هذا الحبيب يا محب 89


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

ها نحن مع أحداث السنة الثامنة من الهجرة النبوية الشريفة الخالدة، قال: [وخامس أحداثها:

سرية ذات السلاسل

وبعث الحبيب صلى الله عليه وسلم] محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي فرض الله حبه، فمن لم يحبه فهو ليس بمؤمن، والحب قد يصدق فيه المحب وقد لا يصدق، فالذي يحب حبيبه يطيعه، ويمشي وراءه ولا يتقدمه.

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [عمرو بن العاص ] أحد رجالات السياسة والدهاء والعلم والبصيرة، وهو أحد أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقد عرفنا في حديث سابق كيف أسلم [إلى أرض بلى وعذرة يدعون الناس إلى الإسلام، وكانت أم عمرو من بلى] وبلى وراء وادي القرى من الشام.

قال: [فتألفهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار عمرو حتى وصل ماء جذام المسمى بالسلاسل] ماء يعرف بالسلاسل لقبيلة جذام [وبه سميت هذه الغزوة، "غزوة ذات السلاسل" فلما كان به خاف] أي عمرو [فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمده] رجالاً وجيشاً يعينه به [فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في جماعة من المهاجرين والأنصار] من أهل مكة والمدينة [فيهم أبو بكر وعمر ] سادات المهاجرين [وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم لـأبي عبيدة : ( لا تختلفا ) -أي أنت وأمير السرية عمرو بن العاص -] بعد أن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة على هذه المجموعة التي أرسلها إمداداً لـعمرو بن العاص ، أوصاه بأن لا يختلف مع عمرو ، وحذره من الاختلاف معه؛ لأن الخلاف كله شر لا خير فيه.

[فخرج أبو عبيدة ومن معه، فلما قدموا على عمرو ، قال عمرو : يا أبا عبيدة ! إنما جئت مدداً إلي] يعني: ما جئت قائداً علي، ولكن مدداً أمدني به رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقال أبو عبيدة : يا عمرو ! إن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تختلفا )] علم هذا قبل وقوعه صلى الله عليه وسلم، وإن شئت قلت لذكائه وفطنته وأنواره، أو لتعليم الله له [فإن عصيتني أطعتك] امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال: فأنا أمير عليك] القائل عمرو [قال: فدونك] يعني: تفضل [فصلى عمرو بالناس] وهذه علامة القيادة والإمارة [وبالمدد الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم] والمدد من الجائز لهم أن يقولوا: نصلي وراء أميرنا، ولكن قلوبهم ملأى بالإيمان وأنواره، فلهذا صلوا وراء عمرو بن العاص أجمعين.

قال: [بلغ عدد أفراد السرية نحواً من خمسمائة رجل] بالمدد أصبحوا قرابة الخمسمائة رجل [فضربوا في المنطقة شرقاً وغرباً] على فرق فرق [ودوخوا من فيها. وفي هذه السرية احتلم عمرو ] نام كما ينام الفحول فاحتلم [فلم يغتسل خوفاً من الموت لشدة البرد] كانوا في الشتاء والمنطقة باردة [وإنما استنجى] غسل فرجيه [وتوضأ] وضوء الصلاة، فغسل أطرافه [وتيمم وصلى، ولما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك سكت فأقر عمراً على فعله].

هذا ما كان في سرية ذات السلاسل، دوخوا المنطقة، وحدث فيها هذا الحادث الفقهي وهو أن عمراً -القائد- احتلم فخاف على نفسه الوفاة أو الموت من شدة البرد فلم يغتسل، فاستنجى وتوضأ ثم تيمم وصلى، فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت ولم يجبهم، ومعنى ذلك أنه أقر عمراً على فعله، وهذا الذي عليه أمة الإسلام إلى اليوم، أعني أهل السنة والجماعة، فإذا احتلم المرء ولم يجد ماءً ساخناً أو لم يجد ماءً مطلقاً وخاف على نفسه الضرر يستنجي، فيغسل فرجيه ويتوضأ، ثم يتيمم ويصلي، فإذا وجد الماء بعد ساعات أو بعد يوم، يغتسل ولا يعيد صلاته، وتكفيه تلك الصلاة.

[وسادس أحداثها:

سرية عمرو بن العاص ] هذه سرية أخرى.

[وبعث صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندي بعمان، فآمنا وصدقا وأخذ الجزية من المجوس القاطنين بعمان] نجح عمرو في هذه المرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعثه إلى قائدين هما جيفر وعباد ابني الجلندي بعمان، فآمن الرجلان وصدقا، وأخذ عمرو الجزية من المجوس القاطنين هناك.

