مفهوم التجديد في الإسلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا الموضوع هو موضوع مهم وخطير في واقع المسلمين اليوم، ألا وهو: موضوع التجديد، وأهمية هذا الموضوع تأتي من جوانب عديدة.

فأولاً: التجديد هو: القدر الإلهي القادم لا محالة الذي تنتظره وتتطلع إليه نفوس المؤمنين، بعدما أجهدها السير في الطريق.

ثانياً: إن التجديد أصبح ادعاؤه مَزْلقاً، سبَّب لكثيرٍ من الناس ألواناً من الانحراف في فهم الإسلام أو تطبيقه باسم التجديد المزعوم.

إخوتي الكرام: أجزم أن الوقت المخصص لهذه المحاضرة وهو ساعة، إضافة إلى نصف ساعة للأسئلة غير كافٍ نهائياً للحديث عن هذا الموضوع الخطير، ولذلك فإنني منذ البداية سأحرص على التركيز على جوانب أرى أن إبرازها مهم في الموضوع، وربما لا أقف عند أمور مفيدة من الناحية العلمية لكن الأمر بالنسبة لها هين ويسير.

فالتجديد سنة إلهية شرعية في هذا الدين، وهو ملائم جداً ومناسب لما هو معلوم من أن الله تعالى ختم الأنبياء والمرسلين بمحمد صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] فالعلماء الذين يجددون الدين لهذه الأمة هم -إن صح التعبير- نواب وخلفاء وورثة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، يقومون بدعوة الناس إليه وحثهم عليه، ولذلك يقول أحد العلماء المعاصرين المهتدين: إن العلماء في هذه الأمة هم كالأنبياء في بني إسرائيل، وهذا الكلام -في نظري- صحيح، وهو أن العلماء في أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم كبعض أنبياء بني إسرائيل من الذين لم يكونوا رسلاً يأتون برسالات جديدة، وإنما يجددون شريعة النبي السابق لهم، فعوض الله هذه الأمة ببعثة المجددين على رأس كل مائة سنة ليُحْيُوا ما اندرس من أمر هذا الدين.

وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، فقال في حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدد لها دينها}.

والحديث أولاً: لا إشكال في تقويته وصحته، وقد صححه العلماء، كـابن حجر والسيوطي والسخاوي والمناوي والحاكم، وغيرهم، بل قال السيوطي: اتفق العلماء والحفاظ على تصحيحه، وفعلاً بعد بحثٍ وتَحَرٍّ لم أقف على عالم واحد تكلم في صحة هذا الحديث أو إسناده، بل إن من غرائب الأمور أنه حتى أولئك الذي يرفضون كثيراً من السنة ويشككون في أحاديث الآحاد، ويقفون من الهدي النبوي موقفاً أقرب إلى العداء والرفض، حتى هؤلاء يدندنون بهذا الحديث ويقولون به، وذلك ليس لوجه الله، وإنما لحاجة في نفس يعقوب قضاها، والمهم أن الحديث متفق على صحته على ما ذكره الإمام السيوطي، وكذلك بحثتُ فلم أجد أحداً ضعَّف هذا الحديث في مصادر كثيرة جداً من مصادر السنة النبوية.

ثم أنتقل إلى نقطة ثانية بعد هذا المقدمة والتمهيد المختصر، فأقول: ما هو جوهر التجديد؟

أي بالضبط: ما المقصود بالتجديد؟

وما جوهره؟

ومن خلال هذا العنوان يبدو أن التجديد المنتظر والمطلوب يتلخص في ثلاثة أمور:

الأمر الأول: هو: إحياء الفهم الصحيح للإسلام، ونفي جميع الأشياء التي دخلت على الإسلام من تأثيرات الفلاسفة أو الصوفية أو غيرها، أو من تأثيرات البيئة والواقع الذي يعيشه الناس، فهذا الإحياء للفهم الصحيح للإسلام هو من أهم مهمات المجددين، ونحن نعرف جميعاً أنه قد دخل في فهم - لا أقول في الإسلام -الناس للإسلام تأثيرات غريبة جداً، وأصبحت تقرأ في بعض الكتب أشياء لا تفرق بينها وبين ما عند اليهود والنصارى والبوذيين والمجوس والوثنيين وغيرهم، وهي باسم الإسلام تُرتَكَب.

وأذكر -على سبيل المثال- أنني قرأت في كتاب: الطبقات للشعراني بعض القصص والأخبار في منتهى الغرابة؛ حتى أنهم ذكروا من طرائفها -فنحن إذا كنا نسمع بصكوك الغفران عند النصارى فعند الصوفية ما هو أشنع منها، وإن لم يكن على المستوى العام-: أن النقشبندي شيخ الطريقة الصوفية كان قد أراد أن يشتري من إنسان بستاناً، فاشترط عليه صاحب البستان أن يكون الثمن قصراً في الجنة، -لا يريد ثمناً في الدنيا- فوافق شيخ الطريقة على ذلك، وكتب صكاً أو عقداً -وهو مكتوب معروف-: هذا ما باع فلان بن فلان على الشيخ النقشبندي، باع لي بستانه الواقع في مكان كذا، بقصر أو ببستان في الجنة، يُحد شرقاً: بجنة عدْن، وغرباً: بجنة الفردوس، وشمالاً: بجنة المأوى، وجنوباً: بجنة النعيم، وهذا موجود بهذه الصورة.

ومن الطريف أيضاً أنهم يقولون: لما مات هذا الرجل البائع رآه رجل في المنام وهو يقرأ هذه الآية: لقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً [الأعراف:44].

ويذكر عن أحمد البدوي -المسمى بالسيد-: وهم يقولون: أنه خاتم الأولياء، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، هكذا تقول الصوفية- فيذكرون عن البدوي هذا، أن الله تعالى قال له: سلني يا عبدي -حيث جعل الله له ثلاث دعوات مستجابات، كما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم- يقول: سألتُ الله ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة -وهذا تركيب؛ لأن هناك حديث بهذا اللفظ- فأما التي أعطاه الله تعالى هو أنه سأل الله تعالى أن يغفر لكل من كان اسمه أحمد، فأعطاه الله ذلك، وسأله أن يختم به الأولياء؛ فأعطاه ذلك، وسأله أن يدخله النار!! فمنعه ذلك، نعم، منعه ذلك، وقال: لأنه لو دخلها لَتَمَرَّغ فيها ولتحولت إلى حشيش أخضر، أي لو دخل النار لتحولت إلى حشيش أخضر. وهذا ليس فيه فرق -في اعتقادي- عما هو موجود عند الديانات الوثنية والخرافية والمحرفة، لكن ميزة الإسلام أن هناك مرجعاً يمكن التحاكم إليه ونبذ ما يخالفه، وهو: القرآن والسنة، بخلاف الديانات الأخرى، فقد التبس فيها الحق بالباطل على وجه لا يمكن فيه التمييز.

إضافةً إلى أننا نعلم أن كثيراً من الناس يستقون فهمهم للإسلام من الواقع، ويعتبرون أن الواقع مصدر الإلهام في فهم الإسلام، أيَّاً كان هذا الواقع.

وأتعجب أن الدكتور: حسن حنفي، وهو من أدعياء التجديد، وله كتاب اسمه: التراث والتجديد، يحاول أن يقرر أن الميزان في معرفة الأشياء الصحيحة من الخاطئة هو الواقع، فكل شيء يثبت في الواقع أنه مفيد فهو صحيح، وكل شيء يثبت في الواقع أنه غير مفيد فهو غير صحيح، يعني: ليس مهماً أن يكون الأمر مشروعاً أو غير مشروع، لكن المهم أن يكون الأمر مفيداً في الواقع، فإذا كانت -مثلاً- الاشتراكية أمراً مفيداً في الواقع، أو من خلال تطبيقها تبين أن فيها -مثلاً- تحريك لطبقة معينة من الناس، وتوزيع عادل -على حد زعمه- للثروة فهي تعتبر تجديداً، وأدهى وأمر من ذلك أن هذا الرجل تكلم عن قضية ما يسمى في التاريخ الإسلامي: بوحدة الوجود، وهي فكرة صوفية تدعي أن الخالق والمخلوق شيء واحد.

الرب عبد والعبد رب     يا ليت شعري من المكلف

ومعروفة أبيات ابن الفارض في هذا الباب وغير ابن الفارض.

فوحدة الوجود هذه عقيدة صوفية إلحادية، يقول حسن حنفي: إن هذه العقيدة قد تكون في الماضي غير مناسبة وغير صحيحة لضررها، لكنها في العصر الحاضر هي عين الصواب، وهي التجديد، -لماذا؟- قال: لأن القول بوحدة الوجود يعطي الإنسان قيمته وماهيته، في الوقت الذي سُحِق الإنسان فيه، وضاعت كرامته، وأُهْدِرت شخصيته، وأصبح مجرد تابع ذليل خانع، فالقول بأن المخلوق والخالق شيء واحد يعيد للإنسان نوعاً من أهميته وشخصيته واستقلاليته!

إذاًَ ليس المقياس في رفض فكرة ما أو قبولها أن الشرع يرفضها أو يقبلها عند هؤلاء، بل يقيسون الأمر بمدى نفعها في الواقع، فإذا كان الأمر مفيداً في الواقع فهو من التجديد، وإذا كان الأمر غير مفيد في الواقع -في تقييمهم ونظرهم- فهو ليس من التجديد.

ونعلم أن الخضوع لسياسة الأمر الواقع -على سبيل العموم- اليوم أصبح أمراًَ يهيمن على كثير من مُفَكِّري الإسلام وعلمائه، يعني: الحضارة الغربية اليوم هي الحضارة المسيطرة الغازية، وهي تبسط أجنحتها الغربية والشرقية، وتبسط أجنحتها على الدنيا كلها.

والشعوب الإسلامية تُصَنَّف فيما يُسمى بدول العالم الثالث، أي: العالم المتخلف، الفقير الجاهل المريض، وبالتالي صار كثير من المسلمين ينظرون إلى الكفار نظرة إعجاب وتقدير، بل إن كلمة: الكفار أصبحت ثقيلة على النفوس، وكثير منا يستثقل إطلاق كلمة: كفار عليهم، مع أنها هي الكلمة الواردة في القرآن وفي السنة، وهي أمر طبيعي، لكن كثيراً منا يمكن أن يعبر بأي لفظ، لكن يستحي من أن يطلق عليهم أنهم كفار، أو يحكم عليهم بما حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكثير من هؤلاء المسلمين بل وربما الدعاة أصابتهم هزيمة داخلية، وصاروا يعيشون ما يسمى: بسياسة الأمر الواقع، فهم يقولون: لا معنى أن نظل ومتشبثين ومتمسكين بأمور معينة، على رغم أن الواقع قد رفض هذه الأشياء.

إذاً فالجانب الأول من جوانب التجديد: هو: إحياء الفهم الصحيح للإسلام، بنبذ جميع التأثيرات الصوفية والفلسفية والخرافية والبيئية التي دخلت في الإسلام، وبعدم إخضاع فهم الإسلام للواقع الذي يعيشه الناس ويتغير من بلد إلى آخر ومن وقت إلى آخر.

التجديد في العلوم الإسلامية

ويدخل في هذا التجديد أيضاً: التجديد في العلوم الإسلامية.

خذ على سبيل المثال: التجديد في علم التفسير، فما أحوجنا إلى كتاب في التفسير يفسر كلام الله تعالى بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ وكُلِّفَ ببيان القرآن الكريم، كما قال تعالى: وَأَنـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نـزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] وفي الآية الأخرى: إِنَّا أَنـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105] فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبيان، وفي سورة آل عمران يقول الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] فلاحظ هذه المهمات الثلاث للرسول عليه الصلاة والسلام:

أولاً: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2]وهذا هو البلاغ اللفظي الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتلو القرآن على الناس، ولا يترك منه حرفاً واحداً؛ حتى الآيات التي نـزلت في معاتبة الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض المواقف، كان يتلوها على الناس عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام الناس ويقول لهم -مثلاً-: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37] فينقل الآيات التي فيها عتاب له صلى الله عليه وسلم، كما ينقل الآيات التي فيها مديح وثناء عليه، كما في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]؛ لأن مهمته صلى الله عليه وسلم هي البلاغ.

هذا هو معنى قوله: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2].

ثم ننتقل إلى مرحلة أخرى في الآية: وَيُزَكِّيهِمْ [الجمعة:2] والتزكية هي: تربيتهم.

إذاً لم تكن مهمته فقط مهمة علمية محضة، مثلما يظن بعض الناس، فيقول: أنا مهمتي أن أقول للناس هذا حلال وهذا حرام، وبعد ذلك يفعلوا ما يشاءون، لا،بل كانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ذلك، ويزكيهم، بمعنى: أنه يربيهم على الالتزام الصحيح والتطبيق العملي للقرآن الكريم، ولذلك صار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تطبيقاً وترجمة عملية للقرآن الكريم؛ حتى قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم لما سألها هشام بن سعد عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: [[هل تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خُلُقَه القرآن]] وكذلك جابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم في حديثه الطويل في الحج، يقول: [[ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينـزل القرآن، وهو أعلم به منا، فما عمل من شيء عملنا مثله]] فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزكي الناس بالقرآن الكريم قولاً وفعلاً: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2].

ثم المرحلة الثالثة: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] فما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناه يقرأ عليهم الكتاب؟ لا، فهذه قد مرَّ ذكرها: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2].

إذاً تعليم الكتاب غير تلاوة الكتاب، فيعلمهم الكتاب معناه: يشرح لهم القرآن الكريم، ولذلك لا شك في أنه ما من آية تحتاج إلى إيضاح إلا وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله أو بفعله، وقد عنِي العلماء بجمع هذا التفسير في كتب كثيرة، بعضها مخطوط، وبعضها مفقود، وبعضها مطبوع، ولو راجعتَ كتاب: الدر المنثور للسيوطي، لوجدته جمع طائفة كبيرة جداً من هذه الأحاديث، ولو راجعت الجزء الثاني من جامع الأصول لوجدتَ معظم الجزء مخصصاً لكتاب التفسير، ونقل التفسير النبوي للقرآن الكريم.

إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن كل ما يحتاج إلى بيان من القرآن الكريم، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأمور:

إننا -الآن- نجد طوائف كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام -وليسوا بمسلمين- أصبحوا يرفضون السنة كلها، ففي شبه القارة الهندية جماعات يُسَمَّوْن بالقرآنيين، أو بـأهل القرآن، وهذه الجماعات ترفض السنة النبوية كلها، وتعتمد فقط على القرآن الكريم، ومع الأسف قرأتُ قبل أشهر كتاباً اسمه: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة، وهو رسالة ماجستير في جامعة أم القرى بـالمملكة، والكتاب قيِّم وأشيد به وأنصح بقراءته للمهتم بهذا الموضوع، لكن مما أحزنني: أن الكاتب ذكر في إحدى الهوامش أن بعض زعماء القرآنيين قد تزوج بالأمريكية المسلمة مريم جميل، وهي امرأة لها تاريخ مشرق، ومن خلال مراسلاتها مع أبي الأعلى المودودي يبدو أن المرأة كانت تحمل هَمَّ الإسلام، وكانت تلتزم بالفهم الصحيح للدين، حتى في بداية التزامها بالإسلام، فإن كان هذا الخبر مؤكداً فهو يستحق الحزن فعلاً، ولعله أن يكون في الأمر ما فيه.

والمهم هو أننا نعلم أن هناك من يؤمن بالقرآن ويرفض السنة، كما أننا نعلم في المقابل أن كثيراً من الذين يؤمنون بالسنة أصبحوا يحاولون أن يرفضوا كثيراً من الأحاديث الواردة مما لا يتفق مع أهوائهم وأمزجتهم.

فنحن بهذا العمل الذي نقوم به -تفسير القرآن بالسنة النبوية- نربط بين المصدرين، نربط القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن؛ بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، على الأقل في أذهان جماهير المسلمين، فنقول لمن يؤمن بالقرآن: لا بد أن تؤمن بالسنة، لأن القرآن أحال إلى السنة، ونقول لمن يؤمن بالقرآن -أيضاً- ويرفض بعض السنة: هذه السنة التي ترفضها هي بيان لهذا القرآن الذي تقبله، ولذلك فإن من المهم جداً أن يتجه بعض طلبة العلم كنوعٍ من أنواع التجديد، إلى مشروعٍ من مشاريع التجديد إلى تفسير القرآن الكريم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك لا بد من استبعاد ما لا يتفق مع الأصول الشرعية المقررة، والدلالات اللغوية الصحيحة من التفاسير التي سادت بين الناس، وكثيراً ما تقرأ -وخاصة في هذا العصر- ألواناً من التفسير ليس لها علاقة بالآية، يعني: يُسَرِّح المفسر أو الكاتب طرفَه وفكرَه وخيالَه، ثم يكتب ما شاء له قلمُه أن يكتب، ويسمي هذه الكتابة تفسيراً، ويعتبر أنها شرحٌ للقرآن الكريم، وهذا لا شك أنه مَزَلَّّةُ أقدام.

ومَثَلٌ آخرُ في مجال العلوم الإسلامية، في مجال الحديث والفقه: مسألة التجديد في دراسة أسانيد السنة النبوية، أي: تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وهذه في أمس الحاجة إلى تجديد، وأعلم أن هناك علماء لهم جهود، ولعل من أبرز من نشاهده في هذا المجال: الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني، فهو مِن أحسن مَن خدم السنة في هذا العصر، وليس هو الوحيد في هذا الباب، بل يوجد من علماء شبه القارة الهندية، ومن علماء مصر كالشيخ: أحمد محمد شاكر، ومن علماء المملكة كسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز، ومن بعض الشباب الذين يهتمون بالسنة ولهم جهود طيبة، لكن مع ذلك -في اعتقادي- أننا بحاجة إلى التجديد في مجال دراسة أسانيد السنة، فبعض الشباب مثلاً: ظنوا أن دراسة الأسانيد وتصحيح الأحاديث مسألة آلية، يأتي بكتاب: تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر الذي حكم فيه على الرواة إجمالاً، ويأتي بالرجال ويفتح التقريب، ويقول: الرجال ثقات؛ إذاً الإسناد صحيح، أو يعتمد على تصحيح الألباني أو غيره على حديثٍ ما، ويعتبر أنه مُتَعَبَّد بهذا الشيء، وقد ينتقد من يخالفه، وهذه لا شك تحتاج إلى إبعاد هذه المفاهيم عن نفوس الناس.

فنحن إذا كنا لا نقبل من الفرد أن يقلد إماماً قديماً في تصحيح الأحاديث وتضعيفها ويعرض عما عداه، فكيف بإمام معاصر! هو أولى أن لا يقبل حكمه على غيره، وليس من المقبول ما ذكره أحدهم في ترجمة الشيخ الألباني حفظه الله أنه قال: إن الألباني معاصر واطلع على ما كتبه السابقون، وبذلك عرف أسانيد وطرق لم يعرفها غيره فجاء حكمه شاملاً، فهذا غير صحيح؛ لأنه لا أحد يمكن أن يدعي أن علم السنة النبوية محفوظ عند شخص واحد أبداً، والألباني في الوقت الذي يتعقب هو غيرَه من العلماء، يتعقبُه غيرُه، فهو بشر كغيره، صحيحٌ أنه أفضل من كثير من معاصريه؛ لكن ليس معنى ذلك أن العلم توقف عند الشيخ الألباني.

إذاً نحن بحاجة إلى عشرات الرجال من أمثال الشيخ الألباني، والشيخ أحمد شاكر وسواهم، يهتمون بدراسة الأسانيد ومعرفتها معرفة صحيحة.

وهناك أمر آخر: وهو مسألة نقد المتون، لأنه أحياناً قد يكون السند ظاهره سليم ليس فيه آفة أو علة توجب ردَّه، لكن المتن فيه علة، وهذه أيضاً مشكلة؛ لأن الكلام هذا هو حقٌّ في ذاته؛ لكن أحياناً يكون حقاً يراد به باطل، ولعلكم تذكرون أن الشيخ الغزالي غفر الله لنا وله يتكئ كثيراً على هذه القضية في رد كثير من الأحاديث، بحجة: أن هذا المتن فيه علة فيرده، وقد أكثر من هذا الأمر، وكانت العلة في الغالب -عنده- هي مجرد أن الحديث لا يقنعه هو، حتى أنني سمعت في شريط ما يناقش طالباً جزائرياً في رسالة ماجستير في حديث أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم في النار، فقال: أنا أرفض هذا الحديث لأنه يعارض القرآن، وكل حديث يعارض القرآن -يقول بلهجته-: حُطُّهُ تحتَ رجليك!! فهكذا يقول وهي كلمة بلا شك ثقيلة وصعبة، لكن حدثت منه وهي خطأ كبير لا شك.

والمقصود أن الشيخ كان يتكئ على قضية أن الحديث في متنه علة.

ومن الطرائف: أنه بعد فترة من الزوبعة التي أثارتها هذه القضية رأيت شاعرة مصرية -لا أقول: عالمة ولا عالم، ولا طالب علم، ولا عُوَيْلِم، لكن شاعرة مصرية!- ولا أرغب أن أذكر اسمها، ذكرت حديث الأعمى الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن لي قائد لا يلائمني، فقال: هل تسمع النداء، قال: نعم، قال: فأجب} فقالت: أنا لا أقبل هذا الحديث لأن في متنه علة، فهي حفظت الكلمة نفسها من الشيخ الغزالي وركبتها، لأن في متنه علة، فما هي العلة؟ قالت: لأنه يعارض القرآن، كيف يعارض القرآن يا أمة الله؟!! قالت: يعارض القرآن لأن القرآن جاء بالتيسير والسماحة والرفق، ومن غير المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطالب هذا الكفيف أن يمشي إلى المسجد وهو على هذه الحالة، إذاً الحديث يعارض القرآن!

وأقول: إن كلمة: إن الحديث في متنه علة، كلمةُ حق، وقد يُراد بها أحياناً باطل، ونحن لا نريد بها الباطل، بل نريد الحق، لأنه هناك أحاديث -وإن كان ظاهر إسنادها الصحة- فيها علة، وتعرف العلل من مخالفة هذه الأحاديث لأحاديث أخرى قد ترد عن نفس الصحابي وبنفس الإسناد، والأمثلة لذلك كثيرة جداً موجودة في كتب أهل العلم، ولعل مِن أكثر مَن عني بهذا الباب هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فله في نقد الأحاديث حاسة قلما توجد عند غيره من العلماء، وأذكر لكم مثالاً واحداً: وهو حديث عائشة عند النسائي والدارقطني وغيرهما أنها قالت: {كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقَصَرَ وأتْمَمْتُ، وأفْطَرَ وصُمْتُ -وذلك في عمرة في رمضان- فلما رجعنا قلت: يا رسول الله، قصرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصمتُ، فقال لي: أحسنتِ يا عائشة} فـابن تيمية رحمه الله قال: هذا الحديث باطل ومكذوب ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن ظاهر إسناده الصحة، والدارقطني يقول: إسناده صحيح، فلماذا باطل؟ قال: باطل من عدة وجوه:

أولاً: إنه لم يحصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام اعتمر في رمضان -هذه واحدة- وأما فتح مكة وإن كان في رمضان، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر فيه.

ثانياً: إن عائشة لا يمكن أن تصوم والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر معها إلا بإذنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه.

ثالثاً: إن القصر هو السنة. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: [[فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيدت في صلاة الحضر، وأقرت في صلاة السفر على الفريضة الأولى]] فكيف تعمد عائشة -مع ذلك- إلى أن تزيد في صلاة السفر لتصبح أربع ركعات! ثم الأغرب والأدهى والأمر: هو أن يقول لها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كله: {أحسنتِ يا عائشة!} فيصف فعلها بالإحسان، مع أنه أقل ما يقال فيه: أنه مخالف للسنة.

إذاً من خلال هذه الأشياء كلها نكتشف أن هذا الحديث منكر، وهذا نموذج لنقد المتون، ونماذجه كثيرة جداً.

وأنا أريد أن أذكر رءوس أقلام فقط، وأبَيِّن أن هذا الكلام قد يُسْتَغَل بطريقة غير صحيحة، لكن نحن نريد الطريقة الصحيحة بالشروط التي سوف تأتي الإشارة -إليها عما قريب-.

الأمر الثالث: مسألة فقه السنة النبوية: فكثير من الناس قد يتعاطون الأحاديث النبوية ويقرءونها، لكن لا يفقهونها فقهاً صحيحاً، ولا يستطيعون أن يفهموا ما دلت عليه هذه الأحاديث، وهؤلاء لا شك أنهم نفعوا الأمة بحفظ الحديث، لكن نحن أحوج إلى من يستطيع أن يستفيد من الأحاديث ويُنـزلها على الوقائع ويستخرج منها حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على المسائل.

الأمر الرابع: أننا بحاجة إلى مشروع في السنة النبوية، وهو: إيجاد ديوان جامع، يعني: كتاب تُجمع فيه الأحاديث النبوية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يقول قائل: الأحاديث النبوية الصحيحة مجموعة، فأقول: كلا، صحيحٌ أن البخاري جمع أحاديثاً صحاحاً، ومسلم كذلك، لكن لم يستوعبا كل الصحيح، وهناك علماء آخرون ألفوا في الصحيح، أنا أعتقدُ أن المسلمين اليوم بحاجة إلى كتاب شامل يلتزم فيه مؤلفه أن لا يُورِد إلا ما صح، وكيف يعرف أن الحديث صحَّ أو لم يصح؟ إذاً لا بد من دراسة الإسناد، لكن مع دراسة الإسناد لا بد أن يلتزم -قدر الإمكان- بسرد أقوال الأئمة، وخاصة الأئمة المتقدمين في تصحيح الأحاديث، فأنا عندما تقول لي: إن هذا الحديث صححه الإمام أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري يكون عندي اطمئنان بأن الحديث صحيح، لكن عندما يقول لي -مثلاً- محقق حقَّقَ رسالة ماجستير أو دكتواره أو كتاب صغير: إن الحديث إسناده صحيح، فلا أطمئن؛ لأنني لا أعرف مدى سعة وباع هذا الإنسان في العلم، فنحن بحاجة إلى كتاب كهذا بحيث يجمع ما صَحَّ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي مجال الفقه: نحن بحاجة إلى تنقيح كتب المذاهب، واختيار الأقوال الصحيحة ورد الأقوال غير الصحيحة، وتخريج الأحاديث النبوية؛ حتى يتعبد الناس ربَّهم على بصيرة.

وكذلك موضوع أصول الفقه: هو بحاجة إلى تنقيح وتصحيح؛ لأن أصول الفقه لا بد من معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة من هذه الأصول والقواعد، وضبطها، واستبعاد ما كان داخلاً في علم الكلام والمنطق، ولا جدوى ولا طائل من تحته، بل هو أقرب أن يكون ترفاً فكرياً، ومعوقاً أمام الطلاب الذين يريدون أن يدرسوا هذا العلم وينتفعوا به، فنحن بحاجة إلى هذا النوع من التجديد في أصول الفقه أيضاً، لكن ليس على طريقة بعض العصريين الذي يريد أن يصنع أصول فقه جديدة تتناسب مع قناعاته الخاصة.

إذاً هذا جانب، وهو جانب يتعلق بإحياء الفهم الصحيح للإسلام -كما ذكرتُ-.

ويدخل في هذا التجديد أيضاً: التجديد في العلوم الإسلامية.

خذ على سبيل المثال: التجديد في علم التفسير، فما أحوجنا إلى كتاب في التفسير يفسر كلام الله تعالى بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ وكُلِّفَ ببيان القرآن الكريم، كما قال تعالى: وَأَنـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نـزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] وفي الآية الأخرى: إِنَّا أَنـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105] فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبيان، وفي سورة آل عمران يقول الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] فلاحظ هذه المهمات الثلاث للرسول عليه الصلاة والسلام:

أولاً: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2]وهذا هو البلاغ اللفظي الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتلو القرآن على الناس، ولا يترك منه حرفاً واحداً؛ حتى الآيات التي نـزلت في معاتبة الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض المواقف، كان يتلوها على الناس عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام الناس ويقول لهم -مثلاً-: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37] فينقل الآيات التي فيها عتاب له صلى الله عليه وسلم، كما ينقل الآيات التي فيها مديح وثناء عليه، كما في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]؛ لأن مهمته صلى الله عليه وسلم هي البلاغ.

هذا هو معنى قوله: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2].

ثم ننتقل إلى مرحلة أخرى في الآية: وَيُزَكِّيهِمْ [الجمعة:2] والتزكية هي: تربيتهم.

إذاً لم تكن مهمته فقط مهمة علمية محضة، مثلما يظن بعض الناس، فيقول: أنا مهمتي أن أقول للناس هذا حلال وهذا حرام، وبعد ذلك يفعلوا ما يشاءون، لا،بل كانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ذلك، ويزكيهم، بمعنى: أنه يربيهم على الالتزام الصحيح والتطبيق العملي للقرآن الكريم، ولذلك صار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تطبيقاً وترجمة عملية للقرآن الكريم؛ حتى قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم لما سألها هشام بن سعد عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: [[هل تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خُلُقَه القرآن]] وكذلك جابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم في حديثه الطويل في الحج، يقول: [[ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينـزل القرآن، وهو أعلم به منا، فما عمل من شيء عملنا مثله]] فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزكي الناس بالقرآن الكريم قولاً وفعلاً: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2].

ثم المرحلة الثالثة: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] فما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناه يقرأ عليهم الكتاب؟ لا، فهذه قد مرَّ ذكرها: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2].

إذاً تعليم الكتاب غير تلاوة الكتاب، فيعلمهم الكتاب معناه: يشرح لهم القرآن الكريم، ولذلك لا شك في أنه ما من آية تحتاج إلى إيضاح إلا وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله أو بفعله، وقد عنِي العلماء بجمع هذا التفسير في كتب كثيرة، بعضها مخطوط، وبعضها مفقود، وبعضها مطبوع، ولو راجعتَ كتاب: الدر المنثور للسيوطي، لوجدته جمع طائفة كبيرة جداً من هذه الأحاديث، ولو راجعت الجزء الثاني من جامع الأصول لوجدتَ معظم الجزء مخصصاً لكتاب التفسير، ونقل التفسير النبوي للقرآن الكريم.

إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن كل ما يحتاج إلى بيان من القرآن الكريم، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأمور:

إننا -الآن- نجد طوائف كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام -وليسوا بمسلمين- أصبحوا يرفضون السنة كلها، ففي شبه القارة الهندية جماعات يُسَمَّوْن بالقرآنيين، أو بـأهل القرآن، وهذه الجماعات ترفض السنة النبوية كلها، وتعتمد فقط على القرآن الكريم، ومع الأسف قرأتُ قبل أشهر كتاباً اسمه: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة، وهو رسالة ماجستير في جامعة أم القرى بـالمملكة، والكتاب قيِّم وأشيد به وأنصح بقراءته للمهتم بهذا الموضوع، لكن مما أحزنني: أن الكاتب ذكر في إحدى الهوامش أن بعض زعماء القرآنيين قد تزوج بالأمريكية المسلمة مريم جميل، وهي امرأة لها تاريخ مشرق، ومن خلال مراسلاتها مع أبي الأعلى المودودي يبدو أن المرأة كانت تحمل هَمَّ الإسلام، وكانت تلتزم بالفهم الصحيح للدين، حتى في بداية التزامها بالإسلام، فإن كان هذا الخبر مؤكداً فهو يستحق الحزن فعلاً، ولعله أن يكون في الأمر ما فيه.

والمهم هو أننا نعلم أن هناك من يؤمن بالقرآن ويرفض السنة، كما أننا نعلم في المقابل أن كثيراً من الذين يؤمنون بالسنة أصبحوا يحاولون أن يرفضوا كثيراً من الأحاديث الواردة مما لا يتفق مع أهوائهم وأمزجتهم.

فنحن بهذا العمل الذي نقوم به -تفسير القرآن بالسنة النبوية- نربط بين المصدرين، نربط القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن؛ بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، على الأقل في أذهان جماهير المسلمين، فنقول لمن يؤمن بالقرآن: لا بد أن تؤمن بالسنة، لأن القرآن أحال إلى السنة، ونقول لمن يؤمن بالقرآن -أيضاً- ويرفض بعض السنة: هذه السنة التي ترفضها هي بيان لهذا القرآن الذي تقبله، ولذلك فإن من المهم جداً أن يتجه بعض طلبة العلم كنوعٍ من أنواع التجديد، إلى مشروعٍ من مشاريع التجديد إلى تفسير القرآن الكريم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك لا بد من استبعاد ما لا يتفق مع الأصول الشرعية المقررة، والدلالات اللغوية الصحيحة من التفاسير التي سادت بين الناس، وكثيراً ما تقرأ -وخاصة في هذا العصر- ألواناً من التفسير ليس لها علاقة بالآية، يعني: يُسَرِّح المفسر أو الكاتب طرفَه وفكرَه وخيالَه، ثم يكتب ما شاء له قلمُه أن يكتب، ويسمي هذه الكتابة تفسيراً، ويعتبر أنها شرحٌ للقرآن الكريم، وهذا لا شك أنه مَزَلَّّةُ أقدام.

ومَثَلٌ آخرُ في مجال العلوم الإسلامية، في مجال الحديث والفقه: مسألة التجديد في دراسة أسانيد السنة النبوية، أي: تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وهذه في أمس الحاجة إلى تجديد، وأعلم أن هناك علماء لهم جهود، ولعل من أبرز من نشاهده في هذا المجال: الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني، فهو مِن أحسن مَن خدم السنة في هذا العصر، وليس هو الوحيد في هذا الباب، بل يوجد من علماء شبه القارة الهندية، ومن علماء مصر كالشيخ: أحمد محمد شاكر، ومن علماء المملكة كسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز، ومن بعض الشباب الذين يهتمون بالسنة ولهم جهود طيبة، لكن مع ذلك -في اعتقادي- أننا بحاجة إلى التجديد في مجال دراسة أسانيد السنة، فبعض الشباب مثلاً: ظنوا أن دراسة الأسانيد وتصحيح الأحاديث مسألة آلية، يأتي بكتاب: تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر الذي حكم فيه على الرواة إجمالاً، ويأتي بالرجال ويفتح التقريب، ويقول: الرجال ثقات؛ إذاً الإسناد صحيح، أو يعتمد على تصحيح الألباني أو غيره على حديثٍ ما، ويعتبر أنه مُتَعَبَّد بهذا الشيء، وقد ينتقد من يخالفه، وهذه لا شك تحتاج إلى إبعاد هذه المفاهيم عن نفوس الناس.

فنحن إذا كنا لا نقبل من الفرد أن يقلد إماماً قديماً في تصحيح الأحاديث وتضعيفها ويعرض عما عداه، فكيف بإمام معاصر! هو أولى أن لا يقبل حكمه على غيره، وليس من المقبول ما ذكره أحدهم في ترجمة الشيخ الألباني حفظه الله أنه قال: إن الألباني معاصر واطلع على ما كتبه السابقون، وبذلك عرف أسانيد وطرق لم يعرفها غيره فجاء حكمه شاملاً، فهذا غير صحيح؛ لأنه لا أحد يمكن أن يدعي أن علم السنة النبوية محفوظ عند شخص واحد أبداً، والألباني في الوقت الذي يتعقب هو غيرَه من العلماء، يتعقبُه غيرُه، فهو بشر كغيره، صحيحٌ أنه أفضل من كثير من معاصريه؛ لكن ليس معنى ذلك أن العلم توقف عند الشيخ الألباني.

إذاً نحن بحاجة إلى عشرات الرجال من أمثال الشيخ الألباني، والشيخ أحمد شاكر وسواهم، يهتمون بدراسة الأسانيد ومعرفتها معرفة صحيحة.

وهناك أمر آخر: وهو مسألة نقد المتون، لأنه أحياناً قد يكون السند ظاهره سليم ليس فيه آفة أو علة توجب ردَّه، لكن المتن فيه علة، وهذه أيضاً مشكلة؛ لأن الكلام هذا هو حقٌّ في ذاته؛ لكن أحياناً يكون حقاً يراد به باطل، ولعلكم تذكرون أن الشيخ الغزالي غفر الله لنا وله يتكئ كثيراً على هذه القضية في رد كثير من الأحاديث، بحجة: أن هذا المتن فيه علة فيرده، وقد أكثر من هذا الأمر، وكانت العلة في الغالب -عنده- هي مجرد أن الحديث لا يقنعه هو، حتى أنني سمعت في شريط ما يناقش طالباً جزائرياً في رسالة ماجستير في حديث أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم في النار، فقال: أنا أرفض هذا الحديث لأنه يعارض القرآن، وكل حديث يعارض القرآن -يقول بلهجته-: حُطُّهُ تحتَ رجليك!! فهكذا يقول وهي كلمة بلا شك ثقيلة وصعبة، لكن حدثت منه وهي خطأ كبير لا شك.

والمقصود أن الشيخ كان يتكئ على قضية أن الحديث في متنه علة.

ومن الطرائف: أنه بعد فترة من الزوبعة التي أثارتها هذه القضية رأيت شاعرة مصرية -لا أقول: عالمة ولا عالم، ولا طالب علم، ولا عُوَيْلِم، لكن شاعرة مصرية!- ولا أرغب أن أذكر اسمها، ذكرت حديث الأعمى الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن لي قائد لا يلائمني، فقال: هل تسمع النداء، قال: نعم، قال: فأجب} فقالت: أنا لا أقبل هذا الحديث لأن في متنه علة، فهي حفظت الكلمة نفسها من الشيخ الغزالي وركبتها، لأن في متنه علة، فما هي العلة؟ قالت: لأنه يعارض القرآن، كيف يعارض القرآن يا أمة الله؟!! قالت: يعارض القرآن لأن القرآن جاء بالتيسير والسماحة والرفق، ومن غير المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطالب هذا الكفيف أن يمشي إلى المسجد وهو على هذه الحالة، إذاً الحديث يعارض القرآن!

وأقول: إن كلمة: إن الحديث في متنه علة، كلمةُ حق، وقد يُراد بها أحياناً باطل، ونحن لا نريد بها الباطل، بل نريد الحق، لأنه هناك أحاديث -وإن كان ظاهر إسنادها الصحة- فيها علة، وتعرف العلل من مخالفة هذه الأحاديث لأحاديث أخرى قد ترد عن نفس الصحابي وبنفس الإسناد، والأمثلة لذلك كثيرة جداً موجودة في كتب أهل العلم، ولعل مِن أكثر مَن عني بهذا الباب هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فله في نقد الأحاديث حاسة قلما توجد عند غيره من العلماء، وأذكر لكم مثالاً واحداً: وهو حديث عائشة عند النسائي والدارقطني وغيرهما أنها قالت: {كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقَصَرَ وأتْمَمْتُ، وأفْطَرَ وصُمْتُ -وذلك في عمرة في رمضان- فلما رجعنا قلت: يا رسول الله، قصرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصمتُ، فقال لي: أحسنتِ يا عائشة} فـابن تيمية رحمه الله قال: هذا الحديث باطل ومكذوب ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن ظاهر إسناده الصحة، والدارقطني يقول: إسناده صحيح، فلماذا باطل؟ قال: باطل من عدة وجوه:

أولاً: إنه لم يحصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام اعتمر في رمضان -هذه واحدة- وأما فتح مكة وإن كان في رمضان، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر فيه.

ثانياً: إن عائشة لا يمكن أن تصوم والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر معها إلا بإذنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه.

ثالثاً: إن القصر هو السنة. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: [[فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيدت في صلاة الحضر، وأقرت في صلاة السفر على الفريضة الأولى]] فكيف تعمد عائشة -مع ذلك- إلى أن تزيد في صلاة السفر لتصبح أربع ركعات! ثم الأغرب والأدهى والأمر: هو أن يقول لها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كله: {أحسنتِ يا عائشة!} فيصف فعلها بالإحسان، مع أنه أقل ما يقال فيه: أنه مخالف للسنة.

إذاً من خلال هذه الأشياء كلها نكتشف أن هذا الحديث منكر، وهذا نموذج لنقد المتون، ونماذجه كثيرة جداً.

وأنا أريد أن أذكر رءوس أقلام فقط، وأبَيِّن أن هذا الكلام قد يُسْتَغَل بطريقة غير صحيحة، لكن نحن نريد الطريقة الصحيحة بالشروط التي سوف تأتي الإشارة -إليها عما قريب-.

الأمر الثالث: مسألة فقه السنة النبوية: فكثير من الناس قد يتعاطون الأحاديث النبوية ويقرءونها، لكن لا يفقهونها فقهاً صحيحاً، ولا يستطيعون أن يفهموا ما دلت عليه هذه الأحاديث، وهؤلاء لا شك أنهم نفعوا الأمة بحفظ الحديث، لكن نحن أحوج إلى من يستطيع أن يستفيد من الأحاديث ويُنـزلها على الوقائع ويستخرج منها حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على المسائل.

الأمر الرابع: أننا بحاجة إلى مشروع في السنة النبوية، وهو: إيجاد ديوان جامع، يعني: كتاب تُجمع فيه الأحاديث النبوية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يقول قائل: الأحاديث النبوية الصحيحة مجموعة، فأقول: كلا، صحيحٌ أن البخاري جمع أحاديثاً صحاحاً، ومسلم كذلك، لكن لم يستوعبا كل الصحيح، وهناك علماء آخرون ألفوا في الصحيح، أنا أعتقدُ أن المسلمين اليوم بحاجة إلى كتاب شامل يلتزم فيه مؤلفه أن لا يُورِد إلا ما صح، وكيف يعرف أن الحديث صحَّ أو لم يصح؟ إذاً لا بد من دراسة الإسناد، لكن مع دراسة الإسناد لا بد أن يلتزم -قدر الإمكان- بسرد أقوال الأئمة، وخاصة الأئمة المتقدمين في تصحيح الأحاديث، فأنا عندما تقول لي: إن هذا الحديث صححه الإمام أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري يكون عندي اطمئنان بأن الحديث صحيح، لكن عندما يقول لي -مثلاً- محقق حقَّقَ رسالة ماجستير أو دكتواره أو كتاب صغير: إن الحديث إسناده صحيح، فلا أطمئن؛ لأنني لا أعرف مدى سعة وباع هذا الإنسان في العلم، فنحن بحاجة إلى كتاب كهذا بحيث يجمع ما صَحَّ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي مجال الفقه: نحن بحاجة إلى تنقيح كتب المذاهب، واختيار الأقوال الصحيحة ورد الأقوال غير الصحيحة، وتخريج الأحاديث النبوية؛ حتى يتعبد الناس ربَّهم على بصيرة.

وكذلك موضوع أصول الفقه: هو بحاجة إلى تنقيح وتصحيح؛ لأن أصول الفقه لا بد من معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة من هذه الأصول والقواعد، وضبطها، واستبعاد ما كان داخلاً في علم الكلام والمنطق، ولا جدوى ولا طائل من تحته، بل هو أقرب أن يكون ترفاً فكرياً، ومعوقاً أمام الطلاب الذين يريدون أن يدرسوا هذا العلم وينتفعوا به، فنحن بحاجة إلى هذا النوع من التجديد في أصول الفقه أيضاً، لكن ليس على طريقة بعض العصريين الذي يريد أن يصنع أصول فقه جديدة تتناسب مع قناعاته الخاصة.

إذاً هذا جانب، وهو جانب يتعلق بإحياء الفهم الصحيح للإسلام -كما ذكرتُ-.

الجانب الثاني الذي يشمله موضوع التجديد هو: تطبيق الإسلام في واقع الحياة، وهذا يشمل جوانب عديدة -أيضاً- منها:

الصدع بالحق

أولاً: قضية الصدع بالحق، فإذا كان بعض العلماء عدّوا أبا بكر رضي الله عنه على رأس وقائمة المجددين، فإنني أعتبر أن من أعظم المهمات والأعمال التجديدية التي قام بها أبو بكر رضي الله عنه هو موقفه يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا صنع أبو بكر؟ إن أبا بكر لم يأتِ بشيء من عنده، وكل ما في الأمر أن الناس أمام هذه النازلة الخطيرة، وهي: موت الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فزعوا وصدموا بالأمر الذي لم يكونوا يتوقعونه، فصاروا يضربون أخماساً بأسداس، حتى قام عمر وقال: [[إن ناساً يزعمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات، لا والله ما مات، وإنما ذهب كما ذهب موسى، وسوف يعود فيقطع رقاب قوم زعموا أنه مات]] فماذا صنع أبو بكر؟ إن أبا بكر ما زاد على أنه صدع بالحق في هذا الموقف، فصعد المنبر، وقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] فيقول: سبحان الله! ما إن سمع الناس هذه الآية حتى كأنهم يسمعونها لأول مرة، فصاروا يتناقلونها ويقرءونها في بيوتهم]].

فآية طالما قرءوها في القرآن الكريم، وطالما تلوها، وطالما سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لما ساقها أبو بكر رضي الله عنه في موقعها الصحيح، وفي موضعها الطبيعي؛ كانت هي المهمة التجديدية والعمل التجديدي العظيم الذي قام به أبو بكر أول ما قام، فاقتنع الناس بها، وردَّ الناسَ بها إلى جادة الصواب.

إذاً نحن بحاجة إلى موقف كموقف أبي بكر، لسنا بحاجة إلى شخص يخترع من عنده أشياء ويمليها على الناس على أنها دين، فهذا النوع ليس تجديداً، بل هذا مسخ للدين، فنحن بحاجة إلى من يستطيع أن يستخرج من الدين المعاني الصحيحة، ويتلوها على الناس بأدلتها، حتى إذا سمعها الناس، قالوا: سبحان الله! هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم يشهد لما قال.

إذاً لا بد من أن نطرح الإسلام بقوة -وهذه قضية مهمة أيها الشباب- ولا بد أن نتحدث عن الإسلام بقوة وصراحة، وقضية المجاملة والمناورة والمداورة في أمور الدين يجب أن تكون بعيدة عنا، وكل ما كان حديثنا عن الإسلام صريحاً كان أدعى إلى قبول الناس، يعني: ليس من أسباب قبول الناس للدين أن نحاول أن نلطف لهم الحكم الشرعي بالطريقة التي تتناسب مع واقعهم، أو نختار من الأقوال ما يتناسب مع ظروفهم بحجة أننا نريد أن ننقلهم إلى الإسلام؛ لأننا في النهاية سنجد أننا قلنا لهؤلاء الناس: الإسلام لا يكلفكم شيئاً، والإسلام يتناسب مع أوضاعكم.

وهؤلاء سيقولون: إذاً لسنا بحاجة إلى الإسلام.

فنحن بحاجة إلى أن نقول -مثلاً- للأمريكان والأوروبيين والروس وغيرهم: إن الإسلام شيء آخر مختلف تماماً عما تعرفون وتعيشون، إن الإسلام يرفع أوضاعكم الاجتماعية، وأوضاعكم السياسية، وأوضاعكم الاقتصادية، والإسلام يقوم على هذه الأسس الواضحة الصريحة، وبالتالي: إن قبلوا فهذا دين الله تعالى، وإن رفضوا فنحن لسنا مكلفين بهدايتهم، كما قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48].

أما قضية المجاملة ومحاولة تلطيف الأمور، ومحاولة جمع كلمة الناس بدعوتهم إلى الإسلام بهذه الأساليب؛ فهي تهدم ولا تخدم، وتفسد ولا تصلح، وهذه قضية يجب أن تكون واضحة، وقد جربنا أنه حتى في مجال المسلمين أنفسهم، إذا وجدت إنساناً عاصياً، وقد كنت أعجب من ذلك، فإنه وكان في أذهان كثير منا أن الشاب المنحرف الذي تربى على مشاهدة التلفاز، والكرة، وقراءة القصص الغرامية، وتضييع وقته في أمور لا قيمة لها، أن هذا لا سبيل إلى هدايته إلا بأن ينقل إلى جو قريب من جوه، نثل جو الأناشيد الإسلامية، وجو لعب الكرة، وجو الرحلات، وجو المتعة، وشيئاً فشيئاً يُجَر، وأنا لا أقول في هذا الطريق شيئاً، لكنني أقول: وجدنا بالتجربة أن هناك ناساً كانوا في قمة الانحراف، ثم اطَّلَعوا فجأة على جو متمسك جداً وليس لديه استعداد أن يتنازل لهؤلاء عن أدنى شيء، فسبحان الله! بين عشية وضحاها انقلبوا رأساً على عقب.

فأحياناً المواقف الصارمة القوية الواضحة تدعو الناس إلى القبول أكثر مما تدعوهم قضايا المداهنة والمجاملة، فلا يجوز أن نتدسس بالإسلام، ولا نجامل الناس فيه، وهذا من الاعتزاز بهذا الدين، وهو أن نعرض الإسلام للناس بهذه الطريقة، وأنا لا أقول: أن نكون جفاة غلاظاً، نواجه الناس في وجوههم دائماً بما يكرهون. لا لكني أقول: أننا حين نتحدث عن الإسلام يجب أن نكون على درجة قوية من الأمانة، ونشعر بأننا نوقع عن رب العالمين، فلا نقول شيئاً من عند أنفسنا، بل نحن نملي على الناس دين الله وشرعه، وليس من حقنا أن نحول دينه أو نـزيد أو ننقص.

وإذا وجد في واقعنا أمر استقر الناس عليه، هل يصلح أن نجاملهم في هذا الأمر أيضاً ونحاول أن نبحث عن معاذير؟! -مثلاً- الربا أصبح اليوم وضعاً مستقراً في بلاد المسلمين، وبيوت الربا تناطح السحاب.

أيضاً والغناء، والموسيقى، والتصوير -وهي أشياء لا يحلها الشرع- أصبحت واقعة قائمة في بلاد المسلمين، فهل معنى كون الأمر مستقراً أن نعطيه حكماً شرعياً وأنه حلال؟! أبداً، فنحن يجب أن نقول: هذا حلال إذا كان حلالاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقول: هذا حرام إذا كان حراماً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عجزنا نحن عن التطبيق أو ضعفنا أو ضغطتنا أوضاع معينة، فقد يستطيع الجيل الذي بعدنا، لكن علينا نحن أن نحافظ على قداسة الحكم الشرعي.

ولعلي أضرب لكم مثلاً من الأمثلة السياسية التي يتحدث بها الناس اليوم: إن اليهود احتلوا فلسطين، ويملكون قوة وإمكانية هائلة، فهل يعني هذا أن فلسطين تحولت إلى دولة لليهود؟! وأننا -خضوعاً للأمر الواقع- يجب أن نقول: ليس بالإمكان الرجوع إلىما كان، وهذه بلادهم، وينبغي أن نتركها لهم، ونشتغل بإصلاح بلادنا خضوعاً للأمر الواقع؟ كلا، بل علينا أن نقول: فلسطين بلد إسلامي، واليهود طارئون عليها، وإذا عجزنا نحن -الجيل الحالي- عن إنقاذ فلسطين من أيديهم، فقد يستطيع الجيل الذي يأتي بعدنا، أولادُنا أو مَن بعدَهم، وعلى الأقل مهمتنا نحن أن نحافظ على الحق المجرد ولو بصورة نظرية.

إذاً يجب أن لا نُخضِع الحق للواقع، بل علينا أن نكون واضحين، لا نلف ولا ندور في عرض قضية الإسلام على الناس، سواء كانوا مسلمين عُصاة أم كفاراً.

التجديد في ميدان الدعوة

وهناك جانب آخر من جوانب التجديد في تطبيق الإسلام، وهو: التجديد في ميدان الدعوة إلى الله تعالى، والتجديد في وسائل الدعوة.

والدعوة إلى الله الأصل فيها الإباحة، بمعنى: أن أي وسيلة جديدة يتَفَتَّق عنها العصر الحاضر أو العصور القادمة إذا لم تكن محرمة -لم يقم الدليل على تحريمها- فالأصل جواز استخدامها في الدعوة إلى الله تعالى، ولا يشترط في الوسيلة أن تكون توقيفية، بمعنى: أن تكون منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد استخدم المسلمون في الدعوة وأمور الإسلام وسائل لم تكن موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام: كتدوين الدواوين، وتنظيم الجند، وقضايا بيت المال، وقضايا الكتب، وغيرها من الأمور والوسائل التي جدَّت في عصور متأخرة؛ فأخذها المسلمون عن الأمم الأخرى وانتفعوا بها، فالأصل في الوسائل الإباحة.

ولا شك أن العصر الحاضر تَفَتَّقَ عن وسائل كثيرة للدعوة إلى الله تعالى، ومما يُعاب على الدعاة أنهم ما زالوا جامدين على وسائل قديمة، ولم يفكروا في الاستفادة من الوسائل الجديدة في الدعوة إلى الله، ولعلَّ أبرز مثال هو وسائل الإعلام: فسائل الإعلام أصبحت تصوغ عقول الناس وحياتهم وأفكارهم في كل مكان؛ لكن آخر مَن يهتم بوسائل الإعلام هم الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وإذا اهتموا بها اهتموا بها بطريقة غير صحيحة -في كثير من الأحيان- وغير مجدية، بل ربما يكون ضررها أكثر من نفعها.

وقضية الإدارة -مثلاً-: كثير من أعمالِ المسلمين ومراكزِهم وجهودِهم ومؤسساتِهم مَبْنِيَّة على نوعٍ من الفوضى والارتجال، ولم تستفِد من الطرق والنظريات الجديدة في الإدارة، فهناك طرق تطورت الآن تطوراً مذهلاً وهائلاً، وأصبح بالإمكان الاستفادة من الوقت، وضبط الوقت، وحفظ الوقت، وطرد إدارة أعداد هائلة من الناس بسبب كمية قليلة بطرق معينة.

فنحن نحتاج إلى الاستفادة من هذه الوسائل، وقل مثل ذلك في وسائل كثيرة جداً في هذا العصر.

ومن الأشياء المهمة أيضاً في قضية تجديد الإسلام ووسائل الدعوة، هي: موضوع مخاطبة الجماهير، فقد آن الأوان ألا تكون الدعوة إلى الإسلام وقفاً على دعوة الشباب والطلاب وغيرهم، لا،بل نحتاج الآن إلى مخاطبة جماهير الناس؛ لأن الجماهير اليوم مستهدفون من أعداء الإسلام، ولعلكم جميعاً تسمعون عما يسمى بالبث المباشر، الذي تخطط له الدول الأوروبية والغربية والشرقية عبر الأقمار الصناعية، بحيث تسقط آلاف البرامج على البلاد الإسلامية ليتلقاها الناس في قعر بيوتهم، وهذا غزو خطير: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10] وفعلاً هذا هو الواقع، فأعداء الإسلام يخاطبون جمهور المسلمين اليوم، والضالون والمنحرفون من المسلمين وأصحاب المناهج المنحرفة اليوم يخاطبون جمهور المسلمين. وأيضاً الدعاة بحاجة إلى أن يخاطبوا جمهور المسلمين، وأن نبسط العلم للناس، ونسهله لهم، وأن نحاول أن نخاطب أكبر طبقة ممكنة من الناس من خلال الوسائل المتاحة.

أولاً: قضية الصدع بالحق، فإذا كان بعض العلماء عدّوا أبا بكر رضي الله عنه على رأس وقائمة المجددين، فإنني أعتبر أن من أعظم المهمات والأعمال التجديدية التي قام بها أبو بكر رضي الله عنه هو موقفه يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا صنع أبو بكر؟ إن أبا بكر لم يأتِ بشيء من عنده، وكل ما في الأمر أن الناس أمام هذه النازلة الخطيرة، وهي: موت الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فزعوا وصدموا بالأمر الذي لم يكونوا يتوقعونه، فصاروا يضربون أخماساً بأسداس، حتى قام عمر وقال: [[إن ناساً يزعمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات، لا والله ما مات، وإنما ذهب كما ذهب موسى، وسوف يعود فيقطع رقاب قوم زعموا أنه مات]] فماذا صنع أبو بكر؟ إن أبا بكر ما زاد على أنه صدع بالحق في هذا الموقف، فصعد المنبر، وقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] فيقول: سبحان الله! ما إن سمع الناس هذه الآية حتى كأنهم يسمعونها لأول مرة، فصاروا يتناقلونها ويقرءونها في بيوتهم]].

فآية طالما قرءوها في القرآن الكريم، وطالما تلوها، وطالما سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لما ساقها أبو بكر رضي الله عنه في موقعها الصحيح، وفي موضعها الطبيعي؛ كانت هي المهمة التجديدية والعمل التجديدي العظيم الذي قام به أبو بكر أول ما قام، فاقتنع الناس بها، وردَّ الناسَ بها إلى جادة الصواب.

إذاً نحن بحاجة إلى موقف كموقف أبي بكر، لسنا بحاجة إلى شخص يخترع من عنده أشياء ويمليها على الناس على أنها دين، فهذا النوع ليس تجديداً، بل هذا مسخ للدين، فنحن بحاجة إلى من يستطيع أن يستخرج من الدين المعاني الصحيحة، ويتلوها على الناس بأدلتها، حتى إذا سمعها الناس، قالوا: سبحان الله! هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم يشهد لما قال.

إذاً لا بد من أن نطرح الإسلام بقوة -وهذه قضية مهمة أيها الشباب- ولا بد أن نتحدث عن الإسلام بقوة وصراحة، وقضية المجاملة والمناورة والمداورة في أمور الدين يجب أن تكون بعيدة عنا، وكل ما كان حديثنا عن الإسلام صريحاً كان أدعى إلى قبول الناس، يعني: ليس من أسباب قبول الناس للدين أن نحاول أن نلطف لهم الحكم الشرعي بالطريقة التي تتناسب مع واقعهم، أو نختار من الأقوال ما يتناسب مع ظروفهم بحجة أننا نريد أن ننقلهم إلى الإسلام؛ لأننا في النهاية سنجد أننا قلنا لهؤلاء الناس: الإسلام لا يكلفكم شيئاً، والإسلام يتناسب مع أوضاعكم.

وهؤلاء سيقولون: إذاً لسنا بحاجة إلى الإسلام.

