هذا الحبيب يا محب 65


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة من أحداث السنة الرابعة، وهي: [سرية عمرو بن أمية الضمري إلى مكة لقتل أبي سفيان ] معاشر المستمعين والمستمعات! لنقضي هذه السويعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وننسى وجودنا هذا وما فيه من ظلمة أو نور. فهيا ننتقل إلى ما وراء ألف وأربعمائة سنة، وهذا فضل الله علينا. ‏

أولاً: إرسال أبي سفيان رجلاً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ما زال أبو سفيان يتحسر على فوته قتل النبي صلى الله عليه وسلم] أبو سفيان -رضي الله عنه الآن- الذي انهزم مع جيشه في بدر وغزا المدينة يوم أحد، وهمه وقصده وكل ما يريد أن يقتل محمداً صلى الله عليه وسلم، وينتهي من هذا الدين وهذه الدعوة، ما زال يتحسر على عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم، والحسرة والندامة آلام نفسية يعرفها كل من أصيب بها [حيث خاب أمله في ذلك بعد غزوة أحد التي كلفته أموالاً طائلة وأتعاباً شديدة رجاء أن يثأر لقتلاه في بدر من محمد صلى الله عليه وسلم الذي قتل رجاله وأسر أعداداً منهم في بدر].

وانظر إلى هذا العمل الباطل الفاسد الكافر ويأبى الله إلا أن يصبح أبو سفيان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل المحبة والرضوان، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]؛ فلهذا من أصيب منا بذنوب وتمرغ فيها ولصق بها لا ييأس، عسى الله عز وجل أن ينقذه وإذا به من أوليائه.

[ومن هنا فكر في خطة خسيسة وهي إرسال من يغتال] غيلة وخديعة [محمداً صلى الله عليه وسلم، إذ قال بين رجاله] وأهل مجلسه من أعيان بلاده [ما أحد يغتال محمداً؟ فإنه يمشي في الأسواق] أي: ليس في حجرته، أو عليه حرس، بل يمشي في الأسواق ويتجول، فمن يقتله [فندرك ثأرنا منه] هذا كلام أبي سفيان لرجاله وخواصه في مكة [فأتاه رجل من العرب، فدخل عليه منزله] الذي هو فيه [وقال له: إن أنت وفيتني] ما أطلب يعني [خرجت إليه حتى أغتاله] وهذا رجل مادي! قال: (إن أنت وفيتني) الجائزة العظمى خرجت إليه حتى أغتاله [فإني هاد بالطريق خريت] يعني: جغرافي، يعرف مسالك الطرق ودروبها، ويستطيع أن يصل إلى محمد في حال ما ويغتاله [معي خنجر مثل خافية النسر] والخافية جمعها خواف، وهي: ريشة من أربع ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت. فهو مخبئ لخنجره كهذا الذي يخبيه الطير [فقال له أبو سفيان : أنت صاحبنا] أي: أنت الذي نريدك [وأعطاه بعيراً ونفقة] بعيراً يركبه ونفقة ينفقها على نفسه وأهله [وقال له: اطوِ أمرك] أي: غطه واستره فلا يطلع عليك أحد [فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد] أبو سفيان ذا حيطة واحتراس، قال: إني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينقله إلى محمد صلى الله عليه وسلم [فقال الأعرابي] والأعرابي هو من يسكن في البادية، ليس من أهل مكة ولا الطائف [لا يعلمه أحد] يعني: كن مطمئناً أبا سفيان [فخرج ليلاً فوصل المدينة في ستة أيام] طوى المسافة طياً؛ فالمسافة تحتاج إلى عشرة أيام وهو قضاها في ستة؛ لأنه يعرف الطرق المختصرة فهو خريت.

قال: [فعقل راحلته بحي بني عبد الأشهل] وراحلته هي سيارته، عقلها في حي بني عبد الأشهل [ثم أقبل قاصداً رسول الله صلى الله عليه وسلم] لا يريد إلا هو لينفذ مأموريته [فوجده بين أصحابه يحدثهم في مسجده] يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم؛ ليتخرجوا في عشر سنين أمثل البشر في كمالاتهم، ووالله ما عرفت الدنيا أمثل كمالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف وصلوا إلى هذا في عشر سنين فقط؟ كانوا يتعلمون الكتاب والحكمة، وقد عرف هذا الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، فقالوا: هيا نفصل هذه الأمة عن الكتاب والسنة، فتموت ونعلو فوقها! ونجحوا مائة في المائة، فالسنة أصبحت تقرأ للبركة، حتى في الروضة، والقرآن يقرأ على الموتى، ويقولون في قاعدة عجيبة: "تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر". فمن يقوى على أن يقول: قال الله؟! ونجحوا في ذلك.

