كيف ندعو إلى الله ؟


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوان! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لقد اختار أحد الأبناء أن تكون الكلمة الليلة تحت عنوان: (كيف ندعو إلى الله؟) وأجبته إلى ذلك.

الدعوة إلى الله عز وجل هي عبارة عن رد الشاردين من عبيده الآبقين عن طاعته إلى طاعة الله، فالله جل جلاله ربنا وسيدنا وولي نعمتنا وولي أمرنا، ونحن عبيده، فقد يأبق من يأبق منا، ويشكر من يشكر، لعوامل كثيرة، ومن أظهرها أن هناك عدواً لله، كاشف الله بالعداوة وصارحه بها، وأقسم بربنا أن يضل عبيده ويغويهم ما أمكنه الإضلال والإغواء، فلا يشعر عبد الله إلا وقد أسر وأخذ، فترك خدمة سيده، وأصبح يخدم عدوه، تمرد على طاعة مولاه، وأصبح عبداً طيعاً يعبد ويخدم عدو الله، فالوساطة في هذا الشأن من أفضل الأعمال، أن يراك ربك تتوسط بينه وبين عبيده الشاردين العاصين المتمردين فتردهم إليه واحداً واحداً وجماعة بعد أخرى.

فلهذا شرف الدعوة إلى الله شرف عظيم.

والحمد لله ما منا إلا وهو مدعو باسم الله إلى أن يسهم في هذه الدعوة وأن يضرب فيها بنصيب، وهذا كتاب الله، يقول عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو شافع لرسول الله، منتظم في سلك أمة رسول الله، وعليه أن ينهض بما يستطيع أن ينهض به في هذه الدعوة، وابدأ بنفسك ثم بمن تعول، فدعوة العبد لنفسه لتستقيم على طاعة الله، وتسير على منهاج هداه، هذا إسهام كبير يسهم به عبد الله في الدعوة إلى الله.

الانتقال من نفسه إلى من حوله من ذويه وأقربائه كالزوجة والولد والأخ والأخت كذلك يكون قد أسهم بسهم كبير، وتمتد السلسلة إلى أن تصل إلى أبعاد وآفاق بعيدة، والداعي دائماً يشعر بأنه يقوم بخدمة مولاه، برد عبيده الشاردين عنه إليه، ويتقاضى على ذلك أجراً عظيماً.

فأجر الدعوة إلى الله لا ينبغي أن يكون مالاً بيننا، ولا ينبغي أن يكون اكتساب شهرة فينا أو سمعة عندنا، أجر الداعي فوق ذلك؛ أجره عند الله، ولن يرضى الله عز وجل للدعاة أن يتقاضوا أجراً على دعوتهم إلى الله، والقرآن الكريم وآياته شاهدة: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109]، قالها نوح وقالها هود وقالها صالح وقالتها الأنبياء، وقالها وعني بها خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].

معشر الأبناء والإخوان! نلفت نظركم إلى هذه الحقيقة، وهي أن يكون عبد الله واسطة بينه وبين ربه وعبيده؛ لأن عبيد الله لا يسعدون ولا يكملون أبداً وهم آبقون شاردون من سيدهم؛ لا سعادة ولا كمال إلا في ساحة الله، فمن خرج عن ساحة الله وعاش بعيداً عن رضاه قد يصل بشقائه إلى أن يبلس ويصبح من المبلسين؛ أعداء الله عز وجل.

ومن هذا لأن تتصدق بكلمة طيبة تجلب بها عبداً شارداً تكون كلمتك خيراً من إطعام جائع وبلا مماثلة، حقاً الجائع يطعم من أجل أن يعيش ليذكر الله ويشكره؛ ليحفظ حياته لله، ولكن النافر، الشارد، الآبق عن طاعة الله رده إلى الخدمة والمساعدة على الطاعة فيه حياته أكثر من حياة الطعام والشراب.

الدعوة إلى الله عز وجل فريضة، وهي بالنسبة إلى الأمة الإسلامية فرض كفاية؛ لقول الله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

ومن هنا انطلق أسلافنا الفاتحون، ومن هذا المنطلق شرقوا، وغربوا، وشمألوا، وتيامنوا حاملين راية الدعوة إلى الله، وسطاء بين الله وبين عبيده، إذ لا يمكن للعبد أن يسعد في غير دائرة رضا مولاه، ولا يمكن للعبد أن يكمل لا خلقاً ولا روحاً إلا إذا كان آخذاً بتعاليم مولاه.

وقد استطاع العدو أن يغزو البشرية وأن يجتاحها في كل ديارها، وأن يبعدها عن ساحة ربها، وأن يستعبدها شر استعباد وأن يستغلها أسوأ استغلال، فمن لهذه البشرية؟ لها الله مولاها، هو الذي يصطفي من يشاء، ويختار من يريد، ويبعث رسله وأنبياءه، وللرسل والأنبياء أصحاب وحواريون وتلاميذ؛ يقومون بهذه الدعوة؛ دعوة رد العبيد إلى سيدهم؛ ليكملوا ويسعدوا في ساحة مولاهم.