[وسابعة أحداثها:

سرية الخبط] والخبط: هو أن تأخذ عصاك وتضرب الشجرة فتتساقط أوراقها، يقال: خبطه يخبطه بالعصا، وسرية الخبط هذه تحمل حدثاً عجباً.

قال: [وفي هذه السنة الثامنة من الهجرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية] وهي عدد من الرجال يسرون بالليل [جعل عليها أبا عبيدة عامر بن الجراح ] أحد العشرة المبشرين بالجنة [وعدد أفرادها ثلاثمائة مقاتل] ما منهم أحد إلا ويقوى على حمل السلاح [وزودهم رسول الله بجراب من التمر ووجههم نحو ساحل البحر، ونفذ جراب التمر حتى كانوا يعطون منه تمرة تمرة، وقال أحدهم: قلت في نفسي: ماذا تغني هذه التمرة؟ ولما فقدتها عرفت قيمتها يومئذ، وجاعوا حتى كانوا يضربون ورق الشجر، فيسقط فيجمعونه ويبلونه بالماء ويأكلونه؛ ولهذا سميت هذه السرية: سرية الخبط، ولما قربوا من البحر] على الساحل [لاح لهم شيء كأنه كثيب رمل] ظهر لهم شيء كأنه كثيب من الرمل على الساحل [فدنوا منه] وقربوا [وإذا هو دابة من دواب البحر ميتة] وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وكل ما يدب على الأرض دابة، والحيتان تدب في البحر ببطونها [يقال لها: العنبر].

قال: [فأكلنا منه نحواً من نصف شهر] قرابة خمسة عشر يوماً وهم يأكلون من لحم هذه الدابة [حتى سمنّا] أي: كثر فينا السمن، وذهبت تلك الهزالة [وكنا نغترف من عينها الدهن بالمغراف] حفرة العين تمتلئ بالزيت من الشحم الذي يذوب [ونصبنا ضلعين من أضلاعها فكانت الراحلة تدخل تحتها ولا تمسها] الناقة وما عليها تدخل تحت الضلعين ولا تمسهما [وتزودنا من لحمها] إذاً: يجوز أكل لحم الميتة إذا كانت من البحر [ولما وصلنا إلى المدينة النبوية وذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم] قصوا عليه القصة وحدثوه بما وقع [قال: ( هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شيء من لحمه تطعمونا؟ )] أراد أن يطيب خواطرهم، ويرفع من معنوياتهم، فقال: ( هل معكم شيء من لحمه تطعمونا ) [فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيئاً فأكله].

[نتائج وعبر:

إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نوجزها كالتالي:

أولاً: مواصلة الدعوة إلى الله تعالى، وإبلاغ رسالته صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس لإصلاحهم وإسعادهم في الدنيا والآخرة] أخذنا هذا من هذه السرايا، فما إن فتح الله عليه حتى أخذ يبعث السرايا في الشرق والغرب والجنوب، ليكمل دعوته؛ لإدخال الناس في رحمة الله، وإخراجهم من ظلمة الكفر وفتنة جهنم.

[ثانياً: بيان صبر الصحابة وتحملهم الشدائد في ذات الله تعالى ما كانوا به مضرب المثل] أخذنا هذا من أكلهم الخبط والصبر في ذات الله.

[ثالثاً: بيان إكرام الله تعالى لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ساق لهم العنبر، فأكلوا نصف شهر منه] كرامة الله لهم! ولو لم يكرمهم الله لماتوا جوعاً؛ لأنهم متى يصلون إلى المدينة؟!

[رابعاً: جواز أكل ميتة البحر] وهذا لا خلاف فيه بين أهل السنة والجماعة؛ إذ يقول الكريم صلى الله عليه وسلم في البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )، فميتة البحر كلها كيفما كانت حلال، وماؤه يُتوضأ به ويغتسل، وإن كان ملحاً أجاجاً.

[خامساً: بيان تطييب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخواطر أصحابه وتزكية نفوسهم، وذلك بأكله من لحم الحوت الميت. وهو القائل في البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )].

[وثامن أحداثها] أحداث السنة الثامنة، والأحداث جمع حدث.

[سرية أبي قتادة ] رضي الله عنه.

