وذروا ظاهر الإثم وباطنه


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

وحييتم في هذه الروضة من رياض الجنة تتبوءونها بمجلسكم هذا، فإنه {ما مشى عبد إلى مسجد من مساجد الله عز وجل لأداء فريضة من فرائض الله؛ إلا كانت خطواته إحداهما ترفعه درجة، والأخرى تحط عنه خطيئة، ولا تزال الملائكة تدعو له وتستغفر له ما دام في مصلاه ذلك ما لم يؤذ فيه}.

فهذا خيرٌ عظيم، وهو إعادة للدور والمكانة التي كان يتبوؤها المسجد في عهود الإسلام الأولى حين كان المسجد هو حلقة الدرس والجامعة التي تخرج الأجيال، وكان المسجد هو ميدان التدريب على الرماية وفنون القتال، وكان المسجد هو مجلس الشورى الذي يتدبر فيه المسلمون أمورهم، يتشاورون فيما بينهم، ويتباحثون فيما يعرض لهم، ثم مرت بالمسلمين أحقاب وأزمنة عمروا فيها المساجد وشيدوها، ورفعوا فيها المنائر، وفخموا فيها الأبنية، واعتنوا بذلك أتم عناية، ولكنهم أهملوا الحقيقة التي من أجلها وجد المسجد فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36].

إن رفعها ليس ببنائها فحسب، ولا بتشييدها فقط، إنما رفعها الحق هو بإقامة ذكر الله تعالى فيها، وجعلها مجلساً للدرس، والبحث، والتعلم، والجدال بالتي هي أحسن، وبإعادة مهمتها، ومكانتها التي أوجدت لها، فالحمد لله تعالى حمداً كثيراً مباركاً فيه أن عادت المساجد اليوم في رقاع العالم الإسلامي إلى ما كانت عليه أول الأمر، فأصبحت المساجد اليوم منطلقاً للدعوة، ومكاناً للدروس وحلق العلم والمحاضرات، وميداناً لنشر الكتاب والشريط، وموضعاً لإعلان الفتاوى العلمية التي يصدرها أهل العلم في بلاد الإسلام، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين وغيرهما من أهل العلم وأئمته.

فالحمد لله على ذلك كثيراً، والحمد لله أن رأينا بأعيننا كيف عمرت المساجد بحلق تحفيظ القرآن الكريم، وحلق تحفيظ السنة النبوية، ودروس العلم، ومحاضراته، وغير ذلك مما هو نافع مفيد، ثم شكراً لله تعالى شكراً، وحمداً له حمداً، أن وفق مكاتب الدعوة في سائر البلاد -في هذا البلد وفي غيره- إلى المساهمة في هذا الإحياء الإسلامي المنشود لدور المسجد ورسالته، وهذا يجعلنا حريصين أشد الحرص على دعم مكاتب الدعوة بقدر المستطاع، والوقوف إلى جانبها، ومساعدتها في أداء مهمتها ورسالتها بكل غالٍ ونفيس.

ومن ذلك دعمها الدعم المادي، فإن مكاتب الدعوة على رغم الدور العظيم التي تقوم به في هذه البلاد، إلا أنها تفتقر إلى الدعم المادي الذي يمكنها من أداء رسالتها، وهي لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة إلا بأن تمدوا -أنتم أيها الإخوة الحاضرون، وأيها الإخوة المستمعون- أن تمدوا أيديكم إليها بالعون والمساعدة المادية والمعنوية.

وإنني أقول لإخوتي الأحبة الكرام: حقٌ علينا جميعاً أن نقف صفاً واحداً، وكلمةً واحدة، ويداً واحدة في سبيل نصرة الحق والدين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14].

فـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ [الصف:14] انصروا الله تعالى في أنفسكم، وفي أموالكم، وفي بيوتكم، وفي مساجدكم، وفي مسئولياتكم، وفيما ولاكم الله -تعالى- واسترعاكم عليه، يخلف لكم الله تعالى بذلك أجراً وذخراً، وهو المطلع على ذلك: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39].

عنوان هذه المحاضرة أيها الأحبة: هو جزء من آية من كتاب الله جل وعز: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] وهي تنعقد في هذه الليلة، ليلة السبت السابع عشر من ذي القعدة من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، في مدينة المذنب، في مسجد الجمل.

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] إنه منتزع من تلك الآية الكريمة الآية مائة وعشرين من سورة الأنعام، قال الله عز وجل: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام:120] وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد تطواف طويل في السورة، في عدد من أصحاب الجرائم والكفر والمعصية لله تعالى، تحدثت الآيات قبلها عن الذين أنكروا الوحي والنبوات، وأجلبوا في وجه الرسل عليهم الصلاة والسلام وقالوا إِذْ قَالُوا مَا أَنـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام:91].

فأبدوا قراطيس، وأخفوا حقائقها ومعانيها وجواهرها؛ لأنهم أظهروا ما لا بد من إظهاره، وكتموا الحق الذي اؤتمنوا عليه، فكانوا كما قال الله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] وجاءت هذه الآيات بعد ما ذكر الذين يدعون نقيض ذلك، فيزعمون أن الله تعالى اختارهم واصطفاهم، وأنـزل الرسل عليهم بكرة أو عشياً، ويقولون: قد أنـزل علينا الوحي، فعاتبهم الله تعالى وجلَّى كذبهم وزيفهم، وقال سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام:93] وهؤلاء ما ادعوا دعواهم العريضة تلك بتنـزل الرسل عليهم، ومجيء الوحي إليهم، إلا من استكبار في أنفسهم وإثم في قلوبهم، دعاهم إلى أن يدعوا ما ليس لهم بحق، وما زال ورثة هؤلاء الكذابين الأفاكين، قائمين إلى اليوم.

وقبل أيام أعلن التليفزيون اليمني عن رجل يدعي النبوة، ويقول: إن ماءه الذي يوجد في بئره خيرٌ وأكثر بركة من ماء زمزم، لأن ماء زمزم مذكر، وماؤه هو مؤنث، وهو خير منه! وادعى أن الملائكة تنـزل عليه بوحي الله عز وجل، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويقدر على شيء من ذلك كثير، وأتيحت له وسائل الإعلام في الوقت الذي يحال بين دعاة الحق ودعاة الهدى وبين هذه الوسائل بشتى الأساليب، والطرائق، والحيل، والألاعيب.

وجاءت هذه الآيات الكريمة بعد ما ذكر الله تعالى الذين أشركوا به آلهة أخرى، وأشركوا، واتخذوا من دونه أنداداً: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [الأنعام:100].

فهؤلاء الذين أشركوا بالله عز وجل ما أشركوا به إلا لمرض قلوبهم بالشهوة أو بالشبهة، وعبادتهم غير الله عز وجل، وتقصيرهم في معرفة ما يجب لله، وتعظيمهم لبعض المخلوقين تعظيماً أوصلهم إلى أن رفعوهم إلى مقام الألوهية، وجعلوا لهم شركة في العبادة، فأشركوا مع الله تعالى الجن أو غير الجن.

وجاءت هذه الآية الكريمة بعد أولئك الذين ادعوا دعوة عريضة أنهم أهل للإيمان وأهل للتقوى، وأنه متى جاءتهم الحجج البينة والآيات الظاهرة آمنوا بالله عز وجل، قال الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:108-109] فهم يدعون أن توقفهم في الإيمان هو من باب التثبت والتحري والبحث والصبر، وأن الذين أسرعوا في الإيمان هم من ضعاف العقول، وضعاف النفوس، السريعين إلى قبول كل قول، ولهذا أقسموا بالله جهد أيمانهم.

فأنت تتصور بين عينيك إنساناً بطوله وعرضه وبلسانه الفصيح المبين، يقسم بالله أيماناً تُرَوب الماء، وليس اللبن، أنه لو جاءته حجة ظاهرة وآية بينة لآمن وأسلم، ولكن الله تعالى يقول: هم كاذبون، وإذا جاءتهم هذه الآيات لا يؤمنون، وإنما حال بينهم وبين الإيمان أنهم رأوا الحق فأعرضوا عنه، ولهذا حيل بينهم وبينه:وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:109].

