من يحمل هم الإسلام


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أحبتي الكرام.. هذا هو الدرس السادس والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه هي ليلة الإثنين التاسع من شهر صفر لعام (1412هـ).

أين من يحمل هم الإسلام؟

كثرة الداخلين إلى الإسلام

كثيراً ما تطالعنا الصحف والجرائد والنشرات بذكر أخبار أو أرقام لأولئك الذين دخلوا حديثاً في الإسلام من كافة الجنسيات والديانات والبلدان، وهذا لا شك من المظاهر التي تدل على قوة هذا الإسلام وثباته ونمائه، فعلى رغم تأخر أهله وتخلفهم في كثير من المجالات، وعلى الرغم من الكيد المنظم والمدبر من قبل أعدائه، إلا أن الذين يقبلون على هذا الدين ويدخلون فيه جمع غفير.

وقد كُتب لي أن أَمرَّ ببعض المراكز؛ فكانوا يتحدثون أن الذي يُسْلِم في مركز واحد خلال أسبوع، أحياناً ما يزيد على ثلاثين ما بين رجل وامرأة، ممن اجتذبهم الإسلام إليه بنقائه وصفائه ونوره، فهو دين الله عز وجل في الأرض، السالم من كل تغيير أو تحريف أو تبديل.

تأخر المسلمين أنفسهم

أيها الأحبة: إننا لا نجد أبداً أخباراً تتحدث عن أعداد قلت أو كثُرت من المسلمين الذين هم مسلمون أصلاً ولكنهم تقدموا في إسلامهم من كونهم مسلمين بالوراثة والتقليد إلى كونهم مسلمين عن حقيقة واقتناع، ومن كونهم مجرد أرقام إلى كونهم شخصيات تعمل للإسلام وتحمل هم الإسلام، وهذه مفارقة مهمة.

المسلم ثروة مهدرة

أيها الأحبة.. إننا كثيراً ما نسمع أو نقرأ، عمن يتحدث عن الثروات المهدرة من الأموال الطائلة في بلاد المسلمين، ولكننا لا نكاد نسمع أو نقرأ من يتحدث عن أغلى ثروة مهدرةٍ على الإطلاق، ألا وهي ثروة الإنسان، فالإنسان هو الذي يستطيع الحصول على المال، ويبني الحضارات، ويشيد المباني الفخمة، ويُعبِّد الطرق، ويبني الجسور، وهو الذي يحمل المبدأ، ويدافع عنه، ومع ذلك تجد الحديثَ عن الإنسان كثروة مهدرة تجده قليلاً، بل أقل من القليل، خاصة في عالم الإسلام وفى وسط أمة المسلمين.

كثيراً ما تطالعنا الصحف والجرائد والنشرات بذكر أخبار أو أرقام لأولئك الذين دخلوا حديثاً في الإسلام من كافة الجنسيات والديانات والبلدان، وهذا لا شك من المظاهر التي تدل على قوة هذا الإسلام وثباته ونمائه، فعلى رغم تأخر أهله وتخلفهم في كثير من المجالات، وعلى الرغم من الكيد المنظم والمدبر من قبل أعدائه، إلا أن الذين يقبلون على هذا الدين ويدخلون فيه جمع غفير.

وقد كُتب لي أن أَمرَّ ببعض المراكز؛ فكانوا يتحدثون أن الذي يُسْلِم في مركز واحد خلال أسبوع، أحياناً ما يزيد على ثلاثين ما بين رجل وامرأة، ممن اجتذبهم الإسلام إليه بنقائه وصفائه ونوره، فهو دين الله عز وجل في الأرض، السالم من كل تغيير أو تحريف أو تبديل.

أيها الأحبة: إننا لا نجد أبداً أخباراً تتحدث عن أعداد قلت أو كثُرت من المسلمين الذين هم مسلمون أصلاً ولكنهم تقدموا في إسلامهم من كونهم مسلمين بالوراثة والتقليد إلى كونهم مسلمين عن حقيقة واقتناع، ومن كونهم مجرد أرقام إلى كونهم شخصيات تعمل للإسلام وتحمل هم الإسلام، وهذه مفارقة مهمة.

أيها الأحبة.. إننا كثيراً ما نسمع أو نقرأ، عمن يتحدث عن الثروات المهدرة من الأموال الطائلة في بلاد المسلمين، ولكننا لا نكاد نسمع أو نقرأ من يتحدث عن أغلى ثروة مهدرةٍ على الإطلاق، ألا وهي ثروة الإنسان، فالإنسان هو الذي يستطيع الحصول على المال، ويبني الحضارات، ويشيد المباني الفخمة، ويُعبِّد الطرق، ويبني الجسور، وهو الذي يحمل المبدأ، ويدافع عنه، ومع ذلك تجد الحديثَ عن الإنسان كثروة مهدرة تجده قليلاً، بل أقل من القليل، خاصة في عالم الإسلام وفى وسط أمة المسلمين.