فالرسول في مسجده كان يحدثهم، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وهي دعوة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام وهما يبنيان الكعبة يتقاولان هذه المقولة: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، واستجاب الله لدعوة الرسولين العظيمين إبراهيم وولده إسماعيل، فبعث في أولاد إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، وها هو ذا في مسجده يعلمهم الكتاب والحكمة.

قال: [فلما دخل المسجد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم] والرسول نوراني، فإذا كانت الفراسة تعطى لكثير من الناس فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بها [فقال] عليه الصلاة والسلام [(إن هذا الرجل يريد غدراً)] يريد أن يغدر، يعني: هيأته وهيكله ولونه وحركاته دلت عليه [(والله حائل بينه وبين ما يريد)] هذا الرجل الذي يريد غدراً الله حائل بينه وبين ما يريد، فلا يمكنه من غدره [فوقف وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟] والمفروض يقول: أيكم ابن عبد الله بن عبد المطلب، لكن نسبتهم إلى عبد المطلب أعظم وأشهر [فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنا ابن عبد المطلب )] ولا تقول: كذب؛ لأنه لم يقل: أنا ابن عبد الله . فـعبد الله هو ابن عبد المطلب، إذاً هي هي، ولو قلت أنت: أنا ابن آدم ما كذبت، فأنت فعلاً من بني آدم [فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم] كأنه يريد أن يضمه إليه ويقبله [كأنه يسارُّه] أي: يحدثه سراً.

[فجذبه أسيد بن حضير ] بعنف، وكأنه أحس منه خيانة [وقال: تنحَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي: ابتعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [وجذبه بداخل إزاره، فإذا الخنجر، فقال: يا رسول الله! هذا غادر، فأُسقط في يد الأعرابي] انهار وانفضح [وقال: دمي دمي يا محمد] أي: لا تقتلوني، لا تسيلوا دمي [وأخذه أسيد يلببه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدقني ما أنت وما أقدمك؟ فإن صدقتني نفعك الصدق، فإن كذبتني فقد أُطلعت على ما هممت به)].

[قال الأعرابي: فأنا آمن؟ قال: وأنت آمن، فأخبره بخبر أبي سفيان بن حرب وما جعل له] من الجائزة [فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فحبس عند أسيد بن حضير] لم يكن عندهم سجون، وكذلك خبيب لما سجنوه، وضعوه في بيت امرأة في مكة [ثم دعا به من الغد] تعال [فقال: (قد أمَّنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك، قال: وما هو؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)] وهذا خير [فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد! ما كنت أفرق من الرجال] أي: أخاف من الرجال [فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت] كان شجاعاً لا يخاف من أحد أبداً ولا يفزع، لكن ما إن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حتى انهارت قواه [ثم اطلعتَ على ما هممت به، فما سبقت به الركبان، ولم يطلع عليه أحد فعرفت أنك ممنوع، وأنك في حق وأن حزب أبي سفيان حزب شيطان] هذا الأعرابي يقرر هذه الحقيقة.

[فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، وأقام أياماً، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر] راح.

ثانياً: رد النبي على أبي سفيان بإرسال عمرو بن أمية الضمري لقتله

قال: [ولما حدث هذا الذي حدث من أبي سفيان من إرساله من يغتال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري مع رجل من الأنصار إلى مكة وأمرهما بقتل أبي سفيان بن حرب ] يجوز أو لا يجوز؟ قال تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، أما بعث الشيطان ليغتال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إذاً: يبعث الرسول من يقتله ولا حرج.

[قال عمرو : فخرجت أنا ومعي بعير والرجل صاحبي علة] أي: جعله كالضرة له يقاسمه المركب وغيره [فكنت أحمله على بعيري حتى جئنا بطن يأجج فعقلنا بعيرنا بالشعب، وقلت لصاحبي: انطلق بنا إلى أبي سفيان لنقتله، فإن خشيت شيئاً فالحق بالبعير فاركبه، والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، وخلِّ عني] أي: لا تسأل عني، واتركني! وهذه هي الخطة: حبس البعير في مكان ما، وقال لصاحبه: إن خفت شيئاً فاركبه والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر.

