي ببدله من تلقاء نفسي، من غير دليل سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].

ومن آمن بصفات الله سبحانه وتعالى، فإنه لا بد أن يعتقد أن الله منزه عن مشابهة المخلوقين، فيكون سالماً من التشبيه، وسالماً من النفي والجحد، فهو يثبت الصفة، ويؤمن بأنها لا تشبه أي صفة من صفات المخاليق، هذا هو مضمون قوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

فنفى المشابهة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] هذا الركن الأول وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] أثبت لنفسه السمع والبصر، فمن جاء وقال: إن المخاليق المخلوقة والحوادث هذه المحدثة لها سمع وبصر، فكيف نثبت لله السمع والبصر فإنه تشبيه؟

فنقول: كيف يكون تشبيهاً وقد قال هو لما أثبتها لنفسه قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فالله عز وجل له صفات لائقة بكماله وجلاله، والمخلوقات لهم صفات مناسبة لأحوالهم، وصفات رب السموات سبحانه وتعالى أكمل وأعلى من أن تشبه صفات المخلوقين، فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه فقد جعل نفسه أعلم بالله من الله، ولا يقول هذا إلا مجنون ضال ملحد لا عقل له، وقد قال الله تعالى في المشركين تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] ومن يسوي رب العالمين بغيره، فهو مجنون !

وقد جاء المتكلمون في بعض العصور الإسلامية واستخرجوا من كلام اليونان القواعد الفلسفية والكلامية، ثم حاكموا نصوص الصفات إليها، فنفوا ما نفوا وأثبتوا ما أثبتوا بزعمهم أنهم يثبتون ما يوافق مقتضى العقل، وينفون ما يقتضي العقل نفيه، فحكموا عقولهم في النصوص، وقدموا عقولهم على الكتاب والسنة، وقدموا منطق اليونان على القرآن، ولا يمكن أن يكون هناك أية مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق، فلله تعالى الصفات اللائقة بذاته، وللمخلوق الصفات اللائقة به.

وهؤلاء المتكلمون لأنهم لا يعتمدون على الكتاب والسنة، فقد اضطربوا، وكل من لا يعتمد على الكتاب والسنة يضطرب، وهذه قاعدة: فتجد أن بعض هؤلاء المتكلمين قد أثبتوا سبع صفات، وبعضهم أثبت ثلاث عشرة، وبعضهم أثبتوا واحداً وعشرين صفة، وهكذا اضطربوا في عدد الصفات التي تليق بالله من وجهة نظرهم، كل واحد على حسب عقله، يقول: هذه تليق بالله أثبتوها، وهذه لا تليق لا تثبتوها، وأهل السنة يثبتون كل ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، فهؤلاء بعض المتكلمين المشهور من مذهبهم الذي أثبته الأشعري أولاً: السبعة المشهورة:

له الحياة والكلام والبصر     سمع إرادة وعلم واقتدر

جمعوها في هذه البيت وقالوا: إننا نعترف بسبع صفات لله فقط، ما هي؟ قالوا: صفة القدرة، وصفة الإرادة، وصفة العلم، وصفة الحياة، وصفة السمع، وصفة البصر، وصفة الكلام.

مثلاً: أثبت أنه يُحب ويغضب ويرضى ويرحم .. إلى آخره، قالوا: لا نثبتها، وصفات الذات، أن له اليد والوجه والقدم والأصابع سبحانه وتعالى.. إلى آخره، قالوا: لا نثبتها.

والمعتزلة أيضاً أصحاب علم الكلام قد عطلوا أسماء الله سبحانه وتعالى ونفوا الصفات، قالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، قادر بذاته، سميع بذاته، عليم بذاته، حي بذاته، لأنهم لا يريدون الإثبات .. لا حياة ولا سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة، وهؤلاء في النفي غلو أكثر من الأشاعرة بطبيعة الحال، وهذا مذهب يعرف كل عاقل بصير بالكتاب والسنة أنه مذهب باطل.

الشنقيطي رحمه الله في رسالته يريد أن يناقش هؤلاء، ويثبت لهم أن ما أثبتوه هو من باب الذي نفوه، وأن يلزمهم بنفي الجميع أو إثبات الجميع، وأن يقول لهم: إن المحذور الذي تفرون منه في الأشياء التي تنفون عن الله موجود، إذا أرادنا نطبق كلامكم في الأشياء التي أثبتموها.

