خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/1210"> الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/1210?sub=60950"> تفسير سورة الصافات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة الصافات [114-132]
الحلقة مفرغة
قال ربنا جل جلاله: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الصافات:114-118].
بعد أن تكلمنا شارحين لقصص الأنبياء السابقين: نوح وإبراهيم عليهما السلام، فالآن ننتقل لقصة موسى وهارون، وقد مضى ذلك في سورة الأنبياء مفصلاً، والله جل جلاله أعاد ذكرها هنا مختصرة وملخصه؛ ذكرى للمؤمنين، وجزاء لمن صنع كما صنع هؤلاء الأقوام في المكر ومحاربة أوليائه.
قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:114].
يذكر الله جل جلاله إفضاله ومنته وتكرمه على موسى وهارون النبيين الكريمين من أنبياء بني إسرائيل حين بعثهما لفرعون وقومه ليدعواهم إلى عبادة الله الواحد، وترك عبادة الأصنام، وإلى ترك قوم موسى وهارون بأن يرسلهم معهما فيخرجوا من ذل وهوان فرعون وقومه، ويذكر الله هذا ممتناً به على هذين النبيين الكريمين، وعلى قومهما كذلك، فيقول: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات:114-115].
فقد كان من الإفضال والتكريم أن نجى الله موسى وأنقذه، ونجى هارون وأنقذه، ونجى قومهما بني إسرائيل، ونجى الجميع من ذل فرعون وقومه: من استعبادهم، وقتل شبابهم وترك نسائهم، بما لا تكاد تطيقه الجبال من هوانهم عليهم وإذلالهم لهم، فأنجاهم الله وأنقذ النبيين الكريمين وأنقذ قومهما كذلك ونصرهما ونصر قومهما النصر العزيز المؤزر.
فقال ربنا جل جلاله: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الصافات:116] أي: نصر النبيين الكريمين ونصر قومهما من بني إسرائيل، فاستطاعوا بغلبة الله ونصره ومنه أن ينقذوا من ظلم فرعون وقومه، فأنقذوهم مما كانوا فيه من العبودية، ومن الذل والهوان.
وقد قطع بنو إسرائيل بقيادة موسى وهارون أرض مصر إلى سيناء، إلى ما كانوا يرغبون من الوصول إليه، وتبعهم فرعون وجنده فكانوا من المغرقين، والقصة بتمامها مضت ولكن العبرة فيما ذكر الله في هذه الآيات بأن هذا ليس خاصاً بهم، بل هو عام في من عبد الله ووحده ودعاه جل جلاله بأن ينقذه من ذل وقهر القاهرين، وغلبة الغالبين.
وهكذا نصر الله بني إسرائيل بأن تركوا مصر، وأغرق عدوهم فرعون، وورث بنو إسرائيل جميع أمواله، ولكن مع ذلك فإن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل في تاريخهم القديم والحديث، فما كادوا ينقذون من فرعون حتى عادوا للوثنية فعبدوا العجل واتبعوا السامري، وكان موسى غائباً لميعاد ربه، وقد جعل لهم السامري عجلاً جسداً له خوار من الحلية والذهب، وجعل من دبره إلى فيه فارغاً ونصبه في مجرى الرياح، فكانت إذا جرت الرياح صوّت، فكان يقول لهم: هذا صوت إلهكم، وهذا إلهكم وإله موسى فنسي، فعوقبوا على ذلك بأن تاهوا في أرض سيناء أربعين عاماً، حتى إن موسى لم يصل إلى القدس، بل مات وهو لا يزال في ضواحيها، وقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء أن روحه تصلي في قبره، عند الكثيب الأحمر يقول: (لو كنت حاضراً لأريتكم ذلك).