[قال عمرو : فدخلنا مكة] البلد الأمين، حرم الله. وبلغوا الذين يزنون ويسرقون فيها أن مصيرهم خزي في الدنيا وذل وجهنم يوم القيامة، والمدينة كذلك حرم الله وحرم رسوله، أيغشى فيها مؤمن كبائر الذنوب والآثام ويزعم أنه مؤمن؟!!

وما زلت أكرر: من لا يستطيع الاستقامة في الحرمين فليغادرهما، وأرض الله واسعة، فإذا كنت لا تقدر على حفظ لسانك وفرجك وعبادة ربك فارحل، أترضى أن يسخط الله عليك في حرمه؟ يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وفي الموطأ وفي المسانيد: ( المدينة حرم من عير إلى ثور ) وهما جبلان هذا في الجنوب الغربي وهذا في الشمال الشرقي ( من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ) أي: لا فرض ولا نفل.

هل سمعتم يا أبناءنا؟! والذين ما سمعوا واحد إلى مائة ألف، أما الذين عرفوا فإنه يموت أحدهم جوعاً ولا يمد يده إلى حرام في هذا المكان، ويعيش أربعين سنة عزباً لا يفكر في زنية أو فجور، وعلة الذين يقدمون على المعاصي في هذا المكان واضحة: ما عرفوا الطريق إلى الله، ما أيقنوا بلقاء الله، ما عرفوا من الله ما يحبوه به ويرهبوه ويخافوه.. فهم جهلة يعيشون في ظلمة، فكيف تعمل معهم؟!

[قال عمرو : فدخلنا مكة ومعي خنجر قد أعددته إن عاقني إنسان ضربته به.

فقال لي صاحبي: هل لك أن نبدأ فنطوف ونصلي ركعتين؟] أولاً [فقلت له: إن أهل مكة يرشون أفنيتهم بالماء مساء] يرشون حول البيوت بالماء بعد العصر لتتلطف الأرض وتذهب الحرارة، أيام كانت الأرض تراباً [ويجلسون فيها وأنا أعرف بهم، قال: فمشينا حتى أتينا البيت] العتيق [فطفنا به وصلينا، ثم خرجنا، فمررنا بمجلس لهم فعرفني بعضهم] لأنه مكي [فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية ] يعني: لماذا جاء؟ [فثار أهل مكة إلينا، وقالوا: ما جاء إلا لشر، فقلت لصاحبي] العلة [أن جاء هذا الذي كنت أحذر، أما أبو سفيان فليس إليه سبيل] يعني: ما أظن أني واصل إليه [فانج بنفسك] أنت.

[فخرجنا نشتد] هاربين [حتى صعدنا بالجبل، فدخلنا غاراً بتنا فيه ليلتنا؛ ننتظر أن يسكن الطلب] فالمشركون يطلبونهم في كل مكان [فوالله إنا لفيه] في ذلك الغار [إذ أقبل عثمان بن ملاك التيمي يتخيّل بفرس له، فقام على باب الغار، فخرجت إليه فضربته بالخنجر، فصاح صيحة أسمع أهل مكة، فأقبلوا إليه ورجعت إلى مكاني] في الغار [فوجدوه وبه رمق] بقية حياة [فقالوا: من ضربك؟ قال: عمرو بن أمية ، ثم مات] على الفور [ولم يقدر يخبرهم بمكاني] قال: [وشغلهم قتل صاحبهم عن طلبي فاحتملوه، ومكثنا في الغار يومين حتى سكن عنا الطلب] وما بقي من يسأل عنا [ثم خرجنا إلى التنعيم، فإذا بخشبة خبيب ] التي صلب عليها وقتل [وحوله حرس] يحرسون جثته، يتوقعون أن أناساً يأتون إليها [فصعدت خشبته واحتملته على ظهري، فمشيت به نحو أربعين خطوة فعلموا به فطرحته، واشتدوا في أثري] يطلبونني [فأخذت الطريق فأعيوا ورجعوا، وانطلق صاحبي فركب البعير وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وأما خبيب فلم يُر بعد ذلك، وكأن الأرض قد ابتلعته] لم يعثر على جثته، أخفاه الله عز وجل.

وأهل الدرس يعرفون من خبيب ، ولا ننسى الكلمة التي فاوضه فيها رجال المشركين حيث قالوا: أترضى أن يكون محمد في مكانك وتطلق أنت وتعود إلى أهلك وأولادك؟ فقال: والله ما أرضى أن يشاك محمد بشوكة وأنا بين أهلي!!. وقتل على تلك الخشبة.

قال: [وسرت حتى دخلت غاراً ومعي قوسي وأسهمي، فبينما أنا فيه إذ دخل عليَّ رجل من بني الديل أعور يسوق غنماً، فقال: مَن الرجل؟ قلت: من بني بكر، قال: وأنا من بني بكر، فاضطجع معي ورفع عقيرته يتغنى] بعد أن أمِن [ويقول:

ولست بمسلم ما دمت حـياً ولست أدين دين المسلمينا] يغني بذلك، ما أجهله!

[ثم نام فقتلته، ثم سرت فإذا رجلان بعثتهما قريش يتحسسان أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فرميت أحدهما بسهم فقتلته واستأسرت الآخر] أي: أخذه أسيراً [فقدمت به على النبي صلى الله عليه وسلم] هذا هو البطل! ليس بطل الكرة!! [وأخبرته الخبر فضحك ودعا لي بخير] ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير، فهنيئاً له!

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ما زال أبو سفيان يتحسر على فوته قتل النبي صلى الله عليه وسلم] أبو سفيان -رضي الله عنه الآن- الذي انهزم مع جيشه في بدر وغزا المدينة يوم أحد، وهمه وقصده وكل ما يريد أن يقتل محمداً صلى الله عليه وسلم، وينتهي من هذا الدين وهذه الدعوة، ما زال يتحسر على عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم، والحسرة والندامة آلام نفسية يعرفها كل من أصيب بها [حيث خاب أمله في ذلك بعد غزوة أحد التي كلفته أموالاً طائلة وأتعاباً شديدة رجاء أن يثأر لقتلاه في بدر من محمد صلى الله عليه وسلم الذي قتل رجاله وأسر أعداداً منهم في بدر].

وانظر إلى هذا العمل الباطل الفاسد الكافر ويأبى الله إلا أن يصبح أبو سفيان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل المحبة والرضوان، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]؛ فلهذا من أصيب منا بذنوب وتمرغ فيها ولصق بها لا ييأس، عسى الله عز وجل أن ينقذه وإذا به من أوليائه.

[ومن هنا فكر في خطة خسيسة وهي إرسال من يغتال] غيلة وخديعة [محمداً صلى الله عليه وسلم، إذ قال بين رجاله] وأهل مجلسه من أعيان بلاده [ما أحد يغتال محمداً؟ فإنه يمشي في الأسواق] أي: ليس في حجرته، أو عليه حرس، بل يمشي في الأسواق ويتجول، فمن يقتله [فندرك ثأرنا منه] هذا كلام أبي سفيان لرجاله وخواصه في مكة [فأتاه رجل من العرب، فدخل عليه منزله] الذي هو فيه [وقال له: إن أنت وفيتني] ما أطلب يعني [خرجت إليه حتى أغتاله] وهذا رجل مادي! قال: (إن أنت وفيتني) الجائزة العظمى خرجت إليه حتى أغتاله [فإني هاد بالطريق خريت] يعني: جغرافي، يعرف مسالك الطرق ودروبها، ويستطيع أن يصل إلى محمد في حال ما ويغتاله [معي خنجر مثل خافية النسر] والخافية جمعها خواف، وهي: ريشة من أربع ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت. فهو مخبئ لخنجره كهذا الذي يخبيه الطير [فقال له أبو سفيان : أنت صاحبنا] أي: أنت الذي نريدك [وأعطاه بعيراً ونفقة] بعيراً يركبه ونفقة ينفقها على نفسه وأهله [وقال له: اطوِ أمرك] أي: غطه واستره فلا يطلع عليك أحد [فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد] أبو سفيان ذا حيطة واحتراس، قال: إني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينقله إلى محمد صلى الله عليه وسلم [فقال الأعرابي] والأعرابي هو من يسكن في البادية، ليس من أهل مكة ولا الطائف [لا يعلمه أحد] يعني: كن مطمئناً أبا سفيان [فخرج ليلاً فوصل المدينة في ستة أيام] طوى المسافة طياً؛ فالمسافة تحتاج إلى عشرة أيام وهو قضاها في ستة؛ لأنه يعرف الطرق المختصرة فهو خريت.

