جلسات رمضانية 1415[4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعــد:

فهذا هو اللقاء الرابع في هذا الشهر، شهر رمضان عام (1415هـ) الذي يتم في الجامع الكبير في عنيزة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكثر من مثل هذه اللقاءات بين أهل العلم وعامة الناس حتى ينتفع الناس بذلك، وحتى ينتفع العلماء بعلمهم؛ لأن العلم إنما ينتفع به إذا عمل الإنسان به في نفسه، وعمل الناس به من أجله. نسأل الله أن يرزقنا جميعاً علماً نافعاً، وعملاً صالحاً متقبلاً، ورزقاً طيباً واسعاً يغنينا به عن خلقه.

لقاؤنا هذا تكملة لما سبق من بيان الزكاة، وقد سبق في اللقاء الماضي أن تكلمنا على الزكاة من حيث رتبتها في الإسلام، وفضلها، والوعيد فيمن بخل بها، وعلى الأموال الزكوية وذكرنا ضابطاً فيما تجب فيه الزكاة، وهذا الضابط هو أنها تجب في الأموال النامية حقيقة أو حكماً، والنمو يعني: الزيادة، وقولنا: حقيقة يعني أن المال ينمو حقيقة، وقولنا: حكماً يعني أنه لا ينمو ولكن في حكم النامي كعروض التجارة مثلاً، فإن عروض التجارة ربما تخسر وربما تزيد، وكالنقود التي أودعها الإنسان ولا يشتغل بها.

وتكلمنا على أن الزكاة أيضاً لا تجب إلا في الأموال النامية وبينا شيئاً منها، وهو وجوب زكاة الذهب والفضة على أي حال كانت، وعروض التجارة أيضاً، فما هي عروض التجارة؟

كل مال أعد للتجارة حتى وإن كانت الزكاة لا تجب في عينه فهو عروض تجارة، الآن هذه الأكواب من الماء ليس فيها زكاة، لكن لو يتخذ الإنسان تجارته من هذه الأكواب وجبت فيه الزكاة، ثيابنا التي علينا ليس فيها زكاة لكن لو أن الإنسان اتخذ متجراً للثياب وجبت فيها الزكاة، هذه عروض تجارة.

والرابع: المواشي وهي خاصة في ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم، وأما الخيل فلا زكاة فيه، وأما الضبـي فلا زكاة فيه، وأما الدجاج فلا زكاة فيه، وأما الحمام فلا زكاة فيه، إنما الزكاة في قيمته إن أعد للتجارة، وأما عينه فلا، لا تجب الزكاة في البهائم بأعيانها إلا في ثلاثة أصناف هي: الإبل والبقر والغنم، لكن لا تجب فيها إلا بشرطين: أن تكون سائمة، وأن تبلغ النصاب، فما هي السائمة؟

السائمة: التي ترعى مما أنبته الله عز وجل من العشب ونحوه السنة كلها أو أكثر السنة، هذه السائمة، فأما التي تعلف السنة كلها أو أكثرها فليست سائمة، يعني ما فيها زكاة.

لو كان الإنسان عنده مائة شاة يعدها للنماء ينميها وكلما توالدت باع أولادها أو أبقى أولادها للنماء ولكنه يعلفها فإنه لا زكاة فيها ولو بلغت قيمتها آلافاً، لماذا؟ لفقد شرطٍ من شروط وجوب الزكاة. ما هو؟ السائمة، ليست تسوم هذه لأن السوم هو الرعي، قال تعالى: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل:10].

حسناً.. إنسان عنده تسعٌ وثلاثون شاة سائمة من نماء فهل فيها زكاة؟ لا. لماذا؟ لأنها لم تبلغ النصاب، إذ أن النصاب أربعون شاة، فأول نصاب في الغنم أربعون شاة، وأول نصاب في الإبل خمس، وأول نصاب في البقر ثلاثون.

إنسان عنده خمس شياه يتجر فيها، ويبيع ويشتري، اليوم يكون عنده خمس وغداً عشر وبعد غدٍ ما عنده شيء؛ لأنه باع .. فهل فيها زكاة؟ ما بلغت أربعين، ولكن هذه عروض تجارة فيها الزكاة إذا كانت تبلغ نصاباً أو عنده ما يكمل به النصاب.

