خطب ومحاضرات
تفسير سورة الصافات [50-70]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:50].
كما يتساءل أهل النار وهم في حسرة وآلام وأوجاع متتابعة على ما فات منهم، وكيف عاشوا دهراً طويلاً وهم لم يقولوا يوماً: لا إله إلا الله، أما أهل الجنة فيقبل بعضهم على بعض، ويواجه بعضهم بعضاً، ويذكرون ذكريات الدنيا، وهم في غاية ما يكونون من السرور والبهجة والرضا بما أعطاهم الله وأكرمهم به، ويتساءلون فيما بينهم، فيقول بعضهم: ما تركت الصلاة، ويقول الآخر: تبت إلى الله فتاب علي.
قال تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:50-51]، أجمل الله هنا ثم فصل فقال: يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:52-53].
يقول ذلك وهو فرح مسرور أن قرين السوء لم يضحك عليه، ولم يذهب بعقله، قال قائل من هؤلاء: إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:51] أي: في دار الدنيا.
قرين: صديق وشريك، إنسان يعاملني وأعامله، يعرفني وأعرفه، ولكنه لم يكن مؤمناً بالله موحداً كان يقول لي فيما يقول: يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:52]، يقول هذا الذي في الجنة: أأنت تصدقه؟
ويقول: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53] أي: هل تصدق هذا القول: أننا إذا متنا وأصبحنا تراباً وعظاماً نخرة لا تكاد تختلف عن التراب وعن بقية الحجارة في الأرض: أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53]، وفي القول العربي: دان فلان فلاناً إذا جازاه، وإذا آخذه، وإذا حمله المسئولية أي: أئنا محاسبون ومجزيون ومعاقبون على أقوالنا وأعمالنا.
كما يقولون الآن: أنت رجعي تؤمن أننا سنحيا بعد الموت، إن هي إلا حياتنا الدنيا، كما وصف الله آباءهم وأجدادهم بقولهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، وهؤلاء الذين يسمون: الدهريين، وهؤلاء الذين يقولون: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا يهلكنا إلا الدهر، يقولون هذا وهم غافلون عن الله، وعن رسالات الله، وعن ما جاء به أنبياء الله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
ثم يقول تعالى عن هذا المتسائل: قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54]، يقول هذا السائل: أتريدون أن تطلعوا على النار، لعلنا نلقى هذا الذي كان يحاول ضلالي في دار الدنيا، وكيف يطلعون؟
قال ابن عباس : إن في الجنة نوافذ يمكن أن يرى منها أهل النار وما هم عليه إن شاء ذلك أهل الجنة. ولذلك قال: قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54] أي: قال هذا المتسائل فَاطَّلَعَ [الصافات:55] أشرف على النافذة ونظر إلى أن رآه، َفِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55]، أي: وسط الجحيم، ولماذا يقال للوسط سواء؟؛ لأنه مستو مع جميع الأطراف.
يقص علينا ربنا ماذا يكون في الآخرة بين أهل النار وأهل النعيم، بين سكان الجنة وسكان جهنم، بين من مات على التوحيد ومن مات على الشرك والكفر بالله، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55].
وإذا به يقول له متسائلاً: قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:56-57].
يقال عند القسم: تالله وبالله ووالله، وكلها بمعنى، يقول هذا الشاب لذاك القرين الدائم: والله يا فلان! لقد كدت تردين، وكاد: من أفعال المقاربة عند العرب، أي: قاربت أن تضلني، وقاربت أن أصدقك.
(لتردين): من الردى وهو: الهلاك أي: كدت تهلكني بالشرك والكفر وعدم الإيمان، ولو طاوعه وتابعه لكان معه في قعر جهنم وفي وسطها، ولكنه يقول له ذلك وهو مرتبط بحاله، يحمد الله على أنه دام على الإيمان حتى لقي الله فكان من أهل النعيم.
قوله: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي [الصافات:57] أي: لولا أن الله أنعم علي، وثبت قدمي على الإسلام، وثبتني على لا إله إلا الله، لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57] أي: لكنت من المحضرين معك في النار، ولا يقال: فلان أحضر إلا لسوء؛ لأن كلمة أحضر معناها جر عنوة، ويقال: حضر للخير.
قال تعالى: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات:58-59]، هذا يقوله أهل الجنة وهم على غاية ما يكونون من الفرح، والخواطر تخطر ببالهم أنهم سيموتون وينقطع هذه النعم، وهذه اللذائذ وهذا الرضا، فيتساءلون مع الملائكة: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات:58-59].