السلف الصالح؛ آباؤنا وأسلافنا شرقوا فبلغوا أبعاداً بعيدة في الشرق ما وراء نهر السند، وانتهوا إلى الأندلس، وأخذوا في الشمال فدخلوا أوروبا، وذهبوا جنوباً فانتهوا إلى المحيط، لماذا؟ لأنهم فهموا -كما فهمنا- أن هذه الدعوة ينبغي أن تنشر، وأن تذاع، وأن تنقذ، وتهدي، وتصلح، وهم وسطاء -ولهم شرف الوساطة- بين الله وبين عبيده، أنطقوا الصامت والناطق.

هل لي أن أذكركم بأن أبا عبد الرحمن فروخ والد ربيعة الرأي المدني شيخ مالك بن أنس خرج شرقاً يغزو من ثغر إلى آخر، ومن فتح إلى فتح، فلم يعد إلا بعد خمس وعشرين سنة، فوجد ربيعة الرأي الذي تركه في بطن أمه أو رضيعاً؛ وجده في حلقة الدرس وحوله آلاف الناس يسمعون.

هذا الذي بذل السلف، وهذا هو العطاء الذي أعطوه، ولم يزد حالهم على أن فهموا أن أشرف الأعمال وأبركها وأفضلها أن تكون واسطة بين الله وبين عبيده الذين أخذهم عدوه، فتعمل أنت وتبذل ما تستطيع لتردهم إليه، يا لها من مكانة عالية!

ويدل على هذه المكانة وهذا المقام الذي تسامى فيه الأولون وتسابقوا وتنافسوا ما تعلمون جميعاً أنه لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم خيبر واستعصت بحصونها، قال في ليلة من ليالي الحصار: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله عليه )، وتطلعت النفوس واشرأبت الأعناق، ومن ذا الذي يعلن غداً أنه محبوب من الله ورسوله؛ إذ ليس الشأن أن تُحِب يا بني، الشأن أن تُحَب، نعم، إذا أخبر الوحي بأني أحب الله ورسوله ففيه خير عظيم، ولكن وراء ذلك أن يحبني الله ورسوله، ولهذا قالت العلماء: ليس الشأن أن تُحِب، إنما الشأن أن تُحَب، وقد وضع الله لنا طريقاً لأن يحبنا، وما أيسره وما أسهله على من طلبه ويسره الله له، ففي سورة آل عمران وقد نزلت الآيات الأولى منها في وفد نجران، ونزلوا على رسول الله بالمدينة ملوكاً، وجرت محاورات وبعض نقاش، جاءوا يجادلون رسول الله في شأن عيسى عبد الله ورسول الله، ومن جملة ما قالوا: ما عبدناه إلا من أجل أن يحبنا الله؛ لأنه ابن الله، فعبادته وحبه مجلبة لحب الله، لا غرض لنا إلا أن يحبنا الله، وقد يكونون صادقين وإن كانوا جاهلين، فأنزل الله تعالى نيفاً وثمانين آية من فاتحة هذه السورة، ومن بين ما نزل فيها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فمن هنا قالت العلماء: ليس الشأن أن تُحِب، الشأن أن تُحَب، وهو كذلك.

فطريق الحب والحصول عليه هو منك، فابدأ أنت، ولا تطمعن أبداً أن يبادر الله إلى حبك وأنت لم تبادر، هذه الحقيقة تمثلت في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحبُ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله )، وهذه حقيقة لنقف عندها لحظة: لا تفهمن أبداً أن يكون الله هو البادئ، فأنت العبد، أنت المحتاج، أنت المفتقر إليه، فابدأ أنت.

ومن هذا قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] فهم الذين يبدءون، إذاً: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً حقيقياً، مشياً وراءه، لا تتقدم عليه ولا تمشي عن يمينه أو عن يساره، بل تقتفي آثاره، وقد سابق الناس في هذا، وكانوا يتمثلون حياة رسول الله حتى في لحظه ونظره؛ يمشون وراءه حذو القذة بالقذة، طمعاً في أن يحبهم الله، وقد أحبهم الله، وإن سألت عن السر في ذلك فالسر واضح، فهل عرفت أن الله لا يحب إلا الطاهرين الطيبين؟ أمر مطلوب منه: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].

فأصحاب الأرواح الخبيثة من أوضار الشرك والمعاصي العفنة المنتنة لم يأذن الله تعالى لها في مجاورته، بل ولا حتى في عروجها إلى السماء، وسواء كانت الروح روح قريب أو بعيد، وإن كانت نفساً لامرأة نبي، والقرآن شاهد، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً.

ومن باب التدليل بالنصوص القرآنية على هذه القضية وقضايا مشتركة: وهي أن الله لا يقبل -فضلاً عن أن يحب- إلا من كان طاهراً، لا مجال للخبث أبداً في حب الله وولايته ومجاورته.

من أبرز الآيات في هذا الشأن آية الأعراف، إذ يقول تعالى وقوله الحق: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، والتكذيب مانع من اقتفاء آثار الرسول واتباع خطاه للحصول على تزكية النفس وتطهيرها: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] والاستكبار كالتكذيب مانع، لا يسمح لصاحبه أن يقتفي آثار رسول الله، فيجور ويفجر، فهو أبداً مستكبر.