هذا ما نريد أن نتكلم عليه من الأموال الزكوية، الذهب والفضة وعروض التجارة وبهيمة الأنعام، وهي ثلاثة أصناف: إبل وبقر وغنم.

أما زكاة الزروع والثمار فلا نطيل الكلام فيها لأنها لطائفة مخصوصة ولا تأتي إلا في السنة مرة.

يجب أن نعلم أن الزكاة لها محل لا تجزئ إلا أن توضع فيه، كما أن الصلاة لها محل لا تصح إلا فيه، الصلاة لا تصح إلا في مكان طاهر، لو صُلي في مكان نجس ما صحت الصلاة، الزكاة أيضاً لا تجزئ إلا إذا وضعت في المحل الذي فرضه الله عز وجل.

وقد فرض الله تعالى للزكاة ثمانية أصناف، بينها جل وعلا في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60] كم هؤلاء؟ ثمانية.

الفقراء والمساكين

الفقراء والمساكين هم الذين لا يجدون كفايتهم، لكن المسكين يجد النصف فما فوق ولكن لا يجد كمال حاجته، والفقير يجد أقل من النصف أو لا يجد شيئاً، وبهذا عرفنا أن الفقير أشد حاجة من المسكين، ولهذا بدأ الله بالفقراء.

فإن قال قائل: هذا لا ينضبط لأن الإنسان لو فرضنا عنده مائة ألف وعنده عائلة هل يتيقن أن هذه المائة الألف تكفيه لمدة سنة؟ لا. لأنه قد يسرق، وقد تزيد الأشياء غلاءً فاحشاً وترتفع، وفي تقديرنا أنه يكفيه لكن مع ارتفاع الأسعار لا يكفيه، إذاً: ما هو الضابط؟

الضابط يمكن أن يقرب فيقال مثلاً: إنسان عنده راتب ولا يكفيه الراتب للسنة، لنفرض أن راتبه ثلاثة آلاف ريال، ولكنه ينفق في الشهر خمسة آلاف ريال ماذا تقولون في هذا؟ أفقير هو؟ نعم فقير، لأنه لا يجد الكفاية، كفايته خمسة آلاف وراتبه ثلاثة، نعطيه.

إنسان راتبه سبعة آلاف لكن عنده جماعة كثيرة، لا يكفيه إلا عشرة نعطيه؟

الراتب سبعة لكن الإنفاق أكثر، كم نعطيه إذا كان ينفق عشرة آلاف في الشهر وعنده سبعة؟ نعطيه ثلاثة آلاف في الشهر، اضربها في اثني عشر، فنعطيه ستة وثلاثين ألفاً، نكمل سنة.

لماذا نكمل له سنة لا نكمل له بقية حياته، ما هو الجواب؟

أولا: لا ندري متى يموت.

ثانياً: يكون في هذا إجحاف على بقية الفقراء، لكن نعطيه لمدة سنة؛ لأنه بعد السنة سوف يعطى من الزكاة مرة ثانية فتزول حاجته.

العاملون عليها

الفقراء والمساكين والعاملون عليها يعطون لحاجتهم، يقول الله عز وجل: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60] من هم العاملين عليها؟ هم الهيئة التي تنصبهم الحكومة لقبض الزكاة وتفريقها، منصوبون من قبل ولي الأمر فعملهم فيها عمل ولاية، وليس عمل وكالة، لماذا؟ لأنهم منصوبون من قبل ولي الأمر، كون لجنة تخرج إلى الناس وتأخذ الزكاة من أموالهم هؤلاء لهم من الزكاة، إلا إذا كان لهم راتب من الحكومة على هذا العمل فلا يحتاجون إلى العمالة. الذين يتولون الزكاة بالوكالة هل هم عاملون عليها؟ أنا قلت: العاملون هم الذين يتصرفون فيها بالولاية، وأنا أسأل: الذين يتصرفون فيها بالوكالة هل هم عاملون عليها؟ لا. ولهذا لو أن أحداً من الناس أرسل إليه تاجرٌ زكاته خمسة ملايين، وقال: وزعها على الفقراء، هل يستحق منها شيئاً؟ لا، لأنه يتصرف فيها بالوكالة لا بالولاية، وانظر إلى التعبير الإلهي: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ولم يقل: والعاملين فيها، وكلمة (على) تدل على علو واستعلاء، وأن هذا العمل عمل ولاية، وأما الوكلاء الذين يوكلهم الأغنياء في تفريق الزكاة فليسوا من العاملين عليها، لكن إن احتسبوا الأجر فإن العامل في الصدقة كالمتصدق، فهم على خير، بمعنى أنك إذا أعطاك إنسان عشرة ريالات وقال: وزعها على الفقراء ووزعتها فأنت شريك في الأجر، فإن احتسبوا فهذا المطلوب، وإن لم يحتسبوا أعطاهم المالك من ماله لا من الزكاة.