يا ملائكة الله! يا جند الله! هل نحن متنا موتة واحدة هي التي كانت، وليس وراء ذلك موت آخر، فنحن الآن في نعيم ولا ينتظر عذاب آخر، فيقول لهم الملائكة: نعم لا موت، الجنة حياة ولا موت، والنار حياة ولا موت.
وفي الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم : (يؤتى بالموت على صورة كبش فيذبح، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ثم يقال لأهل النار: خلود فلا موت).
قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصافات:60].
أي: اهنئوا بهذا الفوز وهذا الرضا، اهنئوا بهذه الحياة المنعمة الدائمة.
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] أي: لمثل هذا الذي جزيتم عنه في الجنة، جزيتم عنه بالنعيم المقيم الدائم، فكان ينبغي أن يعمل لهذا النعيم العاملون، وهذا الكلام إما أن يقوله أهل الجنة أو تقوله الملائكة، أو يقولوه كلهم، فلا مانع من ذلك لأن الآية عامة في هذا وهذا.
قال تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:62-63].
على العادة في كتاب الله وسنة ربنا -ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً- يذكر في القرآن حال أهل النعيم ثم يتبع ذلك بذكر حال أهل العذاب المخلدين في النار، فيقدم هؤلاء مرة وهؤلاء مرة، ويعكس أحياناً، فيبقى العبد في دار الدنيا بين الرجاء والخوف، يرجو ربه ورحمته، ويخاف عذابه، فإذا خاف ربه تاب ورجع عن معصيته وعما يفعله العصاة والمشركون، فإذا عاد سعى في العمل الصالح بما يقربه إلى الله عبادة وطاعة، وذلك بامتثال أوامر الله تعالى، وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62].
ولاشك لكل عاقل ومدرك أن الفرق عظيم ظاهر بين أهل النعيم وأهل الجحيم، فقد رضي الله عن المؤمنين وسخط على الكافرين، يقول تعالى مقرراً هذا المعنى على طريقة الاستفهام الذي معناه التقرير أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62].
أي: أهذا الذي قص الله علينا من الجنة وصفاتها: من خمرها الذي هو أبيض لذيذ للشاربين، والحور المقصورات في الخيام، القاصرات الطرف على أزواجهن: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62].
وشجرة الزقوم شعار النار، أي: أهذا الخير الذي ذكره الله عن نعيم أهل الجنة من الأرزاق المعلومة والحور العين، خير أم النار؟!
قوله تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا [الصافات:62] أي: منزلة.
ثم أخذ الله يصف هذه الشجرة فقال عنها: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63].
وشجرة الزقوم هذه عندما سمع عنها أبو جهل ، وسمعها صناديد الكفار من قريش أخذوا في السخرية من ذلك وقالوا: كيف تنبت شجرة في النار؟! وجاءهم بربري من أرض البربر وقال: شجرة الزقوم عندنا تعني: الزبد والعسل، فلما سمع بذلك أبو جهل دخل بيته وقال: يا جارية! تعالي زقمينا! فأتتهم بالتمر والزبد والعسل، وليس الأمر كذلك، وقد اختلف أهل العلم في شجرة الزقوم؛ هل توجد في الأرض أم هي شجرة مختصة بجهنم؟
والحقيقة: أنها من شجر الدنيا، وفي جزيرة العرب ما يسمى بشجرة الزقوم، وهي شجرة مر طعمها، مر طعم فاكهتها، لا تكاد تنبت لها فروع.
قال تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65].
فهي قبيحة المنظر، مرة المذاق، أما وضعها في النار فكما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63]؛ وذلك لأنهم قالوا: اسمعوا ماذا يقول محمد: شجرة تنبت في النار، وهل الشجر الأخضر يثبت مع وجود النار؟! قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63]، فقد اختبر بها الكافرين والمشركين، وإلا فالله الذي خلق الشجر أخضره ويابسه كما خلق الخلق أجمعين، فخلق قوماً لا يعيشون إلا في البراري، وقوماً لا يعيشون إلا في الماء، وقوماً لا يعيشون إلا في النار فإذا أخرجوا منها ماتوا، وهذا كله قبل الآخرة، ونحن وأمثالنا لا نعيش إلا خارج الماء ولو دخلنا الماء لاختنقنا، لا نعيش في نار الدنيا ولو دخلها أحد منا لاحترق، وأحياء البحر خلق من خلق الله بكل الأنواع والأجناس لو خرجت من البحر لاختنقت، فلا تعيش إلا بهذا الماء، وذكروا أن هناك طائراً يعيش في البراكين وهذا الطائر أبيض عندما يذهب للبحث عن رزقه يرجع مليئاً بالأوساخ، فإذا جاء ودخل البركان ذهبت كل تلك الأوساخ وعاد أبيض ناصعاً كما كان.