جاءت الفرصة فأعرضوا عنها، فعاقبهم الله عز وجل بأن حال بينهم وبينها، وجعل أفئدتهم وأبصارهم زائغة لا تستقر على حال: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] أما أولئك الذين أسرعوا للإيمان فهم أهل التقوى والصدق وأهل النقاء والنظافة في قلوبهم، ما حال بينهم وبين الإيمان كبر ولا غطرسة ولا أنفة في قلوبهم ولا تعاظم في نفوسهم، وما قالوا: لَوْلا أُنـزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان:21] بل قالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النساء:46] وأجابوا داعي الله عز وجل.

وجاءت هذه الآية بعد ذكر الذين يتمردون على شريعة الله، ويعاندونها بالباطل، يجلبون في وجه الحق بشبهات من عندهم يزخرفونها بجميل القول وحسن العبارة، ويأتون بالقانون المعارض لشرع الله تعالى، ويأتون بالهوى المعارض للحق، ويلبسون به على الناس: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112].

فهم يتعاونون فيما بينهم: (شياطين الإنس وشياطين الجن) يتعاونون على الزخرفة والتلبيس على الناس، قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112] ثم قال: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113] فلا يصغي لهم أذنه، ولا يلين لهم قلبه، ولا يجعل لهم عقله ميداناً، إلا أولئك الذين لم يؤمنوا بالآخرة، ولم يجعلوها في حسابهم، فتلبست بهم الشبهات، واجتالتهم الشياطين، وأعرضوا عن الحق أيما إعراض، ورضوا بحكم الهوى عن حكم الله جل وعلا.

بعد ذلك ذكر الله تعالى أيضاً الأكثرية من الناس التي رضيت بالباطل وقبلته، بل أصبحت من الدعاة إليه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].

لأنهم إما مقلد أعمى يغتر بمعسول القول وحلو العبارة، وينخدع بما تروج له أجهزة الإعلام، فيقرأ في الصحف العناوين العريضة، ويشاهد في التلفاز البرامج المرئية المؤثرة الكثيرة، ويسمع في الإذاعة حسن القول ومعسوله، ويقرأ في الكتب القصص، والأشعار، والقصائد، والتحاليل، والأخبار، والدراسات التي توصف بأنها تاريخية وعلمية وموضوعية وغير ذلك من الألفاظ والألقاب الفضفاضة؛ فينخدع بذلك فيتحول من إنسان على فطرته إلى شخص منخدع بالباطل، ثم ينتقل بعد ذلك خطوة أخرى ليصبح داعية إلى الضلالة، من أطاعه أضله عن سبيل الله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].

إن أكثر الناس إنما هم مقلدون، عقولهم وقلوبهم هي مسرح لآراء الآخرين، قد رضوا أن يفكر عنهم غيرهم، وأن ينظر في الأمر سواهم، ثم يملي عليهم ما وصل إليه، فيقبلون ذلك منه، ويرددونه بألسنتهم دون أن تعيه قلوبهم، ولو نظرت عبر التاريخ كله لوجدت أن الجاهلية التي واجهت الرسل عليهم الصلاة والسلام كان لها زعماء يغرون العامة، ويقولون لهم: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً [نوح:23-24].

بعد ذلك ذكر الله عز وجل في الآيات موضوع الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وأن المؤمنين عليهم أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وذبح بالذكاة الشرعية، قال الله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [الأنعام:119].

لقد قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أنتم تأكلون ما ذكيتم، ولا تأكلون ما ذبح الله عز وجل، فتأكلون ما ذبحت أيديكم، ولا تأكلون ما ذبحه الله بسكين من ذهب؛ يعنون الميتة، لماذا تفرقون بين هذا وذاك؟

هذا من وحي الشياطين، شياطين الجن والإنس الذي هو قانون وضعي يعارضون به شريعة الله تعالى، فشريعة الله تقول المذكى حلال، المذكى باسم الله على يد مسلم أو كتابي هذا حلال، أما شريعة الطاغوت فتقول: حتى الميتة حلال، والدم حلال، لماذا؟

لأنها مما ذبحه الله عز وجل، فالحكم أنها حلال في شريعة الطاغوت، والتعليل أو الدليل أنها مما ذبح الله، وهذا من تلبيس الشيطان على بني آدم، فهو من وحي شياطين الجن تلقفه عنهم شياطين الإنس، ورموا به في وجوه المؤمنين بالتشبيه والتشكيك، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ [الأنعام:121] أي: في تحليل الحرام أو تحريم الحلال واعتقاد ذلك إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:118-119] والله تعالى قد أحله لكم، وفصل لكم ما حرم عليكم في الأحوال العادية في غير الضرورة، ثم قال تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام:120].

إذاً: من الإثم الظاهر أن تأكل الميتة لغير ضرورة، فهذا إثم ظاهر، قال الله تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] وإن لبس في ذلك المشركون والملبسون، ومن الإثم الباطن أيضاً اعتقاد حلها بالقلب ولو لم يأكلها، وهذا من الشرك بالله عز وجل ومن طاعة المشركين، ولهذا قال الله عز وجل: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] قال بعض المفسرين: إن من الإثم الباطن الزنا، وإن من الإثم الظاهر نكاح المحارم كأن ينكح الإنسان ما نكح أبوه من النساء، أو ينكح المحرمات عليه منهن.

ثم أعقب الله تعالى الآية بقوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121] نعم، إن الله تعالى يرشدنا حينئذ إلى أن نتجنب الحرام، ومن الحرام -مثلاً- الميتة، فإن الميتة يتجمد الدم ويتحجر في عروقها فتخبث وتفسد، فإذا أكلها الإنسان داخلت جسمه، فكان جسماً نبت على سحت ونجس وحرام، وذلك الدم هو دم نجس خالط اللحم كله فنجسه، وكان بذلك حراماً.

ومن المعلوم أن الشريعة قد جاءت بالوضوء من لحوم الإبل، وما ذلك إلا لأن الإبل في لحمها شدة وشرة وحرارة، فإذا اختلطت بالبدن أثرت فيه، فكان الوضوء يخفف من أثره، ويقلل منه، ويزيل بعض ملابسته للبدن، مع أن المعروف أنه حتى مخالطة الإبل، وملابستها عن بعد عن طريق الرعي تؤثر في الإنسان، ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن غلظ الأكباد وقسوة القلوب في الفدادين أصحاب الإبل} فهم أغلظ أكباداً، وأقسى قلوباً، وأبعد عن الهداية، وعلى كل حال فالهداية بيد الله تعالى.

هذا هو سياق الآيات، وبها يظهر معنى ظاهر الإثم وباطنه، وللآية وجه آخر ذكره الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره، حيث قال ما معناه: إن الله تعالى يخاطب المؤمنين، ويقول لهم: إن أردتم الزهد وطاعة الله عز وجل والتقرب إليه، فتقربوا إليه بترك الإثم ظاهراً وباطناً، لا بترك المباح الذي أحله الله تعالى لكم مما ذبح باسم الله عز وجل، فهو كقوله عز وجل: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177] إلى غير ذلك من الآيات.

وقد جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه {أن رهطاً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا فلم يجدوه، فسألوا عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال آخر: لا آكل اللحم، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا. قالوا نعم يا رسول الله، قال: أما إني أعلمكم بالله عز وجل وأتقاكم له، وأعلمكم لما اتقى، وإنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني}.

إنه لا رهبانية في الإسلام، والإسلام جاء ليحل الطيبات. ويحرم الخبائث، كما قال الله عز وجل: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] وقال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:32] أي: ويشاركهم فيها غيرهم: خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32] لهم من دون الناس.

لهذه الآية الكريمة نظائر في كتاب الله جل وعز، وهي في موضعين: أولهما: قوله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].

والآية الثانية هي في سورة الأعراف: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] والقرآن مثاني كما قال الله عز وجل يشهد بعضه لبعض، ويؤيد بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً، فالإثم الظاهر والباطن هو الفواحش ما ظهر منها وما بطن المذكور في الآيتين.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه العظيم مدارج السالكين قال ما خلاصته: إن العبد لا يستحق اسم التائب استحقاقاً كاملاً تاماً إلا إذا ترك جميع المحرمات التي نهى الله تعالى عنها في القرآن، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها في السنة، والمحرمات اثنا عشر جنساً، ذكرها الله تعالى في كتابه، هي الكفر، والشرك، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والإثم، والعدوان، والفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول على الله تعالى بغير علم، واتباع غير سبيل المؤمنين.