المؤلفة قلوبهم

قال تعالى: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60] المؤلفة: يعني الذين يعطون من أجل تأليف القلوب، فمن هؤلاء؟ أسألكم الآن: إذا كان بينك وبين شخص جفاء وعداوة هل تعطيه من زكاتك لتقربه إلى نفسك؟ قلبه مؤلف، أؤلف قلبه لكي لا ينفر مني؟

أقول: لا. المؤلفة قلوبهم هم الذين يعطون لتأليف قلوبهم على الإسلام، هؤلاء هم المؤلفة قلوبهم، تؤلف قلوبهم على الإسلام، إنسان كافر لكن نرى أنه يحب أن يسلم، فنعطيه من الزكاة لعل الله أن يهديه، إنسان مؤمن لكن ضعيف الإيمان، عنده شيء من الفسوق، والخروج عن الطاعة نعطيه ونؤلف قلبه من الزكاة.

لكن اشترط أكثر العلماء أن يكون المؤلف من ذوي السيادة، يعني: أنه سيد في قومه، لأن هذا السيد إذا قوي إيمانه نفع الله به أمته، وأما الفرد من الناس فلا يعطى لتأليف قلبه ولو على الإسلام، وهذا قول جمهور العلماء، والصحيح أن الإنسان الفرد يعطى لتقوية إسلامه، لأننا إذا أعطيناه من أجل أن يشتري ثوباً يلبسه، أو رغيفاً يأكله، أو كأساً يشربه، وهذا غذاءٌ جسدي، فلماذا لا نعطيه لنغذيه غذاءً قلبياً دينياً، فالصحيح أن المؤلف لا يشترط به أن يكون ذا سيادة وشرف في قومه، ذكرنا الآن إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60] أربعة أصناف، هؤلاء لابد أن تسلمهم الزكاة وإذا سلمتهم الزكاة ملكوها ملكاً تاماً، لأن الله تعالى ذكر استحقاقهم باللام (للفقراء) واللام تدل على التمليك.

عتق الرقاب

ثم قال عز وجل: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60] الرقاب: جمع رقبة والمراد بذلك الإعتاق، يعني: وتصرف الزكاة في إعتاق العبيد، فإذا وجدنا عبيداً يباعون ولدينا زكاة فإننا نشتريهم لنعتقهم من الزكاة، وهذا يؤيد إلى ما أشرنا إليه قبل قليل من أن المؤلف قلبه لا يشترط أن يكون ذا سيادة؛ لأننا نعطي الزكاة في تحرير العبيد من الرق، ورق الهوى والمعاصي والشيطان أولى بأن يدفع بالزكاة. ومن الرقاب أن يفك منها الأسير المسلم، مثلاً: لو أن أحداً من الكفار اختطف مسلماً وقال: لا أعطيكم إياه إلا بفدية، فهل نفديه من الزكاة؟ نعم، نفديه من الزكاة، لأنه يدخل في عموم قوله: وَفِي الرِّقَابِ .

الغارمون

قال تعالى: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60] معطوفة على الفقراء أم على الرقاب؟ على الرقاب، وذلك لأن العامل أعيد (في) فانفصل ما بعدها عما قبلها فصارت الغارمين معطوفة على الرقاب، يعني: وفي الغارمين، فمن هو الغارم؟

الغارم: من في ذمته حق ماليٌ لا يستطيع وفاءه.

مثلاً: إنسان اقترض من شخص مالاً، وعجز عن وفائه، هذا غارم أم غير غارم؟

غارم.

إنسان آخر اشترى من شخص سيارة ثم عجز عن وفائها هذا أيضاً غارم، إنسان اشترى حوائج لبيته وعجز عن تسديدها هو أيضاً غارم، إنسان تزوج واستقرض لزواجه وعجز عن الوفاء، هل هو غارم؟ نعم.

