قل هو من عند أنفسكم


الحلقة مفرغة

الحمد لله القوي المتين، الملك الحق المبين، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما اتخذ صاحبة ولا ولداً، ليس له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه، أتى بالمحجة وأقام الحجة، وأشهد أمته على نفسه عام الحجة، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على طريقهم واقتفى.

أما بعد:-

فإن النصيحة المبذولة لي ولكم -عباد الله- هي تقوى الخالق جل شأنه، فهي عدة الصابرين، وذخيرة المجاهدين، وسلوان المصابين، ما خاب من اكتسى بها، ولا ندم من اكتنفها، بها النجاة في الأولى، والفوز في الأخرى، لا يسألكم الله رزقاً هو يرزقكم والعاقبة للتقوى.

أيها الناس: لعل المسلمين في ثنايا هذه العصور المتأخرة هم أكثر الناس آلاماً، وأوسعهم جراحاً، ولعل أرضهم وديارهم وأموالهم هي التي يستنسر بها البغاة، وتستأسد الحمر، والمسلمون مع ذلك يتجرعون هذه الجراحات في صياصيهم وهم لا يكادون يسيغونها.

ويحملون معها أثقالاً إلى أثقالهم.

إنهم يدعون إلى الاستكانة والاستجداء دعاءً، وتتقاذفهم مضارب الغالبين إلى أن يعترفوا بأن حقهم باطل، وباطل غيرهم حق .. يزج بهم في كل مضيق من أجل أن يقلبوا الحقائق، ويتقبلوا أضدادها على مضض حتى ينطق لسانهم بالرسم المغلوط، والفهم المقلوب، فتكون عبارتهم لعدوهم بلسان حالهم.

إذا مرضنا أتيناكم نعودكم     وتخطئون فنأتيكم ونعتذر

أسباب الهزيمة

أيها المسلمون: إن المتأمل في هزائم المسلمين المتلاحقة، وضعفهم الحثيث، واستكانتهم المستحوذة عليهم أمام أعدائهم؛ يجد أنها لم تكن بدعاً من الأمر، ولا هي نتائج بلا مقدمات، ولم تكن قط قد قفزت هكذا طفرة دونما سبب، وإنما هي ثمرة خلل وفتوق في ميدان الأمة الإسلامية، وتقصير ملحوظ تجاه خالقها ورسولها صلى الله عليه وسلم ودينها، وهذه الثغرات والفتوق هي التي أذكاها أعداء الإسلام بما يبثونه عبر سنين عديدة من المكر والخديعة، واللت والعجن منذ زمن على الإسلام والمسلمين.

وبسبب نقمتها هذه اختبأت وراء صور الاستعمار المتنوعة، تناولت من خلاله ما تشاء من الأساليب، فإذا احتاج الأمر إلى المكر لانت، وإذا احتاج الأمر إلى القسوة بطشت، وهي في لينها تبثُّ السمَّ في العسل، وفي شدتها تحترف الهمجية والجبروت، وهي في كلتا الحالتين لا تنام عن غايتها أبداً، ولو نامت بإحدى مقلتيها فإنها بالأخرى يقضانة ساهرة وهذا سر أسفنا المتصاعد يا عباد الله.

أيها المسلمون: إن الكثيرين منا ليتساءلون إثر كل بلية تحل بدار الإسلام ما السبب؟.. وكيف؟.. ولم؟.. ومم؟.. وعم؟.. كل صور الاستفهام تتناثر صيحاتها في مسامعنا حيناً بعد آخر.

ولكن هل نجعل هذا التساؤل جديداً على أسماعنا؟ أم أن في أفئدتنا وما أعطانا الله من صلة بكتابه العزيز، ما يذكر بسؤال مماثل للرعيل الأول في أزمة هي من أشد الأزمات التي حلت بهم، ألا وهي هزيمتهم في معركة أحد ، يندبون حالهم، ومن ثم يتساءلون فيقول الله عنهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] فيجيبهم الله بخمس كلمات لم ينسب ولا في كلمة واحدة سبب الهزيمة إلى جيش ولا إلى عدة، ولا إلى تحرف في قتال، وإنما قال لهم بصريح العبارة: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

يقول الله لهم ذلك؛ ليبين لهم ولمن بعدهم بوضوح أن خواتيم الصراعات والمدافعات بين الأمم على كافة الأصعدة لا يمكن أن تقع خبط عشواء، وإنما هي وفق مقدمات أثمرت النتيجة بعد استكمال أسبابها: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].

الحكمة من الهزيمة

تقع الهزائم ليستيقظ الناس، وتتوالى الضربات لتحل المحاسبة محل النفس، ويتضح مثل هذا بما أتبع الله الآية بقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:166-167].

لقد كتب الله سبحانه على نفسه النصر لرسله وأوليائه، فقال سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].