قال: [فعقل راحلته بحي بني عبد الأشهل] وراحلته هي سيارته، عقلها في حي بني عبد الأشهل [ثم أقبل قاصداً رسول الله صلى الله عليه وسلم] لا يريد إلا هو لينفذ مأموريته [فوجده بين أصحابه يحدثهم في مسجده] يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم؛ ليتخرجوا في عشر سنين أمثل البشر في كمالاتهم، ووالله ما عرفت الدنيا أمثل كمالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف وصلوا إلى هذا في عشر سنين فقط؟ كانوا يتعلمون الكتاب والحكمة، وقد عرف هذا الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، فقالوا: هيا نفصل هذه الأمة عن الكتاب والسنة، فتموت ونعلو فوقها! ونجحوا مائة في المائة، فالسنة أصبحت تقرأ للبركة، حتى في الروضة، والقرآن يقرأ على الموتى، ويقولون في قاعدة عجيبة: "تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر". فمن يقوى على أن يقول: قال الله؟! ونجحوا في ذلك.

فالرسول في مسجده كان يحدثهم، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وهي دعوة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام وهما يبنيان الكعبة يتقاولان هذه المقولة: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، واستجاب الله لدعوة الرسولين العظيمين إبراهيم وولده إسماعيل، فبعث في أولاد إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، وها هو ذا في مسجده يعلمهم الكتاب والحكمة.

قال: [فلما دخل المسجد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم] والرسول نوراني، فإذا كانت الفراسة تعطى لكثير من الناس فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بها [فقال] عليه الصلاة والسلام [(إن هذا الرجل يريد غدراً)] يريد أن يغدر، يعني: هيأته وهيكله ولونه وحركاته دلت عليه [(والله حائل بينه وبين ما يريد)] هذا الرجل الذي يريد غدراً الله حائل بينه وبين ما يريد، فلا يمكنه من غدره [فوقف وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟] والمفروض يقول: أيكم ابن عبد الله بن عبد المطلب، لكن نسبتهم إلى عبد المطلب أعظم وأشهر [فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنا ابن عبد المطلب )] ولا تقول: كذب؛ لأنه لم يقل: أنا ابن عبد الله . فـعبد الله هو ابن عبد المطلب، إذاً هي هي، ولو قلت أنت: أنا ابن آدم ما كذبت، فأنت فعلاً من بني آدم [فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم] كأنه يريد أن يضمه إليه ويقبله [كأنه يسارُّه] أي: يحدثه سراً.

[فجذبه أسيد بن حضير ] بعنف، وكأنه أحس منه خيانة [وقال: تنحَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي: ابتعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [وجذبه بداخل إزاره، فإذا الخنجر، فقال: يا رسول الله! هذا غادر، فأُسقط في يد الأعرابي] انهار وانفضح [وقال: دمي دمي يا محمد] أي: لا تقتلوني، لا تسيلوا دمي [وأخذه أسيد يلببه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدقني ما أنت وما أقدمك؟ فإن صدقتني نفعك الصدق، فإن كذبتني فقد أُطلعت على ما هممت به)].

[قال الأعرابي: فأنا آمن؟ قال: وأنت آمن، فأخبره بخبر أبي سفيان بن حرب وما جعل له] من الجائزة [فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فحبس عند أسيد بن حضير] لم يكن عندهم سجون، وكذلك خبيب لما سجنوه، وضعوه في بيت امرأة في مكة [ثم دعا به من الغد] تعال [فقال: (قد أمَّنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك، قال: وما هو؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)] وهذا خير [فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد! ما كنت أفرق من الرجال] أي: أخاف من الرجال [فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت] كان شجاعاً لا يخاف من أحد أبداً ولا يفزع، لكن ما إن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حتى انهارت قواه [ثم اطلعتَ على ما هممت به، فما سبقت به الركبان، ولم يطلع عليه أحد فعرفت أنك ممنوع، وأنك في حق وأن حزب أبي سفيان حزب شيطان] هذا الأعرابي يقرر هذه الحقيقة.

[فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، وأقام أياماً، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر] راح.




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
هذا الحبيب يا محب 115 4082 استماع
هذا الحبيب يا محب 111 4079 استماع
هذا الحبيب يا محب 47 3818 استماع
هذا الحبيب يا محب 7 3811 استماع
هذا الحبيب يا محب 126 3692 استماع
هذا الحبيب يا محب 102 3680 استماع
هذا الحبيب يا محب 9 3648 استماع
هذا الحبيب يا محب 32 3572 استماع
هذا الحبيب يا محب 99 3487 استماع
هذا الحبيب يا محب 48 3469 استماع