فالله الذي جعل هذا في دار الدنيا ما الذي يمنعه من أن يجعله في الآخرة؟! وقد أخبرنا: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63]، والفتنة: هي البلاء، أي: جعلها فتنة للمشركين ليصدقوا أو يكذبوا، على أن كل أمور الآخرة في الدنيا لا تكاد تصدق إلا بتصديق الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءت به كتب الله، وهذا من ناحية العقل لا يعتقد سواه؛ لأننا عندما نفكر في أنفسنا وذواتنا ونسأل أنفسنا: كيف خلقنا؟ فإننا نعتقد أن من خلقنا قادر على أن يخلق كل شيء، هذا الذي خلقنا ما الذي يمنعه من أن يخلق في النار شجرة تنبت فيها، وهذا الكلام في أهل النار، أما نار الدنيا فلا يكون هذا، وقد وصف الله لنا: جلود أهل النار عندما تحترق يعيدها ويجددها ليبقوا في عذاب دائم، ونحن نتجدد في سلالاتنا وأولادنا، وما أولادنا إلا حياة تبعية لنا، وقد جعلهم الله امتداداً لنا إلى أن يوقفهم بالقضاء على الدنيا وبفنائها، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
والمؤمن يؤمن بكل هذا دون الحاجة إلى التأويل، فما قاله الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحق الصراح؛ فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
أما الذهاب إلى التأويل فهو شأن الملاحدة الذين يزعمون الإسلام، والملاحدة كفار في الأصل، أتوا إلى القرآن فحاولوا أن يؤولوا الأحكام التي فيه، حتى إنهم قالوا في الصلاة: إنها بمعنى: الرياضة، والصلاة معناها: الدعاء فلا حاجة إلى هذا التأويل الباطل.
قالوا: الصيام: ليس الإمساك عن الأكل والشرب، ولكنه الإمساك عن السيئات فقط، فكذبوا على الله ونافقوا وألحدوا في دين الله، وقد كان هؤلاء في الماضي ولا يزالون معنا، وسيبقون إلى يوم القيامة.
قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
قال تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:64-65].
الطلع: هو الثمرة التي تطلع من الشجرة: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65].
وقد فسرت هذه الآية بعدة تفاسير منها: أن العرب تطلق لفظ الشيطان على ما تستبشعه، وتطلق لفظ الملك على الشيء المستحسن كما قالت النسوة لما رأين يوسف وقد أدخلته زليخة عليهن: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31].
ولا يعنين أنه ملك نزل من السماء، ولكن جماله وهيئته لا يوجدان إلا عند الملائكة، وهو أسلوب عربي موجود إلا الآن.
قال تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65]، ولك أن تتصور الشيطان في أبشع صورة في ذهنك، بشع الوجه والمنظر ذو شعور سائبة كشعور هؤلاء الذين ابتلينا بهم في عصرنا الحاضر.
يذكرون عن الجاحظ أنه كان مشوه الوجه، بشع الأطراف، على علمه وأدبه وكتابته وكثرة مؤلفاته، جاءت امرأة ذات مرة إلى الصائغ وقالت له: أريد أن أشتري خاتماً فيه صورة شيطان، فقال لها: كيف ذلك وأنت لا تعرفين صورة الشيطان؟! فقالت: سآتيك بصورته، فذهبت وهي تعرف الجاحظ فطافت في الشوارع فوجدته فقالت له: أرجو أن تذهب معي إلى الصائغ، فقال: لم؟ قالت: تذهب معي ولا أكلفك أكثر من هذا، وقد كان يقول: ضحكت علي النساء مرتين وذكر هذه منها، فجاءت بـالجاحظ من مكان بعيد، وقالت للصائغ: كهذا الوجه، أي: أن صورة الشيطان تنطبق على صورة الجاحظ ، وليس الجاحظ بشيطان وإن كان قد اتهم بالكفر، ولم أر هذا في كتبه التي قرأتها، ولا يستبعد ذلك فقد ذكروا عنه أشياء كثيرة.