ثم قال رحمه الله: فهذه عليها مدار ما حرم الله عز وجل، وعامة الخلق يرجعون إليها ويقعون فيها إلا من عصم الله جل وعز من أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد يكون في الرجل أكثرها، أو أقلها، أو خصلة منها، وقد يعلم ذلك أو لا يعلمه، والمعصوم من عصمه الله تعالى.

فينبغي أن تعلم هذه الأصول من المحرمات، وأن تعلم أن من أعظم ما جاءت به الرسل النهي عن هذه المحرمات، والتحذير منها بكافة الوسائل والطرق.

ثالثاً: دلالة الآية: الآية أمرت بترك الإثم، وهو المعصية التي توجب الإثم، وإنما سميت المعصية إثماً لأنها سبب في الإثم الذي يلحق العبد، ولهذا سمى العرب الخمر إثماً، كما قال شاعرهم:

سقوني الإثم ثم تكنفوني     عداة الله من كذب وزور

أي: سقوني الخمر، وقال آخر في مجلس أبي العباس:

نشرب الإثم بالصواع جهارا     وترى المسك بيننا مستعارا

أي: يشربون الخمر، وقال شاعر جاهلي ثالث:

شربت الإثم حتى ضل عقلي     كذاك الإثم تذهب بالعقول

وإنما سميت الخمر إثماً لأنها سبب في الإثم، أو داعية إليه.

ولهذا قال مجاهد في تفسير هذه الآية: المقصود بالإثم الظاهر والباطن معصية الله تعالى في السر والعلانية، وعبارة المفسرين كلهم تدور حول هذا المعنى؛ وهي أن الآية قسمت الإثم إلى قسمين:

الأول: إثم ظاهر يراه الناس بعيونهم، أو يسمعونه بآذانهم ويعرفونه.

والنوع الثاني: إثم باطن لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لا يعلمه إلا القليل من الناس.

ثم توعد الله تعالى الذين يكسبون الإثم أن يكون كسبهم للإثم خسارة عليهم يوم الحساب: سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام:120] أي: من الجرائم والآثام.. متى؟

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30].

رابعاً: ظاهر الإثم: ما هو ظاهر الإثم؟

ظاهر الإثم: علانيته، كما قال قتادة، والربيع بن أنس، وأبو العالية، ومجاهد، والزجاج وغيرهم من المفسرين، وذكر ذلك الطبري، وابن كثير، وابن الجوزي، وسواهم، وظاهر الإثم أو علانيته يشمل أموراً منها:

أولاً: المجاهرة بالمعصية وإعلانها على الملأ، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل أمتي معافىً إلا المجاهرين} أي: المعلنين بالمعاصي الذين لا يستترون بها، والمجاهرة بالمعصية تضاعف إثمها، فإن العاصي إذا استسر بمعصيته ضر نفسه فقط، أما إذا جاهر فإنه يكون بذلك ضر المجتمع كله، وجرَّأ آخرين على الوقوع في الإثم، أو تقليده في ذلك ومحاكاته، وبذلك انتقلت لوثة المعصية إلى المجتمع كله، فتنفسها الناس في الهواء، وشربوها مع الماء، ورضعوها مع لبن الأم، وتعاطوها بكل حال؛ لأنها أصبحت جزءاً من أعراف المجتمع ورسومه، يفعلها الجميع علانية لا يستترون بها، ولا يدارون عنها.

متى يجاهر الإنسان بالمعصية؟ إنه لا يجاهر بها إلا إذا كان في قلبه استخفاف بالذنب، وجراءة عليه، وتهاون بالمجتمع، ولا يجاهر بالمعصية أيضاً إلا إذا كان المجتمع مقصراً أو مفرطاً بشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب على الخطاة والجناة والعصاة، فهو يسكت ويجامل ويستحي، يسكت عن هذا لقرابته، ويسكت عن هذا لمنـزلته، ويسكت عن هذا لإمارته أو سلطانه، ويسكت عن هذا لمنصبه، ويسكت عن هذا لتجارته.

وبذلك يستمرئ الناس المعصية، فيعذب المجتمع كله بسببها، ولو كان الذي يفعلها قليلاً، فإن الناس إذا رأوا المعصية، ورأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب، كما جاء ذلك في أحاديث صحاح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يعني أبداً أن المجاهر بالمعصية يكفر بذلك، كلا! بل هو آثم فاسق، ولكنه لا يكفر ما دام معتقداً أن المعصية حرام، إنما يبقى الحديث على ظاهره: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين}.

يبقى ليكون أهيب في النفوس، وأوقع في القلوب، وأردع عن الوقوع فيما حرم الله تعالى، ولهذا مجرد المجاهرة ليست كفراً، ولكن ننطق بما نطق به الصادق المصدوق أن كل الأمة معافى إلا المجاهرين فهم غير معافين، وكيف يكونون في عافية وهم يجاهرون ويبارزون الله تعالى بالمعصية؟!

ولهذا قال السدي، والضحاك وغيرهما في هذه الآية وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] قالوا: ظاهر الإثم أولات الرايات، وباطنه أولات الأخدان.

ما معنى هذا الكلام؟

معناه: أنه كان في الجاهلية نساء يعتبرن الزنا حرفة ومهنة يقمن بها، وهذا معلن، وتضع الواحدة منهن الراية على بيتها، حتى يعرفها الغريب فيأتي ويأوي إليها، إنها تعلن بجريمتها وإثمها، وتتظاهر بذلك، فهذا من ظاهر الإثم.

أما باطن الإثم فهن أولات الأخدان؛ أن تجعل الواحدة لها صديقاً تخادنه، وترتكب معه المعصية، ولكنها لا تتعاطى ذلك مع الجميع، وهذا مشهود موجود حتى في مجتمعاتنا، فأنت تجد من المنحرفات وصاحبات النفوس المريضة اللاتي تغلبت عليهن الشهوة، تجد منهن من تركض مع كل من أخذ بيدها، عرفته أو لم تعرفه؛ لأنه داخلها من ذلك والعياذ بالله تعلق بالشهوة وتربص بها وركض وراءها، فهي لا تعف عن شيء، ولا تتردد في شيء.

وفي بعض بلاد الإسلام -مع الأسف الشديد- مع أنها بلاد إن لم تكن أغلبيتها مسلمة، فكل سكانها يقولون إنهم مسلمون، ومع ذلك قد تجد في بعض تلك البلاد مواخير الزنا وبيوت الدعارة علانية، وبعض بلاد الخليج مع الأسف الشديد أصبحت مكاناً للمومسات يأتين إليها من أنحاء الأرض والعياذ بالله، ويلتقي بهن شباب الإسلام حتى تنسلخ أخلاقهم وقيمهم، وتضعف قلوبهم ونفوسهم، ويرتكبوا ما حرم الله عز وجل، وينقلوا أوبئة الأمم الأخرى، وأمراضها وعيوبها وآفاتها إلى بلادهم وأسرهم ومجتمعاتهم النقية النظيفة العفيفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!

أقول يوجد في بعض النساء من تكون كذلك، قد انفتق قلبها على الشهوة، فأصبحت تركض وراءها وتبحث عنها، فهي كصاحبات الرايات التي تعلن بالمعصية، كل من اتصل عليها بالهاتف أو راسلها أو رمى لها برقم أو عنوان أو دعاها في سيارة ركبت معه لا تلوي على شيء، ولا تتردد في شيء، فهذا من ظاهر الإثم وعلانيته، أما باطن الإثم فقد مثل له هؤلاء الأئمة بأولات الأخدان التي تتخذ لها خدناً أو صديقاً أو حبيباً، وهذا كثير جداً حتى في بعض المجتمعات المحافظة، وحتى في بعض الأسر النظيفة النقية العفيفة، فتجد للبنت صديقاً تتصل به ويتصل بها، وتخلو به، بل وتركب معه، بل ترتكب معه ألواناً من الحرام دون الزنا، بل يصل الأمر إلى الزنا، وأول خطوة قد تكون يسيرة في نظرها، لكن الخطوة الأخيرة ولو كانت صعبة إلا أنها لم تستطع أن تمتنع عنها.. وكما قيل:

وكأس شربت على لذة     وأخرى تداويت منها بها

والله عز وجل يقول: لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21].

