هذا الحبيب يا محب 46


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس عند مقطوعة من ثاني غزواته صلى الله عليه وسلم وهي [غزوة بواط] وبواط: مكان قريب من ينبع.

قال: [وبعد عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة (ودَّان) أو (الأبواء)] والأبواء منطقة قريبة من رابغ، وبها آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت قادمة من عند أخوال النبي صلى الله عليه وسلم فتوفيت بها، وقد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في أن يسمح له بزيارتها فأذن له، وطلب منه أن يأذن له في الدعاء والاستغفار لها فلم يأذن له، فبكى صلى الله عليه وسلم، ويشهد لهذا قول الله عز وجل من سورة التوبة: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، وعليه فلا يجوز الاستغفار لمن مات على الكفر والشرك أبداً.

قال:[في ربيع الأول من هذه السنة الثانية من هجرته المباركة] من مكة إلى المدينة [استخلف على المدينة النبوية السائب بن عثمان بن مظعون ] وعثمان بن مظعون أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، وأول من مات من المهاجرين بالمدينة [أو سعد بن معاذ ] اختلفت الروايات في أيهما استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة وخرج غازياً [وخرج في نفس شهر ربيع الأول في مائتي راكب، يريد عيراً لقريش عليها مائة رجل من بينهم أمية بن خلف ] الطاغية الكبير [وتعداد أبعرتها يبلغ ألفين وخمسمائة بعير] كانت تحمل البضائع [فسار صلى الله عليه وسلم ولواؤه] أي: رايته [مع سعد بن أبي وقاص ] وهو من سادات المهاجرين رضي الله عنهم [حتى بلغ بواط من ناحية جبل رضوى جهة ينبع النخل] وجبل رضوى موجود إلى الآن، وتغنى به الشعراء [فلبث ببواط بقية شهر ربيع الثاني، وعاد في أوائل جمادى الأولى إلى المدينة دار هجرته المباركة، ولم يلق كيداً] لا قتال ولا غيره [وذلك لعدم اصطدامه بعير قريش حيث فاتت] مرت وفاتت [ونجت بتدبير الله عز وجل وإرادته، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن].

خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب بنية أن يأخذوا هذه الغنائم مقابل ما أخذت قريش من أموالهم وطردتهم، فلهم حق في ذلك، ولكن لم يشأ الله، فالقافلة مضت قبل أن يخرجوا إلى الطريق وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

قال: [وحسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم اجتهدوا باذلين الأسباب، وليس عليهم إلا ذلك] حسبهم أنهم بذلوا جهدهم وطاقتهم، وهذه أسباب لا بد منها، ولكن لم يشأ الله أن يظفروا بهذه الغنيمة [أما بلوغ الأرب] وقضاء الحاجة [والحصول على المطلوب فهو لله عز وجل]. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مائتا مؤمن مهاجر وأنصاري أرادوا شيئاً لكن الله لم يرده، وقد أدوا الأسباب كاملة ولم يشأ الله ذلك.

قال: [وهو يعطي ويمنع؛ لحكم عالية يجب التسليم له في ذلك والرضا بما قضى] فما تململوا ولا تضجروا ولا سخطوا ولا قالوا كيف هذا ولا .. وهذا هو تفويض الأمر إلى الله، فالسبب فعلوه والنجاح على الله عز وجل، وكونه تعالى لم يمكنهم فهو لحكمة عالية، فهذا تدبيره في خلقه، فلم يبق علينا إلا أن نسلم لله في حكمه، وأن نرضى بقضائه وتطمئن نفوسنا بذلك، فلا حزن ولا غم ولا هم.

قال: [وثالثتها: غزوة العشيرة] وفي لفظ العسيرة على خلاف، فتصح بالشين والسين [في آخر جمادى الأولى، وبعد عودته في أول الشهر من غزوة بواط بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أكثر من عير لقريش -أي: قوافل تجارية- ذاهبة إلى الشام، فعزم على السير إليها لعله يظفر ببعضها] بلغه من طريق الأخبار لا الإعلام -فالناس يغدون ويروحون- أن أكثر من عير لقريش في طريقها إلى الشام، فأراد أن يتقابل معها ويسلبها أهلها [فخرج صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد ] وأبو سلمة هو شهيد أحد، وهو الذي تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم امرأته أم سلمة بعد استشهاده، وأم سلمة هي التي جلست تبكي عاماً كاملاً بعد أن منعها قومها من الهجرة مع زوجها وأخذوا ولدها، فكانت تخرج إلى الأبطح تبكي حتى يأتي الليل، وهي أمنا الآن رضي الله عنها [وأعطى اللواء عمه حمزة ] ابن عبد المطلب [رضي الله عنه، وسار حتى نزل العشيرة من بطن ينبع] من بطن ينبع النخيل [ولم يلق من عيرات قريش ولا عيراً لفواتها] وكذلك ما تألم ولا تأسف، فهو مأمور بالجهاد، وبلغه أن عيراً أو عيرات خرجت ففاتته فماذا يقول؟ يقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والأجر كامل ثابت لا ينقص منه شيء.