إذاً: فحكم الله فيهم كما قال تعالى: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، ومتى كان البعير الأورق والجمل الأصفر يدخل في ثقبة إبرة الخياط؟ مستحيل هذا.

إذاً: صاحب الروح الخبيثة مستحيل أن يتبوأ الفراديس العلا، وأن يواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذه الحقيقة ينبغي أن تعلم.

ويقول تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، كهذا الجزاء؛ جزاء الحرمان من جوارنا نجزي كذلك المجرمين؛ لأنهم أجرموا على أنفسهم، أفسدوها، صبوا عليها ما صبوا من أطنان الذنوب والآثام، فأصبحت غير أهل لكرامة الله وجواره.

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، الظالمون يجزون بهذا الحرمان لم؟ لأنهم ظلموا أنفسهم، صبوا عليها أطنان الذنوب والآثام، أخفوها، دسوها، عفنوها، ما أصبحت أهلاً للملكوت الأعلى، ولله سنن ثابتة كالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، فلا مجال للأمان أبداً ولا للأطماع الفارغة، مصيرك -يا بني- أنت الذي تقرره اليوم قبل يوم القيامة.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فالذي يهمل نفسه ويرميها في المهملات والمزابل، يأتي بها يوم القيامة منتنة عفنة من يدخلها الجنة؟!

الهجرة في سبيل الله طريق إلى محبة الله ورسوله

وهذه صورة أكثر عرضاً من شاشة التلفاز، فقد فرض الله تعالى الهجرة، هاجروا يا عباد الله، ما خلقتم إلا لتعبدوا الله، فإذا ضاق البلد بكم وما أصبحتم قادرين على أن تعبدوا الله فارحلوا إلى ديار تعبدون فيها الله، إذ علة وجودكم أن تعبدوا الله، فإذا ضايقوكم، حاصروكم، منعوكم من أن تقولوا: لا إله إلا الله فهاجروا، لقد فرض الله الهجرة على كل من لم يستطع أن يعبد الله بذكره وشكره في أرض ما، ولا يحل البقاء إلا لعاجز..

ولما فرضت الهجرة رأينا كيف أن المهاجرين والمهاجرات يتسللون إلى المدينة النبوية اتباعاً، إيماناً بالله، طاعة لله، استجابة لنداء الله ورسول الله، وتخلف أناس آثروا الحياة الدنيا، أعجبه دكانه ومتجره، أعجبه منزله، أعجبته امرأته، عز عليه أن يغادر البلد الذي يسعد فيه إلى بلد يشقى به وفيه، قال تعالى وهذا هو الشاهد في عرض القرآن: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، كيف ظلموها؟ لأنهم رضوا بفاني، ورضوا أن لا يعبدوا الله، إذ الأوضار المتسلطة عليهم تمنعهم، فبقوا فماتوا، جاءت الملائكة تأخذ تلك الأرواح: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، أي: بترك الهجرة التي ترتب عليها ترك عبادة الله عز وجل، لما تستدعى تلك الروح وتستخرج فإذا هي مظلمة، منتنة، عفنة، فتقول الملائكة: إنكم في مزبلة أو فيم؟ وتأملوا الاستفهام في كلمة (فيم)، فيم كنتم أنتم؟ هذه الأرواح المنتنة العفنة فيم كانت؟ كيف حصل هذا؟ لأنهم ما عبدوا الله، ممقوتون، أرواحهم تدست؛ أصيبت بالظلمة والعفونة والنتن، أنكرتها الملائكة، ما هذه الأرواح؟ أين كنتم؟ اعتذروا حيث لا ينفع الاعتذار: قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ [النساء:97]، ويكون الرد الإنكاري التوبيخي: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، ونذكر أولئك المستضعفين المضطهدين وراء الأسوار في الاتحاد السوفيتي، مساكين مغلوبون على أمرهم، لا يستطيعون أن يسموا أطفالهم باسم محمد ولا إبراهيم ولا صالح، وننظر إلى المسلمين المتحررين وقد تركوا عبادة الله باختيارهم وإراداتهم وحرياتهم الكاملة، فكيف يكون الموقف؟ لا ضغط، ولا اضطهاد، ولا تعذيب، ولا صد لأحد من باب المسجد، ولا سلخت المرأة من حجابها، ولا ألزم رجل بتعاطي الأفيون ولا شرب الخمر، والمسلمون باختيارهم وإراداتهم معرضون عن عبادة الله!!

أمر يستدعي الاستغراب؛ لأنهم ما عرفوا الله، عرفوه معرفة سطحية لا قيمة لها، أما الذي عرف فإنه هرب وطلب النجاة، يتخطى الأسوار الحديدية ويهرب؛ وهذه يستدعيها المقام؛ لأننا نتكلم عن الدعوة إلى الله، فالذين يموتون في دار الحرية، لا صلاة، ولا زكاة، ولا طهر، ولا صفاء، يموتون على الخبث، فهؤلاء يرخص لهم؛ لأنهم في بلاد الحرية! ولا يرخص للمضطهدين المعذبين وراء الأسوار!! من يقول بالمساواة؟!