فالخطوة الأولى كانت نظرة، أو لمحة، أو كلمة، أو عبرة، أو ضحكة، أو مجاملة، والخطوة الأخيرة هي كسر الزجاجة، والوقوع في الفاحشة العظمى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33] وقال: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] لقد سماها الله تعالى فاحشة لأنها جمعت ألواناً من الإثم والزور والظلم والغبن الذي لا يحق ولا يحل، فما بالك حين يكون ذلك في شأن امرأة خانت زوجها، وغدرت بأطفالها وأولادها وبناتها، وألبستهم عاراً وشناراً لا يمحى، فخالفت زوجها إلى غيره؟!

بل ربما في بيته وربما على فراشه أيضاً؟!

المجاهرة بالمعاصي الشخصية

هذا نموذجٌ فحسب لظاهر الإثم في المجاهرة بالمعصية.

ومن ظاهر الإثم -أيضاً- المجاهرة بالمعاصي الشخصية المتعلقة بشخص الإنسان في ثوبه، أو كلامه، أو مأكله، أو مشربه، أو ملبسه، أو شعره، أو هيئته، أو ما أشبه ذلك: مما يراه الناس ويعرفونه، ويتكلمون عنه في مجالسهم، فإن هذا من ظاهر الإثم الذي نهى الله عز وجل عنه، ومن ذلك بل أخطر منه البوح ببعض الأشياء الخاصة، والتحدث بها في المجالس، والتمدح بها، واعتبار أنها علامة من علامات الكرم، والرجولة، والقوة، والفتوة، والشخصية.

فأحدهم إذا كبر المجلس قام يفتخر بمغامراته، ويعرض بأفعاله، ويتحدث عما فعل، فعلت كذا، وفعلت كذا، رحلات وعبث ليس تحته طائل، ويخبر عن تلعب الشيطان به في اليقظة لا في المنام.

ولو أنه استتر بستر الله عز وجل، واتقى الله، واستغفر الله تعالى، لكان في عافية، ولكنه جاهر، فدخل في قوله عليه السلام: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين}.

ومن ذلك أيضا التشبع بما لم يفعل من المعصية والزور، فبعض البنات في المدرسة إذا جلست في الفسحة مع زميلاتها فقالت إحداهن: صديقي فلان، وقالت الأخرى: أنا أتصل بشاب، وقالت الثالثة، وقالت الرابعة -وهي بنت نقية عفيفة لكنها استحت أن تنفرد من بينهن- قالت: وأنا لي صلة بابن عمي، وهو كذا وهو كذا، وهذا وإن كان قليلاً، لكنه ينبغي أن يحاصر من بدايته ويقاوم بقدر المستطاع، لتظل مجتمعاتنا نقية، فإن الثوب الأبيض يبين فيه الوسخ والعيب ولو كان قليلاً، بخلاف الثوب الأسود فإنه مهما وضع فيه الإنسان لا يبين ولا يظهر.

يجب أن تكون أسرنا ومجتمعاتنا وأفرادنا أثواباً بيضاء، تأبى على ألوان الغش والخداع والتدليس.

ومن ذلك أيضاً بل شر منه توثيق الإنسان جريمته ومعصيته بوثيقة يؤاخذ بها في الدنيا والآخرة، وأي عار أو شنار أعظم عند الله تعالى ثم عند الناس أن يتحلق الناس ليسمعوا ماذا؟!

ليسمعوا شريط مغازلة بين ذكر وأنثى، يقول لها فاحش القول، وترد عليه بمثل ذلك، وربما تحدث الناس فقالوا: فلان، وقالوا: فلانة، وأي عار أو شنار من أن يتناقل الناس صوراً بأيديهم على الورق تتحدث عن جريمة وقع فيها زيد أو عبيد من الناس؟!

وأي عار أو شنار أعظم من أن يتحلق الناس حول هذه الشاشة ليشاهدوا شريط فيديو يعرض جريمة وقع فيها فلان! وقد يكون شخصاً معروفاً مشهوراً يتحدث الناس باسمه، ويتكلمون عنه، ثم يتبعونه باللعنة على جريمته العظيمة التي غدر فيها ليس بامرأة، وإنما غدر فيها بمجتمع كامل، وغدر فيها بنفسه، وغدر فيها بأسرته، وعصى فيها الله عز وجل، هذه كلها ألوان من المجاهرات، لكنها يمكن أن توصف بأنها مجاهرات تتعلق بالجريمة الشخصية، أو الفردية، أو الفاحشة الخاصة بالإنسان.

المجاهرة بالمعاصي الجماعية

لكن ثمة ألوان أخرى من المجاهرات أعظم من ذلك وأخطر، ألا وهي: المجاهرات الجماعية، والمنكرات العامة التي يعلن المجتمع كله معصية الله تعالى من خلالها ويصر عليها، بل ويقيم المجتمع المؤسسات والدور والأجهزة التي تحرسها وتحميها وتدعمها وتقيم بناءها، ويظل هذا المجتمع عليها يغذيها بعرقه، وجهد أبنائه وماله وسمعته، ويعمل المجتمع على تدعيمها وتعميق جذورها وترسيخها يوماً بعد يوم.

تقول لي: مثل ماذا؟

أقول لك: بيوت الربا التي تجاهر بحرب الله عز وجل صباح مساء، تعلن الحرب على الله جل وعز: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:279] أي: بترك الربا، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].

بيوت الربا التي تدار فيها الفوائد المحرمة التي جاء في تحريمها أكثر من سبعة عشر حديثاً، فهي أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أقول بملء فمي: اقتصاد البلاد الإسلامية كلها وبدون استثناء يقوم على هذا الربا الحرام الذي هو حرب لله عز وجل، فكيف ترى وتظن في اقتصاد يقوم على محاربة الجبار؟!

أليس مصيره إلى خسار وإلى إفلاس وإلى ضياع؟!

ولذلك تجد أن أموال المسلمين تضيع في بنوك الغرب حيث تودع هناك فيستثمرها الغرب، ويأخذ المسلمون منها الفتات القليل الذي هو -أيضاً- حرام؛ لأنه جاء عن طريق فوائد ربوية، وليس عن طريق مضاربة أو ربح حلال.

تضيع في النفقات والأعطيات والهبات السخية التي تنفق ذات اليمين وذات الشمال على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين من اليهود، أو من النصارى أو من غيرهما، تضيع في مجاملات واستمالات لبعض الطوائف والأطراف، فيوماً هنا ويوماً هناك، ومع ذلك ما قربت منا بعيداً، ولا أزالت عداوة، ولا نفعت إلا بإيغار الصدور وتعميق العدواة وتحريك الضغائن في هؤلاء وأولئك، فأصبحوا كلما قلت عنهم النفقة أعلنوا العداوة، وصرحوا بها، وبدءوا يبتزون أمم الإسلام يوماً بعد يوم.

وذلك كله من آثار تخلي الله عز وجل عن المسلمين في اقتصادهم حيث أقاموه على غير شريعة الإسلام، وعلى غير ما يرضي الله عز وجل، فبارزوا الله تعالى بهذه المعصية الكبيرة العظيمة، معصية الربا التي هي من أكبر الكبائر، ولم يرد فيما أعلم في شيء من المعاصي من النصوص في القرآن والحديث في التعظيم لها والتحذير منها وبيان خطورتها وفظاعتها مثل ما ورد في شأن الربا.

ومن ذلك أيضاً، من المعاصي الظاهرة الجماعية التي يقوم المجتمع، أو تقوم المجتمعات الإسلامية على حمايتها وحراستها وحياطتها: دور الرذيلة والبغاء والدعارة الموجودة في بعض بلاد الإسلام، بل والمرخص لها رسمياً في بعض بلاد الإسلام، وتقوم بعض الجهات بالإشراف الطبي عليها، وتأخذ منها الضرائب، وتعتبر أن هذه الدور هي جزء من الدخل القومي، وجزء من تحقيق معنى الاقتصاد، وجزء من جذب السواح، وهذا موجود في دول مغاربية، ودول أفريقية إسلامية، وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام، والله المستعان!