قال تعالى: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ) ثم بعد ذلك أنزل الله عليهما كتابه التوراة المستبين الظاهر النير الواضح في معانيه، البين فيما فيه من عقائد التوحيد ومن أحكام الحلال والحرام، ولكنهم مع ذلك أبوا إلا التبديل والتغيير والتحريف، فغيروا كتاب الله المنزل عليهم، غيره الأتباع المؤمنون الذين نافقوا وكذبوا، فجعلوا من أنفسهم من يعبد العجل، وجعلوا من أنفسهم أبناءً لله، كما قال ربنا جل جلاله حاكياً عنهم بعد أن حرفوا وبدلوا وغيروا، قال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، فقد كذبوا وفجروا بذلك؛ ولذلك قال الله لنبينا: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18] أي: لو كنتم أحباب الله وأبناءه فلم عذبكم؟ ولم خلدكم في النار؟ وكما قال ربنا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فالشرك لا يغفر والكفر لا يغفر، والردة والجحود والخروج عن توحيد الله وعن الإيمان بأنبياء الله ورسله لا يغفر، ولا يغفر لمشرك قط، ولما كانوا كذلك فهم في النار خالدون وحرم الله الجنة على الكافرين.
فقوله: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ) أي: التوراة البين الواضح النير.
قوله: (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: هدى موسى وهارون للصراط المستقيم، للطريق الذي لا عوج فيه ولا أمت، هداهم بالأقوال كما هداهم بالأفعال، وهداهم ليدعوا غيرهما لذلك، فقد دعا موسى وهارون قومهما للإيمان بالله الواحد وترك عبادة الأوثان، وترك عبادة الأصنام وكانوا في ذلك من الهادين المهديين ومن الدعاة إلى الله قولاً وعملاً وذلك ما امتن الله به عليهما، ويحرض الله المؤمنين بأن يعملوا بعملهما وأن يدعوا دعوتهما؛ ليجازيهم الله بما جازى به هذين النبيين من نصرهما، ومن إنقاذهما من عدوهما، ومن هدايتها إلى الصراط المستقيم.
قال تعالى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:119-122]
أي: ترك على هذين النبيين ذكراً حسناً، وثناءً عطراً في كتاب الله، فموضع موسى وهارون عند النصارى وعند المسلمين موضع تكريم وثناء وإجلال، وبقي تكريمهما في الكتابين على ما فيهما من تغيير وتبديل، وثبت تكريمهما وإجلالهما في القرآن العظيم المهيمن على ما سبقه من كتب الله.
فقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ) أي: ترك عليهما في الأجيال اللاحقة بعدهما ذكراً حسناً وثناءً عطراً، وأنهما النبيان الكريمان الصالحان المصلحان، الداعيان إلى الله الهاديان المهديان.
فقوله: (فِي الآخِرِينَ) أي: الذين يأتون بعدهم.
قال تعالى: سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:120].
فالله جل جلاله سلم على موسى وهارون، وسلام الله رحمته ورضاه ومغفرته تأمين من العذاب والغضب وتأمين من اللعنة والبعد عن الله، فكانا من الآمنين السابقين المرضيين، وكانا من الخالدين في الجنان إلى ما لا نهاية.
وذلك أيضاً أدب لنا، أننا إذا ذكرنا أنبياء الله أن نسلم عليهم وأن نصلي، قال تعالى: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59]، فنسلم على نبينا بالدرجة الأولى، ونسلم على إخوانه من أنبياء الله السابقين، ونؤمن بهم أنهم عباد الله المكرمون، وأنهم عباد الله المعصومون، وأنهم أنبياء إلى أقوامهم، نصدقهم في ذلك؛ لأن القرآن أسرد ذلك وهيمن عليه وصدقه.
قوله: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:121].
هذا هو المغزى من العبرة والقصة، أن الله جل وعلا يخبر أنه كما أنقذ موسى وهارون وقومهما عندما عبدا وأطاعا ودعوا قومهما إلى الله ولأن يكونوا مطيعين عابدين مستقيمين صالحين مطيعين، كذلك من آمن إيمانهم واستسلم استسلامهم، وصبر صبرهم يجازيه الله بالنصر وبالتأييد على الأعداء، وبالعاقبة له دون أعدائه.
إنا كذلك كما نصرنا موسى وهارون وقومهما على فرعون وقومه ونجيناهم من عذابهم ومن الكرب العظيم والبلاء والغم الذي كانوا فيه، كذلك من فعل فعلهم وآمن إيمانهم، واهتدى هدايتهم ننقذه وننجيه وننصره، وكذلك تكون العاقبة له.
قوله: إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:122].
أي: إن موسى وهارون كانا من عباد الله المؤمنين بالله رباً، والمؤمنين بأنهما نبيان كريمان، والمؤمنين بالدار الآخرة وبيوم البعث والنشور، إما إلى جنة وإما إلى نار، ولذلك ذكر من القصة جزءاً منها لهذا المعنى.
فكذلك من صنع صنيعهما وآمن إيمانهما، واعتمد على الله اعتمادهما ننجيه وننقذه وننصره، ونخلد اسمه في الخالدين، فيترحم عليه إلى يوم البعث والنشور.
ثم عاد ربنا جل جلاله يقص علينا قصة إلياس مختصرة لما يوجد فيها من العبرة، وغالب هذه القصص مطولة وردت في سورة الأنبياء.
قال تعالى: وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الصافات:123-126].
يقول الله لنا: كما أن نوحاً وإبراهيم وموسى وهارون أنبياء لله مكرمون، كانوا صادقين عندما جاءوا أقوامهم يدعونهم إلى الله ويقولون لهم: إنا أرسلنا من ربنا إليكم ندعوكم لعبادته وترك الشركاء معه، كذلك إلياس من المرسلين.
يقول الله تعالى: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي: إن إلياس كذلك من رسل الله الذين أرسلهم الله إلى أقوامهم، فقد أرسل الله إلياس إلى قومه طائفة من الناس، قالوا: أرسله إلى قرية بعلبك، ولا تزال آثار هذه القرية وأجزاء منها إلى اليوم، مع أنه قطعت أقطار المسلمين وجزئت أحزاباً وشيعاً وسميت لبنان، وليس كل ذلك إلا أرض الشام، فلبنان وسوريا وفلسطين والأردن والجزء الآخر الذي يحتله إخوة القردة والخنازير كل ذلك أرض الشام، فالاسم سوريا وضع من قبل الأقليات الكافرة بالاتفاق مع المستعمرين، وإلا فسوريا هو اسم روماني، سماها بهذه التسمية هرقل ، وذلك حين طرده عمر والصحابة رضوان الله عليهم عندما دخلوا الشام فاتحين، فخرج هرقل ووقف على أبواب الشام وقال: سلام يا سوريا! سلام الأبد، سلام مودع، ومنذ ذلك اليوم أصبحت تسمى بأرض الشام، كما كانت تسمى عند العرب القدامى.
وما لبنان إلا اسم من جبل، وكذلك الأسماء التي وزعت على شيع وأحزاب، كل ذلك جزء من أرض الشام، وجزء من أرض الإسلام، والإسلام لا يعترف إلا بأمة واحدة ودين واحد ونبي واحد ورب واحد، وإنما هذه الأجزاء جاءت بسبب الظالمين السابقين وأعداء الله المستعمرين، وبعلبك وصفوها بأنها قرية في غرب الشام، قالوا: إن إلياس أرسل إليهم، وأكثر الأخبار عن الأنبياء هي أخبار عن بني إسرائيل، لكن لم تصدقه آية قرآنية، فيبقى ذلك كلاماً يقال ولا يعتمد عليه.
وقد كان قوم إلياس يعبدون صنماً اسمه بعل، وقيل: إنه اسم امرأة، وقيل: اسم رجل.
قال إلياس: يا قومنا ألا تخافون الله؟! ألا تتقونه؟! ألا تجعلون وقاية بينكم وبين غضبه وعقابه وعذابه، بأن توحدوا الله، وتؤمنوا به، وتتركوا أوثانكم وأصنامكم، فاتركوها وانبذوها فإنها لا تضر ولا تنفع؛ ولذلك قال لهم: (أَلا تَتَّقُونَ).