إذاً: قال تعالى في هذه الحقائق: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] السامون الأعلون: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، فهم أطاعوا الله والرسول؛ لأن هذه الطاعة هي مزكيات الروح ومطهرات النفس، عملوا بها، زكت أرواحهم، طابت نفوسهم وطهرت، تأهلوا للملكوت الأعلى، والذين أهملوا نفوسهم وأعرضوا عنها واشتغلوا ببطونهم وفروجهم وتركوا أنفسهم، سوف تؤخذ وسوف تلام، سوف يقال: فيم كنتم؟ سيقولون: كنا في المدينة النبوية، بلاد الطهر والفضل، ما لهذه الروح منتنة عفنة؟! واقرءوا قول الله عز وجل من سورة الأنعام وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، هذه الآية جديدة النزول أم أنها قديمة؟ ما تعرضت للشرك ولا للكفر ولا للظلم، ذكرت الفسق والاستكبار، وقد أصبح طابعاً عاماً 75% من أمة الإسلام، فسبحان الله العظيم، إنه لقرآن عجب!

ولو ترى -يا بني- الملائكة وهي تتوفى وتميت وتستخرج أرواح الظلمة ماذا تقول؟ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ [الأنعام:93]؛ لأن الروح الخبيثة إذا شاهدت ملك الموت وأعوانه وقد بلغت الحلقوم فجأة تعود إلى الجسم وتلتصق به خوفاً من الخروج، ولهذا قال تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1]، فتؤخذ بقوة وشدة أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].

الشاهد: أن هذه الأرواح كانت تقول على الله غير الحق، ومعنى هذا أنها كانت تدعو إلى خلاف ما يدعو الله ورسوله إليه، ومعنى هذا: أن دعوتهم إلى الباطل، كانوا قد عاشوا على مقتضاها، فهم عاشوا على دعوة باطلة، فلم تزكُ أنفسهم، ولم تطهر، ولم تطب، وجزاكم الله خيراً.

قدم لـعمر رضي الله عنه لونان من الطعام أو ثلاثة، ولم يبلغوا ما يقدم لنا صباح مساء، فقال: أخشى أن أكون ممن قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].

عمر وما أدرانا ما عمر ومن عمر ؟ عمر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو كان في أمتي محدثون لكان منهم عمر ، وما سلك عمر فجاً -أي: طريقاً واسعاً- إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه ) لا يتلاءم معه، ولا يصاحبه في شارع ضيق ولا واسع، هذا عمر ترتعد فرائصه، ويجفو الطعام بين يديه، ويقول: أخشى أن أكون ممن قال الله فيهم وقوله الحق: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]، فالذين يأكلون الربا من بيننا، ويؤثرون الحرام ويأكلون الزقوم بأي طريق يصلون إليه، أليسوا قد أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا؟ أكلوا الربا، أليس من أجل أن يأكلوا الطعام اللذيذ والشراب الطيب واللباس والسكن؟ نعم، والله، ولا أطيل.

يا أبنائي! الحقيقة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن زكى نفسه بأدوات التزكية والتطهير وباعدها عما يدسيها نجا وفاز بالملكوت الأعلى وفتحت له أبواب الجنة، وواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين

ومن أبى إلا تدسيتها بأوضار الشرك والمعاصي والإعراض عن كل مزكٍ لها ومطهر حتى كلمة لا إله إلا الله في إخلاص وإنابة فلا يلومن إلا نفسه.

وهذه صورة أكثر عرضاً من شاشة التلفاز، فقد فرض الله تعالى الهجرة، هاجروا يا عباد الله، ما خلقتم إلا لتعبدوا الله، فإذا ضاق البلد بكم وما أصبحتم قادرين على أن تعبدوا الله فارحلوا إلى ديار تعبدون فيها الله، إذ علة وجودكم أن تعبدوا الله، فإذا ضايقوكم، حاصروكم، منعوكم من أن تقولوا: لا إله إلا الله فهاجروا، لقد فرض الله الهجرة على كل من لم يستطع أن يعبد الله بذكره وشكره في أرض ما، ولا يحل البقاء إلا لعاجز..