والغريب أن الناس يستفظعون ذلك، ويستعظمونه، وهو لا شك فظيع عظيم، وكيف لا يستفظع المسلم الذي يستفظع مجرد سماع كلمة الفاحشة، كيف لا يستفظع أن يقع فيها إنسان؟!

بل كيف لا يستفظع أن يعلن بها آخر؟!

إذاً: كيف لا يستفظع أن توضع لوحة طويلة عريضة تنادي المارة إلى الإثم والفواحش؟!

ولكنني أعجب -وحق لي أن أعجب- لماذا يستفظع المسلمون أن يرخص لبيوت الدعارة وبيوت الرذيلة، ولا يستفظعون أن يرخص للبنوك الربوية مع أن الربا أعظم من الزنا؟!

وقد يسمون هذه البيوت بغير اسمها، {يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها}، فهي تسمى أحياناً النوادي الليلية أو الملاهي أو المراقص أو المسارح أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من باب تغيير الأسماء، والحقائق واحدة.

ومن المنكرات الظاهرة الاجتماعية التي هي من ظاهر الإثم، والمجتمعات الإسلامية كلها تنفخ فيها وتؤيدها وتدعمها وتساعدها، وتنفخ فيها روح الحياة والقوة يوماً بعد يوم: أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي التي تشحذ الغرائز، وتهيجها وتثيرها من جهة، فهي تخاطب الشباب والفتيات: هيت لك! هيت لك! صباح مساء؛ من خلال الأغنية، ومن خلال الرقص الخليع، ومن خلال المشهد، ومن خلال الصورة، ومن خلال العبارة، فهذه الكلمة هي التي يدندنون حولها صباح مساء، أو من خلال تشويه الحقائق الواقعية، وطمس الصورة التي يحتاج الناس إلى معرفتها، وشغل الأمة بالتوافه من الأمور، والاهتمامات الفارغة؛ فيوماً بالكرة والرياضة، ويوماً بصناعة الأبطال الوهميين، ويوماً بالفن الرخيص، ويوماً بالنفخ في صور القيادات المصطنعة التي لا قوام لها بذاتها، فهي لا تملك المواهب الذاتية التي تقدم نفسها للناس من خلالها، بل هي تتهاوى كلما هدأ التطبيل لها، ولذلك تحتاج إلى أن ينفخ فيها باستمرار، وأن تعظم أبداً، وأن يتحدث عنها، وأن يصفق لها، وأن يظل الناس في ضجيج وهتاف لها حتى تكون لماعة باستمرار، ويظل الناس منخدعين بها.

وإلا فما معنى أن تقدم رموز الحداثة والأدب والشعر الحداثي في إعلام المسلمين، على أن هؤلاء هم الأدباء، وهم الشعراء، وهم رموز العلم، والفن، والفكر، والثقافة، والتقدم؟!

ويحال بين الصوت الإسلامي والنموذج الإسلامي وبين أن يخاطب ولو قطاعاً من المسلمين، بل يوصم بكل نقيصة، فتلصق به تهم التطرف، والإرهاب، والتخلف، والرجعية، والانحطاط، والسوداوية، والرغبة في الرجوع إلى عصور الحريم وإلى العصور الوسطى، والعمل على القضاء على مكتسبات الدول، وعلى تدمير الاقتصاد، وعلى هدم المصالح القومية، وما أشبه ذلك من العبارات التي يلصقونها، ثم لا يسمحون للمتهم حتى بمجرد الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يعرض بضاعته بضاعة السماء ويدعو الناس إليها.

وما معنى التمكين لهؤلاء المنافقين، والهتافين، والمطبلين، الذين لا يجيدون إلا فن النفاق، والمداهنة، والتطبيل، والتزمير، والحيلولة بين رجال العلم، ورجال الدعوة، ورجال العمل، ورجال الصناعة، ورجال التقوية، ورجال الخبرة الذين ينفعون الأمة في دينها، أو ينفعون الأمة في دنياها؟!

وما معنى تقديم صنائع الغرب وخدامه ومحاصرة رجال الإسلام المخلصين الذين هم خير مخلص لأمته ووطنه؟!

إن من العجب أن تضيع الملايين من الشباب والفتيات في بلاد الإسلام بطولها وعرضها في لهاث مسعور وراء الإغراء، أو وراء الشهوة، أو وراء الفساد باسم الفن تارة، وباسم الرياضة تارة أخرى، وباسم الرقص، وباسم ألوان وألون من المغريات العصرية، أو يضيعون وراء الشهوة التي يبحثون عنها، أو يضيعون أيضاً وراء الشهرة عن طريق من هذه الطرق السابقة.

فإذا من الله على واحدهم بالهداية، وتاب إلى الله تعالى وأناب، فإن كان شاباً أقلع عن ذلك كله وربَّى لحيته، وتردد على المساجد، وصلى لله عز وجل واستقام حاله، وإن كانت فتاة تحجبت، وسترت ما حرم الله، وابتعدت عن الحرام، وتركت كل ما لا يرضي الله عز وجل.

وبالأمس يوم كانوا في طريق الغواية، كانت الطرق كلها أمامهم مفتوحة، والأبواب مشرعة، ووسائل الإعلام تدعوهم صباح مساء، والأموال تصب عليهم صباً، أما يوم اهتدوا فقد وجدوا المتسع ضيقاً، ووجدوا الميدان مزحوماً عنهم، فَمُنَّ عليهم وبخسوا حقهم، مُنّ عليهم حتى بكلمة يسيرة يدافعون فيها عن أنفسهم، أو يبينون حقيقة موقفهم، وقد رأيت كثيراً من الصحفيين وغيرهم يقولون عن أولئك الفتيات المتحجبات اللاتي كن بالأمس راقصات، أو فنانات، أو ممثلات، أو ما شابه ذلك، قال عنهن أرباب الصحافة الكثير، فقالوا: هؤلاء البنات قبضن مرتبات وأموالاً من الخارج مقابل الهداية، وقال آخرون: تحولن إلى متطرفات ومتزمتات، وقالت فئة ثالثة: إن هؤلاء كن يمارسن بالأمس باسم الفن أموراً غير حميدة، فلما كان الأمر كذلك تركن الفن، أما بقية الفنانات اللاتي ما زلن على طريق الفن فهن نظيفات تقيات عفيفات، فالله أكبر.. كيف تحولت الأمور وانقلبت الموازين؟!

إذا وصف الطائي بالبخل مادر     وعير قساً بالفهاهة باقل

وقال السها للشمس أنت ضئيلة     وقال الدجا يا صبح لونك حائل

وطاولت الأرض السماء جهالة     وفاخرت الشهب الحصى والجنادل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة     ويا نفس جدي إن دهرك هازل

كيف تعيّر التقية النقية التي ضحت بالشهرة، والمال، وتحملت في سبيل الله ألسنتكم الطويلة يا أرباب الإعلام، ويا أهيل الصحافة، وتحملت في سبيل ذلك أذى الأبعدين والأقربين، وتخلت عن أشياء كثيرة في سبيل الله عز وجل، وكان حق المجتمع أن يؤيدها ويناصرها ويدعمها، ويقدمها للأجيال على أنها النموذج الذي يجب أن يحتذى، لا أن يطعنها في خاصرتها أو في ظهرها، ويتهمها بمثل هذه التهم.

وليس العجب أن يتسلط على الإعلام مثل أولئك الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، لكن العجب أن تسكت الأمة عن هؤلاء، والعجب أن تشتري الأمة مطبوعاتهم وكتاباتهم وأشرطتهم وأفلامهم، وأن يكون مال المسلمين دعماً وتقوية لهؤلاء يثرون على حسابهم.

ومن ظاهر الإثم أيضاً تولي أعداء الله عز وجل بالقول والفعل، وتمكينهم من بلاد المسلمين، ودعمهم، ومساعدتهم، وتسهيل السبل أمامهم في مقابل إيذاء أهل الخير، ومضايقتهم، واضطهادهم، والحيلولة بينهم وبين الدعوة إلى الله تعالى، أو عبادته، أو طاعته، أو الجهاد في سبيله، نعم إننا نعلم في بلاد الإسلام كلها أنه تقام الاحتفالات للنصارى علانية، وفي الشوارع العامة، وفي الساحات والميادين العلانية، ويحضرها أولاد المسلمين وبناتهم وكبارهم وصغارهم بصور مختلفة، ويرقصون على أنغام الموسيقى، ويقدم لهم رجال النصرانية على أنهم نماذج حية مثلما قدم لـبابا نويل أو غيره في عدد من الاحتفالات التي أقيمت في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد.

في حين أنهم يستكثرون على أهل الخير أن يجتمع منهم ولو كان العدد قليلاً، وقد يسمح لمجموعة من النصارى أن تجتمع منهم ألوف في ميدان أو فندق أو قصر أو مكان ليقيموا الاحتفالات، ويلقوا الكلمات، ويتبادلوا الأحاديث بأجواء مختلطة، رجالهم ونساؤهم مع أولاد البلاد الإسلامية ورجالتها أنفسهم، فهو جو يختلط فيه المسلمون بالكفار، والرجال بالنساء، وفي ظل شهوانية ظاهرة في كثير من الأحيان، وذلك كله تقتضيه رسوم العلاقات والدبلوماسيات والسياسات في نظر البعض.

أما إذا كان الأمر يتعلق بقضية الدعوة إلى الله عز وجل، فهنا يكون الحصار واستخدام كافة الوسائل في المضايقة، فالفتاة التي تقرأ القرآن أو تدرسه في بيتها تحارب وتحاصر ويحقق معها وتكتب عنها التقارير، والرجل الذي ينشر العلم، أو يتحدث مع جماعته في المسجد، أو يقرأ عليهم ما يرى أنهم بحاجة إليه، أو يشرح لهم بعض مسائل العلم، أو ينبههم على المنكرات هو عرضة للأذى والمضايقة، وربما الاعتقال أحياناً بدون سبب، ودون أن يملك أحد حتى أن يسأل لماذا كان هذا؟

إن ذلك كله -ومثله كثير- هو من ظاهر الإثم الذي يعتبر المجتمع كله مسئولاً عنه، فلست أعتقد قط أن المسئول عن مضايقة الدعاة أو الداعيات، أو حبس أصواتهم، أو منعهم من إلقاء الدروس والمحاضرات، أو منع أشرطتهم، أو إيذاؤهم، أو منع الفتيات من مثل هذه النشاطات، وبالمقابل الإذن للنصارى، واليهود، والهندوس، وسائر أعداء الملة بأن يوجدوا، وأن يعلنوا أنفسهم، وأن يتكاثروا، وأن يدعموا بني جنسهم في بلادهم، وأن نكون نحن عوناً لهم، ليس المسئول هو جهة معينة، أو وزارة معينة، أو شخصاً معيناً فحسب، ولكن المجتمع كله مسئول أيضاً، فالمجتمع الواعي المدرك الذي هو على مستوى المسئولية يرى أنه يجب أن يقوم بدوره في كل أمر، وأنه ليس هناك شيء لا يفكر فيه، أو لا يتكلم فيه، أو لا يشارك فيه؛ لأن الله تعالى جعلنا مسئولين عن هذا الدين جميعاً، كل بحسب ما يستطيع، قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

أي أن الله تعالى يكلف كل نفس بقدر وسعها وطاقتها وجهدها، فأنت مسئول عن نفسك، قال الله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.

إن من ظاهر الإثم أن تجد في بلاد الإسلام تحكيماً للقوانين الوضعية على رقاب الناس ودمائهم وأموالهم وأعراضهم وأبشارهم، واستبدالاً لشريعة الله عز وجل بأهواء البشر وسخافات عقولهم التي تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني، وهي من أهم أسباب زعزعة الأمن وقلقه وتوتره، وأن تجد معاهد ومدارس ومؤسسات قامت على أساس الدعوة إلى القانون، أو تدريسه، أو تربية الناس عليه، أو إقناع الناس به بشكل أو بآخر، ثم ترى المجتمع المسلم يغذي ذلك كله من خلال قبوله بالتحاكم إلى غير شريعة الله، أو تأييده لذلك، أو قبوله بهذه المحاكم القانونية، أو تحاكمه إليها، أو إسراعه لدخولها وولوجها والمشاركة فيها، أو رغبة الناس أن يكون أبناؤهم من قضاتها أو العاملين فيها، أو كتابها، أو حجابها أو ما شابه ذلك.

فهذا كله من ظاهر الإثم، وما ذكرت لا يعدو أن يكون أمثلة أتجاوزها إلى غيرها لضيق الوقت.

هذا نموذجٌ فحسب لظاهر الإثم في المجاهرة بالمعصية.

ومن ظاهر الإثم -أيضاً- المجاهرة بالمعاصي الشخصية المتعلقة بشخص الإنسان في ثوبه، أو كلامه، أو مأكله، أو مشربه، أو ملبسه، أو شعره، أو هيئته، أو ما أشبه ذلك: مما يراه الناس ويعرفونه، ويتكلمون عنه في مجالسهم، فإن هذا من ظاهر الإثم الذي نهى الله عز وجل عنه، ومن ذلك بل أخطر منه البوح ببعض الأشياء الخاصة، والتحدث بها في المجالس، والتمدح بها، واعتبار أنها علامة من علامات الكرم، والرجولة، والقوة، والفتوة، والشخصية.

فأحدهم إذا كبر المجلس قام يفتخر بمغامراته، ويعرض بأفعاله، ويتحدث عما فعل، فعلت كذا، وفعلت كذا، رحلات وعبث ليس تحته طائل، ويخبر عن تلعب الشيطان به في اليقظة لا في المنام.

ولو أنه استتر بستر الله عز وجل، واتقى الله، واستغفر الله تعالى، لكان في عافية، ولكنه جاهر، فدخل في قوله عليه السلام: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين}.

ومن ذلك أيضا التشبع بما لم يفعل من المعصية والزور، فبعض البنات في المدرسة إذا جلست في الفسحة مع زميلاتها فقالت إحداهن: صديقي فلان، وقالت الأخرى: أنا أتصل بشاب، وقالت الثالثة، وقالت الرابعة -وهي بنت نقية عفيفة لكنها استحت أن تنفرد من بينهن- قالت: وأنا لي صلة بابن عمي، وهو كذا وهو كذا، وهذا وإن كان قليلاً، لكنه ينبغي أن يحاصر من بدايته ويقاوم بقدر المستطاع، لتظل مجتمعاتنا نقية، فإن الثوب الأبيض يبين فيه الوسخ والعيب ولو كان قليلاً، بخلاف الثوب الأسود فإنه مهما وضع فيه الإنسان لا يبين ولا يظهر.

يجب أن تكون أسرنا ومجتمعاتنا وأفرادنا أثواباً بيضاء، تأبى على ألوان الغش والخداع والتدليس.

ومن ذلك أيضاً بل شر منه توثيق الإنسان جريمته ومعصيته بوثيقة يؤاخذ بها في الدنيا والآخرة، وأي عار أو شنار أعظم عند الله تعالى ثم عند الناس أن يتحلق الناس ليسمعوا ماذا؟!

ليسمعوا شريط مغازلة بين ذكر وأنثى، يقول لها فاحش القول، وترد عليه بمثل ذلك، وربما تحدث الناس فقالوا: فلان، وقالوا: فلانة، وأي عار أو شنار من أن يتناقل الناس صوراً بأيديهم على الورق تتحدث عن جريمة وقع فيها زيد أو عبيد من الناس؟!

وأي عار أو شنار أعظم من أن يتحلق الناس حول هذه الشاشة ليشاهدوا شريط فيديو يعرض جريمة وقع فيها فلان! وقد يكون شخصاً معروفاً مشهوراً يتحدث الناس باسمه، ويتكلمون عنه، ثم يتبعونه باللعنة على جريمته العظيمة التي غدر فيها ليس بامرأة، وإنما غدر فيها بمجتمع كامل، وغدر فيها بنفسه، وغدر فيها بأسرته، وعصى فيها الله عز وجل، هذه كلها ألوان من المجاهرات، لكنها يمكن أن توصف بأنها مجاهرات تتعلق بالجريمة الشخصية، أو الفردية، أو الفاحشة الخاصة بالإنسان.