مذهب السلف في الصفات الذاتية

فالآن يقول لهم: مثلاً: الإرادة، أنتم تثبتون لله يا أيها الأشاعرة ، يا أيها المتكلمون؟ يقولون: نعم نثبتها لله، حسناً أليس المخلوق له إرادة؟ فيقولون: نعم، فنقول: إذاً هذا تشبيه، لماذا ما تأولون الإرادة وتنفون الإرادة أيضاً، ولا معنى أنكم تنفون الوجه لله مثلاً، وتقولون: بأن الوجه من صفات المخلوقين، وإذا أثبتنا الوجه عملنا مشابهة، فننفي الوجه، فنقول: وأيضاً الإرادة، إذا أثبتموها عملتم مشابهة، لأن المخلوق له إرادة، فانفوا الإرادة إذاً؟!

لكنه مشى رحمه الله في رسالته على تقسيم المتكلمين، وفندها واحداً واحداً، فقال: في صفات المعاني التي أقروا بها، نقول لهم: وصفوا الله بالقدرة، وأثبتوا له القدرة، والله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20] والله قد وصف المخلوقين بالقدرة، مثل قوله سبحانه وتعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34] فأثبت لهم القدرة، وآيات أخرى أيضاً، نقول لهذا الرجل المنحرف: هأنت تثبت القدرة للخالق، وتثبت القدرة للمخلوقين، هذا تشبيه.. فماذا سيقول؟ سيقول: لا، للخالق قدرة تخصه وتليق به، وللمخلوق قدرة تناسبه! فنقول: قلها في اليد والأصابع والقدم والمحبة والبغض والكره، وفي سائر الصفات، فلماذا فقط أثبت هذه السبع، قال: ووصف الله نفسه بالسمع والبصر في غير آية من كتابه، فقال: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75].. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ووصف بعض المخلوقات بأن لها سمعاً وبصراً!

مثال: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] من هو؟ الإنسان، فهل إذا أثبتنا السمع والبصر لله، وأثبتنا السمع والبصر للمخلوق .. حدثت مشابهة، فهل ننفي السمع والبصر عن الله إطلاقاً؟ فنحن لا نشك أن الذي في القرآن حق، فلله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان، يليقان بجلاله وعظمته، كما أن للمخلوق سمعاً وبصراً حقيقيين، يناسبان حاله من ضعف وفقر وفناء وعجزٍ، وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق من المخالفة مثل ما بين ذات الخالق وذات المخلوق.

وصف الله نفسه بالحياة، فقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255].. هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:65].. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] ووصف بعض المخاليق بالحياة فقال عز وجل: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [الأنعام:95].. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30].. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً [مريم:15] فهل ترى يا عبد الله أن الله لما وصف نفسه بالحياة، قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] وصف بعض المخاليق أنها لها حياة، فهل إثبات هذا وهذا يستلزم تشبيه؟ لا، فلله سبحانه وتعالى حياة تليق بجلاله وعظمته، حياة دائمة حقيقية سبحانه، والمخلوق له حياة لها بداية ولها نهاية، يفنى ويعجز، ويفتقر إلى الله سبحانه.

ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالإرادة، فقال: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16].. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ووصف بعض المخلوقين بالإرادة، قال تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ [الأنفال:71].. فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا [القصص:19]، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [التوبة:32].. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً [الأحزاب:13].. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:94] إذاً أثبت للمخاليق إرادة، وأثبت لنفسه إرادة، ولا يستلزم من إثبات هذا وهذا التشبيه، فكلٌ له إرادة تناسب حاله، والفرق بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق كالفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق.

لقد وصف سبحانه وتعالى نفسه بالعلم، فقال عز وجل: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات:16] ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] ووصف بعض المخلوقين بالعلم فقال: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً [الروم:7] فإذاً عندهم علم، وقال: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر:53].. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68] في سورة يوسف، وهو يعقوب عليه السلام.

فعلم الله سبحانه وتعالى كامل، عليم بالماضي والحاضر والمستقبل وكل شيء ما كان لو كان كيف سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، والمخلوق علمه ضعيف، لا يعلم من الماضي إلا قليل، والحاضر قليل، المستقبل لا يعلم عنه شيئاً إطلاقاً، والله قد أحاط بكل شيء علماً، فالله له صفة العلم، والمخلوق له صفة العلم مع التفاوت بينهما.

ووصف نفسه سبحانه وتعالى بصفة الكلام، فقال عز وجل: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164].. فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] ووصف بعض المخلوقين بأنهم يتكلمون، مثل: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمران:46] وكذلك: فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54].

فإذاً المخاليق أيضاً يتكلمون، فلا شك أن لله تعالى كلاماً حقيقياً لائقاً بجلاله وكماله، كما أن للمخلوقين كلاماً يناسب حالهم وفناءهم وعجزهم وضعفهم، والمخلوق كلامه لا يأتي إلا بعد المران، وكلامه يعتريه النقص، وبعض الناس لا يخرج بعض الحروف، وصوته ضعيف، والله سبحانه تعالى ينادي يوم القيامة، يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فشتان بين صفة الكلام لله وصفة الكلام للمخلوقين، ولا يستلزم إثبات الكلام لله أي تشابه، والفرق بين كلام الخالق والمخلوق كالفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق.

الأشاعرة مشهور عندهم إثبات هذه الصفات التي أثبتوها ويسمونها صفات المعاني، وخرجنا بأن إثبات هذه الصفات لا يستلزم أي مشابهة.

مذهب السلف في اسم (القديم)

نأتي إلى صفات أخرى قد أثبتها بعضهم، فبعض المتكلمين أثبتوا لله صفة القدم والبقاء، وصفة القدم ليس عليها دليل، وإنما الصفة التي ثبتت لله صفة الأولية هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الحديد:3] ونرد على المتكلمين الذين وصفوا الله بالقدم بغض النظر عن قضية ثبوت هذه الصفة، نقول: أنتم وصفتم الخالق بالقدم، طيب الله وصف المخاليق بالقدم: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] وأيضاً أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء:76] فهل يلزم عندكم أيها المتكلمون أن قدم الخالق مثل قدم المخلوقين؟

أما نحن فلا نثبت كلمة القدم، ولا نقول: إن من أسمائه القديم لأنها لم تثبت، نقول: هو الأول، فعندنا ما يغني، لكن من باب المحاجة نقول لهم هذا، والله سبحانه وتعالى له صفة البقاء، ونثبت هذه الصفة ،لأن الله أثبتها لنفسه: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27].

هل وصف الله المخاليق بالبقاء؟

الجواب: نعم.. والدليل: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77] فهل يستلزم إثبات البقاء لله، وإثبات بقاء المخلوقين مشابهة؟ كلا، فالبقاء لله يناسبه سبحانه وتعالى، والبقاء للمخلوق يناسب المخلوق الذي يفنى، وبقاء المخلوق محدود، ولكنه سبحانه وتعالى أبقى ذرية نوح وتناسلوا إلى أن يأذن الله بفناء البشرية، فالله سبحانه وتعالى له صفة الأولية والآخرية التي نص عليهما في كتابه في قوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر [الحديد:3]، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [المرسلات:16-17] هذا بالنسبة لصفات المخلوقين، فإذاً الأولية والآخرية جاءت للخالق وجاءت للمخلوقين بدون لزوم أي تشابه، هذا شيء غير السبعة مما نناقشهم فيه.

مذهب السلف في صفات الأفعال

ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه واحد، فقال: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] ووصف بعض المخلوقين بذلك، فمن هذا قوله سبحانه وتعالى: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ [الرعد:4] وصف نفسه بالغنى، فقال: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:24] ووصف بعض المخاليق بالغنى، فقال: وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6].

فإذاً هل إثبات صفة الغنى لله وإثبات صفة الغنى للمخلوق تعني تشبيهاً؟

الجواب: لا، وهكذا.. فلا داعي أن تنفى صفات الرب سبحانه وتعالى بعلة التشبيه بصفات المخلوقين.

وقد وصف سبحانه وتعالى نفسه بصفات الأفعال، ووصف بعض المخاليق بهذه الصفة، جاءت للخالق في نص وجاءت للمخلوق في نص آخر.

من صفات الأفعال، مثلاً الرزق، الله سبحانه وتعالى قال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ [الذاريات:58] وسمى نفسه الرزاق، وصفة الرزق بها يرزق سبحانه وتعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72] ووصف بعض المخلوقين بصفة الرزق، أي أن المخلوق يرزق، الدليل على أن المخلوق يرزق: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء:8] وقال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا [النساء:5] وقال الله عز وجل: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ [البقرة:233].

فهذا الله يرزق، والمخلوق يرزق، لكن شتان بين رزق الله عز وجل ورزق المخلوق، فرزق المخلوق ناقص ورزق المخلوق لا يكون إلا إذا كان عنده، ثم يفنى، ثم لا يستطيع أن يعطي، ولا يرزق إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى ... إلى آخره.

ولا يقدر المخلوق أن يرزق إلا شيئاً محدوداً، لا يستطيع أن يعطي كل الناس، الله يرزق الحيتان في البحر، ويرزق الدود، ويرزق الجراد، ويرزق كل أحد سبحانه وتعالى.

من صفات الفعل أيضاً: العمل: عمل يعمل عملاً، فالله عز وجل يعمل، وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71] ووصف بعض المخاليق بأنهم يعملون، كما قال عز وجل: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] هذا عمل وهذا عمل وإثباتهما لا يستلزم أي تشبيه إطلاقاً.

والتعليم وصف الله نفسه بأنه يعلم، وأخبر أنه يعلم، وأخبر أن بعض المخاليق تعلم، فقال سبحانه وتعالى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن:2].. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4].. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق:4].. وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113] ووصف بعض المخاليق بأنهم يعملون فقال سبحانه: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66].. َ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4].. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [الجمعة:2] فهذا التعليم من الله، وهذا التعليم من المخلوق، وما استلزم أي تشبيه إطلاقاً، كل كما يليق به .

ووصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه ينبئ، ووصف المخلوق بأنه ينبئ، وجمع بينهما في آية واحدة: فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم:3] فهو ينبئ سبحانه، وأخبر أن نبيه قد نبأ بعض أزواجه.

ووصف نفسه سبحانه وتعالى بصفة الفعل الإيتاء، قال عز وجل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:269] وقال سبحانه: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3] ووصف بعض المخاليق بأنهم يؤتون، فقال عز وجل: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف:96] لكن هذا يقول: أعطوني، أنا أريد المخلوق يعطي الشيء، قال سبحانه وتعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً [النساء:20].. وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4].

فكل هذا الكلام يدل على أن الصفات التي وردت لله، لو كان هناك مثلها عند المخلوقين فلا يستلزم إثباتها أي تشبيه، كل بما يليق به.

مذهب السلف في الصفات الجامعة

ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالعلو والكبر، والعظم فقال سبحانه: وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] هذه في الصفات التي يسمونها الصفات الجامعة، الآن خرجنا من صفات الأفعال إلى الصفات الجامعة، كالعلو والعظم والكبر والملك والجبروت والعزة والقوة، هذه اسمها الصفات الجامعات، حتى هذه الصفات على تقسيمهم إذا نظرنا فيها، سنجد أن الله أثبتها لنفسه، وأثبت بعضها لبعض المخلوقين، فوصف الله سبحانه وتعالى، بأنه علي وأنه عظيم وقال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] وقال عن نفسه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34] فوصف نفسه بالعلو والكبر سبحانه وتعالى وأنه عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9] ووصف بعض الخلق بالعلو وبالعظيم فقال: وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً [مريم:57].. إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً [الإسراء:40].. فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] وقال عن بلقيس: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23] ووصف بعض المخلوقات أنها كبيرة فقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63].

فهذه الصفات الجامعة، كالعلو والكبر والعظم نثبتها لله كما أثبتها الله لنفسه، ونثبتها للمخاليق إذا ثبتت لهم، ولا يستلزم ذلك أي تشبيه.

ووصف الله نفسه بالملك، فقال: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ [الجمعة:1].. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55] ووصف بعض المخلوقين بالملك فقال في القرآن: طَالُوتَ مَلِكاً [البقرة:247].. وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ [يوسف:43].. وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79].