ولما فرضت الهجرة رأينا كيف أن المهاجرين والمهاجرات يتسللون إلى المدينة النبوية اتباعاً، إيماناً بالله، طاعة لله، استجابة لنداء الله ورسول الله، وتخلف أناس آثروا الحياة الدنيا، أعجبه دكانه ومتجره، أعجبه منزله، أعجبته امرأته، عز عليه أن يغادر البلد الذي يسعد فيه إلى بلد يشقى به وفيه، قال تعالى وهذا هو الشاهد في عرض القرآن: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، كيف ظلموها؟ لأنهم رضوا بفاني، ورضوا أن لا يعبدوا الله، إذ الأوضار المتسلطة عليهم تمنعهم، فبقوا فماتوا، جاءت الملائكة تأخذ تلك الأرواح: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، أي: بترك الهجرة التي ترتب عليها ترك عبادة الله عز وجل، لما تستدعى تلك الروح وتستخرج فإذا هي مظلمة، منتنة، عفنة، فتقول الملائكة: إنكم في مزبلة أو فيم؟ وتأملوا الاستفهام في كلمة (فيم)، فيم كنتم أنتم؟ هذه الأرواح المنتنة العفنة فيم كانت؟ كيف حصل هذا؟ لأنهم ما عبدوا الله، ممقوتون، أرواحهم تدست؛ أصيبت بالظلمة والعفونة والنتن، أنكرتها الملائكة، ما هذه الأرواح؟ أين كنتم؟ اعتذروا حيث لا ينفع الاعتذار: قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ [النساء:97]، ويكون الرد الإنكاري التوبيخي: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، ونذكر أولئك المستضعفين المضطهدين وراء الأسوار في الاتحاد السوفيتي، مساكين مغلوبون على أمرهم، لا يستطيعون أن يسموا أطفالهم باسم محمد ولا إبراهيم ولا صالح، وننظر إلى المسلمين المتحررين وقد تركوا عبادة الله باختيارهم وإراداتهم وحرياتهم الكاملة، فكيف يكون الموقف؟ لا ضغط، ولا اضطهاد، ولا تعذيب، ولا صد لأحد من باب المسجد، ولا سلخت المرأة من حجابها، ولا ألزم رجل بتعاطي الأفيون ولا شرب الخمر، والمسلمون باختيارهم وإراداتهم معرضون عن عبادة الله!!

أمر يستدعي الاستغراب؛ لأنهم ما عرفوا الله، عرفوه معرفة سطحية لا قيمة لها، أما الذي عرف فإنه هرب وطلب النجاة، يتخطى الأسوار الحديدية ويهرب؛ وهذه يستدعيها المقام؛ لأننا نتكلم عن الدعوة إلى الله، فالذين يموتون في دار الحرية، لا صلاة، ولا زكاة، ولا طهر، ولا صفاء، يموتون على الخبث، فهؤلاء يرخص لهم؛ لأنهم في بلاد الحرية! ولا يرخص للمضطهدين المعذبين وراء الأسوار!! من يقول بالمساواة؟!

إذاً: قال تعالى في هذه الحقائق: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] السامون الأعلون: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، فهم أطاعوا الله والرسول؛ لأن هذه الطاعة هي مزكيات الروح ومطهرات النفس، عملوا بها، زكت أرواحهم، طابت نفوسهم وطهرت، تأهلوا للملكوت الأعلى، والذين أهملوا نفوسهم وأعرضوا عنها واشتغلوا ببطونهم وفروجهم وتركوا أنفسهم، سوف تؤخذ وسوف تلام، سوف يقال: فيم كنتم؟ سيقولون: كنا في المدينة النبوية، بلاد الطهر والفضل، ما لهذه الروح منتنة عفنة؟! واقرءوا قول الله عز وجل من سورة الأنعام وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، هذه الآية جديدة النزول أم أنها قديمة؟ ما تعرضت للشرك ولا للكفر ولا للظلم، ذكرت الفسق والاستكبار، وقد أصبح طابعاً عاماً 75% من أمة الإسلام، فسبحان الله العظيم، إنه لقرآن عجب!

ولو ترى -يا بني- الملائكة وهي تتوفى وتميت وتستخرج أرواح الظلمة ماذا تقول؟ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ [الأنعام:93]؛ لأن الروح الخبيثة إذا شاهدت ملك الموت وأعوانه وقد بلغت الحلقوم فجأة تعود إلى الجسم وتلتصق به خوفاً من الخروج، ولهذا قال تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1]، فتؤخذ بقوة وشدة أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].

الشاهد: أن هذه الأرواح كانت تقول على الله غير الحق، ومعنى هذا أنها كانت تدعو إلى خلاف ما يدعو الله ورسوله إليه، ومعنى هذا: أن دعوتهم إلى الباطل، كانوا قد عاشوا على مقتضاها، فهم عاشوا على دعوة باطلة، فلم تزكُ أنفسهم، ولم تطهر، ولم تطب، وجزاكم الله خيراً.

قدم لـعمر رضي الله عنه لونان من الطعام أو ثلاثة، ولم يبلغوا ما يقدم لنا صباح مساء، فقال: أخشى أن أكون ممن قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].

عمر وما أدرانا ما عمر ومن عمر ؟ عمر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو كان في أمتي محدثون لكان منهم عمر ، وما سلك عمر فجاً -أي: طريقاً واسعاً- إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه ) لا يتلاءم معه، ولا يصاحبه في شارع ضيق ولا واسع، هذا عمر ترتعد فرائصه، ويجفو الطعام بين يديه، ويقول: أخشى أن أكون ممن قال الله فيهم وقوله الحق: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]، فالذين يأكلون الربا من بيننا، ويؤثرون الحرام ويأكلون الزقوم بأي طريق يصلون إليه، أليسوا قد أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا؟ أكلوا الربا، أليس من أجل أن يأكلوا الطعام اللذيذ والشراب الطيب واللباس والسكن؟ نعم، والله، ولا أطيل.

يا أبنائي! الحقيقة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن زكى نفسه بأدوات التزكية والتطهير وباعدها عما يدسيها نجا وفاز بالملكوت الأعلى وفتحت له أبواب الجنة، وواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين

ومن أبى إلا تدسيتها بأوضار الشرك والمعاصي والإعراض عن كل مزكٍ لها ومطهر حتى كلمة لا إله إلا الله في إخلاص وإنابة فلا يلومن إلا نفسه.

