صناعة الموت


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.. إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.. إنك حميدٌ مجيد.

رقم هذا الدرس حسب عهدة الإخوة الحاضرين "95" من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي تنعقد في هذا المسجد، جامع الذياب بـبريدة، وهو ينعقد في هذه الليلة، ليلة الثامن والعشرين من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر من الهجرة، وفي ليلة الإثنين كما هو المعتاد، عنوان هذا الدرس: صناعة الموت.

واعجباً لك يا سلمان! لقد حدثتنا قبل عن صناعة الحياة، وفقهنا وفهمنا أن صناعة الحياة تعني أن يشارك الإنسان في كل مجالٍ من مجالاتها، بصناعتها وإقامتها على شريعة الله جل وعلا، فما بال صناعة الموت إذاً؟! لقد حدثتنا قبل أسبوعٍ أيضاً، عن عشاق الحياة، عشاق زينتها وبهرجها وجمالها الزاخر المليء الأخاذ، أفترى للموت عشاقاً أيضاً يجب أن يتحدث عنهم؟!

أيها الإخوة الأحبة الكرام! وأيها الأخوات الكريماتُ الحبيبات إلى آبائهن وأمهاتهن وأزواجهن، الكافات العافات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:

فإن الموت والحياة أخوان صنوان نظيران متشابهان.. قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2] ولا يتقن صناعة أحدهما إلا من يتقن صناعة الآخر، فالذي يصنع الحياة الكريمة هو الذي يختار الميتة الشريفة، وما أذل الناس وخفض رقابهم إلا حب الحياة والرغبة فيها دون قيدٍ أو شرط، قال الله تعالى عن اليهود: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] حياة هكذا!! أياً كانت، حتى ولو كانت حياة الذل، والفقر، والهوان، والضعف، والخمول!! المهم عندهم أن يظلوا أحياءً وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] والتنكير هاهنا في كلمة "حياة" هو للتحقير.

ومن الطرائف التي تساق في هذا المجال: أنني سمعتُ زعيماً لمنظمةٍ يعدونها منظمة للتحرير، تحرير الأرض، وتحرير الإنسان، سمعته يقول في إذاعة كبرى، في يوم من الأيام، وهو يمدح المؤمنين والمجاهدين، والصابرين، وأنهم يحبون الموت كما تحبون الحياة، فيقول: قال الله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] يظن أن هذه الآية مدح، ولم يدرِ أنها ذم، ويظنها في المؤمنين، وما درى أنها في بني إسرائيل اليهود!!

خوف الكافر من الموت

الكافر يخاف الموت ويرهبه، ولهذا يفشل الكافر في صناعة الحياة الحقيقية، ترى اليوم اليهود، كيف يذعرون لما يحدث لعددٍ بسيطٍ من جنودهم وأفرادهم على أيدي شباب المسلمين ربما كانوا صغاراً دون الخامسة عشرة، فيجن جنونهم، ويمطروا بلاد الإسلام بوابل النيران أياماً متتالية، خوفاً على حفنةٍ قليلة من جنودهم، لأن قتل واحد يرهب منهم ألوفاً بل عشرات الألوف، لماذا؟ لأنهم كما وصفهم ربهم العليم بهم فقال: أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].

وترى أيضاً، كيف أن الأمريكان والأوروبيين والكفار بصفةٍ عامة يعتبرون قتل واحد منهم، أو سجن أعدادٍ قليلة، قضية كبرى!! ويثيرون من أجلها أعظم المعارك؛ المعارك السياسية والإعلامية، ويتدخلون، وتؤثر في قراراتهم الكبرى، من أجل حفنة من جنودهم يحاصرون في الصومال، أو يقتلون في البوسنة، أو يتعرض لهم هنا أو هناك.

هذا أمرٌ لا يلامون عليه، نعم إنه دليلُ من جهة -ولا ننكر هذا- دليلٌ على أن للفرد عندهم قيمةً ومعنىً، وأن حكوماتهم تظهر من خلال ذلك، وفاءها والتزامها بالعقد والعهد والميثاق والبيعة التي عقدتها بينها وبين رعيتها، فتقول لشعوبها: نحن نهتم بكم، ونحرص على حياتكم، ونضحي من أجل أفرادٍ قلائل منكم، حرصاً على حياتهم، أو حريتهم، أو سعادتهم، أو رفاهيتهم، فلا يلامون على ذلك، ولا يعاتبون عليه، بل هم من خلاله يظهرون الالتزام بذلك العقد بين حكوماتهم وبين شعوبهم، لكن هناك في المقابل الرعب، والتعلق بالحياة، الذي حصرهم بين أربعة جدران.

من بين الملايين، بل من بين مئات الملايين، الذين يعيشون في تلك البلاد لا يبعد أن تجد أفراداً يعدون على الأصابع مغامرين، فهم يشقون عنان الفضاء في رحلة ما يسمونها بغزو الكواكب.

غزو الكواكب كشف العلم ظاهره     والله يعلم ما أخفوا وما كتموا

أو قد تجد من بين هؤلاء: المغامر الذي يمخر عباب الماء، أو يغوص فيه، طمعاً في مغنم، أو طمعاً في شهرة، أو طمعاً في خلودٍ دنيوي عابر، أن يتكلم عنه الإعلام، أو يخلد ذكره التاريخ، أو ينصبوا له نصباً أو تذكاراً أو تمثالاً في ساحة أو ميدانٍ عام، يوجد آحاد وأفراد من هؤلاء، أما هذه الملايين، ومئات الملايين من أفرادهم، فكلهم يركضون وراء الحياة، وراء الحطام، كلهم حريصون عليها.

إن الرجل الغربي اليوم يرى الدنيا ويرى فيها كل شيء، فإذا فقدها، فقد ينتحر، لماذا؟

إذا خسر صفقة تجارية، أو خانته عشيقته، أو فقد أملاً من آماله، فإن أقرب حل لديه هو الانتحار، والانتحار نفسه دليل الفشل، ودليل على عدم القدرة على مواجهة المشكلات، وعدم القدرة على عدم التكيف مع الحياة وظروفها المتجددة، وإلا فكيف يفسر أنه اليوم يتم علاج عشرات الآلاف من الجنود الأمريكان من جراء معارك، كمعارك الخليج، ما خاضوا فيه حرباً حقيقية؟! ولا لاقوا مقاتلين ولا جنداً؟! وإنما كانوا يقاتلون من وراء جدر، ويقاتلون من خلال التقنية، ومن خلال الآلية العسكرية الضخمة التي جلبوها وتترسوا وراءها، فيكف كان الحال لو واجهوا حرباً؟! أم كيف تكون الحال لو واجهوا قوماً مؤمنين مسلمين يبحثون عن الموت كما يبحث أولئك عن الحياة؟! إنهم تعبوا على حياتهم، وتأنقوا فيها، فلا يحبون مغادرتها وتركها، ولهذا يسارعون في التمتع واللذة، حتى منذ طفولتهم.

تحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- كيف أنه رأى صبيةً في الرابعة عشرة من عمرها، وكانت أمها تدربها على فنون اللذة الجسدية، فنون الجنس والغرام والحب، وكان هناك رجل يسألها، ويقول: ألا ترين أن هذه الطفلة ما زالت صغيرةً غريرة؟ فقالت له: إن الحياة قصيرة، وليس هناك وقتٌ ولا متسع لنصرف شيئاً في الطفولة، وشيئاً في الشيخوخة والهرم، فلا بد أن نستثمر الحياة ونتمتع بها.

كيف يستثمرونها؟ في اللذات العابرة، والشهوات الجسمانية الحيوانية، حتى الأطفال يُربَّون على ممارسة الجنس والشراب وألوان النعيم المغرق؛ لأن الدنيا غاية همهم، ومنتهى آمالهم، وآخر طموحهم.

الموت في نظر المسلم له معنى آخر

أما حين تنظر إلى المسلمين، فإنك تجد فيهم عرفاً متوارثاً منذ عصر الرسالة، منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو إن المسلم يعلم أن الحياة ليست هي كل شيء؛ حتى ذلك المسلم العادي، غير المتعلم، ولا الداعية، ولا المجاهد، هو يعرف أن ثمة حياة آخرة يؤمن بها، ويعتقد أنه سينتقل إليها، ويؤمل في ربٍ رحيم، ولهذا فالموت عنده له معنىً آخر، مختلف عن الموت في نظر الكفار الذين يرون الموت فناءً محققاً، وعدماً محضاً، ونهايةً لا حياة بعدها ولا وجود.

أما المسلم المجاهد الباحث عن الموت، فهو لونٌ آخر، يرى أن الموت هو الحياة، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

لم نخشَ طاغوتاً يحاربنا وإن     نصب المنايا حولنا أسوارا

ندعو جهاراً لا إله سوى الذي     خلق الوجود وقدر الأقدارا

ورءوسنا يا رب فوق أكُفنا     نرجو ثوابك مغنماً وجوارا

كنا نرى الأصنام من ذهبٍ     فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

لو كان غير المسلمين لحازها     كنـزاً وصاغ الحلي والدينارا

كم زلزل الصخر الأشم وما وهى     من بأسنا عزمٌ ولا إيمانُ

لو أن آساد العرين تفزعت     لم يلقَ غير ثباتنا الميدانُ

توحيدك الأعلى جعلنا نقشه     نوراً تضيء بصبحه الأزمانُ

إنك تتعجب أشد العجب من أعدادٍ من المسلمين الموجودين اليوم، على سبيل المثال في الصومال جياع، عراة، عطاش، فقراء، محرومون من أبسط معاني الحياة الكريمة السعيدة، فيقومون في الشوارع، يرفعون الأوراق واللافتات، ويتجمهرون، ويقولون للغربي الكافر القادم إلى بلادهم: ارحلوا عن بلادنا، لا نريدكم، فيمطرونهم بالنيران والرصاص، ويسقطون منهم أكثر من عشرين قتيلاً في تجمهرٍ واحد، دون أن يكون المسلمون يحملون ولا حتى العصي أو العيدان، ثم تظن أن ذلك سوف يجعلهم يأوون إلى بيوتهم، ويختفون في أماكنهم ومعاقلهم وغرفهم، فإذا بهم يكررون العملية كل يوم، ويتزايد عددهم، ويرتفع صوتهم، وإذا بوسائل الإعلام العالمية تنقل هذه الرسالة إلى العالم الغربي، الذي ما زال يصم أذنيه عن صراخ المسلمين وصياحهم، وندائهم، واحتجاجهم!!

إن العالم اليوم بهذه الطرق يضطر المسلمين اضطراراً إلى البحث عن الشيء الذي كان يجب أن يختاروه اختيارياً، إنه يضطرهم إلى صناعة الموت، ويجعل منهم مقاتلين أشداء أشاوس.

نعم! هذا الدين أثبت خلوده وتاريخيته وبقاءه، غزته أممٌ كثيرة، فذهبت وبقي الإسلام، فقد جاء التتار بجيوشهم المتوحشة، وسمع صوت صياحهم من آفاقٍ بعيدة، فإذا بهم يجتاحون بلاد الإسلام، وإذا بالأنهار تجري أحياناً حمراء من دماء المسلمين، وأحياناً أخرى زرقاء من كتبهم التي أغرقوها في الأنهار، ثم ينتصر الإسلام، ويتحول التتار إلى مسلمين، وإذا بك اليوم تسمع جمهوريةً من بقايا الاتحاد السوفيتي، يسمونها تتارستان، وقد قرأت مقابلةً مع بعض شخصياتها، فإذا بهم يعلنون أنهم لا يعتزون إلا بالإسلام، هذه تتارستان هي منطلق التتار الذين وطئوا بغداد وبلاد الإسلام والشام، وفعلوا الأفاعيل وسفكوا دماء المسلمين، هاهي اليوم لا تفتخر إلا بالإسلام، ولا تعتز إلا به.

بغت أممُ التتار فأدركتها     من الإيمان عاقبة الأمانِ<

إنه الدين الخالد، الذي يملك عناصر البقاء، فإذا قاومه قوم انهزموا، وبقي الإسلام.

الكافر يخاف الموت ويرهبه، ولهذا يفشل الكافر في صناعة الحياة الحقيقية، ترى اليوم اليهود، كيف يذعرون لما يحدث لعددٍ بسيطٍ من جنودهم وأفرادهم على أيدي شباب المسلمين ربما كانوا صغاراً دون الخامسة عشرة، فيجن جنونهم، ويمطروا بلاد الإسلام بوابل النيران أياماً متتالية، خوفاً على حفنةٍ قليلة من جنودهم، لأن قتل واحد يرهب منهم ألوفاً بل عشرات الألوف، لماذا؟ لأنهم كما وصفهم ربهم العليم بهم فقال: أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].