قال: [ولكنه صلى الله عليه وسلم وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة] وهذه فائدة جديدة، فهاتان القبيلتان وادعهم على ألا يتعرضوا له ولرجاله ولا يتعرض لهم ولا لرجالهم ولا لأموالهم.

والموادعة: مصالحة على ألا تؤذوننا ولا نؤذيكم، فاقتضت هذا المصلحة ذلك وهم كافرون مشركون، وهو تمهيد عظيم للدعوة الإسلامية [فكان في ذلك خير للإسلام والمسلمين. فأقام بالمنطقة بقية جمادى الأولى، وليالي من جمادى الآخرة، وعاد إلى المدينة ولم يلق كيداً من أحد، والحمد لله رب العالمين].

قال: [ورابعتها] رابع الغزوات في السنة الثانية من الهجرة [غزوة بدر الأولى] وهناك بدر الأولى وبدر الآخرة وبدر الكبرى في الوسط، وأصل بدر ماء بئر لرجل يقال له بدر.

قال: [إن سبب هذه الغزوة: هو أن كرز بن جابر الفهري أغار على سرح المدينة -أي: ماشيتها من إبل وغنم وبقر-] هذا العفريت يقال له: كرز ، وجد أغنام المدينة ترعى فاستغل الفرصة واستولى عليها نكاية بالمهاجرين والأنصار [وذلك بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة العشيرة ببضعة أيام -من ثلاثة إلى تسعة- فلما أغار كرز على سرح المدينة، خرج الحبيب صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في طلبه لافتكاك الماشية منه] وتخليص ما بيده [فاستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة زيد بن حارثة مولاه] جعله خليفة ينفذ أحكام الله في الناس [وأعطى اللواء] أو الراية [علي بن أبي طالب ] فقد كان ينوع صلى الله عليه وسلم في حمل الراية يوم هذا ويوم هذا بحسب الاستعدادات، ويا ليتنا كنا معهم، وقد خرجوا مرة في غزوة -ستأتي- ما معهم إلا قليل من التمر فأصبح يعطى الرجل تمرة واحدة في أربع وعشرين ساعة، ولو حصل لنا هذا لالتحقنا ببريطانيا وما قبلنا الإسلام، فقولوا الحمد لله على العافية، فلو ابتلينا بعُشر ما ابتلوا به فقط من الجوع والخوف فلا تسأل عن حالنا.

قال: [وسار في طلب كرز حتى بلغ وادياً يقال له: سفوان في ناحية بدر] واد من الأودية يقال له: سفوان في ناحية بدر [وفاته كرز فلم يدركه] أخذ ما أخذ وهرب [فسميت هذه الغزوة بغزوة بدر الأولى، إذ انتهى فيها مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قرب بدر، ووصفت بالأولى؛ لأن بعدها بدراً الكبرى التي نصر الله فيها الرسول والمؤمنين على أبي سفيان والمشركين، وهناك بدر الآخرة، فلذا قيل في هذه: بدر الأولى] إذاً: غزوات بدر ثلاث غزوات: أولى وثانية وثالثة.

قال: [وخامستها] خامسة الغزوات في السنة الثانية من الهجرة[سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة بين مكة والطائف] وعبد الله بن جحش صهر النبي صلى الله عليه وسلم، أخو زينب أم المؤمنين، ولهما قصة جاءت في سورة الأحزاب وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر بأمر من الله أن يخطب زينب القرشية لمولاه زيد ، وكان صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات الحياء ( كان أشد حياء من البكر في خدرها )، فلما خاطبها قبل نزول الحجاب فهمت أنه يخطبها لنفسه، فطارت من الفرح، فقلن لها المؤمنات: أنت غالطة، إنما يخطبك لـزيد مولاه، فقالت: لـزيد ؟ قالوا: نعم. فقالت: لا يكون هذا! شريفة تتزوج مولى من موالي العرب؟ ووقف إلى جنبها أخوها عبد الله هذا وقال: شرفنا! أيتحدث الناس أن فلانة تزوجت مولى؟! ويأبى الله إلا أن يتم ما يريد، فأنزل قوله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

فما إن نزلت الآية وتناقلتها الأفواه وتليت في البيوت حتى اطرحت زينب وأخوها على الأرض، وقالا: افعل يا رسول الله ما تشاء! وبالفعل تزوجت زينب زيد بن حارثة ، وكانت الحياة بينهما غير مستقرة ولا هادئة، بل زيد ما طابت نفسه أن يتزوج شريفة أرفع منه درجة، وتضايق من آلامها، وكان يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! ما أطيق، فيقول له الرسول: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:37]، والرسول خائف أن يزوجه الله إياها، فأنزل الله تعالى قوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]؛ لأن الله أراد أن يهدم صورة من صور الجاهلية وهي: أن الرجل إذا تبنى ولداً ونسبه إليه حرم عليه أن يتزوج امرأته؛ لأنه كولده، فأراد الله أن ينسخ هذه العادة، وأن المتبنى لن يكون ولداً أبداً، وزوجته تحل لمن تبناه وأنه ليس كالابن أبداً.

إذاً: طلقها زيد ، قال الله عز وجل: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37]، من الذي زوجه إياها؟ الله جل جلاله، لقد تم العقد -والله- في الملكوت الأعلى، وكانت تفاخر النساء وتقول: ما منكن امرأة إلا وتولى نكاحها أبوها أو أخوها وتولى نكاحي ربي من فوق سبع سموات. وحق لها أن تفاخر، ويكفيها هذا شرفاً؛ لأنها اطرحت بين يدي الله، وسلمت أمرها لرسول الله، فأعطيت هذه المفخرة وهذا الكمال.

أما زيد المبتلى فأعطاه الله شرفاً لم يفخر به غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: أن الله أنزل اسمه في كتابه ليقرأه العرب والعجم إلى يوم القيامة، ولم يُنزل اسم صحابي قط في القرآن الكريم إلا زيد ، قال الله عز وجل: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب:37]، والرسول ابتلي كما ابتلي زيد وابتليت زينب وأخوها، فماذا أعطى الله لرسوله؟ حسبه أن يقول له: (زوجناكها).

إذاً: عرفنا عبد الله صاحب السرية أخو زينب رضي الله عنها، وصهر الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق بين الغزوة والسرية، والغالب أن الغزوة شهدها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه وحضرها، أما السرية فأحياناً يخرج فيها وأحياناً لا يخرج، فالغالب في السرية ألا يكون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: [هذه السرية شاء الله تعالى أن تكون سبباً قوياً في غزوة بدر الكبرى] والله يقضي أو يربط أقداراً بأقدار [ومقدمة عجيبة لها؛ إذ كانت هذه السرية في رجب من هذه السنة الثانية، وكانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة نفسها، فما بين سرية ابن جحش وبدر الكبرى إلا شهر شعبان لا غير. فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة عامر بن الجراح أن يتجهز للغزو] وهذا أحد العشرة المبشرين بالجنة [فأطاع وتجهز] ومعنى تجهز: أعد اللباس وحفنة الطعام والسهام والرماح، وهيأ أهله وأوصى عليهم أو طمأنهم [أي: أعد عدة سفر وغزوة، فلما أراد المسير بكى؛ صبابة إلى رسول الله] شوقاً وحزناً [أي: تألم لفراقه ولم يطقه فبكى حنيناً وشوقاً] ما استطاع أن يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم [فلما رأى منه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحبيب المحب تركه] يعني قال: اقعد عندنا، خليك معنا ما دمت لا تستطيع الفراق [وبعث غيره هو عبد الله بن جحش ] أخو زينب رضي الله عنهما [وبعث معه ثمانية رجال من المهاجرين] سرية من ثمانية رجال من المهاجرين ليس بينهم أنصاري [وكتب له كتاباً عهد له فيه بأمور] في الكتاب [وأمره ألا يقرأه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه] حتى لا يضطرب رجال السرية، فلو مشى يوماً واحداً أو نصف يوم لعلهم يقولون نرجع، لكن قال له: لا تقرأ الكتاب إلا بعد يومين [ويمضي لما أمره به، ولا يُكره أحداً من أصحابه] على أن يمشي معه. يعني: يعلمهم ويمضي ومن أراد أن يرجع فلا يكرهه على البقاء، فليس ثمة إكراه [ولما سار اليومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه الأمر بالنزول بنخلة وهي مكان بين مكة والطائف] موجود إلى الآن ومعروف، يقال له: نخلة [يرصد فيه قريشاً ويعلم أخبارها وتحركاتها وتدابيرها العسكرية الحربية].

من أي كلية حربية تخرج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ كيف عرف هذه التدابير؟ إنه أستاذ الحكمة ومعلمها، ومن أراد أن يرتقي في باب الحروب وقيادتها فليقرأ سيرة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمان وصدق، ووالله لن يساويه أحد أو يساميه.

قال: [فأعلم عبد الله أصحابه فساروا معه] ما تأخر أحد [وكان سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان قد أضلا بعيراً لهما] أي: فقدا بعيراً من أبعرتهما التي يركبون عليها [كانا يتعقبانه فتخلفا يطلبانه] جلسا في المنطقة يطلبان بعيرهما والسرية راجلة [فسار عبد الله مع بقية أصحابه حتى نزلوا بنخلة] المكان المطلوب [فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وغيره] والزبيب من الطائف وهو العنب الجاف، يستعملونه في الماء كي يصير حلواً [وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ] وهذا من رجالات السرية، أراد أن يخدعهم، والحرب خدعة، فمن وضع هذه القاعدة؟ هل وضعها رجال الحرب في بريطانيا؟ لا. وضعها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، قال: ( الحرب خدعة )، فاختزل الحرب كلها في الخدعة، فماذا فعل عكاشة بن محصن ؟

قال: [وقد حلق رأسه] صار أصلعاً؛ ليوهمهم أنه جاء معتمراً، ما جاء للغزو أو للتعرف على أحوال قريش، فرأسه ليس فيه شعرة واحدة [فلما رأوه حالقاً رأسه أمنوا بعد أن خافوهم إذ قالوا: لا بأس هؤلاء عمار] أي: معتمرون.

قال: [وتشاور أفراد السرية الإسلامية، وكان اليوم هو آخر يوم من رجب: لئن تركناهم هذه الليلة دخلوا الحرم] فالحرم قريب [وامتنعوا منا، ولئن قاتلناهم الليلة قاتلناهم في الشهر الحرام فتردد القوم] فيم يصنعون، قالوا: إن تركناهم دخلوا الحرم ولا يحل لنا قتالهم في حرم الله، وإن قاتلناهم الآن نخشى أن يكون هذا اليوم من رجب، ورجب من الأشهر الحرم، بل من أعظمها [ثم تشجعوا على قتل من يقدرون منهم؛ لأن جرائم المشركين أعظم من القتل في الشهر الحرام] جرائم المشركين أعظم من كونك قاتلت في الشهر الحرام [فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله] وهلك الحضرمي [واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وهرب نوفل فطلبوه فأعجزهم هرباً] من الجري[وأقبلوا بالقافلة] التي كانت تحمل الزبيب وغيره [والأسيرين عائدين إلى المدينة] جاءوا إلى المدينة [حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس] وهذا بإلهام من الله قبل أن ينزل تقسيم الغنائم، قال عبد الله بن جحش : يا إخواننا اعرفوا أن للرسول الخمس في هذه الغنيمة، بإلهام من الله، وما أنزلها الله في القرآن بعد، حتى انتهت بدر ونزلت: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41] أي: حتى رمضان.

قال: [فعزل له خمس العير، وذلك قبل أن ينزل فرض الخمس، وإنما كان بإلهام من الله تعالى لـعبد الله بن جحش صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم] وفي ذاك الوقت لم يكن صهره بعد [إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم قتالهم في الشهر الحرام] قال: ليس من حقكم أن تقاتلوا في الشهر الحرام [فوقف العير والأسيرين] أي قال: اتركوا هذا حتى يحكم الله عز وجل إذ لا حق لنا فيه [وأبى أن يأخذ شيئاً من ذلك، فلما فعل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقِطَ في أيدي السرية، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم المسلمون على صنيعهم هذا] كيف أنهم يقاتلون في الشهر الحرام؟

قال: [وأذاعت قريش الخبر مشنعة أكبر تشنيع] كإذاعة لندن أو أكثر، قالوا: هاهو محمد يقاتل في الشهر الحرام ويقتل الناس [إن محمداً وأصحابه استحلوا الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا الأموال، وأسروا الرجال، واعتذر من اعتذر لهم بمكة من المؤمنين، وقالوا] في اعتذارهم [إنما أصابوا من أصابوا في أول ليلة من شعبان وليس في رجب الحرام كما أشيع، إذ آخر يوم من رجب جائز أن يكون أول يوم من شعبان.

وكثرت التساؤلات، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم عذر أصحاب السرية، مندداً بصنيع المشركين، فقال تعالى في سورة البقرة] وتأملوا [ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة:217]] يعني: عن القتال فيه [ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ [البقرة:217]] ولكن [ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217]] يعني: ترتكبون ألف جريمة، وجريمة واحدة تشنعون عليها، فسبحان الله العظيم! يدافع عن أوليائه [فقررت الآية الكريمة أن القتال في الشهر الحرام أمر عظيم، ولكن أعظم منه صد الناس عن الإسلام؛ حتى لا يؤمنوا ويوحدوا فيكملوا ويسعدوا. وأعظم من القتال في الشهر الحرام أيضاً الكفر بالله تعالى وبرسوله ولقائه، كما أن الصد عن المسجد الحرام بمنع المؤمنين من دخوله والتعبد فيه، كإخراج أهله المقيمين فيه بتعذيبهم والتنكيل بهم حتى يضطروا إلى الهجرة منه أكبر من القتال في الشهر الحرام.

وأخيراً: فإن فتنة المؤمنين عن دينهم باضطهادهم وتعذيبهم أشد ظلماً وأقبح جرماً من القتال في الشهر الحرام.

وعندما نزل عذر أصحاب السرية في هذه الآية الكريمة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: هل لنا من أجر في قتالنا هذا؟ فأنزل الله تعالى قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218]وانتهت تلك الضجة] المفتعلة [وبعثت قريش تطلب فداء أسيريها وأرجأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يرجع سعد بن أبي وقاص وزميله عتبة بن غزوان إذ تأخرا عن السرية في طلب بعيرهما كما تقدم] يعني قال: انتظروا حتى يأتي البطلان[ولما وصل سعد وعتبة أفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، أما الحكم بن كيسان فقد أسلم وحسن إسلامه] الأسيران أحدهما فُدي، والثاني أسلم وحسن إسلامه [فلم يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين، واستشهد الحكم يوم بئر معونة فرضي الله عنه وأرضاه.

وقد سجل هذه السرية الصديق رضي الله عنه في ستة أبيات من الشعر فقال] أبو بكر الصديق دون القضية كاملة فقال:

[تدعون قتلاً في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمـد وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دماً وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غل من القد عاند].

معاشر المستمعين عرفتم أن الله استجاب لكم البارحة فماذا ستقدمون من الشكر له؟! وأنا داع وأنتم أمنوا.

اللهم لك الحمد يا رب السموات والأرض ورب العالمين، اللهم لك الحمد على ما أوليت وأعطيت وأنعمت وتفضلت، اللهم لقد رفع إليك عبيدك المؤمنون أكفهم فما خيبتها يا رب فاستجبت لهم وسقيت ديارهم، اللهم زدنا يا ربنا، اللهم زدنا يا ربنا، اللهم زدنا يا ربنا، ولا تنقصنا يا مولانا، وأعطنا ولا تحرمنا.

اللهم إنا نحمدك ونشكرك على ما أوليت وأنعمت، اللهم لك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أعطيت، اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً، اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، اللهم كما سقيتنا اسق ديار إخواننا المحتاجة إلى الماء يا رب العالمين.

اللهم إن بيننا مرضى وفي بيوتنا مرضى وفي مشافينا مرضى يسألونك الشفاء فاشفهم يا رب العالمين، اللهم اشفهم يا رب العالمين، اللهم عجل بشفائهم يا مولى المؤمنين ومتولي الصالحين، اللهم إن فتناً دائرة في بلاد الإسلام والمسلمين فأطفأ نارها وأخمدها واجمع أهلها على عبادتك وتقواك، اللهم اجمعهم على عبادتك وتقواك، اللهم أطفأ نيران تلك الفتنة فإنها لا خير فيها لإخواننا المؤمنين، اللهم أطفأها وعوضها بالصلح والمصالحة والسير في الصراط المستقيم، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..