معاشر الأبناء! نعود إلى الموضوع بإيجاز، عرفنا أن الدعوة إلى الله واجبة، وأن علينا أن نسلم في حدود ما نستطيع، إذ كلنا تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم، من ذا الذي يقول: معذرة أنا لست بتابع له؟! والله يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فكل تابع لرسول الله ملزم بأن يضرب بسهمه في هذه الدعوة، وليبدأ أحدنا بنفسه يخوفها، يحررها من عدوها، يجعلها لله، لا تعبد إلا الله، وإنها لدعوة وشرف، وينتقل بمن يعول كما في السنة: ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول )، فكل واحد مسئول عن ابنه، عن أخيه، عن زوجه، عن أبيه، عن والدته، فليبذل ما يستطيع بذله في أن ينقذ المنحرف أو الساقط الهابط من أقربائه، ولا يعذر أحد إلا بعد أن يبذل ما يمكن أن يبذله، ويبلغ الدعوة بأساليبها إلى أن ينجح، أو يموت دون ذلك شهيداً قد أبلغ دعوة الله.

أهمية العلم في الدعوة إلى الله تعالى

هذه الدعوة لابد من مراعاة العلم فيها، فالعلم ضروري، فلو أن واحداً قام الآن وقال: معشر المستمعين الكرام! إن هناك مأدبة فاخرة عظيمة، تعالوا، فتشرئب أعناقنا ونخرج: أين الوليمة؟ أين المأدبة؟ فيقول: ما أدري، سمعت بها، أين هي؟ ما استطاع أن يأخذ بنا إلى هذه المأدبة، كيف يكون موقفه معنا؟ أضلنا، فتننا وحيرنا، فلابد لمن يدعو إلى وليمة أن يعرف دارها برقمها، بطريقها الأقرب إليها؛ لتكون دعوته دعوة حقيقية نافعة.

أما أن يدعو وهو جاهل فإنه يتعب الناس ويحيرهم، ولا تقولن: ومن أين لنا العلم؟ العلم ميسور، سئل ابن عباس رضي الله عنه: بم نؤتى العلم يا حبر؟ قال: بلسان سئول وعقل عقول، بلسان سئول كثير السؤال، وعقول كثير العقل والضبط.

ولهذا أقول دائماً للمؤمنين في مثل هذه المجالس: لسنا في حاجة ماسة إلى مدارس ومعاهد وكليات أبداً، تلك للصناعات، أما بالنسبة إلى الطريق إلى الله والفوز برضا الله فلا نفتقر إلى كل هذا أبداً، اعمل بفأسك ومسحاتك طول النهار، وإذا أردت أن تعبد الله بشيء اسأل العالم: كيف أعمل لربي؟ فإذا قال: افعل كذا فعلت، ولم يحل بينك وبين الفعل الدنيا كلها، وقد ضربنا أمثلة لهذا، يجيء الرجل ويقول: (أي العمل أحب إلى الله يا رسول الله) في طرف الحلقة، فيقول: كذا وكذا، فلا يترك ذلك العمل حتى يموت.. (أي الذنب أعظم عند الله يا رسول الله؟) فيقول: كذا، فلا يقربه حتى يموت.

فعلومنا ومعارفنا الموصلة لأرواحنا، إلى ذلك الكمال لا تفتقر أبداً إلى هذه المدارس والكليات، وليس هذا تثبيطاً لعزائم الناس، ولكن نقول: ما هي بحاجة أبداً، أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثرهم أميون، لم يعرفوا القلم ولم يكتبوا به، لكنهم أصدق هداة الأنام، مصابيح الدجى، أناروا الحياة؛ لأن هذا العلم ما يفتقر إلا إلى الإخلاص والصدق والتطبيق، ليست العلوم معارف فقط تتراكم، وأصحابها والعياذ بالله تعالى مقطوعو الصلة عن الله، لا يربطهم بالله رابط.

الدعوة تفتقر إلى العلم، من دعا إلى شيء يكون قد علمه وعرفه، هذه المعرفة حتى لا يخوف الناس ويقول: يجب أن تدرسوا وتترقوا وتتنقلوا من مدرسة إلى أخرى.. أبداً، اسألوا، تعلموا، تأتي بالرجل وتقول له: أي عبد الله! اقرأ علي القرآن، أسمعني كلام الله، فيقرأ آيات فتنطبع في نفسك، وتشع أنواره في قلبك، وإذا بك مزدهر النفس، مجرد أن يسمع فقط، أما قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] سمع وفهم وعرف، إن شاء الهداية اهتدى، وإن رضي بالضلال بقي على ضلاله، فهو السماع فقط.

فالذي يعوزنا أو ينقصنا هو الصدق، أما العلوم والمعارف فهي متوفرة والأعمال قلت، فمن هنا أقول: العلم يا من يدعو إلى الله! اعلم ثم ادع، كيف تعلم؟ اسأل، تعلم، جالس الصلحاء والعلماء وتعلم، عرفنا أميين ما قرءوا ولا كتبوا، يقول لك: الآية الفلانية في السورة الفلانية، والله العظيم، ولم يحمل القلم، ولم يعرف الألف ولا الباء.