أيها الأحبة.. إن المسلمين القُدامى -وأعنى بهم أمة الإسلام التي هي مسلمة أصلاً وليسو داخلين في الإسلام حديثاً فقط- إن المسلمين القدامى فيهم أدواء تحتاج إلى مبضع الجراح، وفيهم مصائب وآلام ونكبات، يعجز عنها الحصر، وقد تأملت في أحوالهم فرأيت أننا يمكن أن نصنف هؤلاء المسلمين إلى أربع طوائف تقريباً:

طائفة اليأس والقنوط

فمن هؤلاء المسلمين من يكون يائساً قد انقطعت حباله، فهو لا يفتأ يردد ليل نهار الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان غربة هذا الدين، وأنه بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، أو تلك الأحاديث التي تتكلم عن العزلة واعتزال الناس والبعد عنهم، وربما قال أحدهم: هذا أوان قوله صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك} فإذا سمع هذا المسلم اليائس القانط أخباراً عن المنكرات التي تقع هنا أو هناك، أو المصائب التي تنـزل بالمسلمين؛ فإنه يكتفي بأن يحوقل أو يحسبل أو يسترجع، ولا يتعدى أمره ذاك.

ولاشك أن ذكر الله تعالى مشروع في كل حال، فـ(لا حول ولا قوه إلا بالله) هي من أعظم الأسلحة التي يستعصم بها المسلم في وجه اليأس والقنوط، فإنه حين يقول: (لا حول ولا قوه إلا بالله) لا يردد كلاماً فحسب، بل هو يتلو دعاءً من كنـز تحت العرش، يدله على أنه ينبغي أن يعتصم بالله عز وجل، ويستمد القوة من الله تعالى في مواجهة الواقع وتغييره إلى الأحسن، كما أنه ينبغي أن يدرك أن التحول من واقع سيء كالمعصية والفجور والإثم، إلى واقع حسن بالطاعة والبر والإيمان، لا يكون إلا بعون الله تعالى ونصره وتأييده.

فهذه طائفة من المسلمين تعيش اليأس والقنوط.

طائفة الارتباط بالدنيا وضعف الارتباط بالله

وإلى جوار الطائفة الأولى هناك طائفة أخرى ممن انصرف الواحد منهم إلى دنياه، وأغرق في همومه الشخصية، فكل ما يحلم به هذا الإنسان وما يعنيه، هو أن تنفق تجارته، أو أن ترتفع رتبته، أو أن يزيد مرتبه، أما أن يكون همه أن ينفع المسلمين بجاهٍ أو مالٍ أو غير ذلك فهذا بعيد، وكل ما قد يردده على أحسن الأحوال أن يقول: أنا ربُ الإبل وللبيت ربٌ يحميه، إذاً لم يعد من همّ هذا الإنسان قضية الإسلام والمسلمين، أو تقديم نفعٍ لهم، وإنما كل همّه لا يتعدى مصالحه الشخصية، وهمومه الذاتية.

وهؤلاء قد يكون الواحد منهم مُصلياً، وقد يكون صَائماً، وقد يسمى بالحاج فلان كما نرى في كثير من البلدان، وربما كان الدين عند أحدهم لا يعدو أن يكون حرزاً يعلقه على رقبته، أو يضعه في وسادته، أو حضور مأتمٍ، أو حضور مولدٍ، كما هو موجود في كثير من البلاد، ويعتقد أن الدين يتوقف ويقتصر عند هذا الحد، ولا شك أن هؤلاء يشكلون الأغلبية الساحقة من المسلمين، ممن هم مسلمون بالانتساب والانتماء، وربما كان أحدهم مصلياً، لكن لا تعتمل في قلوبهم هموم الإسلام، ولا تتحرق نفوسهم لقضايا المسلمين، بل أحدهم يكتفي بأقل قدر يضمن له اسم الإسلام، وربما قصّر في أقل هذا القدر أيضاً، فربما لم يصل الصلوات الخمس، أو لم يصلها في المسجد، ولو كان يقول إنه محب لله عز وجل.