فنحن بحاجة إلى أن نقول -مثلاً- للأمريكان والأوروبيين والروس وغيرهم: إن الإسلام شيء آخر مختلف تماماً عما تعرفون وتعيشون، إن الإسلام يرفع أوضاعكم الاجتماعية، وأوضاعكم السياسية، وأوضاعكم الاقتصادية، والإسلام يقوم على هذه الأسس الواضحة الصريحة، وبالتالي: إن قبلوا فهذا دين الله تعالى، وإن رفضوا فنحن لسنا مكلفين بهدايتهم، كما قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48].

أما قضية المجاملة ومحاولة تلطيف الأمور، ومحاولة جمع كلمة الناس بدعوتهم إلى الإسلام بهذه الأساليب؛ فهي تهدم ولا تخدم، وتفسد ولا تصلح، وهذه قضية يجب أن تكون واضحة، وقد جربنا أنه حتى في مجال المسلمين أنفسهم، إذا وجدت إنساناً عاصياً، وقد كنت أعجب من ذلك، فإنه وكان في أذهان كثير منا أن الشاب المنحرف الذي تربى على مشاهدة التلفاز، والكرة، وقراءة القصص الغرامية، وتضييع وقته في أمور لا قيمة لها، أن هذا لا سبيل إلى هدايته إلا بأن ينقل إلى جو قريب من جوه، نثل جو الأناشيد الإسلامية، وجو لعب الكرة، وجو الرحلات، وجو المتعة، وشيئاً فشيئاً يُجَر، وأنا لا أقول في هذا الطريق شيئاً، لكنني أقول: وجدنا بالتجربة أن هناك ناساً كانوا في قمة الانحراف، ثم اطَّلَعوا فجأة على جو متمسك جداً وليس لديه استعداد أن يتنازل لهؤلاء عن أدنى شيء، فسبحان الله! بين عشية وضحاها انقلبوا رأساً على عقب.

فأحياناً المواقف الصارمة القوية الواضحة تدعو الناس إلى القبول أكثر مما تدعوهم قضايا المداهنة والمجاملة، فلا يجوز أن نتدسس بالإسلام، ولا نجامل الناس فيه، وهذا من الاعتزاز بهذا الدين، وهو أن نعرض الإسلام للناس بهذه الطريقة، وأنا لا أقول: أن نكون جفاة غلاظاً، نواجه الناس في وجوههم دائماً بما يكرهون. لا لكني أقول: أننا حين نتحدث عن الإسلام يجب أن نكون على درجة قوية من الأمانة، ونشعر بأننا نوقع عن رب العالمين، فلا نقول شيئاً من عند أنفسنا، بل نحن نملي على الناس دين الله وشرعه، وليس من حقنا أن نحول دينه أو نـزيد أو ننقص.

وإذا وجد في واقعنا أمر استقر الناس عليه، هل يصلح أن نجاملهم في هذا الأمر أيضاً ونحاول أن نبحث عن معاذير؟! -مثلاً- الربا أصبح اليوم وضعاً مستقراً في بلاد المسلمين، وبيوت الربا تناطح السحاب.

أيضاً والغناء، والموسيقى، والتصوير -وهي أشياء لا يحلها الشرع- أصبحت واقعة قائمة في بلاد المسلمين، فهل معنى كون الأمر مستقراً أن نعطيه حكماً شرعياً وأنه حلال؟! أبداً، فنحن يجب أن نقول: هذا حلال إذا كان حلالاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقول: هذا حرام إذا كان حراماً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عجزنا نحن عن التطبيق أو ضعفنا أو ضغطتنا أوضاع معينة، فقد يستطيع الجيل الذي بعدنا، لكن علينا نحن أن نحافظ على قداسة الحكم الشرعي.

ولعلي أضرب لكم مثلاً من الأمثلة السياسية التي يتحدث بها الناس اليوم: إن اليهود احتلوا فلسطين، ويملكون قوة وإمكانية هائلة، فهل يعني هذا أن فلسطين تحولت إلى دولة لليهود؟! وأننا -خضوعاً للأمر الواقع- يجب أن نقول: ليس بالإمكان الرجوع إلىما كان، وهذه بلادهم، وينبغي أن نتركها لهم، ونشتغل بإصلاح بلادنا خضوعاً للأمر الواقع؟ كلا، بل علينا أن نقول: فلسطين بلد إسلامي، واليهود طارئون عليها، وإذا عجزنا نحن -الجيل الحالي- عن إنقاذ فلسطين من أيديهم، فقد يستطيع الجيل الذي يأتي بعدنا، أولادُنا أو مَن بعدَهم، وعلى الأقل مهمتنا نحن أن نحافظ على الحق المجرد ولو بصورة نظرية.

إذاً يجب أن لا نُخضِع الحق للواقع، بل علينا أن نكون واضحين، لا نلف ولا ندور في عرض قضية الإسلام على الناس، سواء كانوا مسلمين عُصاة أم كفاراً.

وهناك جانب آخر من جوانب التجديد في تطبيق الإسلام، وهو: التجديد في ميدان الدعوة إلى الله تعالى، والتجديد في وسائل الدعوة.

والدعوة إلى الله الأصل فيها الإباحة، بمعنى: أن أي وسيلة جديدة يتَفَتَّق عنها العصر الحاضر أو العصور القادمة إذا لم تكن محرمة -لم يقم الدليل على تحريمها- فالأصل جواز استخدامها في الدعوة إلى الله تعالى، ولا يشترط في الوسيلة أن تكون توقيفية، بمعنى: أن تكون منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد استخدم المسلمون في الدعوة وأمور الإسلام وسائل لم تكن موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام: كتدوين الدواوين، وتنظيم الجند، وقضايا بيت المال، وقضايا الكتب، وغيرها من الأمور والوسائل التي جدَّت في عصور متأخرة؛ فأخذها المسلمون عن الأمم الأخرى وانتفعوا بها، فالأصل في الوسائل الإباحة.

ولا شك أن العصر الحاضر تَفَتَّقَ عن وسائل كثيرة للدعوة إلى الله تعالى، ومما يُعاب على الدعاة أنهم ما زالوا جامدين على وسائل قديمة، ولم يفكروا في الاستفادة من الوسائل الجديدة في الدعوة إلى الله، ولعلَّ أبرز مثال هو وسائل الإعلام: فسائل الإعلام أصبحت تصوغ عقول الناس وحياتهم وأفكارهم في كل مكان؛ لكن آخر مَن يهتم بوسائل الإعلام هم الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وإذا اهتموا بها اهتموا بها بطريقة غير صحيحة -في كثير من الأحيان- وغير مجدية، بل ربما يكون ضررها أكثر من نفعها.

وقضية الإدارة -مثلاً-: كثير من أعمالِ المسلمين ومراكزِهم وجهودِهم ومؤسساتِهم مَبْنِيَّة على نوعٍ من الفوضى والارتجال، ولم تستفِد من الطرق والنظريات الجديدة في الإدارة، فهناك طرق تطورت الآن تطوراً مذهلاً وهائلاً، وأصبح بالإمكان الاستفادة من الوقت، وضبط الوقت، وحفظ الوقت، وطرد إدارة أعداد هائلة من الناس بسبب كمية قليلة بطرق معينة.

فنحن نحتاج إلى الاستفادة من هذه الوسائل، وقل مثل ذلك في وسائل كثيرة جداً في هذا العصر.

ومن الأشياء المهمة أيضاً في قضية تجديد الإسلام ووسائل الدعوة، هي: موضوع مخاطبة الجماهير، فقد آن الأوان ألا تكون الدعوة إلى الإسلام وقفاً على دعوة الشباب والطلاب وغيرهم، لا،بل نحتاج الآن إلى مخاطبة جماهير الناس؛ لأن الجماهير اليوم مستهدفون من أعداء الإسلام، ولعلكم جميعاً تسمعون عما يسمى بالبث المباشر، الذي تخطط له الدول الأوروبية والغربية والشرقية عبر الأقمار الصناعية، بحيث تسقط آلاف البرامج على البلاد الإسلامية ليتلقاها الناس في قعر بيوتهم، وهذا غزو خطير: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10] وفعلاً هذا هو الواقع، فأعداء الإسلام يخاطبون جمهور المسلمين اليوم، والضالون والمنحرفون من المسلمين وأصحاب المناهج المنحرفة اليوم يخاطبون جمهور المسلمين. وأيضاً الدعاة بحاجة إلى أن يخاطبوا جمهور المسلمين، وأن نبسط العلم للناس، ونسهله لهم، وأن نحاول أن نخاطب أكبر طبقة ممكنة من الناس من خلال الوسائل المتاحة.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع