هذا الحبيب يا محب 30


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى قول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ونزل الحبيب صلى الله عليه وسلم صحبة جبريل عليه السلام إلى بيت المقدس] وقد تقدم أن الإسراء بالحبيب صلى الله عليه وسلم والعروج به إلى الملكوت الأعلى كان بعدما عانى صلى الله عليه وسلم من الآلام والأتعاب طوال عشر سنوات لاقى فيها مر العذاب، فأراد الله عز وجل أن يخفف عنه آلامه وحسراته وما كان يعانيه فرفعه إليه، من بيت أم هانئ إلى المسجد الحرام إلى بئر زمزم، ثم أجريت له عملية التطهير وحشي قلبه بالإيمان والحكمة، وأصبح أهلاً لأن يعايش أهل الملكوت الأعلى ورفع بعد ذلك، وها نحن نواصل حديث الإسراء ..

قال المؤلف: [ونزل الحبيب صلى الله عليه وسلم صحبة جبريل عليه السلام إلى بيت المقدس] لما أسري به من مكة إلى بيت المقدس على براق -دابة خلقها الله لهذه المهمة ما بين البغل والحمار- ربطها في حلقة باب المقدس وتركها كذلك وعُرج به، وتم الذي تم ونزل والدابة مربوطة عند الباب، وعاد بها إلى مكة[فنزلت الأنبياء يشيعون الحبيب صلى الله عليه وسلم] نزلت الأنبياء من الملكوت الأعلى، من دار السلام، من الجنات، إلى مسجد بيت المقدس ليشيعوا نبيهم صلى الله عليه وسلم ويودعوه [فصلى بهم صلاة الصبح بالمسجد الأقصى] فلهذا يعرف بإمام الأنبياء؛ إذ أمهم وصلى بهم [وركب البراق -حيث تركه مربوطاً بحلقة الباب- وعاد إلى مكة في صبيحة تلك الليلة، وقد ذهب عنه كل كرب وغم وحزن وهم] بعد عشر سنين لاقى فيها من العذاب ما لاقى، وكأنكم تذكرون ذهابه إلى الطائف وعودته منه، وتذكرون الحصار الذي دام ثلاث سنوات في شعب بين جبلين [وعاد أوفر ما يكون ثقة وطمأنينة، وتلك ثمرة هذه الرحلة المباركة إلى الملكوت الأعلى، إذ رأى فيها بأم عينيه ما كان أخبر وتلقاه وحياً من ربه، فصدَّق الخُبرُ الخبر] ما كان غيباً وأخبر به عن طريق الوحي شاهده بأم عينيه، فصدق الخُبر الخبر [وليس من رأى كمن سمع] هذا مثل [والحمد لله ذي الإنعام والجلال والإكرام. وكيف قابلت قريش هذا النبأ العظيم؟] نبأ الرحلة إلى الملكوت الأعلى [إنه صلى الله عليه وسلم قد عاد إلى المسجد الحرام وجلس فيه -وهو لا يدري- بم تقابل قريش هذا النبأ العظيم، والحدث الجلل، فما زال جالساً حتى مر به أبو جهل ] طاغية المشركين [عليه لعائن الله، فسأله قائلاً مستهزئاً: ( هل استفدت الليلة شيئاً؟ فأجاب المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم. أسري بي الليلة إلى بيت المقدس. قال أبو جهل : ثم أصبحت بين ظهرانينا )] المسافة تحتاج إلى أربعين ليلة [( قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال أبو جهل : أُخبر قومك بذلك؟ )] أي: بهذا الذي تقول من الرحلة [( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم )] أي: أخبرهم [فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي، هلموا] يعني: تعالوا [فأقبلوا] يسرعون [فحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم فمن مُصدق، ومن مكذب مصفق واضع يده على رأسه؛ استعظاماً للخبر وإنكاراً له، وتعجباً منه] منهم من صدق، ومنهم من كذب وأنكر، ومنهم من استهزأ وسخر، ووضع يديه على رأسه متعجباً مستنكراً[ولشدة ما أثار الخبر من سخرية وتعجب ارتد بعض من آمن ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم] إنها هزت الإعلام القوية! هناك من رجع إلى الشرك بعد الإيمان، ولكنهم عدد قليل، وهم الذين أسلموا حديثاً ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم [ولم تخالط بشاشته قلوبهم. ومشى رجالٌ من المشركين المستهزئين إلى أبي بكر الصديق ] لأنهم يعرفون صحبته وولايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم [وقالوا له: إن صاحبك يزعم أنه قد أُسري به إلى بيت المقدس، فقال الصديق : إذا كان قال هذا فقد صدق! إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء يأتيه في غدوة أو روحة، فلقب أبو بكر بـالصديق من يومئذ] هذه هي الجائزة التي فاز بها، تمت في هذا الحدث الجلل[واجتمع رجال من قريش، وأرادوا امتحان النبي صلى الله عليه وسلم] فيما أخبر به عن الإسراء والمعراج [فقالوا له: انعت لنا المسجد الأقصى] يعني: ما دامت تقول إنك وصلت إليه، فانعته له، فنحن عرفناه وزرناه [فأخذ ينعته لهم، فالتبس عليه] عندما أخذ يحدثهم التبس عليه، نسي بعض الجهات أو الشرفات أو الأبواب [فجيء له بالمسجد ينظر إليه وينعته لهم] والذي يكذب بهذه الحادثة الآن لا عقل له، لِم؟ لأن شاشة التلفاز تعرض عليك أمريكا بما فيها، وفي محراب النبي صلى الله عليه وسلم عرضت الجنة بكاملها، وكانت عناقيد العنب مدلاة وهمّ أن يأخذها، وعرضت النار بكاملها ورأى أكثر أهلها النساء، وآمن المؤمنون والمؤمنات بذلك، أما الآن فالإيمان لم يعد كالسابق؛ لأنه ليس هناك ما يدعو للتكذيب، فكفر اليوم قذر لا قيمة له، لأن كل شيء قد كشف، ونحن نحقر أنفسنا، فما نحن بشيء، أين الغيب الذي نؤمن به؟ كل شيء أصبح شهادة، ولهذا إنّ يوماً سيأتي لا يقبل الإيمان فيه أبداً.

قال: [وعندئذ قالوا له: أخبرنا عن عيرنا القادمة من الشام] يعني ما دمت جئت في الطريق فأخبرنا عن قافلتنا القادمة من الشام [فقال: ( قد مررت على عير بني فلان بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم، وهم في طلبه فسلوهم عن ذلك، ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان، ورأيت راكباً قعوداً بذي مرّ فنفر بكره منه فسقط فلان فانكسرت يده فسلوه )] وهذه أعظم [( ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان تطلع عليكما طلوع الشمس ) فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينتظرون طلوع الشمس، ليكذبوه، وفجأة قال قائل: هذه الشمس قد طلعت، فقال آخر: والله هذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق كما قال. ومع هذا لم يؤمنوا، وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين، وأنزل الله تعالى مصداق ذلك فاتحة سورة (الإسراء - بسم الله الرحمن الرحيم: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].

فلهذا التكذيب بالإسراء والمعراج كفر، ومن كذّب كفر، فالمعراج ذكر في سورة (والنجم)، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15]، أي: رأى جبريل مرة أخرى في الملكوت الأعلى بالضبط عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15]، وكان الإسراء بالجسد والروح، والمرضى والمصابون بالعقلانيات والفلسفات الكاذبة يقولون: كان بالروح فقط، ولِم؟ أيعجز الله أن يرفع أحداً؟ قد يرفع أهل الأرض كلهم.

قال المؤلف: [نتائج وعبر: إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها فيما يأتي:

أولاً: المعجزات ليست ضرورية لحصول الإيمان، فقد رأى كفار قريش آيات عظاماً ولم يؤمنوا] المعجزة ليست ضرورية حتى يؤمن الناس عليها، فقريش رأت أعظم المعجزات ولم تؤمن.

[ثانياً: تقرير حادثة الإسراء والمعراج، وثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع، وأن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد معاً.

ثالثاً: سبقُ أبي بكر وفضله وسبب تلقيبه بـالصديق فرضي الله عنه وأرضاه] فضله تجلى في هذه الحادثة، وهي سبب تلقيبه بـالصديق ؛ لأنه أول من صدق بالحادثة الخطيرة وقال: أنا أصدقه فيما هو أعظم من هذا، في خبر السماء يأتي في الروحة والغدوة.

قال: [ثلاث آيات من آيات النبوة المحمدية] والآية كالشمس، فالشمس آية، والقمر آية، والليل آية، يقول الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت:37]. ما معنى آية الشمس والقمر؟ ألا تدل الشمس على خالق لها قوي قدير، عليم حكيم؟ وهكذا كل ما يدل على الله وعلى علمه وقدرته فهو آية.

فالنبوة المحمدية لها ثلاث آيات، بل لها ألف آية، لكن ذكرنا ثلاثاً في هذا الموطن، والباقي سيأتي، وكل آية تدل دلالة قطعية على أن محمداً رسول الله.

[إن آيات النبوة المحمدية أكثر من أن تعد أو تحصى، وقد تقدم العديد منها في مطلع هذا الكتاب، وسيأتي في آخره ذكر عشرات المعجزات، وإنما أردنا ذكر ثلاث آيات هنا؛ حيث أفردها المؤرخون بالذكر لعظم دلالتها وقوة برهانها على صدق الحبيب صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق، كما أن الناحية التاريخية تقتضي ذكرها هنا بعد حادثة الإسراء والمعراج].

أولاً: حادثة انشقاق القمر

قال: [وأولى هذه الآيات: آيةُ انشقاق القمر] أعظم آية أن ينشق القمر نصفين [فقد روى أحمد في مسنده عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية] قالوا: أعطنا آية تدل على أنك رسول الله، والسؤال لا شك أنه سؤال معجزة؛ لأن المعجزة الخارقة للعادة هي التي تُعجز كل شيء إلا الله، فلا يقوى عليها إلا هو [فانشق القمر فرقتين] وأصبح جبل حراء في الوسط، نصف القمر من هنا ونصفه من هنا [وروى البخاري عن قتادة عن أنس : أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينها] أي: بين شقتي القمر[ومصداق هذا في كتاب الله تعالى، إذ قال عز من قائل في فاتحة سورة القمر: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [القمر:1-3].

وخطب حذيفة بن اليمان بالمدائن يوماً فقال -بعد أن حمد الله وأثنى عليه-: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]] في خطبته [ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق] اليوم العمل وغداً الجزاء [وروى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظروا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اشهدوا ) وقال المشركون: هذا سحر ابن أبي كبشة] وهذا اللقب عرفه أهل التوراة؛ لأنه تربى في البادية. فـحليمة السعدية مرضعة الحبيب صلى الله عليه وسلم كان زوجها يقال له: أبو كبشة ، فلقب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وقالوا: ابن أبي كبشة[وقالوا: نسأل السفّار خارج مكة، فسألوا السفار] جمع سافر أو مسافر [فأخبروا أنهم رأوا ليلة كذا قد انشق القمر فرقتين] فلعله كان السحر في مكة فقط، فسألوا المسافرين في الأنحاء إذا جاءوا: هل رأيتم انشقاق القمر؟ فأخبروا بانشقاقه. وقد أخبر الله بذلك، فقال عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].

ثانياً: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بالقحط

قال: [وثاني الآيات] كانت الأولى: انشقاق القمر وهي أعظم آية، وثاني الآيات [هي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بالقحط لما استعصوا، وأبوا قبول دعوة الحق، ولجوا في الخصومة والعناد والمكابرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف )] أي: اللهم أعني عليهم بسبع سنين قحط وجدب كسبع يوسف بن يعقوب، وهذا واضح في سورة يوسف[فأصابتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام] جلود البهائم أكلوها [فجاء أبو سفيان ومعه رجال من مكة] لأن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المدينة بعد الهجرة، وأصابتهم بعدها سنة لم يعرفوا نظيرها، فأكلوا العهن والجلود، كانوا يأتون بالوبر ويغمسونه في الدم ويشوونه ويأكلونه، فجاء أبو سفيان وهو رئيس الدولة رضي الله عنه؛ لأنه أسلم وكان من خيرة المسلمين [ومعه رجال من مكة وقالوا: ( يا محمد! إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم )] عرفوا كيف يتوسلون! لكن لِم لم يقولوا: يا رسول الله؟! [( فدعا صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث )] بدعوته سقاهم الله المطر [( وقد كان بلغ بهم الجوع حتى إن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع )] كان أحدهم يفتح عينيه فيرى السماء وكأنها دخان من شدة الجوع [وفي هذا نزل قرآن] عظيم [وهو قوله تعالى من سورة الدخان: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11]] وتم وعد الله [إلا إنهم لما دعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وسقوا الغيث، عادوا إلى الإصرار والعناد، فعلم تعالى ذلك منهم وقال: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15]] وفعلاً عادوا إلى الحرب والكفر والشرك والباطل [وقد انتقم الله منهم يوم بدر، إذ قال تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16]، وفعلاً قد أخذ الله رؤساءهم يوم بدر فأهلكهم ولم ينج إلا القليل منهم، ممن كتب الله لهم النجاة ليؤمنوا وينجوا من عذاب الآخرة كـأبي سفيان وغيره]. قال الله عز وجل في هذه السورة: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:10-15] واذكر أو انتظر يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16].

وتمت انتقامة الله، فهلك كل رؤسائهم في بدر إلا من شاء الله، وعلى رأسهم أبو جهل ، وقد جاء ابن مسعود رضي الله عنه ليحتز رأسه فما استطاع، بعد أن علا على صدره، فقال له أبو جهل : لا تستطيع يا ابن فلانة، ولكن خذ سيفي واقطع به رأسي!. أرشده الطاغية كيف يذبحه.

ثالثاً: تحقق قول الله في انتصار الروم على فارس

قال: [وثالث الآيات: هي أنه يوم اشتد الصراع بين المشركين من جهة وبين المؤمنين من جهة أخرى -وذلك بمكة- كانت قد دارت حرب ضروس بين فارس والروم الدولتين العظميين المتجاورتين] كانوا كروسيا وأمريكا في هذا الزمان، وقد دارت حرب بين فارس والروم وهما دولتان عظيمتان؛ لأن كل واحدة منهما كانت تسعى لأن تملك وتحكم [ونظراً إلى أن دولة الروم مسيحية من أهل الكتاب، ودولة الفرس مجوسية وثنية، كان أهل مكة يتلقون الأخبار ويتتبعونها، ويسرهم أن تنتصر دولة الفرس الوثنية] وكان المسلمون على العكس، يودون أن تنتصر دولة الروم على دولة الفرس الوثنية [ونزل قرآن كريم في هذا الشأن، وهو قوله تعالى من سورة الروم: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:1-5]] وجاء خبر النصر وهم في بدر، سبحان الله العظيم! بشريان في وقت واحد [فأخبر تعالى بأن فارساً قد غلبت الروم، وأن الروم ستغلب فارساً في خلال بضع سنين، والبضع من الثلاث إلى التسع، فقال المشركون لـأبي بكر الصديق : اجعل بيننا وبينك أجلاً] مدة معينة [إن ظهر الروم على فارس كان لك كذا وكذا] من الإبل [وإن ظهرت فارس على الروم كان لنا كذا وكذا] هذا رهان، والرهان كان شائعاً وجائزاً في الجاهلية [والذي قال هذا وراهن أبا بكر الصديق ] هو [أبي بن خلف ] شيطان المشركين [وإن الرهن كان على خمس قلائص من الإبل] جمع قلوص وهو الفتية من الإبل [ولم يمض البضع من السنين حتى غلبت الروم فارساً، وكان ذلك يوم بدر حيث فرح المؤمنون بنصر الله لهم على المشركين، ونصر الروم على فارس الوثنية، فكان هذا آية من أظهر الآيات دلالة على صدق ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والدين الحق.

هذه ثلاث آيات ناطقة بالنبوة المحمدية، شاهدة بصدق ما جاء به الحبيب صلى الله عليه وسلم من الهدى والدين الحق].

قال: [وأولى هذه الآيات: آيةُ انشقاق القمر] أعظم آية أن ينشق القمر نصفين [فقد روى أحمد في مسنده عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية] قالوا: أعطنا آية تدل على أنك رسول الله، والسؤال لا شك أنه سؤال معجزة؛ لأن المعجزة الخارقة للعادة هي التي تُعجز كل شيء إلا الله، فلا يقوى عليها إلا هو [فانشق القمر فرقتين] وأصبح جبل حراء في الوسط، نصف القمر من هنا ونصفه من هنا [وروى البخاري عن قتادة عن أنس : أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينها] أي: بين شقتي القمر[ومصداق هذا في كتاب الله تعالى، إذ قال عز من قائل في فاتحة سورة القمر: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [القمر:1-3].

وخطب حذيفة بن اليمان بالمدائن يوماً فقال -بعد أن حمد الله وأثنى عليه-: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]] في خطبته [ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق] اليوم العمل وغداً الجزاء [وروى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظروا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اشهدوا ) وقال المشركون: هذا سحر ابن أبي كبشة] وهذا اللقب عرفه أهل التوراة؛ لأنه تربى في البادية. فـحليمة السعدية مرضعة الحبيب صلى الله عليه وسلم كان زوجها يقال له: أبو كبشة ، فلقب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وقالوا: ابن أبي كبشة[وقالوا: نسأل السفّار خارج مكة، فسألوا السفار] جمع سافر أو مسافر [فأخبروا أنهم رأوا ليلة كذا قد انشق القمر فرقتين] فلعله كان السحر في مكة فقط، فسألوا المسافرين في الأنحاء إذا جاءوا: هل رأيتم انشقاق القمر؟ فأخبروا بانشقاقه. وقد أخبر الله بذلك، فقال عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].

قال: [وثاني الآيات] كانت الأولى: انشقاق القمر وهي أعظم آية، وثاني الآيات [هي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بالقحط لما استعصوا، وأبوا قبول دعوة الحق، ولجوا في الخصومة والعناد والمكابرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف )] أي: اللهم أعني عليهم بسبع سنين قحط وجدب كسبع يوسف بن يعقوب، وهذا واضح في سورة يوسف[فأصابتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام] جلود البهائم أكلوها [فجاء أبو سفيان ومعه رجال من مكة] لأن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المدينة بعد الهجرة، وأصابتهم بعدها سنة لم يعرفوا نظيرها، فأكلوا العهن والجلود، كانوا يأتون بالوبر ويغمسونه في الدم ويشوونه ويأكلونه، فجاء أبو سفيان وهو رئيس الدولة رضي الله عنه؛ لأنه أسلم وكان من خيرة المسلمين [ومعه رجال من مكة وقالوا: ( يا محمد! إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم )] عرفوا كيف يتوسلون! لكن لِم لم يقولوا: يا رسول الله؟! [( فدعا صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث )] بدعوته سقاهم الله المطر [( وقد كان بلغ بهم الجوع حتى إن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع )] كان أحدهم يفتح عينيه فيرى السماء وكأنها دخان من شدة الجوع [وفي هذا نزل قرآن] عظيم [وهو قوله تعالى من سورة الدخان: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11]] وتم وعد الله [إلا إنهم لما دعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وسقوا الغيث، عادوا إلى الإصرار والعناد، فعلم تعالى ذلك منهم وقال: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15]] وفعلاً عادوا إلى الحرب والكفر والشرك والباطل [وقد انتقم الله منهم يوم بدر، إذ قال تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16]، وفعلاً قد أخذ الله رؤساءهم يوم بدر فأهلكهم ولم ينج إلا القليل منهم، ممن كتب الله لهم النجاة ليؤمنوا وينجوا من عذاب الآخرة كـأبي سفيان وغيره]. قال الله عز وجل في هذه السورة: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:10-15] واذكر أو انتظر يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16].

وتمت انتقامة الله، فهلك كل رؤسائهم في بدر إلا من شاء الله، وعلى رأسهم أبو جهل ، وقد جاء ابن مسعود رضي الله عنه ليحتز رأسه فما استطاع، بعد أن علا على صدره، فقال له أبو جهل : لا تستطيع يا ابن فلانة، ولكن خذ سيفي واقطع به رأسي!. أرشده الطاغية كيف يذبحه.

قال: [وثالث الآيات: هي أنه يوم اشتد الصراع بين المشركين من جهة وبين المؤمنين من جهة أخرى -وذلك بمكة- كانت قد دارت حرب ضروس بين فارس والروم الدولتين العظميين المتجاورتين] كانوا كروسيا وأمريكا في هذا الزمان، وقد دارت حرب بين فارس والروم وهما دولتان عظيمتان؛ لأن كل واحدة منهما كانت تسعى لأن تملك وتحكم [ونظراً إلى أن دولة الروم مسيحية من أهل الكتاب، ودولة الفرس مجوسية وثنية، كان أهل مكة يتلقون الأخبار ويتتبعونها، ويسرهم أن تنتصر دولة الفرس الوثنية] وكان المسلمون على العكس، يودون أن تنتصر دولة الروم على دولة الفرس الوثنية [ونزل قرآن كريم في هذا الشأن، وهو قوله تعالى من سورة الروم: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:1-5]] وجاء خبر النصر وهم في بدر، سبحان الله العظيم! بشريان في وقت واحد [فأخبر تعالى بأن فارساً قد غلبت الروم، وأن الروم ستغلب فارساً في خلال بضع سنين، والبضع من الثلاث إلى التسع، فقال المشركون لـأبي بكر الصديق : اجعل بيننا وبينك أجلاً] مدة معينة [إن ظهر الروم على فارس كان لك كذا وكذا] من الإبل [وإن ظهرت فارس على الروم كان لنا كذا وكذا] هذا رهان، والرهان كان شائعاً وجائزاً في الجاهلية [والذي قال هذا وراهن أبا بكر الصديق ] هو [أبي بن خلف ] شيطان المشركين [وإن الرهن كان على خمس قلائص من الإبل] جمع قلوص وهو الفتية من الإبل [ولم يمض البضع من السنين حتى غلبت الروم فارساً، وكان ذلك يوم بدر حيث فرح المؤمنون بنصر الله لهم على المشركين، ونصر الروم على فارس الوثنية، فكان هذا آية من أظهر الآيات دلالة على صدق ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والدين الحق.

هذه ثلاث آيات ناطقة بالنبوة المحمدية، شاهدة بصدق ما جاء به الحبيب صلى الله عليه وسلم من الهدى والدين الحق].