[وفي شعبان من هذه السنة] الثامنة [وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة ومعه عبد الله بن أبي حدرد -في رجال-] ما ذكر عددهم [إلى الغابة، حيث بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رفاعة بن قيس قد جمع جموعاً ونزل بالغابة يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم] وهذا بعد الانتصارات التي علم بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار بجيشه يريد أن يغزو رسول الله في المدينة، وساقه القدر [ولما بلغوا من الحاضر] أي: المدينة الحاضرة [مع غروب الشمس، كمن كل واحدٍ منهم في ناحية] هؤلاء الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن كل واحد منهم في ناحية [وكان لقوم رفاعة راعٍ فأبطأ عنهم، فخرج رفاعة بن قيس في طلبه ومعه سلاحه، قال عبد الله بن أبي حدرد : فرميته بسهم فأصبت فؤاده فلم يتكلم، فأخذت رأسه ثم شددت في ناحية العسكر، وكبرت] الله! أكبر [وكبر أصحابي، فوالله! ما كان إلا النجاء، أي هرب أهل الحاضر طالبين النجاة لأنفسهم، فأخذوا نساءهم وأولادهم وما خف عليهم من أموالهم، واستقنا الإبل الكثيرة والغنم، فجئنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأس رفاعة ] هذا الذي جاء يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه الآن في الجراب.

[قال عبد الله : فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيراً وعدل بعير، وعدل البعير بعشر من الغنم] أي: ثلاثة عشر بعيراً وعشراً من الغنم؛ واستحق هذه الجائزة، فقد جاء برأس الطاغية، بعد أن قتله بسهمه.

[وتاسع أحداثها] أحداث هذه السنة الثامنة.

[سرية أبي قتادة إلى إضم

وفي هذه السنة أيضاً أغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة إلى (إضم) ومعه محلم بن جثامة ، فمر عليهم عامر بن الأضبط الأشجعي على بعير له] مر على السرية عامر بن الأضبط الأشجعي على بعير له [ومعه متاعه] يحمله على البعير [فسلم عليهم بتحية الإسلام] السلام عليكم [فأمسكوا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله وأخذ بعيره ومتاعه، ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر، فنزل قوله تعالى من سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94]].

إذاً: إذا قال الرجل: السلام عليكم، أو: آمنت بالله، أو: لا إله إلا الله، لا تقل: هذا يريد أن يقي نفسه وماله وتقتله لأجل ماله، فهذا خطأ وقع، ولكن الله عز وجل عفا وتكرم؛ لأنهم كانوا مجتهدين، وظنوا أنه قال هذه الكلمة ليقي ويحفظ نفسه وماله، وحتى إن قال ذلك ليحفظ نفسه يُقبل منه؛ فلو تركوه يمشى معهم لعله يؤمن في الساعة الأولى، ويدخل في الإسلام.

[وعاشر أحداثها:

غزوة مؤتة] في الشام.

[هذه إحدى الغزوات العظيمة في الغزو الإسلامي: وكانت في جمادى الأولى من سنة ثمان] قبل شعبان [فقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم زمانها ومكانها، وعين أمراءها: فعين زيد بن حارثة مولاه أميراً عليها، فإن أصيب فـجعفر بن أبي طالب ] ابن عمه [فإن أصيب فـعبد الله بن رواحة ] وسبحان الله كما عينهم استشهدوا واحداً بعد واحد.

قال: [وكان عدد أفراد هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل] بعثهم إلى بلاد الروم [ولما عين الحبيب صلى الله عليه وسلم زيداً أميراً وجد جعفر في نفسه] يعني: هذا مولى من موالي العرب وجعفر ابن عم رسول الله الهاشمي القرشي، فكيف يعين زيداً ولا يعينه؟! [وقال: ( يا رسول الله! ما كنت أذهب أن تستعمل علي زيداً )] يعني: لا أستطيع أن أمشي تحت إمارة أو قيادة مولى [( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: امضِ؛ فإنك لا تدري أي ذلك خير )] يعني: أن تكون أنت الأمير أو يكون هو الأمير، لا تدري في أيهما الخير.

قال: [وعندها بكى الناس] الناس الذين كانوا متجمعين يودعون جيشهم بكوا [وقالوا: هلا متعتنا بهم يا رسول الله] أي: لو تركتهم لا يخرجون فيموتوا [وكان إذا قال: ( فإن أصيب فلان فالأمير فلان ) أصيب كل من ذكره] يعني: أنهم جربوه في غير هذه الحادثة، فإذا قال لرجاله: إذا أصيب فلان ففلان، فكلهم يستشهدون على ما ذكر، فلهذا ألف الصحابة هذا وقالوا: هلا متعتنا بهم يا رسول الله؟!

[وتجهز الناس وودعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، ولما ودع عبد الله بن رواحة بكى فقال له الناس: ما يبكيك؟! فقال: ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية وهي قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فلست أدري، كيف لي بالصدر بعد الورود] إذا كان ما منا إلا ويرد جهنم، فإذا ورد كيف يصبر، وكيف يخرج، وما بين تعالى كيفية الخروج والصدور [فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا صالحين] دعوا لهم بهذه الدعوة: (صحبكم الله) أي: في سفركم (وردكم إلينا صالحين) وعلينا أن نحفظها، فإذا سافر إخواننا إلى الحج أو العمرة أو إلى الجهاد -عندما يوجد جهاد- نقول لهم: (صحبكم الله، وردكم إلينا صالحين). لا فاسدين، ونقولها -أيضاً- للذين يذهبون إلى أوروبا والخارج، فهم في حاجة إلى دعوة كهذه، حتى يعودوا صالحين.

قال: [ولما تهيأ القوم للخروج، أتى عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه] عبد الله بن رواحة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وودعه [ثم قال:

أنت الرسول فمن يحرم نوافله والوجه منه: فقد أزرى به القدر

فثبت الله ما آتاك من حسـن في المرسلين ونصراً كالذي نُصروا

إني تفرست فيك الخير نافلـة فراسة خالفت فيها الذي نظروا] أي: المشركين.

[ثم خرجوا وساروا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء] مكان اسمه مآب [في مائة ألف من الروم] وعدد الصحابة ثلاثة آلاف! [ومائة ألف من العرب المتنصرة من لخم وجذام والقين وبلى. فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره الخبر، وننتظر أمره] وبعد ذلك نمضي أو نرجع.

[فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم، والله! إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون: إنه الشهادة، وما نقاتل بعدد ولا قوة، ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين، فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين، فقال الناس: صدق والله، وساروا فتلقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها: مشارف، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، فالتقى الناس عندها، وكان على ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري وعلى ميسرتهم عبادة بن مالك الأنصاري ، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقاتل زيد براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم -أي: مات- ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل بها، وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارداً شرابها

والروم روم قد دنا عذابها علي إذ لاقيتها ضرابها

ثم عقر فرسه وهو أول فرس عقر في الإسلام، وقاتل حتى قطعت يده اليمنى، فأخذ الراية باليسرى، وقاتل حتى قطعت يده اليسرى، فاحتضن الراية بعضديه حتى قتل، فوجد به بضع وثمانون رمية وضربة وطعنة في جوار الله تعالى ورضوانه، وأخذ الراية عبد الله بن رواحة ، ثم تقدم فتردد بعض التردد ثم قال يخاطب نفسه:

أقسمت يا نفس لتنزلنه طائعة أو لتكرهنه

إذ أجلب الناس وشدوا الرنه ما لي أراك تكرهين الجنه

قد طال ما كنت مطمئنه هل أنت إلا نطفة في شنه] أي: قطرة في شنه.

[ثم نزل على فرسه، فجاء ابن عم له بعرق لحم] قطعة لحم [فقال: شد بهذا صلبك] أي: تقوَّ به [فقد لقيت ما لقيت! فأخذه فانتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية المعسكر فقال لنفسه: وأنت في الدنيا!! ثم ألقاه وأخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل، فإلى رحمة الله ورضوانه].

ونكتفي بهذا وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..

معاشر المؤمنين! إخوانكم يطلبون منكم دعوة صالحة، فإخوانكم الجزائريون أكلتهم نار الفتنة، وهم يبكون ليل نهار، فارفعوا أكفكم إلى الله؛ ليدفع عنهم هذا البلاء، ويزيل عنهم هذه الفتنة، فهيا ندعو لإخواننا والله تعالى أسأل أن يجيب دعاءنا.

اللهم! يا ولي المؤمنين، ويا متولي الصالحين، اللهم! رب محمد والمؤمنين، إنا نسألك أن تطفئ هذه النار عن إخواننا يا رب العالمين، اللهم! أطفئ نار الفتنة بينهم، واجمع قلوبهم على تقواك، ووحد صفوفهم في طاعتك يا رب العالمين؛ إنك تقول للشيء كن فيكون، إنك يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين لا تترك أولياءك يا رب العالمين، فهم عبيدك المؤمنون، فكفر ما بهم، وفرج ما بهم يا حي يا قيوم، اللهم! وحد كلمتهم واجمع صفوفهم على تقواك وعبادتك، وأرنا يا ربنا ذلك عاجلاً غير آجل.

اللهم احفظنا يا ربنا في ديارنا هذه، واحفظ لنا هذه البقية الباقية، اللهم! لا ترنا في هذه الحكومة ولا في شعبها مكروهاً يا رب العالمين، إنها البقية الباقية في العالم الإسلامي، فيها ترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتطبق حدود الله، وتقام الصلاة، وتجبى الزكاة، فلا ترينا -يا ربنا- مكروهاً فيها، اللهم! وحد كلمتهم، واجمع قلوبهم على تقواك يا رب العالمين، اللهم! أنقذ عبادك المؤمنين في كل مكان من الفتن والمحن والإحن التي تحوط بهم من كل مكان يا رب العالمين، واغفر لنا ولهم وارحمنا وإياهم.

وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..