فلله سبحانه وتعالى ملك حقيقي يليق بجلاله وكماله، وللمخاليق ملك يناسب حالهم وفناءهم وعجزهم وافتقارهم، ملك الله سبحانه وتعالى نافذ، ملك الله سبحانه وتعالى عام، ملك الله سبحانه وتعالى لا يزول ولا يحول، ملك الله سبحانه وتعالى يتصرف فيه كيف يشاء، ملك المخلوق محدود، ومعرض للاغتصاب، ومعرض للزوال، ويزول، وملكه قد لا يتصرف فيه، ممكن أنت تملك شيئاً، لكنك لا تستطيع أن تتصرف فيه، لأن هناك غاصباً، أو لأن القاضي وضع عليه حجراً، لأن ... لأن ... من الأسباب التي قد تعيقك عن التصرف في ملكك، ولكن الله يتصرف في ملكه كيف يشاء.

فلا يمنع أن يثبت لله الملك، وأن يثبت للمخلوق الملك، كل بما يليق به.

ووصف الله سبحانه وتعالى بأنه جبار متكبر فقال: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23] ووصف بعض المخاليق بأنهم جبارون متكبرون: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35].. وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130].. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60] وهكذا.

ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالعزة فقال: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209].. رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [ص:9] ووصف بعض المخلوقين بالعزة فقال: قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ [يوسف:51] وكذلك وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] مجموعة كلها، هذه العزة لله وعزة الرسول وعزة المؤمنين، وهذه عزة الله غير عزة الرسول وعزة المؤمنين.

ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالقوة فقال: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57-58]، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:74] ووصف بعض المخاليق بأن لها قوة فقال: الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26].. وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [هود:52].. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم:54].

إذاً: نلاحظ الآن أنه مهما قسم المتكلمون الصفات، فإن هناك صفات لله في هذه البنود التي قسموها ثابتة لله وثابتة للمخاليق، وهذا من بليغ تقسيمه رحمه الله ورده عليهم.

وكذلك الرأفة والحلم والرحمة تثبت لله: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:7].. لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

ووصف الله نفسه سبحانه وتعالى بالمغفرة: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173] ووصف أيضاً بعض المخاليق بأنهم يغفرون: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263].. قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية:14].

فالآن يقول لهم: مثلاً: الإرادة، أنتم تثبتون لله يا أيها الأشاعرة ، يا أيها المتكلمون؟ يقولون: نعم نثبتها لله، حسناً أليس المخلوق له إرادة؟ فيقولون: نعم، فنقول: إذاً هذا تشبيه، لماذا ما تأولون الإرادة وتنفون الإرادة أيضاً، ولا معنى أنكم تنفون الوجه لله مثلاً، وتقولون: بأن الوجه من صفات المخلوقين، وإذا أثبتنا الوجه عملنا مشابهة، فننفي الوجه، فنقول: وأيضاً الإرادة، إذا أثبتموها عملتم مشابهة، لأن المخلوق له إرادة، فانفوا الإرادة إذاً؟!

لكنه مشى رحمه الله في رسالته على تقسيم المتكلمين، وفندها واحداً واحداً، فقال: في صفات المعاني التي أقروا بها، نقول لهم: وصفوا الله بالقدرة، وأثبتوا له القدرة، والله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20] والله قد وصف المخلوقين بالقدرة، مثل قوله سبحانه وتعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34] فأثبت لهم القدرة، وآيات أخرى أيضاً، نقول لهذا الرجل المنحرف: هأنت تثبت القدرة للخالق، وتثبت القدرة للمخلوقين، هذا تشبيه.. فماذا سيقول؟ سيقول: لا، للخالق قدرة تخصه وتليق به، وللمخلوق قدرة تناسبه! فنقول: قلها في اليد والأصابع والقدم والمحبة والبغض والكره، وفي سائر الصفات، فلماذا فقط أثبت هذه السبع، قال: ووصف الله نفسه بالسمع والبصر في غير آية من كتابه، فقال: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75].. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ووصف بعض المخلوقات بأن لها سمعاً وبصراً!

مثال: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] من هو؟ الإنسان، فهل إذا أثبتنا السمع والبصر لله، وأثبتنا السمع والبصر للمخلوق .. حدثت مشابهة، فهل ننفي السمع والبصر عن الله إطلاقاً؟ فنحن لا نشك أن الذي في القرآن حق، فلله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان، يليقان بجلاله وعظمته، كما أن للمخلوق سمعاً وبصراً حقيقيين، يناسبان حاله من ضعف وفقر وفناء وعجزٍ، وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق من المخالفة مثل ما بين ذات الخالق وذات المخلوق.