ولكن الله سبحانه علق هذا النصر بتحقيق الإيمان في القلوب واستيفاء مقتضاياته في كل مناحي الحياة، وهذه هي سنة الله في النصر، وسنة الله لا تحابي أحداً، وحين تقصر الأمة وتفرط فعليها أن تقبل النتيجة المرة؛ لأنها مع كونها مسلمة إلا أن ذلك لا يقتضي خرق السنن وإبطال النواميس.

إلقاء اللائمة على الغير

أيها المسلمون: إن على رأس الضعف الأصيل البعد عن تشخيص الأحداث بصورتها الحقيقية، مع الاكتفاء بمجرد التلاوم، وإلقاء التبعة على الغير، فعامة الناس يلقون باللائمة على العلماء والمصلحين والمثقفين، وهؤلاء بدورهم يلقون باللائمة على الساسة والقادة الآخرين، وما القادة، والساسة، والعلماء، والمصلحون، والعامة إلا جزء من كل، ولا استقلال في اللوم لصنف دون آخر، وإلا كان جرماً واستكباراً وخروجاً عن الواقعية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {كلكم راع، وكل راع مسئول عن رعيته }.

ثم إن المنصف الحذق يلمح من خلال هذا التلاوم المشترك أنه ليس في الحقيقة أحد ملوم، إذ كل يلقيه على الآخر؛ فيلزم من ذلك الدور، وهو ممنوع عند جميع العقلاء.

ورحم الله مالك بن دينار حينما وعظ أصحابه موعظة وجلوا منها، وارتفع بكاؤهم، وبينما هم كذلك إذ فقد مصحفه الذي بين يديه، فالتفت إليهم وقال: ويحكم تبكون جميعاً فمن الذي سرق المصحف إذاً؟!

أيها المسلمون: إن المتأمل في هزائم المسلمين المتلاحقة، وضعفهم الحثيث، واستكانتهم المستحوذة عليهم أمام أعدائهم؛ يجد أنها لم تكن بدعاً من الأمر، ولا هي نتائج بلا مقدمات، ولم تكن قط قد قفزت هكذا طفرة دونما سبب، وإنما هي ثمرة خلل وفتوق في ميدان الأمة الإسلامية، وتقصير ملحوظ تجاه خالقها ورسولها صلى الله عليه وسلم ودينها، وهذه الثغرات والفتوق هي التي أذكاها أعداء الإسلام بما يبثونه عبر سنين عديدة من المكر والخديعة، واللت والعجن منذ زمن على الإسلام والمسلمين.

وبسبب نقمتها هذه اختبأت وراء صور الاستعمار المتنوعة، تناولت من خلاله ما تشاء من الأساليب، فإذا احتاج الأمر إلى المكر لانت، وإذا احتاج الأمر إلى القسوة بطشت، وهي في لينها تبثُّ السمَّ في العسل، وفي شدتها تحترف الهمجية والجبروت، وهي في كلتا الحالتين لا تنام عن غايتها أبداً، ولو نامت بإحدى مقلتيها فإنها بالأخرى يقضانة ساهرة وهذا سر أسفنا المتصاعد يا عباد الله.

أيها المسلمون: إن الكثيرين منا ليتساءلون إثر كل بلية تحل بدار الإسلام ما السبب؟.. وكيف؟.. ولم؟.. ومم؟.. وعم؟.. كل صور الاستفهام تتناثر صيحاتها في مسامعنا حيناً بعد آخر.

ولكن هل نجعل هذا التساؤل جديداً على أسماعنا؟ أم أن في أفئدتنا وما أعطانا الله من صلة بكتابه العزيز، ما يذكر بسؤال مماثل للرعيل الأول في أزمة هي من أشد الأزمات التي حلت بهم، ألا وهي هزيمتهم في معركة أحد ، يندبون حالهم، ومن ثم يتساءلون فيقول الله عنهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] فيجيبهم الله بخمس كلمات لم ينسب ولا في كلمة واحدة سبب الهزيمة إلى جيش ولا إلى عدة، ولا إلى تحرف في قتال، وإنما قال لهم بصريح العبارة: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

يقول الله لهم ذلك؛ ليبين لهم ولمن بعدهم بوضوح أن خواتيم الصراعات والمدافعات بين الأمم على كافة الأصعدة لا يمكن أن تقع خبط عشواء، وإنما هي وفق مقدمات أثمرت النتيجة بعد استكمال أسبابها: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].

تقع الهزائم ليستيقظ الناس، وتتوالى الضربات لتحل المحاسبة محل النفس، ويتضح مثل هذا بما أتبع الله الآية بقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:166-167].

لقد كتب الله سبحانه على نفسه النصر لرسله وأوليائه، فقال سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].

ولكن الله سبحانه علق هذا النصر بتحقيق الإيمان في القلوب واستيفاء مقتضاياته في كل مناحي الحياة، وهذه هي سنة الله في النصر، وسنة الله لا تحابي أحداً، وحين تقصر الأمة وتفرط فعليها أن تقبل النتيجة المرة؛ لأنها مع كونها مسلمة إلا أن ذلك لا يقتضي خرق السنن وإبطال النواميس.