فقه العبادات [1]


الحلقة مفرغة

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فإنه قبل أن نجيب على هذا السؤال أحب أن أنبه على قاعدة عامة فيما يخلقه الله عز وجل وفيما يشرعه، وهذه القاعدة مأخوذة من قوله تبارك وتعالى: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2]، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]، وغيرهما من الآيات الكثيرة الدالة على إثبات الحكمة لله عز وجل بما يخلقه وفيما يشرعه، أي: في أحكامه الكونية والشرعية، فإنه ما من شيءٍ يخلقه الله عز وجل إلا وله حكمة، سواء كان ذلك في إيجاده أو في إعدامه، وما من شيءٍ يشرعه الله سبحانه وتعالى إلا لحكمة، سواءٌ كان ذلك في إيجابه أو تحريمه أو إباحته، لكن هذه الحكم التي يتضمنها حكمه الكوني والشرعي قد تكون معلومةً لنا، وقد تكون مجهولة، وقد تكون معلومةً لبعض الناس دون بعض حسب ما يؤتيهم الله سبحانه وتعالى من العلم والفهم.

إذا تقرر هذا فإننا نقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس لحكمةٍ عظيمة وغايةٍ حميدة وهي عبادته تبارك وتعالى، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، وقال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] .. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن لله تعالى حكمةٍ بالغة في خلق الجن والإنس، وهي عبادته، والعبادة هي التذلل لله عز وجل محبةً وتعظيماً، بفعل أوامره.

واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس، وعلى هذا فمن تمرد على ربه واستكبر عن عبادته فإنه يكون نابذاً لهذه الحكمة التي خلق العباد من أجلها، وفعله يشهد بأن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق عبثاً وسدى، وهو وإن لم يصرح بذلك لكن هذا هو مقتضى تمرده واستكباره عن طاعة ربه.

المقدم: لكن هل للعبادة مفهوم يمكن أن نعرفه؟ وهل لها مفهوم عام ومفهوم خاص؟

الشيخ: نعم، مفهومها العام كما أشرت إليه آنفاً بأنها التذلل لله عز وجل محبةً وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه، هذا المفهوم العام.

والمفهوم الخاص -أعني: تفصيلها- قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالخوف، والخشية، والتوكل، والصلاة، والزكاة، والصيام، وغير ذلك من شرائع الإسلام.

ثم إن كنت تقصد بمعنى المفهوم الخاص والعام ما ذكره بعض العلماء من أن العبادة إما عبادة كونية أو عبادة شرعية، بمعنى: أن الإنسان قد يكون متذللاً لله سبحانه وتعالى تذللاً كونياً وتذللاً شرعياً، فالعبادة الكونية عامة تشمل المؤمن والكافر والبر والفاجر؛ لقوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، فكل ما في السموات والأرض فهو خاضعٌ لله سبحانه وتعالى كوناً، لا يمكن أبداً أن يضاد الله أو يعارضه بما أراد سبحانه وتعالى بالإرادة الكونية.

وأما العبادة الخاصة وهي العبادة الشرعية، وهي التذلل لله سبحانه وتعالى شرعاً، فهذه خاصة بالمؤمنين بالله سبحانه وتعالى القائمين بأمره، ثم إن منها ما هو خاصٌ أخص وخاصٌ فوق ذلك، فالخاص الأخص كعبادة الرسل عليهم الصلاة والسلام، مثل قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ص:45]، وغير ذلك من وصف الرسل عليهم الصلاة والسلام في العبودية.

المقدم: لكن ما دمنا عرفنا أن هناك عبادة كونية وعبادة شرعية، هل يثاب الذين لم يختصوا بالعبادة الكونية على هذه الصفات؟

الشيخ: هؤلاء لا يثابون عليها؛ لأنهم خاضعون لله تعالى شاءوا أم أبوا، فالإنسان يمرض ويفقر ويفقد محبوبه من غير أن يكون مريداً لذلك بل هو كارهٌ لذلك، لكن هذا خضوع لله عز وجل خضوعاً كونياً.

المقدم: ما هو أول واجب على الخلق؟

الشيخ: أول واجب على الخلق هو أول ما يدعى الخلق إليه، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، فقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، فهذا أول واجبٍ على العباد أن يوحدوا الله عز وجل، وأن يشهدوا لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وبتوحيد الله سبحانه وتعالى والشهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة يتحقق الإخلاص والمتابعة اللذان هما شرطٌ لقبول كل عبادة.

فهذا هو أول ما يجب على العباد أن يوحدوا الله ويشهدوا لرسله صلى الله عليهم وسلم بالرسالة.

المقدم: إذاً يعني شهادة أن لا إله إلا الله هي التوحيد؟

الشيخ: نعم.

المقدم: لكن هذه تشمل أنواع التوحيد؟

الشيخ: هي تشمل أنواع التوحيد كلها إما بالتضمن وإما بالابتداء، وذلك أن قول القائل: أشهد أن لا إله إلا الله يتبادر إلى المفهوم أن المراد بها توحيد العبادة، وتوحيد العبادة الذي يسمى توحيد الألوهية متضمنٌ لتوحيد الربوبية؛ لأن كل من عبد الله وحده فإنه لن يعبده حتى يكون مقراً له بالربوبية، وكذلك متضمن لتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن الإنسان لا يعبد إلا من علم أنه مستحقٌ للعبادة، لما له من الأسماء والصفات؛ ولهذا قال إبراهيم لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42]، فتوحيد العبادة وهو توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية والأسماء والصفات.

المقدم: أثابكم الله، أيضاً نريد أن نعرف ما معنى التوحيد؟

الشيخ: التوحيد معناه يفهم من لفظه في الواقع، وذلك أنه مصدر وحد يوحد، أي: جعل الشيء واحداً، وهذا لا يتحقق إلا بنفيٍ وإثبات: نفي الحكم عما سوى الموحد وإثباته له، فمثلاً نقول: إنه لا يتم للإنسان التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فينفي الألوهية عما سوى الله ويصرفها لله وحده، وذلك أن النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع مشاركة الغائب في الحكم، فلو قلت مثلاً: فلانٌ قائمٌ، فهنا أثبت له القيام لكنك لم توحده به؛ لأنه من الجائز أن يشركه غيره في هذا القيام، ولو قلت: لا قائم فقد نفيت نفياً محضاً ولم تثبت القيام لأحد، فإذا قلت: لا قائماً إلا زيد، أو لا قائماً إلا فلان فحينئذٍ تكون وحدت فلاناً في القيام، حيث نفيت القيام عما سواه فهو تحقيق التوحيد في الواقع، أي: أن التوحيد لا يكون توحيداً حتى يتضمن نفياً وإثباتاً.

المقدم: ما دمنا عرفنا معنى التوحيد نود أن نعرف أنواع التوحيد، ونترك التفصيل للحلقة القادمة إن شاء الله؟

الشيخ: أنواع التوحيد حسب ما ذكره أهل العلم ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وعلموا ذلك بالتتبع والاستقراء والنظر في الآيات والأحاديث فوجدوا أن التوحيد لا يخرج عن هذه الأنواع الثلاثة، فنوعوا التوحيد إلى ثلاثة أنواع.