حدثني أحد الإخوة الأحباب، وقد اتصل بي فكان من ضمن حديثه أن قال: إن علاقتي بالله عز وجل علاقة قوية جداً، فقلتُ له: الحمد لله رب العالمين وهذه بشارة، وخلال حديثه قال: إنه قد يصلي بعض الصلوات، وقد تفوته فروض أخرى، فقلت: تفوتك في المسجد أو تفوتك بالكلية؟ قال: لا قد أُفوِّتُ الوقت بالكلية فلا أصلي، فقلت: كيف تكون علاقتك بالله تعالى جيدة، ويفوتك وقت أو أوقات!!

يا أخي.. خُذ مقاييس البشر الدنيوية، فعندما يكون هناك علاقة حب بين إنسان وإنسان آخر، فيطلب هذا المحبوب من حبيبه أن يكون في وقتٍ معين في مكان معين، فإنه يتحمل في سبيل طاعة محبوبه آلام الحر والبرد، وبعد المسافات والهجير، وغير ذلك، فكيف بمن يحب الله تعالى كيف لا يتحمل في سبيله؟! أليس الله تعالى يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]؟

فهذه هي آية المحنة التي يمتحن الله تعالى ويبتلى بها من يدَّعون محبته؛ ليتحقق لهم هذا الحب من خلال الأعمال التي يقومون بها لتصديق هذا الحب.

ومما يذكر في الأقاصيص: أن رجلاً من أهل مصر في زمن غابر كان يجلس في المجالس، ويقف في المساجد، ويعلن ليل نهار، أنه يفنى في حب ملك مصر، يموت في حبه ويهلك في سبيله، وكانت هذه الدعوة قد ملأت فمه، فهو يرددها صباح ومساء، فترامى خبر هذا الإنسان إلى ملك مصر فدعاه، وقال له: أنت الذي تدعي أنك تحبني؟ قال له: نعم، قال: هل حبك حقيقة أم ادعاء؟ قال لا، هذا الحب حقيقة، قال: إذاً أنا سأخيرك بين أمرين إن كنت تحبني، إما أن تُغادر هذا البلد الذي أسكن فيه وهو مصر، وإما أن أقتلك، فاختر أحدهما؟ فقال: لا، بل أغادر هذا البلد.

قال: فاخرج من عندي فلما خرج أمر السلطان الحارس أن يقتله بسيفه، وهنا قام الحارس وثار، وقال: لماذا أقتل رجلاً في غير جرم؟ فقال: لا، بل أجرم في حقي، لأنه يدعي حبي وهو كاذب؟ قال كيف عرفت أنه كاذب؟ قال: إنه لو كان محباً صادقاً لي، لرضي أن يُقتل على أن يفارقني، ويغادر بلدي، ولاستحلى واستلذ الصعب من أجلي، ولو وافق على أن أقتله لنـزلت عن عرشي ووضعته مكاني، وسلمت له مقاليد الأمور!!

فهكذا مقاييس البشر، فما بالك بمن يدَّعي محبة الله تعالى، فلابد أن يحقق هذا الحب بالعمل الصالح الذي يقوم به.

إذاً هذه طائفة أخرى من المسلمين، ممن يلتزمون بقدر من الدين ويفرحون بالانتساب إليه، وقد يؤذيهم أن ينال أحدٌ دينهم بسوء؛ لكنهم لا يقدمون لدينهم عملاً يذكر.

طائفة الانسلاخ والاغترار بالحضارة

وممن ينتسبون إلى هذه الأمة، ويعدون على الأقل في الإحصائيات الرسمية جزءاً منها، أولئك الذين انسلخوا عن حقيقة انتسابهم لهذا الدين، وتخلوا عن ولائهم لهذه الأمة، وأعجبهم ما فتح الله تعالى على العدو الكافر من زينة الحياة الدنيا وزهرتها، فتعلقت قلوبهم بأعداء الدين، وتخلوا عن حقيقة انتسابهم لهذه الأمة، فهم وإن كانت ثيابهم ثياب العرب، وألفاظهم ألفاظ العرب، إلا أن قلوبهم قلوب الأعاجم، وفى مثل هؤلاء يقول القائل:

رُسل الفسادِ وما حلوا وما رحلوا     إلا وكانوا به أعدى من الجربِ

ألفاظهم عرب والفعل مختلف     وكم حوى اللفظ من زورٍ ومن كذبِ

إن العروبة ثوبٌ يخدعون به     وهُم يرومون طعن الدين والعربِ

واحسرتاه لقومي غرهم غرم     سعى إليهم بِجلدِ المنقذ الحَدِبِ

حتى إذا أمكنته فُرصةٌ برزت     حُمرُ المخالبِ بين الشكِ والعجبِ

والمدعون هوى الإسلامِ سيفهمُ     مع الأعادي على أبنائه النُجُبِ

يُخادِعون به أو يتقون به     وما له منهم رِفد سِوى الخُطَبِ

فهؤلاء رُبما تكلم الواحد منهم باسم الإسلام، وربما وضع اسم الله في ضمن كلامه، وربما تكلم عن الدين، ولكن حقيقته أنه يبث سموم الغرب في بلاد المسلمين، ويحمل أفكاراً غريبة عن هذه البلاد، فهؤلاء لا شك أنهم منسلخون عن هذه الأمة وعن روحها وجسمها وتاريخها، ولكنهم لا يستطيعون أن يجاهروا بمذهبهم هذا، ولا بموقفهم، بل يتمسحون بالإسلام تقيةً أو مداراةً أو مداهنة، وربما يجدون من يصدقهم في ذلك.

طائفة الأمل لهذه الأمة

أما الفئة الرابعة، وهم الأمل المرجو بعد الله عز وجل في إنقاذ هذه الأمة مما تعيشه، فهم أولئك الذين حققوا جزءاً كبيراً من انتسابهم لهذا الدين، من أهل العلم والفقه والإصلاح والدعوة إلى الله عز وجل، وهم بحمد الله كثير، وفيهم خيرٌ كثير لهذه الأمة، هؤلاء هم الذين يرجى أن يكتب الله تعالى على أيديهم إنقاذ هذه الأمة مما تعيش فيه، وهم الذين يرجى أن يكتب الله على أيديهم أن يُحيوا تلك الطوائف من المسلمين الذين لم يحققوا انتسابهم لهذا الدين، وهم الذين بإذن الله تعالى ينفخون روح الإيمان والأمل والعمل في هذه الأمة، وقد تحدث عنهم واحد منهم، فقال يصف الصورة المثالية لهم:

قُلوبهم طهرٌ يفيضُ على الورى     وأيديهم تأسو جِراحَ الخوافقِ

هُم السلسل الصافى على كل مؤمنٍ     وفى حومة الهيجاءِ نار الصواعقِ

هُم الحلمُ الريان في وقدة الظما     وليس على الآفاقِ طيفُُ لبارقِ

هُم الأملُ المرجو إن خاب مأمل     وأوهنَ بعد الشوط صبر السوابقِ

كأني أراهم والدُنا ليست الدنا     صلاحاً ونور الله ملء المشارقِ

أقاموا عمود الدين من بعد صدعه      وأعلوا لواء الحقِ فوق الخلائقِ<

فمن هؤلاء المسلمين من يكون يائساً قد انقطعت حباله، فهو لا يفتأ يردد ليل نهار الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان غربة هذا الدين، وأنه بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، أو تلك الأحاديث التي تتكلم عن العزلة واعتزال الناس والبعد عنهم، وربما قال أحدهم: هذا أوان قوله صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك} فإذا سمع هذا المسلم اليائس القانط أخباراً عن المنكرات التي تقع هنا أو هناك، أو المصائب التي تنـزل بالمسلمين؛ فإنه يكتفي بأن يحوقل أو يحسبل أو يسترجع، ولا يتعدى أمره ذاك.

ولاشك أن ذكر الله تعالى مشروع في كل حال، فـ(لا حول ولا قوه إلا بالله) هي من أعظم الأسلحة التي يستعصم بها المسلم في وجه اليأس والقنوط، فإنه حين يقول: (لا حول ولا قوه إلا بالله) لا يردد كلاماً فحسب، بل هو يتلو دعاءً من كنـز تحت العرش، يدله على أنه ينبغي أن يعتصم بالله عز وجل، ويستمد القوة من الله تعالى في مواجهة الواقع وتغييره إلى الأحسن، كما أنه ينبغي أن يدرك أن التحول من واقع سيء كالمعصية والفجور والإثم، إلى واقع حسن بالطاعة والبر والإيمان، لا يكون إلا بعون الله تعالى ونصره وتأييده.

فهذه طائفة من المسلمين تعيش اليأس والقنوط.

وإلى جوار الطائفة الأولى هناك طائفة أخرى ممن انصرف الواحد منهم إلى دنياه، وأغرق في همومه الشخصية، فكل ما يحلم به هذا الإنسان وما يعنيه، هو أن تنفق تجارته، أو أن ترتفع رتبته، أو أن يزيد مرتبه، أما أن يكون همه أن ينفع المسلمين بجاهٍ أو مالٍ أو غير ذلك فهذا بعيد، وكل ما قد يردده على أحسن الأحوال أن يقول: أنا ربُ الإبل وللبيت ربٌ يحميه، إذاً لم يعد من همّ هذا الإنسان قضية الإسلام والمسلمين، أو تقديم نفعٍ لهم، وإنما كل همّه لا يتعدى مصالحه الشخصية، وهمومه الذاتية.