إذاً: الغارم هو كل من في ذمته حق مالي عجز عن وفائه من ثمن مبيع، أو أجرة، أو قرض، أو ضمان متلف، أو غير ذلك، هذا الغارم.

هل يشترط تمليك الغارم؟ بمعنى أن أقول للغارم: خذ هذه الزكاة أوف بها، أو لا يشترط؟

لا يشترط لأن الله قال (الغارمين) عطفاً على قوله: (في الرقاب) ومعلوم أن الرقاب لا يشترط تمليكها، أنت تشتري العبد، ولا تملكه هذا المال، تشتري العبد بالزكاة وتعتقه، ولا تملكه الزكاة، إذاً: الغارم لا يشترط تمليكه، وعلى هذا فلو ذهبت أنت إلى الطالب الذي يطلب الغارم وقلت: يا فلان! أنت تطلب فلاناً كذا وكذا فيقول: نعم، تقول: تفضل، هذا الطلب تبرأ بذلك ذمتك أو لا، إذا قال قائل: الغارم ما علم ولا درى، نقول: وإن لم يكن يعلم لأنه لا يشترط تمليك الغارم.

هل يجوز إسقاط الدين عن الغارم من الزكاة؟

بمعنى أن يكون علي زكاة تبلغ ألف ريال، ولي غارم مطلوب بألف ريال لكنه فقير، فأقول يا فلان! أسقطت عنك ألف ريال عن زكاتي هل يجزئ؟ لا يجزئ، لماذا؟ أولاً: لأن الزكاة أخذ وإعطاء خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103] هذا في القرآن، وفي السنة قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـمعاذ بن جبل : (أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم) لابد من أخذ وإعطاء.

ثانياً: الزكاة عن شيء معين بيدك تملكه، والدين في ذمة الفقير هل هو بيدك؟ لا. ولا تملكه، لكن كما يقول العوام: عبد ابن غنام يوم ألوى في البئر قال له السيد: أنت عتيق، وتعرفون هذه القصة.. قصة عبد رقيق عند سيده، يؤذيه سيده ويكده ويتعبه ليلاً ونهاراً فيطلب منه العتق، يا سيدي! أعتقني .. حررني .. فكني، ولكن يأبى، وفي يوم سولت لهذا العبد نفسه قال: البئر أو ابن غنام -ابن غنام سيده- فوقف على البئر وألقى نفسه في البئر، وفي حال هويه في البئر إذا سيده ينظر قال: أنت عتيق حر لله، حسناً.. متى قالها؟ بعد أن سقط في البئر، فلذلك صارت مضرب المثل إن صحت القصة فالله أعلم.

على كل حال هذا الإنسان الذي عنده مثلاً مائة ألف وزكاتها بقدر ما في ذمة الفقير إذا أسقط عن الفقير وقال: أريدها من الزكاة نقول ما يصير هذا، المال الذي بيد الفقير مثل التالف ولا يجزي، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والدين لا يجزئ زكاة عن العين بلا نزاع.

سؤال ثان: هل يجوز أن أقضي دين الميت من الزكاة؟

إنسان ميت ليس له تركة، عليه دين هل يجوز أن أؤدي دين هذا الميت من الزكاة؟ لا. لا يجوز لماذا؟

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي دين الأموات من الزكاة، أبداً، ولهذا كان إذا قدمت له الجنائز قال: هل عليه دين؟ إن قالوا: نعم، قال: له وفاء؟ إن قالوا: لا. قال: ما أصلي عليه، صلوا عليه أنتم ولا يصلي عليه مع أن الزكاة عنده، والصدقة عنده، لما فتح الله عليه وكثرت المغانم وكثرت الأموال صار يقول: إذا قيل هذا الميت عليه دين، قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) كما قال ربه عز وجل: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] ثم قال: (من ترك ديناً فعلي، ومن ترك مالاً وضياعاً فلورثته) إذاً قضاء الدين على الميت من الزكاة لا يجزي، لأن الرسول ما كان يقضيه. هذه واحدة.