لكن ثمة ألوان أخرى من المجاهرات أعظم من ذلك وأخطر، ألا وهي: المجاهرات الجماعية، والمنكرات العامة التي يعلن المجتمع كله معصية الله تعالى من خلالها ويصر عليها، بل ويقيم المجتمع المؤسسات والدور والأجهزة التي تحرسها وتحميها وتدعمها وتقيم بناءها، ويظل هذا المجتمع عليها يغذيها بعرقه، وجهد أبنائه وماله وسمعته، ويعمل المجتمع على تدعيمها وتعميق جذورها وترسيخها يوماً بعد يوم.

تقول لي: مثل ماذا؟

أقول لك: بيوت الربا التي تجاهر بحرب الله عز وجل صباح مساء، تعلن الحرب على الله جل وعز: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:279] أي: بترك الربا، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].

بيوت الربا التي تدار فيها الفوائد المحرمة التي جاء في تحريمها أكثر من سبعة عشر حديثاً، فهي أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أقول بملء فمي: اقتصاد البلاد الإسلامية كلها وبدون استثناء يقوم على هذا الربا الحرام الذي هو حرب لله عز وجل، فكيف ترى وتظن في اقتصاد يقوم على محاربة الجبار؟!

أليس مصيره إلى خسار وإلى إفلاس وإلى ضياع؟!

ولذلك تجد أن أموال المسلمين تضيع في بنوك الغرب حيث تودع هناك فيستثمرها الغرب، ويأخذ المسلمون منها الفتات القليل الذي هو -أيضاً- حرام؛ لأنه جاء عن طريق فوائد ربوية، وليس عن طريق مضاربة أو ربح حلال.

تضيع في النفقات والأعطيات والهبات السخية التي تنفق ذات اليمين وذات الشمال على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين من اليهود، أو من النصارى أو من غيرهما، تضيع في مجاملات واستمالات لبعض الطوائف والأطراف، فيوماً هنا ويوماً هناك، ومع ذلك ما قربت منا بعيداً، ولا أزالت عداوة، ولا نفعت إلا بإيغار الصدور وتعميق العدواة وتحريك الضغائن في هؤلاء وأولئك، فأصبحوا كلما قلت عنهم النفقة أعلنوا العداوة، وصرحوا بها، وبدءوا يبتزون أمم الإسلام يوماً بعد يوم.

وذلك كله من آثار تخلي الله عز وجل عن المسلمين في اقتصادهم حيث أقاموه على غير شريعة الإسلام، وعلى غير ما يرضي الله عز وجل، فبارزوا الله تعالى بهذه المعصية الكبيرة العظيمة، معصية الربا التي هي من أكبر الكبائر، ولم يرد فيما أعلم في شيء من المعاصي من النصوص في القرآن والحديث في التعظيم لها والتحذير منها وبيان خطورتها وفظاعتها مثل ما ورد في شأن الربا.

ومن ذلك أيضاً، من المعاصي الظاهرة الجماعية التي يقوم المجتمع، أو تقوم المجتمعات الإسلامية على حمايتها وحراستها وحياطتها: دور الرذيلة والبغاء والدعارة الموجودة في بعض بلاد الإسلام، بل والمرخص لها رسمياً في بعض بلاد الإسلام، وتقوم بعض الجهات بالإشراف الطبي عليها، وتأخذ منها الضرائب، وتعتبر أن هذه الدور هي جزء من الدخل القومي، وجزء من تحقيق معنى الاقتصاد، وجزء من جذب السواح، وهذا موجود في دول مغاربية، ودول أفريقية إسلامية، وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام، والله المستعان!

والغريب أن الناس يستفظعون ذلك، ويستعظمونه، وهو لا شك فظيع عظيم، وكيف لا يستفظع المسلم الذي يستفظع مجرد سماع كلمة الفاحشة، كيف لا يستفظع أن يقع فيها إنسان؟!

بل كيف لا يستفظع أن يعلن بها آخر؟!

إذاً: كيف لا يستفظع أن توضع لوحة طويلة عريضة تنادي المارة إلى الإثم والفواحش؟!

ولكنني أعجب -وحق لي أن أعجب- لماذا يستفظع المسلمون أن يرخص لبيوت الدعارة وبيوت الرذيلة، ولا يستفظعون أن يرخص للبنوك الربوية مع أن الربا أعظم من الزنا؟!

وقد يسمون هذه البيوت بغير اسمها، {يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها}، فهي تسمى أحياناً النوادي الليلية أو الملاهي أو المراقص أو المسارح أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من باب تغيير الأسماء، والحقائق واحدة.

ومن المنكرات الظاهرة الاجتماعية التي هي من ظاهر الإثم، والمجتمعات الإسلامية كلها تنفخ فيها وتؤيدها وتدعمها وتساعدها، وتنفخ فيها روح الحياة والقوة يوماً بعد يوم: أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي التي تشحذ الغرائز، وتهيجها وتثيرها من جهة، فهي تخاطب الشباب والفتيات: هيت لك! هيت لك! صباح مساء؛ من خلال الأغنية، ومن خلال الرقص الخليع، ومن خلال المشهد، ومن خلال الصورة، ومن خلال العبارة، فهذه الكلمة هي التي يدندنون حولها صباح مساء، أو من خلال تشويه الحقائق الواقعية، وطمس الصورة التي يحتاج الناس إلى معرفتها، وشغل الأمة بالتوافه من الأمور، والاهتمامات الفارغة؛ فيوماً بالكرة والرياضة، ويوماً بصناعة الأبطال الوهميين، ويوماً بالفن الرخيص، ويوماً بالنفخ في صور القيادات المصطنعة التي لا قوام لها بذاتها، فهي لا تملك المواهب الذاتية التي تقدم نفسها للناس من خلالها، بل هي تتهاوى كلما هدأ التطبيل لها، ولذلك تحتاج إلى أن ينفخ فيها باستمرار، وأن تعظم أبداً، وأن يتحدث عنها، وأن يصفق لها، وأن يظل الناس في ضجيج وهتاف لها حتى تكون لماعة باستمرار، ويظل الناس منخدعين بها.

وإلا فما معنى أن تقدم رموز الحداثة والأدب والشعر الحداثي في إعلام المسلمين، على أن هؤلاء هم الأدباء، وهم الشعراء، وهم رموز العلم، والفن، والفكر، والثقافة، والتقدم؟!

ويحال بين الصوت الإسلامي والنموذج الإسلامي وبين أن يخاطب ولو قطاعاً من المسلمين، بل يوصم بكل نقيصة، فتلصق به تهم التطرف، والإرهاب، والتخلف، والرجعية، والانحطاط، والسوداوية، والرغبة في الرجوع إلى عصور الحريم وإلى العصور الوسطى، والعمل على القضاء على مكتسبات الدول، وعلى تدمير الاقتصاد، وعلى هدم المصالح القومية، وما أشبه ذلك من العبارات التي يلصقونها، ثم لا يسمحون للمتهم حتى بمجرد الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يعرض بضاعته بضاعة السماء ويدعو الناس إليها.

وما معنى التمكين لهؤلاء المنافقين، والهتافين، والمطبلين، الذين لا يجيدون إلا فن النفاق، والمداهنة، والتطبيل، والتزمير، والحيلولة بين رجال العلم، ورجال الدعوة، ورجال العمل، ورجال الصناعة، ورجال التقوية، ورجال الخبرة الذين ينفعون الأمة في دينها، أو ينفعون الأمة في دنياها؟!

وما معنى تقديم صنائع الغرب وخدامه ومحاصرة رجال الإسلام المخلصين الذين هم خير مخلص لأمته ووطنه؟!

إن من العجب أن تضيع الملايين من الشباب والفتيات في بلاد الإسلام بطولها وعرضها في لهاث مسعور وراء الإغراء، أو وراء الشهوة، أو وراء الفساد باسم الفن تارة، وباسم الرياضة تارة أخرى، وباسم الرقص، وباسم ألوان وألون من المغريات العصرية، أو يضيعون وراء الشهوة التي يبحثون عنها، أو يضيعون أيضاً وراء الشهرة عن طريق من هذه الطرق السابقة.