وهؤلاء قد يكون الواحد منهم مُصلياً، وقد يكون صَائماً، وقد يسمى بالحاج فلان كما نرى في كثير من البلدان، وربما كان الدين عند أحدهم لا يعدو أن يكون حرزاً يعلقه على رقبته، أو يضعه في وسادته، أو حضور مأتمٍ، أو حضور مولدٍ، كما هو موجود في كثير من البلاد، ويعتقد أن الدين يتوقف ويقتصر عند هذا الحد، ولا شك أن هؤلاء يشكلون الأغلبية الساحقة من المسلمين، ممن هم مسلمون بالانتساب والانتماء، وربما كان أحدهم مصلياً، لكن لا تعتمل في قلوبهم هموم الإسلام، ولا تتحرق نفوسهم لقضايا المسلمين، بل أحدهم يكتفي بأقل قدر يضمن له اسم الإسلام، وربما قصّر في أقل هذا القدر أيضاً، فربما لم يصل الصلوات الخمس، أو لم يصلها في المسجد، ولو كان يقول إنه محب لله عز وجل.

حدثني أحد الإخوة الأحباب، وقد اتصل بي فكان من ضمن حديثه أن قال: إن علاقتي بالله عز وجل علاقة قوية جداً، فقلتُ له: الحمد لله رب العالمين وهذه بشارة، وخلال حديثه قال: إنه قد يصلي بعض الصلوات، وقد تفوته فروض أخرى، فقلت: تفوتك في المسجد أو تفوتك بالكلية؟ قال: لا قد أُفوِّتُ الوقت بالكلية فلا أصلي، فقلت: كيف تكون علاقتك بالله تعالى جيدة، ويفوتك وقت أو أوقات!!

يا أخي.. خُذ مقاييس البشر الدنيوية، فعندما يكون هناك علاقة حب بين إنسان وإنسان آخر، فيطلب هذا المحبوب من حبيبه أن يكون في وقتٍ معين في مكان معين، فإنه يتحمل في سبيل طاعة محبوبه آلام الحر والبرد، وبعد المسافات والهجير، وغير ذلك، فكيف بمن يحب الله تعالى كيف لا يتحمل في سبيله؟! أليس الله تعالى يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]؟

فهذه هي آية المحنة التي يمتحن الله تعالى ويبتلى بها من يدَّعون محبته؛ ليتحقق لهم هذا الحب من خلال الأعمال التي يقومون بها لتصديق هذا الحب.

ومما يذكر في الأقاصيص: أن رجلاً من أهل مصر في زمن غابر كان يجلس في المجالس، ويقف في المساجد، ويعلن ليل نهار، أنه يفنى في حب ملك مصر، يموت في حبه ويهلك في سبيله، وكانت هذه الدعوة قد ملأت فمه، فهو يرددها صباح ومساء، فترامى خبر هذا الإنسان إلى ملك مصر فدعاه، وقال له: أنت الذي تدعي أنك تحبني؟ قال له: نعم، قال: هل حبك حقيقة أم ادعاء؟ قال لا، هذا الحب حقيقة، قال: إذاً أنا سأخيرك بين أمرين إن كنت تحبني، إما أن تُغادر هذا البلد الذي أسكن فيه وهو مصر، وإما أن أقتلك، فاختر أحدهما؟ فقال: لا، بل أغادر هذا البلد.

قال: فاخرج من عندي فلما خرج أمر السلطان الحارس أن يقتله بسيفه، وهنا قام الحارس وثار، وقال: لماذا أقتل رجلاً في غير جرم؟ فقال: لا، بل أجرم في حقي، لأنه يدعي حبي وهو كاذب؟ قال كيف عرفت أنه كاذب؟ قال: إنه لو كان محباً صادقاً لي، لرضي أن يُقتل على أن يفارقني، ويغادر بلدي، ولاستحلى واستلذ الصعب من أجلي، ولو وافق على أن أقتله لنـزلت عن عرشي ووضعته مكاني، وسلمت له مقاليد الأمور!!

فهكذا مقاييس البشر، فما بالك بمن يدَّعي محبة الله تعالى، فلابد أن يحقق هذا الحب بالعمل الصالح الذي يقوم به.

إذاً هذه طائفة أخرى من المسلمين، ممن يلتزمون بقدر من الدين ويفرحون بالانتساب إليه، وقد يؤذيهم أن ينال أحدٌ دينهم بسوء؛ لكنهم لا يقدمون لدينهم عملاً يذكر.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع