هذا الحبيب يا محب 57


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى [سرية زيد بن حارثة إلى القردة] وقد اختلف في ضبط هذه الكلمة، وهي عبارة عن ماء يسقي منه العرب.

والسرية: جمع سرايا، وهي مجموعة من المؤمنين ينتدبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمر عليهم أميراً يقودهم إلى غزو قرية من القرى أو بلد من البلدان، أو اعتراض قافلة من القوافل.

هذه السرية كانت ضمن أحداث السنة الثالثة للهجرة، فالسنة الأولى من الهجرة لم يكن فيها غزو ولا جهاد، وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة والمؤمنون معه ثلاث عشرة سنة ولم يأذن لهم بالقتال، وما أنزل الله في كتابه آيات الجهاد، ولا أمرهم بأن يقتلوا أو يغتالوا أو يحاربوا أحداً؛ لعلم الله تعالى بضعفهم وقلة قدرتهم على القتال، فكانوا يؤذون ويضربون ويسحبون في الرمضاء في أيام الصيف، ويعيرون ويركلون والرسول يقول لهم اصبروا: ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة )، كيف وقد كان يؤذى هو صلى الله عليه وسلم وهو يصلي حول الكعبة!

لقد أتى عقبة بن أبي معيط -عليه لعائن الله- بسلا جزور ذبح عند الصفا يتقاطر دماً، فلما سجد صلى الله عليه وسلم وضع عقبة السلا بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، والمشركون حول الكعبة يضحكون ويتمرغون على الأرض.. وتأتي الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت خديجة بنت خويلد فتأخذ السلا وتبعده عن ظهر أبيها، وتنالهم سباً وشتماً، ولم يردوا عليها؛ لأنها كانت جويرية صغيرة في السادسة أو السابعة من عمرها.

إذاً: لم يأذن الله تعالى لهم في القتال حتى هاجروا إلى المدينة، وكانت تسمى يثرب في الجاهلية، وعندما حل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلعت فيها أنواره ولاحت في الأفق سميت بالمدينة النبوية، ثم حرفها العوام والجهال فقالوا: المدينة المنورة، وهي المدينة النبوية نسبة إلى النبوة المحمدية.

فنزل صلى الله عليه وسلم بها وتقدمه أصحابه، وانتشر الإسلام فيها بصورة عجيبة، فما من بيت فيها إلا وفيه من يؤمن بالله ولقائه، وما إن نزل بالمدينة صلى الله عليه وسلم بدار بني عوف بن عامر بقباء وقضى بينهم سبعة أيام إلى عشرة أيام حتى بنا مسجد قباء، ولا تعجبوا! وجمعهم على الكتاب والحكمة، ثم أُذن له بالدخول إلى المدينة، فدخلها وهو على ناقته القصواء، وأهل البيوتات يستقبلونه في طريقه فيقولون: انزل رسول الله في خير منزل! يريدون أن ينيخوا ناقته فيقول: ( دعوها فإنها مأمورة )، حتى وصلت إلى الروضة، وكانت عبارة عن خرائب وقبور جاهلية وفيها بعض النخيل، فلما وصلتها بركت الناقة، وأمامها بيت الصاحب الذي فاز بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده وهو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

وإليكم العجيبة: نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب الأنصاري بالغرفة السفلية، وكان أبو أيوب وأهله في الغرفة العلوية، فما أطاق أبو أيوب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم تحته وهو فوقه، فجاء يعتذر ويقول: يا رسول الله! اطلع إلى العلية ونحن ننزل إلى السفلية، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الرجل وإيمانه وصدقه، فامتنع عن ذلك وعلل للامتناع بأن المؤمنين يفدون عليه ويدخلون في كل ساعة، يسألون ويسلمون، فكونه في الأسفل خير وأوسع وأرحم، فطابت نفس أبي أيوب الأنصاري .

وبنى صلى الله عليه وسلم المسجد وكان -والله- يحمل اللبن على كتفه، وهو ينشد: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة، وتم بناء المسجد الخالد الذي به روضة من رياض الجنة، ولا تسألني كيف ذلك، فعقولنا قاصرة -والله- لا تدرك ذلك، فما عليك إلا أن تؤمن أنها روضة من رياض الجنة.

المفاضلة بين مكة والمدينة وأقوال أهل العلم في ذلك

هنا لطيفة أقدمها للحجاج والزائرين ما سمعوها ولا عثروا عليها في كتاب، وهي: أن الله تعالى قال في سورة الكهف من خاتمتها في أهل الجنة: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108]، فأهل الجنة يعيشون ملايين السنين لا ترغب نفس أحدهم أن تتحول عما هي فيه، ونحن الذي يعيش منا في القاهرة يود لو رأى دمشق، والذي يعيش في دمشق آه لو زار صنعاء، والذي في باريس يقول: آه ليته عرف برلين.. أما أهل الجنة فلا يبغون عنها حولاً.

إذاً: هذه روضة من الجنة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمن يا عبد الله ولا تسأل؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، ووالله لقد رأينا المؤمنين وهم يغادرون المدينة يذرفون الدموع، ويبكون بأعلى أصواتهم حنيناً إلى المدينة وألماً لفراقها، وعرفنا رجالاً ونساء لو تعطيهم ما شئت أن تعطيهم في الشرق والغرب على أن يتركوا المدينة والله ما تركوها، ولو توجتهم ملوكاً، أو نصبتهم وزراء على أن يفعلوا ذلك ما فعلوه!!

ما هذه الجاذبية؟ إنها روضة من رياض الجنة، وأهل الجنة لا يبغون عنها حولاً، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108].

اختلف العلماء في هل المدينة أفضل أم مكة؟ فمالك رحمه الله ومن وافقه من رجاله وتلامذته ومشايخه يقول: المدينة أفضل. والجمهور كـأحمد والشافعي وأبي حنيفة يقولون: مكة أفضل. ونحن ماذا عسانا أن نقول؟ نقول كما قالوا ولا نجزم.

ولدينا لطيفة فتح الله بها علينا نقول فيها: يا عبد الله! ويا أمة الله! إن كنت قادراً على العبادة والصيام والقيام فانزل بمكة، فإن العبادة فيها تضاعف أضعافاً مضاعفة، فالصلاة الواحدة بمائة ألف صلاة، فمتى كنت قادراً على العبادة من الصيام والقيام فمكة أفضل لك، ويوم أن تعجز عن العبادة لكبر سنك أو ضعف قدرتك أو عجزك فتعال إلى المدينة، فالمدينة خير لك؛ وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أكون له شاهداً أو شافعاً يوم القيامة ).

وهذا عمر بن الخطاب تسمعه حفصة ابنته -أمنا معشر المؤمنين- يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك! فتعجب حفصة وتقول: أبتاه كيف تموت في المدينة وتستشهد! يعني: ميادين الجهاد خارج الجزيرة، في حدود فارس والروم، فكيف تحصل على الشهادة وتموت بالمدينة، فيقول لها: اسكتي يا حفصة ! إن فضل الله واسع وعظيم، واستجاب الله لـعمر فقتله أبو لؤلؤة المجوسي بعد أن طعنه في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكع والأمة من ورائه، فاستشهد في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أين ما فهمت حفصة رضي الله عنها؟! لقد استجاب الله لعبده وأعطاه سؤاله، وأين دفن عمر ؟ في حجرة الصديقة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الله له بين الشهادة والموت في مدينة رسول الله، أبعد هذا تسألني عن فضل المدينة؟ إن فضلها عظيم، ومع هذا نصرح من أربعين سنة وزيادة ونقول: أيها المواطنون! من لم يستطع منكم أن يستقيم في المدينة فليرحل عنها، ولينزل حيث يفجر أو يظلم أو يفسق أو يخرج عن طاعة الله، أما أن يفعل ذلك في هذا البلد، فلا فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( المدينة حرام من عائر إلى ثور ) فأحد في الحرم وثور جبل وراءه، وعير هذا الجبل الأسود، إذا خرجت يلوح لك يكتنفها جنوباً وغرباً و( المدينة حرام من عائر إلى ثور من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، فالذي لا يستطيع أن يستقيم فيها عليه أن يرحل، وينزل في بلد آخر، والمدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر والواقع شاهد، فكم من خبيث نفته.

إذاً: من كان قادراً على الصيام والقيام وفعل الخيرات والصالحات فعليه بمكة، ومن شاخ وكبر أو مرض وعجز فعليه بالمدينة ليموت بها؛ لأن من مات بها فاز بأعظم جائزة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أكون له شاهداً أو شفيعاً يوم القيامة )، وهذه ضمانة لدخول الجنة.

إذاً: بعد هذا التجوال عرفنا المدينة، وعرفنا أن السنة الأولى من الهجرة لم يكن فيها جهاد، والسنة الثانية كانت غزوة بدر، ويا لها من غزاة، التقى فيها ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً جاهدوا وقاتلوا تسعمائة بطل وصنديد من صناديد قريش وهزموهم، ومن أراد أن يعرف ذلك فليقرأ سورة الأنفال ففيها البيان والتفصيل، ولما انتهت غزوة بدر خاف المشركون صولة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وبدأت الحرب ..

ترجمة قائد السرية زيد بن حارثة وقصة زواجه من زينب بنت جحش

قال: [سرية زيد بن حارثة إلى القردة] وهو زيد بن حارثة الكلبي نسبة إلى قبيلة كلب، وشأنه عجيب، فقد سبي أيام كان العرب يغزو بعضهم بعضاً، والقوي يأكل الضعيف، وبيع في مكة كعبد وهو عربي قح، فاشتراه ابن أخي خديجة ووهبه لها يخدمها، فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فوهبته زيداً ، فكان زيد عبد محمد صلى الله عليه وسلم، وتمضي الأيام ويجيء أبوه وعمه للحج أو العمرة، فيجدان زيداً في مكة ويعرفانه ويسألانه: أنت زيد بن حارثة ؟ فيقول: نعم، ويخبرانه بأنهما أبوه وعمه. ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يمنحهم ولدهم ويرده عليهم بالمال أو بغيره، فقال لهم الحبيب صلى الله عليه وسلم: نخيره فإن اختارني عليكما لا أفرط فيه ولا أسلمه لكم، وإن اختاركما فهو لكما .. وهذه هي العدالة. ثم قال: يا زيد ! هذا عمك وأبوك وأنا من تعرف، فهل تذهب معهما أو تبقى معي؟ فقال: لا أستبدل بك غيرك! فقال إذاً: اذهبوا واتركوه، ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسواق مكة، يعلن أن زيد بن حارثة أصبح ابناً لمحمد قبل النبوة، فتبناه وأصبح يعرف بـزيد بن محمد الذي آثره على عمه وأبيه، وكان مكافأة رسول الله له بأن تبناه، والتبني كان شائعاً ذائعاً عند العرب يومئذ.

وسبحان الله تمضي الأيام وينبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأتي الرسالة ويبقى زيد يعرف بابن محمد، وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهاجر زيد ، وأراد الله تعالى أن يبطل عادة التبني الشائعة في بلاد العرب، فماذا يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

تلقى الأوامر والتعاليم من ذي العرش، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب زينب بنت عمته أخت عبد الله بن جحش وهي ثيب وليست ببكر، فقد تزوجت في مكة وتطلقت في الجاهلية، فلما خطبها -وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من البكر في خدرها بشهادة أصحابه- كلمها في خفاء بصوت هادئ، وما استطاع أن يفصح من شدة حيائه.

وبين قوسين: (كيف بناتكم وأبناؤكم اليوم الذين يجلسون أمام التلفاز والفيديو يشاهدون العواهر يرقصن ويغنين، هل بقي في هؤلاء الأولاد حياء؟)

آه! يا أصحاب الصحون الهوائية التي تجلب كل ألوان الخبث والشر والفساد، كيف نساؤكم وأولادكم؟ امرأة وفي هذه الأذن تقول لي بالتليفون: ماذا نصنع يا شيخ؟ ابني يفجر بأخته، وآخر يقول: ولدي يفجر بأخيه.. كيف تعلموا هذا وعرفوه؟ هل كان يخطر ببالهم أو يعرض لهم خيالاً في خيالاتهم؟ والله ما كان، ولكنا طردنا الملائكة من بيوتنا وأبحناها للشياطين فنزلوها، وأتينا بعوامل وأسباب الخبث، وأصبحت البنت تشاهد الرجل يقبل المرأة ويضمها إليه وهي تكشف عن سوأتها، فتعلم البنات والبنون السوء والفحش، وما زلنا سكارى لا نفقه ولا نعلم ما نقول.

والله لو كان هناك إيمان حق، وسمع أحد بهذه الحوادث لذهب الآن إلى بيته ورمى بذلك الدش، وأخرج ذلك التلفاز من بيته، ولكن إيماننا هابط إلى حد الضياع، فلا يزن خمسة في المائة، فلا تجد من يستطيع ذلك.. أين الحياء و( الحياء من الإيمان )!

ففهمت زينب أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطبها لنفسه، ففرحت وهشت، وكيف لا وستصبح غداً أم المؤمنين؟! وما هي إلا سويعات حتى تبين لها أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطبها لابنه بالتبني زيد بن حارثة ، فقالت: لن يكون هذا. فهي شريفة من سادات النساء كيف تتزوج مولى من الموالي؟ وأخوها البطل عبد الله بن جحش أول من قاد سرية في الإسلام وقف إلى جنبها وقال: شرفنا قبل كل شيء، أيتحدث الناس ويقولون: زينب بنت جحش المخزومية تزوجها مولى من موالي الناس؟ لن يكون هذا.

إذاً: ماذا يصنع رسول الله وهو مأمور لحكمة عالية؟ ما هي إلا ساعات ونزل البيان الإلهي الآتي: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي: لا زينب ولا أخوها إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36] ووالله ما إن نزلت الآية وتليت في البيوتات حتى اطرحت زينب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوجها من شاء، وفعل ذلك أخوها عبد الله ، وتزوج زيد بن حارثة مولى رسول الله زينب بنت جحش المخزومية القرشية.

هل بقي للشرف والمكانة الاجتماعية قيمة؟ إذاً أراد الله أن يبطلها!.

ولما حرمت الخمر كذلك -والله- جرت أزقة المدينة بها؛ لأنهم كانوا يدخرونها ويعتّقونها بالسنة والسنتين في القلال والقرب، فلما حرّمت كان المؤمن يأخذ القربة ويدفقها عند الباب، ويأتي بالبرميل ويدفقه، حتى جرت أزقة المدينة بالخمر. هذا هو الإيمان!!

إذاً: تزوج زيد زينب ولم يطق ذلك فهي شريفة وهو مولى، ولم يسعد بها، وكان يأتي رسول الله يشتكي قائلاً: يا رسول الله! ما أطيق البقاء معها، تراني دونها وهي أعلى مني! فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله يا زيد واصبر لحكم الله وقضائه، ثم نزل قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37] تدبير من هذا؟ إنه تدبير العليم الحكيم.

فطلقها زيد برضاه؛ لأنه ما طاق البقاء معها لشعوره بالضعف وقوتها، فلما طلقها زوّجها الله جل جلاله من فوق سبع سماوات محمداً رسوله ونبيه، وكانت رضي الله عنها تفاخر نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك وتقول: (ما منكن إلا وتولى عقدها أبوها أو أخوها، وتولى عقد نكاحي ربي جل جلاله وعظم سلطانه).

ومن ثم بطل التبني، وأصبح المتبنى أخاً في الإسلام وليس بابن أبداً، وزوجته يتزوجها من كفله ولا حرج، وفي هذا قرآن كريم من سورة الأحزاب، يقول تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:6] إلى آخر الآيات.

والشاهد عندنا: انظر كيف جزى الله زيداً ، وكيف جزى زينب ، فالمعروف لا يضيع عند الله!

وإياك أن تفهم أنك تصنع معروفاً لوجه الله ثم هو يهملك أو يفقدك الأجر، مستحيل! فالمعروف لا يضيع عند الله!

زيد لما صبر وتحمل جزاه الله بميزة وفضيلة وشرف وهو أنه ذُكر باسمه العلم في القرآن الكريم، ولم يذكر صحابي آخر غيره، فلم يذكر عمر ولا الصديق ولا علي ولا الحسن ولا الحسين ، قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا [الأحزاب:37] فأي شرف أعظم من هذا الشرف؟ والسبب أنه كان كبش فداء، وقدم نفسه كالضحية من أجل أن يُحق الله الحق، فجزاه الله بأن ذكره باسمه العلم في كتابه، والنساء والرجال من ألف وأربعمائة سنة وإلى قيام الساعة وهم ينطقون بـزيد .

و زينب شرّفها لا بأنها أصبحت أم المؤمنين فقط، ولكنّ الله تولى عقد نكاحها بنفسه، فما هي إلا ساعة والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو أهل المسجد إلى الطعام، طعام عرس زينب رضي الله عنها.

إذاً: عرفنا من يكون زيد بن حارثة ، فهو الذي أعطاه الرسول القيادة في هذه الغزوة.

سبب تسيير النبي صلى الله عليه وسلم سرية زيد بن حارثة إلى القردة

قال: [لما هزمت قريش في بدر] وقتل سبعون صنديداً وأسر من رجالاتها مثل ذلك [وعرفت أنها غير قادرة على حماية قوافلها التجارية عبر طريق قوافلها القديم] لأنهم كانوا يأتون مع الساحل من الشام إلى مكة [والذي كان يمر قريباً من المدينة إلى مكة: غيّرت طريقها الأول] إنها السياسة، فقد أصبح هذا الطريق مشبوه، قد يعترضهم فيه محمد ورجاله آخذين القوافل بما فيها. إذاً: غيروا طريقاً آخر.

[وصارت تسلك طريق العراق إلى الشام، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم] كيف بلغه؟ إما بالوحي والإعلام الإلهي، أو برجالات العرب [كما بلغه أن عيراً لقريش تحمل كميات هائلة من الفضة] قناطير من الفضة تحملها قافلة قريش [وأنها سلكت طرق العراق] لتبتعد عن ساحة المدينة [انتدب لها سرية من أصحابه بقيادة زيد بن حارثة حب الحبيب صلى الله عليه وسلم ومولاه، فسار زيد مع أفراد سريته حتى انتهوا إلى ماء يقال له: (القردة) وعليه عير قريش] نازلة حول الماء تشرب إبلها ورجالها [فهرب أهل القافلة] شردوا؛ لأن من جاءهم مؤمن معه الله، فانهزموا بمجرد أن عرفوا [وهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وآخرون] وأبو سفيان رضي الله عنه أسلم بعد ذلك، ولكن كان رئيس مكة وقائدها [وغنم زيد مع رجاله القافلة بما فيها] قناطير الفضة، والفضة غالية [وأسروا معها الدليل] الذي كان يقود القافلة ويدلها على الطريق الصحراوية [وهو فرات بن حبان من بني بكر بن وائل استأجره أبو سفيان ليدلهم على مسالك الطريق الجديد لقوافلهم] أي: أسروا مع الفضة خريتاً جغرافياً.

قال: [ولما وصل زيد ] المدينة [سلم الغنائم إلى النبي صلى الله عليه وسلم] وهل أخذ منها زنبيلاً أو كيساً أو غرارة؟ حاشاه، فقد ارتفعوا عن ذلك، ولو كانت عندنا لأخذوا ربعها عند الجمارك [ومنها الأسير فرات بن حبان الوائلي ] فأعطى الفضة والأسير للنبي صلى الله عليه وسلم [وأسلم فرات وحسن إسلامه] فهنيئاً له، أُخذ أسيراً فأصبح أميراً بدخوله في رحمة الله رضي الله عنه وأرضاه [وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم بعد أن خمّسها] لأن التخميس كان بعد غزوة بدر، بعد أن اضطرب الصحابة في قسمة الغنائم اضطراباً كبيراً، ثم نزل القرآن يبين ويفصل ذلك، قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41] وأربعة أخماس للمجاهدين، خمس لله وللرسول وللفقراء والمساكين واليتامى، والأربعة أخماس للمجاهدين [فكان الخمس عشرين ألف درهم] إذاً مجموعها مائة ألف درهم [وقال في هذه الغزوة المظفرة حسان ] ابن ثابت شاعر الحبيب صلى الله عليه وسلم [شعراً هذه أبيات منه:

دعوا فلجات الشام قد حال دونها جلاد كأفواه المخاض الأوارك

بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم وأنصاره حقاً وأيدي الملائك

إذ سلكت للغور من بطن عالج فقولوا لها: ليس الطريق هنالك].

هنا لطيفة أقدمها للحجاج والزائرين ما سمعوها ولا عثروا عليها في كتاب، وهي: أن الله تعالى قال في سورة الكهف من خاتمتها في أهل الجنة: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108]، فأهل الجنة يعيشون ملايين السنين لا ترغب نفس أحدهم أن تتحول عما هي فيه، ونحن الذي يعيش منا في القاهرة يود لو رأى دمشق، والذي يعيش في دمشق آه لو زار صنعاء، والذي في باريس يقول: آه ليته عرف برلين.. أما أهل الجنة فلا يبغون عنها حولاً.

إذاً: هذه روضة من الجنة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمن يا عبد الله ولا تسأل؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، ووالله لقد رأينا المؤمنين وهم يغادرون المدينة يذرفون الدموع، ويبكون بأعلى أصواتهم حنيناً إلى المدينة وألماً لفراقها، وعرفنا رجالاً ونساء لو تعطيهم ما شئت أن تعطيهم في الشرق والغرب على أن يتركوا المدينة والله ما تركوها، ولو توجتهم ملوكاً، أو نصبتهم وزراء على أن يفعلوا ذلك ما فعلوه!!

ما هذه الجاذبية؟ إنها روضة من رياض الجنة، وأهل الجنة لا يبغون عنها حولاً، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108].

اختلف العلماء في هل المدينة أفضل أم مكة؟ فمالك رحمه الله ومن وافقه من رجاله وتلامذته ومشايخه يقول: المدينة أفضل. والجمهور كـأحمد والشافعي وأبي حنيفة يقولون: مكة أفضل. ونحن ماذا عسانا أن نقول؟ نقول كما قالوا ولا نجزم.

ولدينا لطيفة فتح الله بها علينا نقول فيها: يا عبد الله! ويا أمة الله! إن كنت قادراً على العبادة والصيام والقيام فانزل بمكة، فإن العبادة فيها تضاعف أضعافاً مضاعفة، فالصلاة الواحدة بمائة ألف صلاة، فمتى كنت قادراً على العبادة من الصيام والقيام فمكة أفضل لك، ويوم أن تعجز عن العبادة لكبر سنك أو ضعف قدرتك أو عجزك فتعال إلى المدينة، فالمدينة خير لك؛ وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أكون له شاهداً أو شافعاً يوم القيامة ).

وهذا عمر بن الخطاب تسمعه حفصة ابنته -أمنا معشر المؤمنين- يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك! فتعجب حفصة وتقول: أبتاه كيف تموت في المدينة وتستشهد! يعني: ميادين الجهاد خارج الجزيرة، في حدود فارس والروم، فكيف تحصل على الشهادة وتموت بالمدينة، فيقول لها: اسكتي يا حفصة ! إن فضل الله واسع وعظيم، واستجاب الله لـعمر فقتله أبو لؤلؤة المجوسي بعد أن طعنه في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكع والأمة من ورائه، فاستشهد في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أين ما فهمت حفصة رضي الله عنها؟! لقد استجاب الله لعبده وأعطاه سؤاله، وأين دفن عمر ؟ في حجرة الصديقة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الله له بين الشهادة والموت في مدينة رسول الله، أبعد هذا تسألني عن فضل المدينة؟ إن فضلها عظيم، ومع هذا نصرح من أربعين سنة وزيادة ونقول: أيها المواطنون! من لم يستطع منكم أن يستقيم في المدينة فليرحل عنها، ولينزل حيث يفجر أو يظلم أو يفسق أو يخرج عن طاعة الله، أما أن يفعل ذلك في هذا البلد، فلا فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( المدينة حرام من عائر إلى ثور ) فأحد في الحرم وثور جبل وراءه، وعير هذا الجبل الأسود، إذا خرجت يلوح لك يكتنفها جنوباً وغرباً و( المدينة حرام من عائر إلى ثور من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، فالذي لا يستطيع أن يستقيم فيها عليه أن يرحل، وينزل في بلد آخر، والمدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر والواقع شاهد، فكم من خبيث نفته.

إذاً: من كان قادراً على الصيام والقيام وفعل الخيرات والصالحات فعليه بمكة، ومن شاخ وكبر أو مرض وعجز فعليه بالمدينة ليموت بها؛ لأن من مات بها فاز بأعظم جائزة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أكون له شاهداً أو شفيعاً يوم القيامة )، وهذه ضمانة لدخول الجنة.

إذاً: بعد هذا التجوال عرفنا المدينة، وعرفنا أن السنة الأولى من الهجرة لم يكن فيها جهاد، والسنة الثانية كانت غزوة بدر، ويا لها من غزاة، التقى فيها ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً جاهدوا وقاتلوا تسعمائة بطل وصنديد من صناديد قريش وهزموهم، ومن أراد أن يعرف ذلك فليقرأ سورة الأنفال ففيها البيان والتفصيل، ولما انتهت غزوة بدر خاف المشركون صولة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وبدأت الحرب ..