وصف الله نفسه بالحياة، فقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255].. هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:65].. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] ووصف بعض المخاليق بالحياة فقال عز وجل: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [الأنعام:95].. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30].. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً [مريم:15] فهل ترى يا عبد الله أن الله لما وصف نفسه بالحياة، قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] وصف بعض المخاليق أنها لها حياة، فهل إثبات هذا وهذا يستلزم تشبيه؟ لا، فلله سبحانه وتعالى حياة تليق بجلاله وعظمته، حياة دائمة حقيقية سبحانه، والمخلوق له حياة لها بداية ولها نهاية، يفنى ويعجز، ويفتقر إلى الله سبحانه.

ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالإرادة، فقال: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16].. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ووصف بعض المخلوقين بالإرادة، قال تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ [الأنفال:71].. فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا [القصص:19]، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [التوبة:32].. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً [الأحزاب:13].. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:94] إذاً أثبت للمخاليق إرادة، وأثبت لنفسه إرادة، ولا يستلزم من إثبات هذا وهذا التشبيه، فكلٌ له إرادة تناسب حاله، والفرق بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق كالفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق.

لقد وصف سبحانه وتعالى نفسه بالعلم، فقال عز وجل: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات:16] ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] ووصف بعض المخلوقين بالعلم فقال: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً [الروم:7] فإذاً عندهم علم، وقال: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر:53].. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68] في سورة يوسف، وهو يعقوب عليه السلام.

فعلم الله سبحانه وتعالى كامل، عليم بالماضي والحاضر والمستقبل وكل شيء ما كان لو كان كيف سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، والمخلوق علمه ضعيف، لا يعلم من الماضي إلا قليل، والحاضر قليل، المستقبل لا يعلم عنه شيئاً إطلاقاً، والله قد أحاط بكل شيء علماً، فالله له صفة العلم، والمخلوق له صفة العلم مع التفاوت بينهما.

ووصف نفسه سبحانه وتعالى بصفة الكلام، فقال عز وجل: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164].. فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] ووصف بعض المخلوقين بأنهم يتكلمون، مثل: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمران:46] وكذلك: فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54].

فإذاً المخاليق أيضاً يتكلمون، فلا شك أن لله تعالى كلاماً حقيقياً لائقاً بجلاله وكماله، كما أن للمخلوقين كلاماً يناسب حالهم وفناءهم وعجزهم وضعفهم، والمخلوق كلامه لا يأتي إلا بعد المران، وكلامه يعتريه النقص، وبعض الناس لا يخرج بعض الحروف، وصوته ضعيف، والله سبحانه تعالى ينادي يوم القيامة، يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فشتان بين صفة الكلام لله وصفة الكلام للمخلوقين، ولا يستلزم إثبات الكلام لله أي تشابه، والفرق بين كلام الخالق والمخلوق كالفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق.

الأشاعرة مشهور عندهم إثبات هذه الصفات التي أثبتوها ويسمونها صفات المعاني، وخرجنا بأن إثبات هذه الصفات لا يستلزم أي مشابهة.

نأتي إلى صفات أخرى قد أثبتها بعضهم، فبعض المتكلمين أثبتوا لله صفة القدم والبقاء، وصفة القدم ليس عليها دليل، وإنما الصفة التي ثبتت لله صفة الأولية هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الحديد:3] ونرد على المتكلمين الذين وصفوا الله بالقدم بغض النظر عن قضية ثبوت هذه الصفة، نقول: أنتم وصفتم الخالق بالقدم، طيب الله وصف المخاليق بالقدم: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] وأيضاً أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء:76] فهل يلزم عندكم أيها المتكلمون أن قدم الخالق مثل قدم المخلوقين؟

أما نحن فلا نثبت كلمة القدم، ولا نقول: إن من أسمائه القديم لأنها لم تثبت، نقول: هو الأول، فعندنا ما يغني، لكن من باب المحاجة نقول لهم هذا، والله سبحانه وتعالى له صفة البقاء، ونثبت هذه الصفة ،لأن الله أثبتها لنفسه: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27].

هل وصف الله المخاليق بالبقاء؟

الجواب: نعم.. والدليل: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77] فهل يستلزم إثبات البقاء لله، وإثبات بقاء المخلوقين مشابهة؟ كلا، فالبقاء لله يناسبه سبحانه وتعالى، والبقاء للمخلوق يناسب المخلوق الذي يفنى، وبقاء المخلوق محدود، ولكنه سبحانه وتعالى أبقى ذرية نوح وتناسلوا إلى أن يأذن الله بفناء البشرية، فالله سبحانه وتعالى له صفة الأولية والآخرية التي نص عليهما في كتابه في قوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر [الحديد:3]، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [المرسلات:16-17] هذا بالنسبة لصفات المخلوقين، فإذاً الأولية والآخرية جاءت للخالق وجاءت للمخلوقين بدون لزوم أي تشابه، هذا شيء غير السبعة مما نناقشهم فيه.

ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه واحد، فقال: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] ووصف بعض المخلوقين بذلك، فمن هذا قوله سبحانه وتعالى: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ [الرعد:4] وصف نفسه بالغنى، فقال: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:24] ووصف بعض المخاليق بالغنى، فقال: وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6].

فإذاً هل إثبات صفة الغنى لله وإثبات صفة الغنى للمخلوق تعني تشبيهاً؟

الجواب: لا، وهكذا.. فلا داعي أن تنفى صفات الرب سبحانه وتعالى بعلة التشبيه بصفات المخلوقين.

وقد وصف سبحانه وتعالى نفسه بصفات الأفعال، ووصف بعض المخاليق بهذه الصفة، جاءت للخالق في نص وجاءت للمخلوق في نص آخر.

من صفات الأفعال، مثلاً الرزق، الله سبحانه وتعالى قال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ [الذاريات:58] وسمى نفسه الرزاق، وصفة الرزق بها يرزق سبحانه وتعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72] ووصف بعض المخلوقين بصفة الرزق، أي أن المخلوق يرزق، الدليل على أن المخلوق يرزق: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء:8] وقال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا [النساء:5] وقال الله عز وجل: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ [البقرة:233].

فهذا الله يرزق، والمخلوق يرزق، لكن شتان بين رزق الله عز وجل ورزق المخلوق، فرزق المخلوق ناقص ورزق المخلوق لا يكون إلا إذا كان عنده، ثم يفنى، ثم لا يستطيع أن يعطي، ولا يرزق إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى ... إلى آخره.

ولا يقدر المخلوق أن يرزق إلا شيئاً محدوداً، لا يستطيع أن يعطي كل الناس، الله يرزق الحيتان في البحر، ويرزق الدود، ويرزق الجراد، ويرزق كل أحد سبحانه وتعالى.

من صفات الفعل أيضاً: العمل: عمل يعمل عملاً، فالله عز وجل يعمل، وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71] ووصف بعض المخاليق بأنهم يعملون، كما قال عز وجل: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] هذا عمل وهذا عمل وإثباتهما لا يستلزم أي تشبيه إطلاقاً.

والتعليم وصف الله نفسه بأنه يعلم، وأخبر أنه يعلم، وأخبر أن بعض المخاليق تعلم، فقال سبحانه وتعالى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن:2].. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4].. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق:4].. وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113] ووصف بعض المخاليق بأنهم يعملون فقال سبحانه: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66].. َ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4].. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [الجمعة:2] فهذا التعليم من الله، وهذا التعليم من المخلوق، وما استلزم أي تشبيه إطلاقاً، كل كما يليق به .

ووصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه ينبئ، ووصف المخلوق بأنه ينبئ، وجمع بينهما في آية واحدة: فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم:3] فهو ينبئ سبحانه، وأخبر أن نبيه قد نبأ بعض أزواجه.

ووصف نفسه سبحانه وتعالى بصفة الفعل الإيتاء، قال عز وجل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:269] وقال سبحانه: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3] ووصف بعض المخاليق بأنهم يؤتون، فقال عز وجل: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف:96] لكن هذا يقول: أعطوني، أنا أريد المخلوق يعطي الشيء، قال سبحانه وتعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً [النساء:20].. وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4].

فكل هذا الكلام يدل على أن الصفات التي وردت لله، لو كان هناك مثلها عند المخلوقين فلا يستلزم إثباتها أي تشبيه، كل بما يليق به.