واحذر من الجهل؛ فإن الجاهل بالشيء لا يستطيع أن يهدي به وهو جاهل به، ولا ينفع أبداً، فلابد من العلم، وطلب العلم فريضة، ليس على اختياري، كل مؤمن يجب أن يعرف الطريق إلى الله، يعرف محاب الله ومكارهه، يعرف الله أولاً بأسمائه وصفاته، فإذا عرف دعا.

أهمية اليقين في الدعوة إلى الله تعالى

ثانياً: اليقين، وهذه حالة صعبة يعيش عليها المسلمون، وهي أنهم فاقدون لليقين في الجملة، واليقين عزيز.

ونستشهد له بمسألة عمر رضي الله عنه، فقد هجس في نفسه هاجس، وخطر بباله خاطر، وقال: نحن أميون لا نقرأ ولا نكتب، فكيف قبلنا الإسلام ودخلنا فيه بمجرد أن سمعناه؟! وأهل الكتاب جيراننا من اليهود والنصارى أهل كتاب يقرءون ويكتبون ويعرفون ولم يسلموا ولم يدخلوا في الإسلام؟ حقيقة، هذا هاجس سجية في النفس، كيف هم علماء وما قبلوا هذا الدين، ونحن أميون فقبلنا! أي سبب لهذا؟ وفي القرآن الجواب:

أولاً: قال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78]، تدخل في مساجدنا في البلاد الإسلامية يوم الجمعة قبل الصلاة، تجد الأمة تقرأ القرآن وفي أيديها مصاحف، فتظن أنهم علماء، وأنهم عارفون، وأنهم بصراء، فقهاء، يقرءون كتاب الله، وفي الواقع لا يعرفون شيئاً، إلا مجرد قراءة، كما كان أيضاً جيراننا بالمدينة من اليهود، لما يدخل عليهم في بيتهم ودارهم وإذا مصاحف التوراة بين أيديهم يدجلون ويهمهمون، قال تعالى عنهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ، إلا قراءة، أحد وجهي التفسير، وأوضح من هذا: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [النساء:162]، وهذا هو الفرق بين صاحب القدم الراسخة وبين المعلومات الوهمية السطحية، وهذه حقيقة تأملوها وتدبروها، أما سمعنا الله يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، والرسول يقول: ( أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له وأشدكم خشية )، انتبهوا! فأيما عالم علمه سطحي ما تمكن من نفسه ولا استطاع أن يحول أو يغير غرائزه، فهذا العلم صاحبه ذلك أمي، فالعلم الحق هو الذي يغير نظريات الإنسان ومجرى سلوكه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، حتى قالوا: العلم الخشية، فمتى وجدت الخشية فالعلم حاضر، وهو كذلك والله العظيم، لو وجدت الأمي ترتعد فرائصه من خشية الله؛ يخشى أن ينظر نظرة لا ترضي الله، أو يعمل شيئاً يسخط الله، فاعلم أنه هو العالم، عرف أيقن بوجود الله وجماله وكماله، وما لديه وما عنده، وترى الرجل يتلو ما يتلو ويقرر ما يقرر ويتصرف في معارف العلوم ويمحو ويكتب، وهو لا يستطيع أن يضبط نفسه ساعة، وتراه كالهمل في المعاصي والموبقات، فهل هذا عالم؟ ما علم، علمه سطحي، ما هو بيقيني.

وقد حضرت محاضرة للشيخ أمين الحسين الفلسطيني ألقاها في الجامعة الإسلامية أيام فتحها وبدايتها، وهي كلمة جديرة بأن يسمعها الأبناء ويعوها، وهي: أن هذا التنظيم التعليمي وبرامج التعليم ليست برامج إسلامية نبعت من فقهاء الإسلام ورجال العلم فيه، بل هي مستوردة من الغرب، نهايتها كبدايتها؛ بدايتها إزالة الأمية حتى يتفاهموا مع أناس غير أميين؛ لأن الغرب لا يعطونهم حقهم، ويقولون: نرقى بالمستعمرات أو بالشعوب المتخلفة الفقيرة التي تحت أيدينا إلى مستوى يتجاوزون به حد الحيوانية، حتى إذا خاطبناهم يفهمون عنا، وأوصلوا الناس إلى مستوى الذبذبة والحيرة.

فأوجدونا كما يعلمنا الله؛ علماء غير علماء، عارفين غير عارفين، أميين ولسنا بأميين، ولهذا أسوأ حال يعيشها المسلمون هي هذه، لمن يعمل أو يتقي؟ هذا تخطيط ليصبح العبد في مستوى الذبذبة، وينتهى به.

أيام كان يطلب العلم لله، ويعكف عليه طالبه، يجلسون عليه السنين لا يضطر للإجابة، إذ هم فقط يتعلمون ليعرفوا الله ويذكروه، ليستقيموا على المنهج الذي يعبدونه به، فلما أصبح التعليم شهادات تصل بالطالب إلى وظيفة، من هنا أصبح العلم -يقيناً- علوماً سطحية في آذان المسلمين، ما تعمقت ولا توصلت إلى وجدانهم، وإن رأيت أناساً صالحين فاعلم أنهم ما أخذوا هذا من العلم، أخذوه من المجاورة أو التربية أو المجالسة لآبائهم أو مشايخهم، أما العلم الذي تلقوه فما ينتج خشية ولا يولد التقوى؛ لعلة معروفة: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، لو تجتمع الدنيا كلها على نقض هذه القاعدة والله ما نقضوها، ولم يختلف الأمر أبداً: (لكل امرئ ما نوى).

فإذا كنا نطلب العلم للوظيفة فعلى العلم السلام، وعلى العمل كذلك السلام؛ لأننا أصبحنا ما نعبد الله بهذا العلم، وإذا هان هذا في الذكران فما بالنا في الإناث؟! الإناث يتعلمن ويتسابقن لأي غاية؟ ليعبدن الله؛ لتتمكن الخشية من قلب أمة الله فتخر صارخة إذا ذكر الله؟ اللهم لا، لأي شيء إذن؟ للتيهان والضياع، هل بلغكم أن من المتعلمات المتخرجات في العالم الإسلامي ربانيات كـالزهراء وعائشة ؟ لا؛ لأن العلم ما طلب لله؛ طلب إما لوظيفة أو لسمعة أو شهرة، وما لم يكن كذلك لا يكمل تقواه.

ومن هنا نقول: بعد العلم اليقين، يجب أن تكون علومنا يقينية، ما ندعو ونحن شاكون في الله، ما نخوف من عذاب الله ونحن غير مطمئنين إلى وجود هذا العذاب، ما نرغب في النعيم العلوي ونحن غير موقنين بأن هناك نعيماً، لا ندعو إلى الإصلاح عن طريق كتاب الله وسنة نبيه ونحن غير موقنين أن الإصلاح من طريقهما، لابد من مستوى اليقين، كما نقول: أقسم بالله الذي لا إله غيره، ما كمل إنسان ولا سعد في الدنيا والآخرة إلا على الإيمان وصالح الأعمال، إلا بعد أن يخلص من أوضار الشرك والمعاصي، لن يستطيع أحد أن يقنعنا أن شعباً أو أمة يمكنها أن تكمل أو تسعد على غير الإيمان وصالح الأعمال يقيناً، فلهذا إذا دعوت أنا فإنما أدعو النقيض وهو الشاك، فالذي يدعو وهو شاك ما ينفع، لابد من اليقين.

الإخلاص في الدعوة إلى الله تعالى

وبعد ذلك الإخلاص، بمعنى أن تخرج من حظوظ نفسك ومن إرادة غير الله، لا تدعو لتحصل على مال، ولا لتحصل على جاه، ولا شرف ولا صيت ولا ذكر، هذه كلها معوقات وأهلها منجرفون معها، الداعي حسبه شرفاً أن أصبح -كما قدمنا- واسطة بين الله وعباده، لا هم له إلا إرضاء مولاه فقط، أما أن يرائي في دعوته حتى يصبح يدعو إلى النقيض لنفسه فقد هلك.

فلابد من الإخلاص والتجرد، وليس هذا بالمستحيل ولا بالصعب؛ فإن الله ما كلفنا المستحيل ولا كلفنا شاقاً؛ بل التكاليف كلها وإن كانت من الكلفة والمشقة، ولكنها ميسورة وسهلة لمن استعان الله عز وجل، وطلب أن يعينه.

الحكمة في الدعوة إلى الله

إذاً: علم ويقين وإخلاص، هذه ثلاث خطوات، وهي خطوات كثيرة أزيد رابعة: الحكمة، فالداعي ينبغي أن يكون مشبعاً بروح الحكمة، والحكمة قد تكون في بدنك، لا تقل: لابد من قراءة بقراط وسقراط وفتن الأولين، الحكمة مودعة في الصمت، من لازم الصمت أجرى الله على لسانه الحكمة، والحكمة ثمرة التقوى.

معاشر الأبناء! أطلت عليكم، والحديث ذو شجون، ولا شك أنكم عرفتم من المحاضرة شيئاً، وهو أن أشرف حال أن يكون عبد الله واسطة بينه وبين عبيده، كل واحد منا يظهر بهذا اللسان يرد إليه من شاء من عبيده وإمائه، حسبه هذا، ولابد أن يكون عالماً بربه ومحابه ومساخطه، لابد أن يكون موقناً يقيناً كاملاً كأنه يرى الله، ويرى جنته وناره؛ لأن حارث الأنصاري سئل عن إيمانه، فقال: آمنت وأصبحت معه كأني أنظر إلى ربي فوق عرشه، آمنت إيماناً أصبحت معه كأني أنظر إلى أهل الجنة وهم يتزاورون فيها، وكأني أسمع أهل النار وهم يتضاغون ويتصايحون فيها، قال: عرفت فالزم.

علم، يقين، إخلاص، الإخلاص: أن تنظر إلى ربك فقط؛ لأنك داع، وبهذه الخطوات يحصل المؤمن على هذا الشرف، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم من أهله.