خطب ومحاضرات
اللقاء الشهري [51]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا لقاؤنا معكم الثابتُ في كل شهر، في السبت الثالث من كل شهر ليلة الأحد، يتم هذا في شهر رجب عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف، وبما أننا في مستقبل الشتاء فإن حديثنا في هذه الليلة سينحصر فيما يتعلق بالطهارة، وقبل أن نبدأ بهذا الموضوع نحب أن نعلق بعض الشيء على ما جاء في سورة البروج في قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] هؤلاء الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات هم أصحاب الأخدود، الذين حفروا في الأرض أخاديد وأوقدوا فيها النيران العظيمة، وعرضوا عليها المؤمنين، فمن استمر على إيمانه ألقوه فيها، ومن كفر نجا منها لكنه لن ينجو من نار الآخرة والعياذ بالله.
هؤلاء القوم يفعلون بالمؤمنين هذا الفعل الشنيع، وهم على هذه النار قعود يتفرجون عليها وكأن شيئاً لم يكن، وهذا يدل على قسوة قلوبهم -والعياذ بالله-، وعلى جبروتهم، وعلى شدة محاربتهم لدين الله عز وجل؛ هؤلاء الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات عرض الله عليهم التوبة فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] وفي قوله: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10] دليل على أنهم لو تابوا لقبل الله توبتهم ونجاهم من عذاب جهنم وعذاب الحريق.
وعلى هذا نفهم من هذه الآية الكريمة: أن التوبة من الذنوب مهما عظمت فإن الإنسان ينجو من عقابها؛ لأن من صفات الله عز وجل العظيمة أن رحمته سبقت غضبه، واعلم أخي المسلم أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة قال الله تعالى عنها: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [غافر:40].
إذا تاب العبد من الذنوب مهما عظمت فإن الله تعالى يتوب عليه، قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] واعلم أن قنوطك من رحمة الله، ويأسك من رحمة الله أعظم من ذنبك، كل الذنوب وإن عظمت فإنها في جانب عفو الله يسيرة سهلة إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
فإذا تاب العبد توبةً نصوحاً خالصةً لله -جعلني الله وإياكم من التائبين، اللهم اجعلنا من التوابين المتطهرين يا رب العالمين- فإن الله يتوب عليه.
واعلم أن التوبة من الذنوب واجبة على الفور لا يجوز للإنسان أن يؤخر فيها، فيبقى على ذنبه وعلى جرمه ويعتمد على التسويف، فيقول لنفسه: إن الله غفور رحيم، ولكن يجب أن يعلم الإنسان أن الله غفور رحيم لكنه شديد العقاب لمن بارزه بالعصيان، استمع إلى قول الله عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:98] وبعدها: وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98] فبدأ بشدة العقاب، واتل قول الله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي [الحجر:49] يعني: أخبرهم أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:50].
فيجب على العبد أن يتوب إلى الله فوراً، إن كان فرط في واجب وهو مما يمكن قضاؤه وتداركه فليفعل، إن كان قد فعل محرماً فليقلع فوراً بدون تأخير؛ وذلك لأن للتوبة شروطاً لا بد من مراعاتها:
من شروط التوبة: الإخلاص لله
من شروط التوبة: الندم على ما فات
من شروط التوبة: الإقلاع عن الذنب
رجل علم أن غيبة الناس حرام، والغيبة: هي ذكر معائب الناس، وذكرك أخاك بما يكره، علم أن هذا حرام، بل هو من كبائر الذنوب على ما نص عليه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، فعزم على أن يتوب، ندم على ما فعل، لكن مع ذلك متى حصلت له فرصة في الغيبة اغتاب الناس، فهل تقولون: إن هذا صحت توبته؟ لا. فلا بد أن يقلع في الحال.
رجل آخر ترك صلاة جماعة مع قدرته على الجماعة، وقال: إنه تائب. ولكنه ما زال يدع صلاة الجماعة، أتقولون إن توبته صحيحة؟
لا.
لماذا؟ لأنه لم يقلع عن الذنب، ومصر على ألا يصلي، كيف التوبة من شيء أنت مصر عليه؟!
رجل ثالث كان يتعامل بالغش، لأنه صاحب معرض أو صاحب بسطة بطيخ أو غيره، فوبخته نفسه ذات يوم فقال: إني تبت من الغش والخيانة، لكن ما زال يغش، أتصح توبته؟ لا. لا تصح توبته، فلا بد أن يقلع.
رجل رابع كان جاره يتأذى منه، يسمع أصواتاً تؤذيه إما أغاني في مسجل أو راديو أو تليفزيون أو غيرها، والجار يتأذى من هذه الأغاني أولاً: لأنها معصية لله عز وجل، ثانياً: لأنها تقلق راحته، فقال له: يا أخي، يا جاري! آذيتني بهذا، فلما علم أن جاره يتأذى قال: الآن أتوب إلى الله. ولكنه مصر على ذلك، لم يوقفه ساعةً واحدة في غير ما جرت به العادة، فهل هذا تائب؟ لا، هذا ليس بتائب، لا بد أن يقلع عن الذنب وإلا فلا توبة له.
من شروط التوبة: العزم على ألا يعود
من شروط التوبة: أن تكون في وقتها
وهنا وقتان لا تقبل فيهما التوبة جاء ذكرهما في القرآن، أما الأول: فإذا حضر الإنسان الموت فإنها لا تقبل توبته؛ لقول الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء:18] ليس هذا محل التوبة، إذا شاهدت الموت وعرفت أنك مفارق الدنيا قلت: تبت الآن، ما ينبغي.
ولما أدرك فرعون الغرق في البحر قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90] فآمن، فقيل له: آلْآنَ تؤمن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] أي: لا يقبل منك، ولهذا قال الله فيه: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98]كأنك تشاهد رجلاً يمشي أمام قومه يهديهم إلى النار والعياذ بالله، وهو يقول لهم في الدنيا: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] هذا السبيل الذي يهديهم إليه، هداهم إلى النار والعياذ بالله.
هذا الوقت الأول، إذا حضر الإنسان أجله فإن التوبة لا تنفعه، ولو سألت كل أحد منكم: هل تعلمون متى يحضر الأجل؟ لقلتم على لسان واحد: لا نعلم. ومن ادعى أنه يعلم فهو كاذب، وإذا كان كذلك كان وجوب التوبة على الفور؛ لأنك لا تدري أيها الإنسان، فإن كان عليك حق لأحد فبادر بوفائه، إن كان هناك شيء مقصر فيه: زكاة مال ما أخرجتها، كفارة يمين ما أخرجتها، كفارة ظهار، كفارة وطء في رمضان، أو غير ذلك فأخرجها، دين عليك ما قضيته فاقضه، فكم من إنسان عنده أموال كثيرة وعليه ديون ولم يقضها، فمات فجعل الورثة يلعبون بماله ونسوا الحق الذي نفسه معلقة به، فأد ما عليك قبل أن يفوت الأوان.
أما الوقت الثاني: فهو إذا طلعت الشمس من مغربها، الشمس الآن كل من يشاهدها تطلع من المشرق وتغرب من المغرب منذ سخرها العزيز العليم عز وجل؛ إلى أن يأذن بخراب العالم وهي على سيرها، سبحان الله! لا تختلف ولا تزل عنه، ولا تسرع أكثر مما سبق، ولا تتباطأ أكثر مما سبق، ولا تطلع في الشتاء في مطلع الصيف، ولا في الصيف في مطلع الشتاء، بل هي بإذن الله مستمرة على أحسن نظام، فإذا أراد الله تعالى فناء العالم فإن الله يأمرها فتخرج من المغرب.
سبحان الله! الشمس التي دائماً تطلع من المشرق تطلع من المغرب! من يقدر على هذا؟ الله عز وجل، لا يقدر غيره أحد، ولهذا لما سأل الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند قوله تبارك وتعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً [الإسراء:97] قالوا: يا رسول الله! كيف يحشر على وجهه؟ قال: الذي أمشاه في الدنيا على قدميه يمشيه يوم القيامة على وجهه) الله أكبر!
فالذي سخر الشمس أن تطلع من مطلعها شرقاً يسخرها أن تطلع من مغربها غرباً، إذا طلعت الشمس يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا رآها الناس آمنوا أجمعون) كلهم يؤمنون، الكافر منهم والمؤمن، ولكن هل الكافر ينفع الإيمان؟ لا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً [الأنعام:158] كل نفس لم تؤمن من قبل أو تكسب في إيمانها خيراً فإنه لا ينفعها ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، ولهذا جاء في الحديث: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها).
فيا أخي يا عبد الله! فكر في نفسك، فكر فيما أنت مقصر فيه، أنقذ نفسك ما دمت في زمن الإمكان، فكر في حق الله: هل ضيعته، هل فرطت فيه، هل حصل في قلبك رياء، هل حصل في قلبك عجب، هل حصل في قلبك كراهة للمؤمنين أو حب للكافرين أو إيثار للدنيا على الآخرة، أشياء كثيرة، سبل عظيمة، فتن كبرى نسأل الله أن يعصمنا وإياكم منها.
داو قلبك، إذا كنت تداوي قلبك في اليوم مرتين أو ثلاثاً، وتأكل الحبوب للشفاء في اليوم مرتين أو ثلاثاً فداو القلب، ارجع للقلب، لا يمت قلبك، لا يقس قلبك ما دام الأمر بيدك، ووالله إن فناء الجسم أهون من فناء الدين؛ ولذلك الذين عرفوا الحقيقة أفنوا أنفسهم في دين الله عز وجل، يعرضون رقابهم لسيوف الأعداء؛ كل ذلك إقامة لدين الله، وإعلاءًَ لكلمة الله، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
المهم يا إخواني! أدعو نفسي أولاً وأدعوكم ثانياً إلى تفقد القلوب، وإلى صقلها ودوائها؛ قبل أن يرين عليها ما كسبت فيطبع عليها والعياذ بالله، أسأل الله لي ولكم الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.
الشرط الأول: الإخلاص لله، أن يخلص العبد في توبته، فيقلع عن الذنب لأنه ذنب ومعصية لله؛ لا لأن الخلق يرونه بل خوفاً من عقاب الله، يقوم بالواجب لا لأن الخلق يرونه فيمدحونه ولكن لأن ذلك في رضا الله، فالإخلاص لله عز وجل أهم أركان وأهم شروط التوبة، لو تاب الإنسان خوفاً من السلطان أتصح توبته؟ لا، تُوبُوا إِلَى اللَّه [التحريم:8] أي: توبوا إلى الله لا إلى غيره تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8] اللهم حقق لنا الإخلاص.
الشرط الثاني: أن يندم على ما فعل من الذنوب، لا بد أن يكون للذنب عنده انكسار وخجل من الله عز وجل وخشية منه؛ فيتأسف يقول: يا ليتني لم أفعل، ولكن يقلع عن الذنب، لا بد من الندم، فلا تصح التوبة والإنسان في قلبه أن الذنب وعدمه سواء، ولكن اندم كأن شيئاً محبوباً إليك فاتك، أو كأن شيئاً حصل عليك وأنت تكرهه، اندم على ما مر من الذنب.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اللقاء الشهري [24] | 3292 استماع |
اللقاء الشهري [34] | 3026 استماع |
اللقاء الشهري [41]رقم2 | 3002 استماع |
اللقاء الشهري [25] | 2941 استماع |
اللقاء الشهري [29] | 2937 استماع |
اللقاء الشهري [58] | 2837 استماع |
اللقاء الشهري [33] | 2805 استماع |
اللقاء الشهري [60] | 2786 استماع |
اللقاء الشهري [7]1،2 | 2672 استماع |
اللقاء الشهري [50] | 2646 استماع |