وترى أيضاً، كيف أن الأمريكان والأوروبيين والكفار بصفةٍ عامة يعتبرون قتل واحد منهم، أو سجن أعدادٍ قليلة، قضية كبرى!! ويثيرون من أجلها أعظم المعارك؛ المعارك السياسية والإعلامية، ويتدخلون، وتؤثر في قراراتهم الكبرى، من أجل حفنة من جنودهم يحاصرون في الصومال، أو يقتلون في البوسنة، أو يتعرض لهم هنا أو هناك.

هذا أمرٌ لا يلامون عليه، نعم إنه دليلُ من جهة -ولا ننكر هذا- دليلٌ على أن للفرد عندهم قيمةً ومعنىً، وأن حكوماتهم تظهر من خلال ذلك، وفاءها والتزامها بالعقد والعهد والميثاق والبيعة التي عقدتها بينها وبين رعيتها، فتقول لشعوبها: نحن نهتم بكم، ونحرص على حياتكم، ونضحي من أجل أفرادٍ قلائل منكم، حرصاً على حياتهم، أو حريتهم، أو سعادتهم، أو رفاهيتهم، فلا يلامون على ذلك، ولا يعاتبون عليه، بل هم من خلاله يظهرون الالتزام بذلك العقد بين حكوماتهم وبين شعوبهم، لكن هناك في المقابل الرعب، والتعلق بالحياة، الذي حصرهم بين أربعة جدران.

من بين الملايين، بل من بين مئات الملايين، الذين يعيشون في تلك البلاد لا يبعد أن تجد أفراداً يعدون على الأصابع مغامرين، فهم يشقون عنان الفضاء في رحلة ما يسمونها بغزو الكواكب.

غزو الكواكب كشف العلم ظاهره     والله يعلم ما أخفوا وما كتموا

أو قد تجد من بين هؤلاء: المغامر الذي يمخر عباب الماء، أو يغوص فيه، طمعاً في مغنم، أو طمعاً في شهرة، أو طمعاً في خلودٍ دنيوي عابر، أن يتكلم عنه الإعلام، أو يخلد ذكره التاريخ، أو ينصبوا له نصباً أو تذكاراً أو تمثالاً في ساحة أو ميدانٍ عام، يوجد آحاد وأفراد من هؤلاء، أما هذه الملايين، ومئات الملايين من أفرادهم، فكلهم يركضون وراء الحياة، وراء الحطام، كلهم حريصون عليها.

إن الرجل الغربي اليوم يرى الدنيا ويرى فيها كل شيء، فإذا فقدها، فقد ينتحر، لماذا؟

إذا خسر صفقة تجارية، أو خانته عشيقته، أو فقد أملاً من آماله، فإن أقرب حل لديه هو الانتحار، والانتحار نفسه دليل الفشل، ودليل على عدم القدرة على مواجهة المشكلات، وعدم القدرة على عدم التكيف مع الحياة وظروفها المتجددة، وإلا فكيف يفسر أنه اليوم يتم علاج عشرات الآلاف من الجنود الأمريكان من جراء معارك، كمعارك الخليج، ما خاضوا فيه حرباً حقيقية؟! ولا لاقوا مقاتلين ولا جنداً؟! وإنما كانوا يقاتلون من وراء جدر، ويقاتلون من خلال التقنية، ومن خلال الآلية العسكرية الضخمة التي جلبوها وتترسوا وراءها، فيكف كان الحال لو واجهوا حرباً؟! أم كيف تكون الحال لو واجهوا قوماً مؤمنين مسلمين يبحثون عن الموت كما يبحث أولئك عن الحياة؟! إنهم تعبوا على حياتهم، وتأنقوا فيها، فلا يحبون مغادرتها وتركها، ولهذا يسارعون في التمتع واللذة، حتى منذ طفولتهم.

تحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- كيف أنه رأى صبيةً في الرابعة عشرة من عمرها، وكانت أمها تدربها على فنون اللذة الجسدية، فنون الجنس والغرام والحب، وكان هناك رجل يسألها، ويقول: ألا ترين أن هذه الطفلة ما زالت صغيرةً غريرة؟ فقالت له: إن الحياة قصيرة، وليس هناك وقتٌ ولا متسع لنصرف شيئاً في الطفولة، وشيئاً في الشيخوخة والهرم، فلا بد أن نستثمر الحياة ونتمتع بها.

كيف يستثمرونها؟ في اللذات العابرة، والشهوات الجسمانية الحيوانية، حتى الأطفال يُربَّون على ممارسة الجنس والشراب وألوان النعيم المغرق؛ لأن الدنيا غاية همهم، ومنتهى آمالهم، وآخر طموحهم.

أما حين تنظر إلى المسلمين، فإنك تجد فيهم عرفاً متوارثاً منذ عصر الرسالة، منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو إن المسلم يعلم أن الحياة ليست هي كل شيء؛ حتى ذلك المسلم العادي، غير المتعلم، ولا الداعية، ولا المجاهد، هو يعرف أن ثمة حياة آخرة يؤمن بها، ويعتقد أنه سينتقل إليها، ويؤمل في ربٍ رحيم، ولهذا فالموت عنده له معنىً آخر، مختلف عن الموت في نظر الكفار الذين يرون الموت فناءً محققاً، وعدماً محضاً، ونهايةً لا حياة بعدها ولا وجود.

أما المسلم المجاهد الباحث عن الموت، فهو لونٌ آخر، يرى أن الموت هو الحياة، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

لم نخشَ طاغوتاً يحاربنا وإن     نصب المنايا حولنا أسوارا

ندعو جهاراً لا إله سوى الذي     خلق الوجود وقدر الأقدارا

ورءوسنا يا رب فوق أكُفنا     نرجو ثوابك مغنماً وجوارا

كنا نرى الأصنام من ذهبٍ     فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

لو كان غير المسلمين لحازها     كنـزاً وصاغ الحلي والدينارا

كم زلزل الصخر الأشم وما وهى     من بأسنا عزمٌ ولا إيمانُ

لو أن آساد العرين تفزعت     لم يلقَ غير ثباتنا الميدانُ

توحيدك الأعلى جعلنا نقشه     نوراً تضيء بصبحه الأزمانُ

إنك تتعجب أشد العجب من أعدادٍ من المسلمين الموجودين اليوم، على سبيل المثال في الصومال جياع، عراة، عطاش، فقراء، محرومون من أبسط معاني الحياة الكريمة السعيدة، فيقومون في الشوارع، يرفعون الأوراق واللافتات، ويتجمهرون، ويقولون للغربي الكافر القادم إلى بلادهم: ارحلوا عن بلادنا، لا نريدكم، فيمطرونهم بالنيران والرصاص، ويسقطون منهم أكثر من عشرين قتيلاً في تجمهرٍ واحد، دون أن يكون المسلمون يحملون ولا حتى العصي أو العيدان، ثم تظن أن ذلك سوف يجعلهم يأوون إلى بيوتهم، ويختفون في أماكنهم ومعاقلهم وغرفهم، فإذا بهم يكررون العملية كل يوم، ويتزايد عددهم، ويرتفع صوتهم، وإذا بوسائل الإعلام العالمية تنقل هذه الرسالة إلى العالم الغربي، الذي ما زال يصم أذنيه عن صراخ المسلمين وصياحهم، وندائهم، واحتجاجهم!!

إن العالم اليوم بهذه الطرق يضطر المسلمين اضطراراً إلى البحث عن الشيء الذي كان يجب أن يختاروه اختيارياً، إنه يضطرهم إلى صناعة الموت، ويجعل منهم مقاتلين أشداء أشاوس.

نعم! هذا الدين أثبت خلوده وتاريخيته وبقاءه، غزته أممٌ كثيرة، فذهبت وبقي الإسلام، فقد جاء التتار بجيوشهم المتوحشة، وسمع صوت صياحهم من آفاقٍ بعيدة، فإذا بهم يجتاحون بلاد الإسلام، وإذا بالأنهار تجري أحياناً حمراء من دماء المسلمين، وأحياناً أخرى زرقاء من كتبهم التي أغرقوها في الأنهار، ثم ينتصر الإسلام، ويتحول التتار إلى مسلمين، وإذا بك اليوم تسمع جمهوريةً من بقايا الاتحاد السوفيتي، يسمونها تتارستان، وقد قرأت مقابلةً مع بعض شخصياتها، فإذا بهم يعلنون أنهم لا يعتزون إلا بالإسلام، هذه تتارستان هي منطلق التتار الذين وطئوا بغداد وبلاد الإسلام والشام، وفعلوا الأفاعيل وسفكوا دماء المسلمين، هاهي اليوم لا تفتخر إلا بالإسلام، ولا تعتز إلا به.

بغت أممُ التتار فأدركتها     من الإيمان عاقبة الأمانِ<

إنه الدين الخالد، الذي يملك عناصر البقاء، فإذا قاومه قوم انهزموا، وبقي الإسلام.

ما هو الشيء الذي يمكن في نظرك أن يخرج هذه الأمة التي تملك هذا الكنـز الثمين، وهذا الدين العظيم الذي يمكن أن يخرجها من جهلها إلى نور العلم والمعرفة الشرعية؟ قد تقول: الدروس والمحاضرات وأقول: نعم، لكنها لا تكفي.

ما هو الشيء الذي يمكن أن يخرج الأمة من تخلفها السياسي وتبعيتها الاقتصادية، وهوانها العسكري إلى المسابقة والمنافسة في ميدان الحياة العامر الكبير؟ قد تقول: اجتلاب التصنيع والتقنية وتخريج الخبراء والمختصين، أقول لك: نعم، لكن هذا لا يكفي.

ما هو الشيء الذي يمكن أن يوحد الأمة، ويجمع شملها بعد الشتات والفرقة وانفصام بعضها من بعض، فيمكن أن يوحدها إلى أمةٍ واحدة، يشعر بعضها بهموم بعض وآلام بعض، وإذا حاربت حاربت جميعاً، وإذا سالمت سالمت جميعاً؟ أعتقد أن الخطب والمحاضرات والدروس يمكن أن تساهم، لكنها لا تصنع ذلك، بل حتى جهود الدعاة منفردة، مهما عظمت وكبرت وتوسعت، لا يمكن أن تؤثر إلا في رقعة محدودة من الأمة.

إذاً ما الذي يمكن أن يحدث ويغير؟ لابد من الأحداث، الأحداث التي قد يصنعها العدو، ولكنها تصهر الأمة، وتذيب خبثها، وتكشف طيبها، وتعرفها عدوها من صديقها، وتجمع شمل المخلصين الغيورين المنافحين عن حوزة الإسلام، وبلاده، وبيضته وأهله.

إن العالم الإسلامي اليوم -أقولها لك بصراحة ولكل صديقٍ أو عدو- العالم الإسلامي اليوم يتحول إلى معمل زاخر لإعداد المقاتلين، من لم يقاتل عقيدةً وحماساً وفي سبيل الله، فإنك تجد أنه يقاتل أحياناً اضطراراً؛ لأنه ليس أمامه إلا هذا السبيل، وهو يقول:

وإذا لم يكن من الموت بدٌ     فمن العار أن تموت جباناً

أو يقول:

إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً     فما حيلة المضطر إلا ركبوها<

البوسنة أقرب مثال

مثلاً: ماذا كان لدى المسلمين في البوسنة من الإسلام؟! هل كانوا عارفين بدينهم؟! هل كانوا متحمسين له؟! هل كانوا فقهاء فيه فضلاً عن أن يكونوا متطرفين كما يقال؟! كلا، بل كان مجتمعهم يقوم على أساسٍ علماني، وكان الاختلاط شائعاً، وكان ترك الصلاة معروفاً، وكان شرب الخمر متوارثاً، وكان المسلمون يعيشون في ظل تجهيل طويل، حينما سيطرت عليهم الشيوعية، حتى لا يعرفون، ولا يعرفهم إخوانهم، وأكثرهم لم يكونوا يعرفون من الإسلام إلا أن آباءهم وأجدادهم كانوا مسلمين، وأنهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن هذه المساجد والمنائر والمنابر والمكتبات تراثٌ إسلامي ينتسبون له، ويتعصبون إليه تعصباً غامضاً غير معروف، هذا كل ما بقي من أثر الإسلام في البوسنة والهرسك، فهل شفع لهم هذا؟ لم يشفع لهم، بل هم اليوم أكثر الشعوب تعرضاً للسحق والإبادة، بل ولم يشفع لهم أن يكونوا قطعة من أوروبا، المزهوة بحضارتها، المتبجحة بحقوق الإنسان كما يزعمون.. هذا حدث، فماذا كانت النتيجة؟

هذا الحدث العظيم وهذا التحدي الكبير للمسلمين في البوسنة والهرسك دعاهم إلى أن يبحثوا عن أصولهم وعن جذورهم، وأن يرجعوا إلى دينهم، فولد هذا رواد المساجد، وفتيات الحجاب، وأطفال تحفيظ القرآن، وشباب المعسكرات، وسوف يحدث على المدى البعيد آثاراً عميقةً لدى المسلمين، وسوف يعطيهم من المفاهيم والقناعات والأصول الصحيحة ما لا يمكن أن يحصلوا عليه، إلا بمثل هذا الطريق.

مثلاً: ماذا كان لدى المسلمين في البوسنة من الإسلام؟! هل كانوا عارفين بدينهم؟! هل كانوا متحمسين له؟! هل كانوا فقهاء فيه فضلاً عن أن يكونوا متطرفين كما يقال؟! كلا، بل كان مجتمعهم يقوم على أساسٍ علماني، وكان الاختلاط شائعاً، وكان ترك الصلاة معروفاً، وكان شرب الخمر متوارثاً، وكان المسلمون يعيشون في ظل تجهيل طويل، حينما سيطرت عليهم الشيوعية، حتى لا يعرفون، ولا يعرفهم إخوانهم، وأكثرهم لم يكونوا يعرفون من الإسلام إلا أن آباءهم وأجدادهم كانوا مسلمين، وأنهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن هذه المساجد والمنائر والمنابر والمكتبات تراثٌ إسلامي ينتسبون له، ويتعصبون إليه تعصباً غامضاً غير معروف، هذا كل ما بقي من أثر الإسلام في البوسنة والهرسك، فهل شفع لهم هذا؟ لم يشفع لهم، بل هم اليوم أكثر الشعوب تعرضاً للسحق والإبادة، بل ولم يشفع لهم أن يكونوا قطعة من أوروبا، المزهوة بحضارتها، المتبجحة بحقوق الإنسان كما يزعمون.. هذا حدث، فماذا كانت النتيجة؟

هذا الحدث العظيم وهذا التحدي الكبير للمسلمين في البوسنة والهرسك دعاهم إلى أن يبحثوا عن أصولهم وعن جذورهم، وأن يرجعوا إلى دينهم، فولد هذا رواد المساجد، وفتيات الحجاب، وأطفال تحفيظ القرآن، وشباب المعسكرات، وسوف يحدث على المدى البعيد آثاراً عميقةً لدى المسلمين، وسوف يعطيهم من المفاهيم والقناعات والأصول الصحيحة ما لا يمكن أن يحصلوا عليه، إلا بمثل هذا الطريق.

سؤالٌ ثانٍ: ماذا يملك المسلمون اليوم من الإمكانيات التي ترشحهم ليكونوا هم العدو المنصب لـأمريكا وأوروبا والغرب بصفةٍ عامة، بل والشرق أيضاً؟ حتى غدت الحرب على الإسلام قاسماً مشتركاً لدى كل أمم الأرض وحكوماتها ودولها، ماذا يملك المسلمون؟ هل يملكون القوة؟ هل يملكون السلاح؟ هل يملكون الوحدة؟ هل يملكون الاقتصاد؟ هل يملكون المواقف السياسية؟ هل يملكون المؤسسات؟ كلا.

إذاً لماذا الغرب يتحول من عداوة الشيوعية إلى عداوة الإسلام؟ أو من العداوة اللاسامية وحربها، إلى العداوة للإسلامية؟! وأعني بذلك ألوان الحروب، سواء كانت الحروب المكشوفة المعلنة، كما في يوغسلافيا، وكشمير والفلبين والهند، وطاجكستان، وفلسطين، وجميع البلاد التي تعاني من حربٍ ضارية مباشرة شرسة على المسلمين، أم تلك الحروب التي تتولاها بالوكالة عن القوى الأممية حكوماتٌ محلية كما في عدد من الدول العربية والإسلامية، ماذا يملك المسلمون حتى يواجهوا مثل هذه الحرب الضروس الشرسة؟!

الحرب ضد من يسمونهم بالمتطرفين المسلمين

سؤال ثالث: ما الذي جعل العالم كله بحكوماته وأجهزته الأممية، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ووسائل إعلامه، يشن حرباً على من يسميهم بالمتطرفين الإسلاميين، ويصورهم وراء كل حدث، وكل جريمة، وكل تفجير، وكل اغتيال، وكل انفجار، وينسج خيوط الأوهام حول هؤلاء، حتى إنك ترى شيخاً ضريراً كبيراً مريضاً، كالشيخ عمر عبد الرحمن، يقدمه الإعلام العالمي على أنه كالأخطبوط، أصابعه تمتد وراء كل حدث، وكل تفجير، وكل جماعة تجاهد أو تقاتل، وكل فئة، وكل تحرك إسلامي.

العالم بالأمس كان يسخر منا معشر المسلمين، ويقول: أنتم مصابون بعقدة المؤامرة، فتتصورون أن وراء كل حدث مؤامرة، وأن وراء كل شيء مؤامرة، وأن مؤامرات العدو تلاحقكم في كل مكان، وكانوا يقولون لنا: هذه أوهام تعشعش في عقولكم وقلوبكم، ولا رصيد لها من الواقع، فما بالهم اليوم أصيبوا بعقدة المؤامرة، حتى أصبحوا يرون مؤامرة متطرفة أصولية إسلامية وراء كل حدث؟! فإذا لم يجدوا حدثاً اختلقوه، فقد وجدوا مجموعة من الشباب يتدربون على كيفية القتال من أجل أن يذهبوا إلى البوسنة والهرسك في نيويورك، وكانوا يصورون أعمالهم على أشرطة الفيديو، لأنهم يقومون بعمل غير مخالف للقانون، وإذا بهم تحفهم أجهزة الأمن وتعتقلهم، وتقدمهم في وسائل الإعلام كبش فداء، وتصورهم للشعوب الغربية والشرقية على أنهم حلقة أخرى من سلسلة المتطرفين الذين يوشكون أن يفجروا العالم بأكمله كما يزعمون.

لماذا يغض العالم الطرف عن المتطرفين غير المسلمين

ثم لنفترض أن كل ما يقال عن المتطرفين -كما زعموا- صحيح، وأنا أستعمل عباراتهم، وأن المتطرفين أخطئوا، وأنهم فعلوا، وأنهم وراء أحداث نيويورك وغيرها، وأحداث لندن وسواها، بل وأنهم كما قال أحد الشعراء:

والله لولا خشية العذالِ     لقلت أنتم سبب الزلزالِ

لنفترض أن ما تقوله أجهزة الإعلام العربية وتروجه -ومن ورائها الإعلام العالمي- عن المسلمين وعن الأصوليين وعن المتطرفين -كما يعبرون- لنفرض أنه صحيح، لماذا يغض العالم الطرف عن المتطرفين الصرب الذين أحرقوا دولةً بأكملها، وهجروا وقتلوا أكثر من مليوني مسلم، واغتصبوا النساء؟! ولماذا يتكلم العالم بلسانهم؟ فمرة يعتبر هؤلاء مجرمي حرب، ويطالب بمحاكمتهم أمام محكمة دولية، وإذا به يستقبلهم بالأحضان في جنيف، ويعقد معهم المؤتمرات، من أجل إيقاف الحرب وتسوية الأمر سلمياً بينهم وبين المسلمين؟! لماذا يتفاوض العالم مع من يعتبر أنهم مجرمو حرب.

قد قتلوا شعباً بأكمله، وفعلوا الأفاعيل التي يراها العالم كله، ويشاهدها ويتفرج عليها، لكنه لا يحرك ساكناً.

ثم لماذا تسكت الشعوب؟! إننا نعلم أنه لو قتل عشرون أمريكياً في الصومال، لقامت المظاهرات في طول أمريكا وعرضها ضد هذا العمل، فلماذا يسكت ذلك الشعب أمام قتل مئات الآلاف، وتشريد الملايين، وأمام تلك المجازر الوحشية التي يراها صباح مساء في وسائل الإعلام التي تفننت في نقل الصورة؟! ومع ذلك يبدو أن الرأي العام العالمي يمارس صمتاً رهيباً، ولا يقوم بأي دور، وأنه يشارك في الجريمة، لأنه ألقي في روعة أن هؤلاء مسلمون، وأن قتلهم لا يغير في واقع الحال شيئاً.

لماذا يغض العالم الطرف عن متطرفي الهندوس وجرائمهم البشعة. وجرائم الهند في كشمير، بل ويطالب العالم باكستان بأن تتخلى عن دعم المسلمين المستضعفين في كشمير المحتلة؟!

حتى العالم العربي والإسلامي يستقبل الهندوس ويوظفهم، ويمنحهم الأعطيات والعلاوات والمرتبات، ويمكنهم من تنظيم خلاياهم السرية وجمع أموالهم الطائلة، لدعم إخوانهم الكفار هناك وقتل المسلمين عياناً في وضح النهار.

سؤال رابع وخامس وسادس... ما الذي يجعل التنفيذ دائماً يسبق التهديد إذا كانت القضية تتعلق بمسلمين، سواء في الصومال أو في ليبيا أو في غيرها؟! وإذا تعلقت القضية بـالصرب مثلاً، أصبحت -كما يقول المثل العربي- تسمع جعجةً ولا ترى طحناً!

فهناك التهديد والوعيد من الأمم المتحدة ثم من أمينها، ثم من هذا الحلف ثم من ذاك، ثم من هذه الدولة الكبرى ثم من تلك، وأخيراً تمخض الجمل فلم يلد شيئاً، وأصبحوا يعربون أن هناك بوادر انفراج وتجاوباً مع المطالب الدولية، وأنه على فرض أن هناك تدخلاً فسوف يكون بطيئاً ومدروساً، ويضع كل الاحتمالات في الاعتبار، لضمان أمن وسلامة جنود الأمم المتحدة وغيرها، فهناك اللهجة ترتفع وتنخفض، والتهديد بعد التهديد، وأخيراً: تهدأ الأمور ويستقر الحال!!

العجب من ضرب دول إسلامية لا تحكم بالإسلام

نحن نعتقد أن كثيراً من الدول التي تعرضت للضربات من الغرب هي دولٌ لم تكن تحكم بالإسلام يقيناً، سواء هناك في ذلك الصومال، أو ليبيا، أو العراق، أو غيرها من الدول التي طالتها يد الغرب، وأن العلمانيين كانوا هم المسيطرين فيها، إذاً لماذا يضربهم الغرب؟

أقول وأعتقد: أن الغرب لا يثق بمن ينتسب إلى هذه البلاد وإلى هذه الأمة وإلى أبوين مسلمين، حتى ولو كان علمانياً، حتى ولو قدم لهم فروض الولاء والطاعة، حتى ولو كان شديد الولاء لهم، حتى ولو كان خادماً لمصالحهم، إلا أنهم يستخدمونه ولا يثقون به طرفة عين، وعلى أقل تقدير، فهم يعتقدون أنه على المدى البعيد من الممكن أن يكون المستقبل للإسلام، وأن هؤلاء قومٌ تخطتهم الأحداث، وتعداهم التاريخ، إنهم يرون أنه يجب أن تظل البلاد الإسلامية محرومة، متخلفة، حتى لو سيطر عليها العلمانيون.

ما الذي يبيح لدولةٍ كدولة اليهود المسماة بإسرائيل امتلاك السلاح النووي؟ حتى لا يجرؤ مدير الطاقة النووية على مجرد الحديث عن هذا الموضوع، وقد قرأت مقابلةً معه، فتكلم عن دول كثيرة ولما سئل عن دولة ما يسمى بإسرائيل، اعتذر عن الجواب، في حين يحرم المسلمون من ذلك كله، بل يحرمون من امتلاك التقنية العادية أو تصنيع السلاح التقليدي.

نعم نحن لا نلقي بأخطائنا على عدونا، ولا ننتظر من عدونا أن ينسى تاريخه وخلفيته الدينية والعقائدية، وندري أن المسلمين لو صدقوا الله تعالى وأخلصوا، لاستطاعوا أن يصنعوا كل ما يحتاجونه، وأن يطوعوا ناصية التقنية لهم، وأن يستوردوا كافة السلاح، خاصة في ظل عالمٍ يبحث اليوم عن النفط وعن المال وعن الاقتصاد بكل وسيلة، ويخطط لامتلاك موطئ قدمٍ في البلاد الثرية الغنية، لكننا لا نشك أيضاً، أن الغرب يحاول أن يجعل من هذه المهمة مهمةً صعبةً للغاية.

سؤال ثالث: ما الذي جعل العالم كله بحكوماته وأجهزته الأممية، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ووسائل إعلامه، يشن حرباً على من يسميهم بالمتطرفين الإسلاميين، ويصورهم وراء كل حدث، وكل جريمة، وكل تفجير، وكل اغتيال، وكل انفجار، وينسج خيوط الأوهام حول هؤلاء، حتى إنك ترى شيخاً ضريراً كبيراً مريضاً، كالشيخ عمر عبد الرحمن، يقدمه الإعلام العالمي على أنه كالأخطبوط، أصابعه تمتد وراء كل حدث، وكل تفجير، وكل جماعة تجاهد أو تقاتل، وكل فئة، وكل تحرك إسلامي.

العالم بالأمس كان يسخر منا معشر المسلمين، ويقول: أنتم مصابون بعقدة المؤامرة، فتتصورون أن وراء كل حدث مؤامرة، وأن وراء كل شيء مؤامرة، وأن مؤامرات العدو تلاحقكم في كل مكان، وكانوا يقولون لنا: هذه أوهام تعشعش في عقولكم وقلوبكم، ولا رصيد لها من الواقع، فما بالهم اليوم أصيبوا بعقدة المؤامرة، حتى أصبحوا يرون مؤامرة متطرفة أصولية إسلامية وراء كل حدث؟! فإذا لم يجدوا حدثاً اختلقوه، فقد وجدوا مجموعة من الشباب يتدربون على كيفية القتال من أجل أن يذهبوا إلى البوسنة والهرسك في نيويورك، وكانوا يصورون أعمالهم على أشرطة الفيديو، لأنهم يقومون بعمل غير مخالف للقانون، وإذا بهم تحفهم أجهزة الأمن وتعتقلهم، وتقدمهم في وسائل الإعلام كبش فداء، وتصورهم للشعوب الغربية والشرقية على أنهم حلقة أخرى من سلسلة المتطرفين الذين يوشكون أن يفجروا العالم بأكمله كما يزعمون.

ثم لنفترض أن كل ما يقال عن المتطرفين -كما زعموا- صحيح، وأنا أستعمل عباراتهم، وأن المتطرفين أخطئوا، وأنهم فعلوا، وأنهم وراء أحداث نيويورك وغيرها، وأحداث لندن وسواها، بل وأنهم كما قال أحد الشعراء:

والله لولا خشية العذالِ     لقلت أنتم سبب الزلزالِ

لنفترض أن ما تقوله أجهزة الإعلام العربية وتروجه -ومن ورائها الإعلام العالمي- عن المسلمين وعن الأصوليين وعن المتطرفين -كما يعبرون- لنفرض أنه صحيح، لماذا يغض العالم الطرف عن المتطرفين الصرب الذين أحرقوا دولةً بأكملها، وهجروا وقتلوا أكثر من مليوني مسلم، واغتصبوا النساء؟! ولماذا يتكلم العالم بلسانهم؟ فمرة يعتبر هؤلاء مجرمي حرب، ويطالب بمحاكمتهم أمام محكمة دولية، وإذا به يستقبلهم بالأحضان في جنيف، ويعقد معهم المؤتمرات، من أجل إيقاف الحرب وتسوية الأمر سلمياً بينهم وبين المسلمين؟! لماذا يتفاوض العالم مع من يعتبر أنهم مجرمو حرب.

قد قتلوا شعباً بأكمله، وفعلوا الأفاعيل التي يراها العالم كله، ويشاهدها ويتفرج عليها، لكنه لا يحرك ساكناً.

ثم لماذا تسكت الشعوب؟! إننا نعلم أنه لو قتل عشرون أمريكياً في الصومال، لقامت المظاهرات في طول أمريكا وعرضها ضد هذا العمل، فلماذا يسكت ذلك الشعب أمام قتل مئات الآلاف، وتشريد الملايين، وأمام تلك المجازر الوحشية التي يراها صباح مساء في وسائل الإعلام التي تفننت في نقل الصورة؟! ومع ذلك يبدو أن الرأي العام العالمي يمارس صمتاً رهيباً، ولا يقوم بأي دور، وأنه يشارك في الجريمة، لأنه ألقي في روعة أن هؤلاء مسلمون، وأن قتلهم لا يغير في واقع الحال شيئاً.

لماذا يغض العالم الطرف عن متطرفي الهندوس وجرائمهم البشعة. وجرائم الهند في كشمير، بل ويطالب العالم باكستان بأن تتخلى عن دعم المسلمين المستضعفين في كشمير المحتلة؟!

حتى العالم العربي والإسلامي يستقبل الهندوس ويوظفهم، ويمنحهم الأعطيات والعلاوات والمرتبات، ويمكنهم من تنظيم خلاياهم السرية وجمع أموالهم الطائلة، لدعم إخوانهم الكفار هناك وقتل المسلمين عياناً في وضح النهار.

سؤال رابع وخامس وسادس... ما الذي يجعل التنفيذ دائماً يسبق التهديد إذا كانت القضية تتعلق بمسلمين، سواء في الصومال أو في ليبيا أو في غيرها؟! وإذا تعلقت القضية بـالصرب مثلاً، أصبحت -كما يقول المثل العربي- تسمع جعجةً ولا ترى طحناً!

فهناك التهديد والوعيد من الأمم المتحدة ثم من أمينها، ثم من هذا الحلف ثم من ذاك، ثم من هذه الدولة الكبرى ثم من تلك، وأخيراً تمخض الجمل فلم يلد شيئاً، وأصبحوا يعربون أن هناك بوادر انفراج وتجاوباً مع المطالب الدولية، وأنه على فرض أن هناك تدخلاً فسوف يكون بطيئاً ومدروساً، ويضع كل الاحتمالات في الاعتبار، لضمان أمن وسلامة جنود الأمم المتحدة وغيرها، فهناك اللهجة ترتفع وتنخفض، والتهديد بعد التهديد، وأخيراً: تهدأ الأمور ويستقر الحال!!

نحن نعتقد أن كثيراً من الدول التي تعرضت للضربات من الغرب هي دولٌ لم تكن تحكم بالإسلام يقيناً، سواء هناك في ذلك الصومال، أو ليبيا، أو العراق، أو غيرها من الدول التي طالتها يد الغرب، وأن العلمانيين كانوا هم المسيطرين فيها، إذاً لماذا يضربهم الغرب؟

أقول وأعتقد: أن الغرب لا يثق بمن ينتسب إلى هذه البلاد وإلى هذه الأمة وإلى أبوين مسلمين، حتى ولو كان علمانياً، حتى ولو قدم لهم فروض الولاء والطاعة، حتى ولو كان شديد الولاء لهم، حتى ولو كان خادماً لمصالحهم، إلا أنهم يستخدمونه ولا يثقون به طرفة عين، وعلى أقل تقدير، فهم يعتقدون أنه على المدى البعيد من الممكن أن يكون المستقبل للإسلام، وأن هؤلاء قومٌ تخطتهم الأحداث، وتعداهم التاريخ، إنهم يرون أنه يجب أن تظل البلاد الإسلامية محرومة، متخلفة، حتى لو سيطر عليها العلمانيون.

ما الذي يبيح لدولةٍ كدولة اليهود المسماة بإسرائيل امتلاك السلاح النووي؟ حتى لا يجرؤ مدير الطاقة النووية على مجرد الحديث عن هذا الموضوع، وقد قرأت مقابلةً معه، فتكلم عن دول كثيرة ولما سئل عن دولة ما يسمى بإسرائيل، اعتذر عن الجواب، في حين يحرم المسلمون من ذلك كله، بل يحرمون من امتلاك التقنية العادية أو تصنيع السلاح التقليدي.

نعم نحن لا نلقي بأخطائنا على عدونا، ولا ننتظر من عدونا أن ينسى تاريخه وخلفيته الدينية والعقائدية، وندري أن المسلمين لو صدقوا الله تعالى وأخلصوا، لاستطاعوا أن يصنعوا كل ما يحتاجونه، وأن يطوعوا ناصية التقنية لهم، وأن يستوردوا كافة السلاح، خاصة في ظل عالمٍ يبحث اليوم عن النفط وعن المال وعن الاقتصاد بكل وسيلة، ويخطط لامتلاك موطئ قدمٍ في البلاد الثرية الغنية، لكننا لا نشك أيضاً، أن الغرب يحاول أن يجعل من هذه المهمة مهمةً صعبةً للغاية.

يوم الله هذا عنوان كتاب يتحدث عن الحركات الأصولية المعاصرة، سواء الحركات الإسلامية أو اليهودية أو النصرانية، مؤلف الكتاب اسمه جيل كيفي، ومترجمه اسمه: نصير مروة، وهو واحد من عشرات الكتب، التي ترصد ما يسمى بالحركات الأصولية الدينية، وعنوان الكتاب: يوم الله يومئ ويشير إلى فكرة مشتركة موجودة عند كل أمم الأرض الكتابية، المسلمين واليهود والنصارى، وهي أن العالم اليوم يستقطب ويتجمع، ويتمحور حول مسألة الدين.

الأحزاب الدينية المسيحية مثلاً في ألمانيا، أو في فرنسا، أو في بريطانيا، بدأت تكسب أصواتاً جديدة من الناخبين يوماً بعد يوم، وبدأت تكسب مواقع ومساحات جديدة على حساب الأحزاب الاشتراكية والعلمانية والتوجهات القومية الدينية في روسيا تتزايد وتتنامى باطراد، وتكسب الشارع يوماً فيوماً، والأحزاب اليهودية المتطرفة دخلت ما يسمى بالكنيست اليهودي، وشاركت في الحكومة، ولها مواقفها القوية الصلبة الواضحة المنسجمة مع عقائدها ودينها، والشعوب الإسلامية أيضاً بدأت تصحو، تصحو على ضربات الغزاة ومطارقهم.

المعركة الفاصلة هرمجدون

ربما يقول البعض: -وهو مما أقوله أيضاً- إن معظم المعارك التي نسمعها اليوم في العالم كله هي ذات طابعٍ ديني قومي. نحن نعلم أنه ليس لدى المتقاتلين -سواء كانوا من المسلمين أم من غيرهم- ليس لديهم الوعي الحقيقي بدينهم، لكنهم يدافعون من منطق الحمية، أو العصبية، أو القومية.

وبإمكانك أن تسمع أية نشرة للأنباء في أية إذاعة عالمية، ثم احسب كم عدد الأخبار المتعلقة بالمسلمين، أو المتعلقة بحروب إسلامية، أو المتعلقة بمشكلات في بلاد الإسلام.

إن ذلك كله لا يعدو أن يكون تحضيراً وتمهيداً للمعركة الكبرى الفاصلة التي يسميها اليهود والنصارى معركة هرمجدون.

اليهود والنصارى تعمل هذه المعركة في عقولهم، وفي سياستهم، وفي قراراتهم، وتؤثر فيهم سواء بصفة مباشرة شعورية أم لا شعورية، إنها المعركة بين قوى الخير وقوى الشر، هكذا يعبر اليهود والنصارى، وأين؟ في فلسطين.. وبين من ومن؟ بين المسلمين من جهة، وبين اليهود والنصارى من جهةٍ أخرى.

قوى الخير في نظرهم اليهود والنصارى، وقوى الشر المسلمون، والغلبة عندهم لقوى الخير، أي: لهم.

ونحن نقول: نعم.. الغلبة لقوى الخير، ولكن قوى الخير هي القوى الإسلامية التي تملك الرصيد الرباني، تملك كتاب الله تعالى المنـزل المحكم، وتملك الحق الذي جاء به النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام.

إذاً هذا المعنى: المعركة الفاصلة -معركة هرمجدون- هذا المعنى مشترك بين الأمم الثلاث كلها، والنصر فيها هو للمسلمين دون شك، على أعدائهم من اليهود والنصارى، حتى عملية السلام التي يتحدثون عنها اليوم هي جزء من تلك الحرب.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5118 استماع
حديث الهجرة 5007 استماع
تلك الرسل 4155 استماع
الصومال الجريح 4146 استماع
مصير المترفين 4123 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4052 استماع
وقفات مع سورة ق 3976 استماع
مقياس الربح والخسارة 3929 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3872 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3833 استماع