وقالوا أيضاً: هي شجرة في جزيرة العرب يقال لها: الزقوم، ويقال لثمرتها: رءوس الشياطين.
وأغلب الظن أنه أسلوب عربي استخدمته العرب لتدلل على بشاعة المنظر والصورة.
ثم قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:66-67].
أقسم الله تعالى بأنهم آكلون من هذه الشجرة؛ لأن اللام موطئة للقسم، فسيأكلون منها مجبرين على ذلك، ثم بين الله نوع الماء الذي يشربونه فقال: فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:66-67].
أي: يشربون على هذا الزقوم الماء الحار شديد الغليان، فلا يكادون يشربونه حتى تسقط أمعاؤهم، ويخرج ما في بطونهم، ثم يعاد ذلك وهكذا دواليك.
قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:67] أي: لخلطاً ومزجاً، يعني: أن هذا الزقوم يمتزج في بطونهم بالماء المغلي وهو الحميم، ويقال لعيون الماء الحارة: حُمة أو حَمة، ويقال للمرض: حمة لما فيه من شدة الحرارة.
قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات:68].
معنى ذلك: أن هذا الحميم الذي يشربونه هو في حواف النار، في حواف جهنم، فيخرجون للشرب كما تخرج الدواب إلى مراعيها فترد الماء لتشرب ثم تعود للرعي، فيخرج هؤلاء من النار بعد أن يكملوا أكلهم من هذه الشجرة التي في قعر جهنم وفي أصل الجحيم، والتي قد أجبروا على الأكل منها، فيأكلون منها كما يأكل الجائع، والجائع يأكل أي شيء أمامه.
قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات:68] أي: ثم يعودون بعد ذلك إلى جهنم، وثم تقتضي العطف مع الترتيب، أي: ثم مرجعهم بعد أن يشربوا الماء الحار الذي مزق أمعاءهم إلى النار والجحيم والعياذ بالله.
ثم قال تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70].
يخبر ربنا عن هؤلاء أن كفرهم بالله لم يكن عن دليل أو حجة أو بمنطق عقل وإنما هو التقليد الأعمى كما تفعل القردة والببغاوات عندما تقلد أي حركة وهي لا تعي ما تفعل.
قال تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70].
أي: على طريقتهم يسرعون، فالله يصفهم بالإعراض عنه والإصرار على الشرك، ومن هنا كان التقليد مصيبة؛ لأن التقليد في الأصل سبب في دخول الإنسان النار، ولذلك لا يكفي المرء منا أن يكون مسلماً فحسب، بل عليه أن يفكر في نفسه، وأن يتفكر في كتاب الله وفي سنة رسول الله، وبما يقرره القرآن الكريم، فيسأل نفسه: من خلق السماوات والأرض؟ من خلقني؟ من جعل هذا النظام الدقيق في الكون؟ فتجده يقول مع نفسه: إنه الله، فيكون إيمانه عن فهم ووعي وإدراك لا مجرد تقليد وعادة فقط، وإذا لم يستطع فهم مسألة معينة سأل أهل العلم بها لأن الله سبحانه يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وهذا لا يعد تقليداً، بل هو من باب سؤال الجاهل للعالم، وليس كل الناس علماء، وليس كل العلماء مجتهدين، فعلى الجاهل أن يسأل أهل العلم المختصين حتى يكون طعامه وشرابه ولباسه حلالاً لا شبهة فيه ولا حيلة، والعالم قد لا يعلم بعض الجزئيات، وقد لا يحيط بجميع المسائل، ومن هنا جاءت المذاهب، وجاء سؤال أهل العلم، وفوق كل ذي علم عليم.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الصافات [171-182] | 2138 استماع |
تفسير سورة الصافات [1-6] | 2065 استماع |
تفسير سورة الصافات [133-144] | 2035 استماع |
تفسير سورة الصافات [6-21] | 2000 استماع |
تفسير سورة الصافات [69-82] | 1761 استماع |
تفسير سورة الصافات [35-49] | 1359 استماع |
تفسير سورة الصافات [114-132] | 1296 استماع |
تفسير سورة الصافات [22-35] | 1064 استماع |
تفسير سورة الصافات [149-173] | 939 استماع |
تفسير سورة الصافات [83-100] | 660 استماع |