فإذا من الله على واحدهم بالهداية، وتاب إلى الله تعالى وأناب، فإن كان شاباً أقلع عن ذلك كله وربَّى لحيته، وتردد على المساجد، وصلى لله عز وجل واستقام حاله، وإن كانت فتاة تحجبت، وسترت ما حرم الله، وابتعدت عن الحرام، وتركت كل ما لا يرضي الله عز وجل.

وبالأمس يوم كانوا في طريق الغواية، كانت الطرق كلها أمامهم مفتوحة، والأبواب مشرعة، ووسائل الإعلام تدعوهم صباح مساء، والأموال تصب عليهم صباً، أما يوم اهتدوا فقد وجدوا المتسع ضيقاً، ووجدوا الميدان مزحوماً عنهم، فَمُنَّ عليهم وبخسوا حقهم، مُنّ عليهم حتى بكلمة يسيرة يدافعون فيها عن أنفسهم، أو يبينون حقيقة موقفهم، وقد رأيت كثيراً من الصحفيين وغيرهم يقولون عن أولئك الفتيات المتحجبات اللاتي كن بالأمس راقصات، أو فنانات، أو ممثلات، أو ما شابه ذلك، قال عنهن أرباب الصحافة الكثير، فقالوا: هؤلاء البنات قبضن مرتبات وأموالاً من الخارج مقابل الهداية، وقال آخرون: تحولن إلى متطرفات ومتزمتات، وقالت فئة ثالثة: إن هؤلاء كن يمارسن بالأمس باسم الفن أموراً غير حميدة، فلما كان الأمر كذلك تركن الفن، أما بقية الفنانات اللاتي ما زلن على طريق الفن فهن نظيفات تقيات عفيفات، فالله أكبر.. كيف تحولت الأمور وانقلبت الموازين؟!

إذا وصف الطائي بالبخل مادر     وعير قساً بالفهاهة باقل

وقال السها للشمس أنت ضئيلة     وقال الدجا يا صبح لونك حائل

وطاولت الأرض السماء جهالة     وفاخرت الشهب الحصى والجنادل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة     ويا نفس جدي إن دهرك هازل

كيف تعيّر التقية النقية التي ضحت بالشهرة، والمال، وتحملت في سبيل الله ألسنتكم الطويلة يا أرباب الإعلام، ويا أهيل الصحافة، وتحملت في سبيل ذلك أذى الأبعدين والأقربين، وتخلت عن أشياء كثيرة في سبيل الله عز وجل، وكان حق المجتمع أن يؤيدها ويناصرها ويدعمها، ويقدمها للأجيال على أنها النموذج الذي يجب أن يحتذى، لا أن يطعنها في خاصرتها أو في ظهرها، ويتهمها بمثل هذه التهم.

وليس العجب أن يتسلط على الإعلام مثل أولئك الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، لكن العجب أن تسكت الأمة عن هؤلاء، والعجب أن تشتري الأمة مطبوعاتهم وكتاباتهم وأشرطتهم وأفلامهم، وأن يكون مال المسلمين دعماً وتقوية لهؤلاء يثرون على حسابهم.

ومن ظاهر الإثم أيضاً تولي أعداء الله عز وجل بالقول والفعل، وتمكينهم من بلاد المسلمين، ودعمهم، ومساعدتهم، وتسهيل السبل أمامهم في مقابل إيذاء أهل الخير، ومضايقتهم، واضطهادهم، والحيلولة بينهم وبين الدعوة إلى الله تعالى، أو عبادته، أو طاعته، أو الجهاد في سبيله، نعم إننا نعلم في بلاد الإسلام كلها أنه تقام الاحتفالات للنصارى علانية، وفي الشوارع العامة، وفي الساحات والميادين العلانية، ويحضرها أولاد المسلمين وبناتهم وكبارهم وصغارهم بصور مختلفة، ويرقصون على أنغام الموسيقى، ويقدم لهم رجال النصرانية على أنهم نماذج حية مثلما قدم لـبابا نويل أو غيره في عدد من الاحتفالات التي أقيمت في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد.

في حين أنهم يستكثرون على أهل الخير أن يجتمع منهم ولو كان العدد قليلاً، وقد يسمح لمجموعة من النصارى أن تجتمع منهم ألوف في ميدان أو فندق أو قصر أو مكان ليقيموا الاحتفالات، ويلقوا الكلمات، ويتبادلوا الأحاديث بأجواء مختلطة، رجالهم ونساؤهم مع أولاد البلاد الإسلامية ورجالتها أنفسهم، فهو جو يختلط فيه المسلمون بالكفار، والرجال بالنساء، وفي ظل شهوانية ظاهرة في كثير من الأحيان، وذلك كله تقتضيه رسوم العلاقات والدبلوماسيات والسياسات في نظر البعض.

أما إذا كان الأمر يتعلق بقضية الدعوة إلى الله عز وجل، فهنا يكون الحصار واستخدام كافة الوسائل في المضايقة، فالفتاة التي تقرأ القرآن أو تدرسه في بيتها تحارب وتحاصر ويحقق معها وتكتب عنها التقارير، والرجل الذي ينشر العلم، أو يتحدث مع جماعته في المسجد، أو يقرأ عليهم ما يرى أنهم بحاجة إليه، أو يشرح لهم بعض مسائل العلم، أو ينبههم على المنكرات هو عرضة للأذى والمضايقة، وربما الاعتقال أحياناً بدون سبب، ودون أن يملك أحد حتى أن يسأل لماذا كان هذا؟

إن ذلك كله -ومثله كثير- هو من ظاهر الإثم الذي يعتبر المجتمع كله مسئولاً عنه، فلست أعتقد قط أن المسئول عن مضايقة الدعاة أو الداعيات، أو حبس أصواتهم، أو منعهم من إلقاء الدروس والمحاضرات، أو منع أشرطتهم، أو إيذاؤهم، أو منع الفتيات من مثل هذه النشاطات، وبالمقابل الإذن للنصارى، واليهود، والهندوس، وسائر أعداء الملة بأن يوجدوا، وأن يعلنوا أنفسهم، وأن يتكاثروا، وأن يدعموا بني جنسهم في بلادهم، وأن نكون نحن عوناً لهم، ليس المسئول هو جهة معينة، أو وزارة معينة، أو شخصاً معيناً فحسب، ولكن المجتمع كله مسئول أيضاً، فالمجتمع الواعي المدرك الذي هو على مستوى المسئولية يرى أنه يجب أن يقوم بدوره في كل أمر، وأنه ليس هناك شيء لا يفكر فيه، أو لا يتكلم فيه، أو لا يشارك فيه؛ لأن الله تعالى جعلنا مسئولين عن هذا الدين جميعاً، كل بحسب ما يستطيع، قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

أي أن الله تعالى يكلف كل نفس بقدر وسعها وطاقتها وجهدها، فأنت مسئول عن نفسك، قال الله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.

إن من ظاهر الإثم أن تجد في بلاد الإسلام تحكيماً للقوانين الوضعية على رقاب الناس ودمائهم وأموالهم وأعراضهم وأبشارهم، واستبدالاً لشريعة الله عز وجل بأهواء البشر وسخافات عقولهم التي تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني، وهي من أهم أسباب زعزعة الأمن وقلقه وتوتره، وأن تجد معاهد ومدارس ومؤسسات قامت على أساس الدعوة إلى القانون، أو تدريسه، أو تربية الناس عليه، أو إقناع الناس به بشكل أو بآخر، ثم ترى المجتمع المسلم يغذي ذلك كله من خلال قبوله بالتحاكم إلى غير شريعة الله، أو تأييده لذلك، أو قبوله بهذه المحاكم القانونية، أو تحاكمه إليها، أو إسراعه لدخولها وولوجها والمشاركة فيها، أو رغبة الناس أن يكون أبناؤهم من قضاتها أو العاملين فيها، أو كتابها، أو حجابها أو ما شابه ذلك.

فهذا كله من ظاهر الإثم، وما ذكرت لا يعدو أن يكون أمثلة أتجاوزها إلى غيرها لضيق الوقت.