ثانياً: أيهما أولى أن نقضي دين الميت الذي قدم على ربه، وإذا كان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله يؤدي عنه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)، أو أقضي دين الأحياء الذين ذل الدين على وجوههم؟ أيهم أولى؟ الأحياء لا شك، ولهذا يقال: الدين هَمٌّ في النهار، وسهر في الليل، هذا صحيح، وذل أيضاً، ولهذا تجد الإنسان المستغرق بالدين يتحاشى الناس، إذاً من الأولى: هذا الميت الذي قدم على ربه وربما يكون أخذ أموال ناس يريد أداءها فيؤدي الله عنه أو هذا الحي؟ الحي.

ثالثاً: لو قلنا بجواز صرف الزكاة في ديون الأموات لكان الناس يفتشون في الدفاتر القديمة يكون سابع جد من أجداده عليه دين، يقول: والله بقي أن أؤدي الزكاة لهذا المدين، ثم إذا تابع السابع .. السادس .. الخامس .. الرابع .. الثالث .. الثاني .. الأول؛ تذهب أموال الناس كلها في قضاء ديون الأموات؛ لأن عاطفة الناس على الأموات أكثر من عاطفتهم على الأحياء فيقول: ارحم هذا الفقير المرتهن بدينه في قبره، ارحمه وأعطه زكاتك واقض ديون الأموات، ثم يذهب الرجل ينظر في دفاتر الناس هل على أبيك دين، أو جدك، أو جدتك، أو أمك، أو أختك؛ فتنتهي الزكاة للأموات.

لذلك حكى بعض العلماء -كـابن عبد البر رحمه الله- إجماع العلماء على أن الزكاة لا تدفع في دين الميت، لكن الصحيح أن فيها خلافاً لكنه خلاف مرجوح، فالراجح أنها لا يقضى بها على ميت، وقد عرفتم وجه ذلك من دلالة السنة على هذا ودلالة النظر، هذا في الغارمين.

في سبيل الله

قال تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60] ما المراد بقوله: (سبيل الله)؟ المراد جهاد الأعداء بالسلاح -وأعني بهم الكفار- يدفع من الزكاة، لكن هل يعطى المجاهد أو يشترى به السلاح، أو يجمع بين الأمرين، أو ينظر للأحوج؟ ينظر للأحوج، لأن المجاهدين قد لا يحتاجون إلى السلاح لأن الأسلحة متوفرة لديهم؛ لكن يحتاجون إلى الطعام، والشراب، والرواحل، وما أشبه ذلك، وقد يكون عدد المحتاجين للسلاح كبيراً، وهو مستغنٍ بنفسه، لكن يحتاج إلى سلاح، أين نضع الزكاة؟ في السلاح، وقد تكون الحاجة متساوية فنبذل في هذا وهذا. هل يبنى بها مدارس، أو يشترى بها كتب، أو يعان بها طلبة علم؟ لا. في سبيل الله المراد السلاح، صحيح أن العلم في سبيل الله لكنه ليس المراد بالآية، إلا أن العلماء رحمهم الله قالوا: إذا تفرغ لطلب العلم وهو قادر على التكسب فإنه يعطى ما يكفيه من أجل طلب العلم، لكن بشرطين: التفرغ، والثاني: القدرة على التكسب، أما إذا كان غير قادر على التكسب وهو فقير لا نعطي العلم بل نعطيه لفقره وعدم قدرته على التكسب. وَابْنِ السَّبِيلِ السبيل هو الطريق، فمن ابنه؟ ابنه هو المسافر، فإذا وجدنا شخصاً مسافراً وانقطع به السفر أو تعطلت سيارته، أو ضاع ماله، أو سرق، وهو يريد أن يصل إلى بلده وهو غني من أكبر الأغنياء؛ لكن الآن ما بيده شيء نعطيه أو لا؟ نعطيه. لكن نعطيه ما يكفيه لسنة، أو ما يوصله إلى بلده؟ نعطيه ما يوصله إلى بلده. هؤلاء هم الأصناف التي تدفع فيهم الصدقات قال الله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60] يعني الله فرض علينا أن نصرفها في هذه الأصناف، وبين أن هذا صادر عن علم وحكمة من الله عز وجل. لكن هناك موانع تمنع من صرف الزكاة لمن اتصفوا بهذه الأوصاف وهي: إذا كان هذا الفقير تجب نفقته على الغني، فهل يجوز أن يدفع الغني من زكاته لهذا الفقير ما يكون نفقة له؟ أخوه تجب نفقته عليه، إذا كان غنياً والأخ فقيراً وهو الذي يرثه وجب عليه النفقة، فيقول: أنا بدل ما أنفق عليه ألف ريال أعطيه زكاة، ألف ريال بالشهر هل يجوز أو لا؟ لا يجوز، لأن هذا يحفظ به ماليته، بدل أن يعطيه من ماله ألف ريال يجعلها من مال الفقراء من الزكاة، هذا حرام، ولا تجزئه. فإن كان على أخيه دين وهذا الرجل الغني قائم بالنفقة، لكن أخوه عليه دين إما أنه أتلف شيئاً فضمنه، أو لأي سيبب، هل يجوز أن يقضي الأخ دين أخيه من الزكاة؟ نعم يجوز، لماذا؟ لأنه لم يدفع عن نفسه واجباً، ولأنه لا يجب عليه أن يقضي دين أخيه. إنسان غني حدث لابنه حادث سيارة وتكسرت السيارة وغرم عشرة آلاف، والولد فقير ما عنده شيء، هل يجوز لهذا الأب أن يدفع الزكاة في هذا، أي في غرم ولده؟ نقول: يجوز، أن يدفع زكاته في قضاء غرم ولده، لأن الأب لا يلزمه قضاء الدين عن ابنه، وأصل المنع أنه متى كان الإنسان يدفع واجباً عليه في الزكاة فلا يجوز. نزل به ضيف والضيف يجب إكرامه، والضيف ما معه غداء، ولا عشاء، ولا بنزين لسيارته، فقال هذا الرجل الذي نزل به الضيف: أدفع له من زكاتي؟ لا يجوز، لماذا؟ لأنه يجب عليه ضيافته، وهو إذا دفع من ماله دفع واجباً عن نفسه بالزكاة، وهذا لا يجوز، وعليه لو قال قائل: هل يجوز دفع الأب زكاته لابنه؟ إن قلت: لا. أخطأت! وإن قلت: نعم. أخطأت! فيه تفصيل، إن كان للنفقة لا يجوز، وإن كان لغرم جاز.

الفقراء والمساكين هم الذين لا يجدون كفايتهم، لكن المسكين يجد النصف فما فوق ولكن لا يجد كمال حاجته، والفقير يجد أقل من النصف أو لا يجد شيئاً، وبهذا عرفنا أن الفقير أشد حاجة من المسكين، ولهذا بدأ الله بالفقراء.

فإن قال قائل: هذا لا ينضبط لأن الإنسان لو فرضنا عنده مائة ألف وعنده عائلة هل يتيقن أن هذه المائة الألف تكفيه لمدة سنة؟ لا. لأنه قد يسرق، وقد تزيد الأشياء غلاءً فاحشاً وترتفع، وفي تقديرنا أنه يكفيه لكن مع ارتفاع الأسعار لا يكفيه، إذاً: ما هو الضابط؟

الضابط يمكن أن يقرب فيقال مثلاً: إنسان عنده راتب ولا يكفيه الراتب للسنة، لنفرض أن راتبه ثلاثة آلاف ريال، ولكنه ينفق في الشهر خمسة آلاف ريال ماذا تقولون في هذا؟ أفقير هو؟ نعم فقير، لأنه لا يجد الكفاية، كفايته خمسة آلاف وراتبه ثلاثة، نعطيه.

إنسان راتبه سبعة آلاف لكن عنده جماعة كثيرة، لا يكفيه إلا عشرة نعطيه؟

الراتب سبعة لكن الإنفاق أكثر، كم نعطيه إذا كان ينفق عشرة آلاف في الشهر وعنده سبعة؟ نعطيه ثلاثة آلاف في الشهر، اضربها في اثني عشر، فنعطيه ستة وثلاثين ألفاً، نكمل سنة.

لماذا نكمل له سنة لا نكمل له بقية حياته، ما هو الجواب؟

أولا: لا ندري متى يموت.

ثانياً: يكون في هذا إجحاف على بقية الفقراء، لكن نعطيه لمدة سنة؛ لأنه بعد السنة سوف يعطى من الزكاة مرة ثانية فتزول حاجته.