وقوله: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا) أي: أتعبدون بعلاً، والدعاء هو العبادة؛ ولذلك ورد في الحديث النبوي: (الدعاء مخ العبادة).
فقوله: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا) أي: أتعبدون هذا الصنم المسمى (بعل)، والبعل في لغة العرب: الزوج.
قال تعالى: (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) أي: وتتركون عبادة أحسن الخالقين، وأحسن هنا بمعنى: حسن، وليست على باب التفضيل الذي يقتضي المشاركة والزيادة، فالبعل صنم لا يضر ولا ينفع ولا يوازن، لا في زيادة ولا في أفضلية، ولكن التعابير العربية كذلك، وبلغة العرب نزل القرآن الكريم وبلهجة قريش خاصة.
فقوله: (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) أي: أتدعون الخالق الحسن الحق، أتتركون الخالق لكم وللبعل، ولكل ما يوجد في الكون، فالكل خلق الله، والكل عبد الله، والكل آت لله عبداً.
قال تعالى: (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ).
فبأحسن الخالقين هو الله جل جلاله، بل هو القابض المنفرد بالحسن والخلق، والقدرة، والوحدانية، وكل ما يذكر في الأصنام من ضر ونفع إنما هي كذب وزور وأسماء سماها هؤلاء وأخذوها واخترعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، فهو يدعوهم إلى ربهم ورب آبائهم الأولين السابقين من آباء وأجداد وأمهات وآباء، فهو ربنا ورب آبائنا وهو رب الخلق كلهم، ورب من في السماوات ومن في الأرض وما بينهما.
قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:127]: كذبوه ولم يؤمنوا به.
فقوله: (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي: محضرون للعذاب، سيحيون مرة ثانية يوم البعث، ويحاسبون على ما قدمت أيديهم، ويطال حسابهم، ويعذبون في ذلك، ثم يساقون على وجوههم إلى النار وبئس المصير.
قيل: إن إلياس أرسل إلى عشيرته، فآمنوا زمناً وآمن ملكهم، ثم ارتد الملك وارتدت العشيرة، ففر منهم وغاب لمدة أربعين يوماً، ثم عادوا فآمنوا فعاد إليهم ثم ارتدوا، ثم دعا الله أن يخلصه منهم، وأن ينقذه منهم، فقيل له: اركب أي شيء تجده ولا تتهيب، فزعموا أنه رأى فرساً من نار فركبه، فطار به فتحول إنساناً بأجنحة كالملائكة وذهب به إلى السماء، فكان جندياً ملكياً أرضياً سماوياً، وعوض عن يديه بأجنحة من الملائكة، وأنه طال خلوده وتطول حياته إلى ما قبل البعث عندما يفنى الجميع، وزعموا أنه هو والخضر يعيشان في البراري والفيافي، وزعموا أنهما يجتمعان مرة في رمضان في المسجد الحرام، فيشربان من ماء زمزم شربة واحدة تكفيهما لسائر العام، ويلتقيان في موسم الحج عند عرفة.
وزعموا كما زعموا عن الخضر بأن إلياس اجتمع بنبينا عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه وعانقه، وأكثر هذه الأخبار إسرائيليات لا تصدق، على أن بعض ذلك تسرب عند أبي عبد الله الحاكم في المستدرك على الصحيحين، وفي سنن البيهقي الكبرى، ولكن الحفاظ قالوا: إن الأسانيد في ذلك غير صحيحة بل هي موضوعة، فلم يصححوا منها شيئاً أبداً.
مع أن الخضر هو نبي من الأنبياء كما هو الصحيح وطالت حياته، واختلفوا في الخضر: هل لا يزال حياً أو قد مات؟ فأكثر المحدثين أنه مات، وأكثر أصحاب الرقائق والآداب أنه حي ولا يزال، وهناك كثير ممن ذكر أنه رآه وأنه اجتمع به، والمحدثون يعتمدون على قول النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال لأصحابه وهو بينهم: (كل من على الأرض إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهرها أحد) قالوا: فكان آخر ذلك هو أبو الطفيل عامر بن واثلة ، كان وقت قول النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ابن عام، ومات في بداية القرن الثاني عند خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ومن قال: إنه لا يزال حياً، قالوا: إن النبي يتكلم على من يراه الناس ويراهم، وإلا لأدخلنا الملائكة كذلك على أنهم لا يبقون بعد مائة عام، ولأدخلنا الجن وهم يعمرون كذلك، ونحن لا نجزم أننا اجتمعنا بـالخضر ولا رأيناه، وإن كان بعض مجالسينا ذكروا أنه ذهب من هنا وجاء من هنا، ولكننا نحن لم نره، فعلم ذلك عند ربي في كتاب.
كذلك إلياس ورد أنه أصبح ملكياً إنسياً ذا أجنحة كالملائكة أرضياً سماوياً، وأكثر هذه الروايات عن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه ، وعن نوف البكالي وهؤلاء من أصول يهودية، فعندما أسلموا -وبعضهم شك في إسلامهم- ملئوا الكتب شروحاً وتفاسير، بل بعضهم نسب للتوراة ما ليس فيه، واتخذ ذلك سلماً للاختراع والكذب، وقد حرص ابن كثير على أن يترك الإسرائيليات ولا يرويها، فإذا أشار إليها لشهرتها ليكذبها، ومع ذلك جاء من يذكر الإسرائيليات، وهي لا تضر القرآن بشيء؛ لأن تلك الدروس يزعمونها لأنفسهم ولا علاقة للقرآن الكريم بها، والتفاسير مهما كانت مدونة أو منصوصة هي في عهدة أصحابها، إن أصابوا فمن الله، وإن أخطئوا فمن أنفسهم، أقول هذا عن نفسي وأقوله عن أشياخي وعمن سبقهم.
فهي علوم يعلمها الله لمن شاء، فيصيب من يصيب ويخطئ من يخطئ، ولا يتأكد الصواب إلا بوحي أو بإجماع.
فإلياس كان نبياً من الأنبياء عد من الصالحين ورسولاً كريماً، أدى رسالته كما أمر، ثم مات كما مات البشر، أما كونه بقي فتلك روايات إسرائيلية تسللت إلى كتب الحديث، ولكن الحديث أيضاً له أسانيد يروى بها، فأقاويل رسول الله عليه الصلاة والسلام حفظت -ولله الحمد- حفظاً قطعياً يقينياً، فنحن نروي ونقول: حدثنا فلان عن فلان، وقديماً قالوا: من ألف فقد استهدف، فمن أصبح راوياً تؤخذ ترجمته وتحلل عند الأقدمين في حياته: أصادق هو أو كاذب، أمجهول أو معروف، أعالم أو جاهل، أصائب أم يكثر خطؤه وأوهامه، فإن كان شيء من ذلك ينبذ هو وتنبذ جميع رواياته، حتى إن صح شيء منها؛ لاختلاطها بما لا يصح، ويصدر في كتاب كميزان الاعتدال للإمام الذهبي ، ولسان الميزان للإمام الحافظ وغيرها ولكن هذين أشهرها، ولسان الميزان في ست مجلدات، وإن كان البعض أدخل لمجرد الكلام فيه، والمحدثون والحفاظ أكدوا وقطعوا بأن هذا الذي قيل في هذا الإمام زور وبهتان ولا حقيقة له ولا برهان عليه، فيكون إنما ذكر ليدافع عما قيل عنه.
والكتاب مفروغ منه، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالله قد تعهد بكتابه، ولم يتعهد بالتوراة الإنجيل، ولكن تعهد بحفظ القرآن، وهذه من المعجزات التي أدركناها وقد جئنا بعد الوحي بألف وأربعمائة عام، فكان ما نتلوه هو ما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون والصالحون من المؤمنين، بغير زيادة ولا نقص، لا في حركات ولا في مدود ولا في وقفات ولا في ترتيب سور ولا في حصر آيات، ولا نقول هذا لوحدنا، وإنما يقوله معنا الكفار كذلك يهوداً ونصارى مؤولين ومعطلين، ولو وجدوا شيئاً ينقص من قدره لقالوه، فكل ما قاله الكفار ورجعوا إليه أنه أعانه عليه قوم آخرون وذلك كذب وبهتان، وإلى الآن لم يقل أحد منهم: إنه زيد أو نقص أو بدل أو غير، أو إن القرآن الذي يتلوه الهنود غير الذي يتلوه المغاربة، وغير الذي يتلوه من في جزيرة العرب، لم يقل هذا لا مؤمن ولا كافر.
فقوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي: كذبه عشيرته وقومه، ولم يؤمنوا برسالته، فهددهم الله وأنذرهم بأنهم لمحضرون، أي: سيحضرون ويساقون سوقاً إلى عذاب الجحيم وبئس المصير، وستكون عاقبتهم عاقبة الكافرين قبلهم.
قال تعالى: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:128]، أي: إلا من آمن به على قلتهم، هؤلاء الذين أخلصهم الله لعبادته، وزالت شوائب الشرك والنفاق عنهم.
أو عباد الله (المخلصِين) الذين أخلصوا العبادة والتوحيد لله، بغير نفاق ولا مراءاة ولا تسميع.
وقوله: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع.
قوله تعالى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات:129-130] أي: ترك عليه الذكر الحسن، فقد مضت آلاف السنين ولا يزال إلياس يذكر الذكر الحسن وينوه به، ويصلى عليه ويسلم، كما يصلى على أنبياء الله المكرمين ورسله الصادقين.
قال تعالى: سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات:130].
(إِلْ يَاسِينَ) معناها: سلام على ياسين، والعرب تدخل أحياناً الألف واللام على الأعلام، مثل: عباس فتقول: العباس، وأحمد تقول: الأحمد، بشير تقول: البشير، وإلى اليوم يدخل المغاربة على الأعلام الألف واللام، ويقال عليها في النحو العربي: إنها للمح الأصل، فمن سمي ابنه علياً لا يزال يلمح أصلاً، رجاء أن يكون ولده على دين علي شجاعةً وإيماناً وصلاحاً وتقوىً وفصاحةً وبلاغةً، وهكذا يصنعون في الأعلام، وهي لهجة من لهجات العرب قديماً وحديثاً، ونطق بها القرآن، وبعضهم قال هكذا، والعرب كما تقول: (ياسين) تقول: (الياسين) و(إلياسين)، وكما تقول: (إسماعيل) تقول: (إسماعيلن) وتختم الكلمة بالنون، و(ميكائيل): (ميكائيلن) و(إدريس): (إدريسن) أما القراءة التي فيها (آل ياسين)، فالبعض قال: (آل ياسين) أي: من آمن به وأصبح من أهله وأتباعه وشيعته وأنصاره.
فقوله: سَلامٌ عَلَى آِلْ يَاسِينَ أي: سلام على ياسين وأتباعه وأنصاره من المؤمنين.
وقال القرطبي وابن كثير والبغوي والسيوطي : معنى (آل ياسين): آل النبي عليه الصلاة والسلام، وذهبوا إلى أن ياسين اسم من أسماء رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسبق أن قلنا هذا في تفسير سورة ياسين، فقد قيل عنها الكثير في تفسيرها، وكان مما قيل: إن ياسين اسم من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن ياسين معناها: يا سيد البشر! وليس هناك سيد للبشر إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو سيد الأولين والآخرين، وهو الذي قال عن نفسه كما في الصحيح: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) فإذا كان هو سيد ولد آدم يوم القيامة فهو سيد ولده في الدنيا من باب أولى وأحرى.
فقوله تعالى: (سَلامٌ عَلَى آِل يَاسِينَ) أي: سلام على آل بيت النبوءة رضي الله عنهم، وصلى الله على جدهم وسلم.
وإن كان البغوي قد قال: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من هذه الآيات، ولكن الآخرين قالوا: هذا الكلام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو مذكور من البداية والنهاية، فمعه الخطاب وإليه يوجه الكلام من الله جل جلاله.
قال تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:131-132].
أي: كما قال ربنا عن الأنبياء السابقين قال عن إلياس، ومن فعل فعله، وصبر صبره، ودعا دعوته، وأطاع طاعته جازاه الله بما جازى به إلياس؛ بخلود ذكره مع الخالدين والثناء عليه مع المؤمنين، وبقاء ذكره في الأجيال الآتية إلى يوم القيامة، والثناء الحسن والإشادة الطيبة.
وكذلك يفعل الله، وقد رأينا هذا، فهؤلاء الأئمة مالك والشافعي والشعبي وسفيان الثوري وغيرهم من المجتهدين ليسوا رسلاً ولا أنبياء، ولكنهم كانوا خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبيه، فدعوا الخلق والبشر إلى نشر العلم والتعلم والطاعة والتمسك بالإيمان، وكانوا من المسلمين المؤمنين، فجوزوا بما جازى الله به الأنبياء السابقين، فترك لهم ذكراً في الصالحين، فخلدوا مع الخالدين، فكلما ذكر واحد منهم يذكر بالثناء والإشادة والترحم، ومن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
فهؤلاء الأئمة نشروا العلم وتنقل هذا العلم من تلاميذهم إلى تلاميذهم، ومن مؤلفاتهم إلى القارئين لها والدارسين فيها، وخلدوا بخلود ذلك، فكانوا من المحسنين الذين ترك الله لهم ذكراً في العالمين.
وكما ينص ربنا هنا عن كل نبي من هؤلاء الأنبياء فإنه قال: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي: كذلك إلياس كان من عباد الله المؤمنين بربهم، والمؤمنين برسله وكتبه، والأنبياء يرسلون إلى أنفسهم قبل أن يرسلوا إلى قومهم.
يخبر الله سبحانه نبينا عليه الصلاة والسلام، ويخبرنا معه أن نعطي كل ذي حق حقه، فإذا ذكرنا أنبياء الله احترمناهم وقدسناهم وصلينا عليهم، ولن نترك أحداً يذكرهم بسوء، بل نجعلهم القدوة والأسوة، قال تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وما ذكرهم الله جل جلاله إلا ليكونوا منا مكان الأسوة والقدوة والإمامة، وقد ذكرهم سبحانه تنويهاً بهم، وإشادة لهم؛ وليصلى عليهم، وليدعى لهم في الآخرين، ولا يزال هذا منذ حياتهم إلى عصرنا وإلى ما بعد عصرنا إلى يوم القيامة.
وقد قيل: إن إلياس من بني إسرائيل، وليس ذلك مؤكداً، ولوط ليس من أنبياء بني إسرائيل؛ لأن إسرائيل هو يعقوب، ولوط ابن أخي إبراهيم، وكان في حياته وآمن به، ثم أرسل إلى قبائل سدوم -قبائل في فلسطين- فكان نبياً في حياة عمه إبراهيم ورسولاً.
قال تعالى: (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي: من المرسلين إلى أقوامهم، وكل الأنبياء السابقين إنما بعثوا إلى عشائر من أقوامهم فقط، فليس منهم نبي عالمي إلا نبينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
ولذلك فديننا هو الوحيد الذي يوصف بأنه دين العالمين، وأما الأديان الأخرى فهي أديان قومية، وكل ما وصف به في هذا العصر بأن اليهودية ديانة عالمية، والنصرانية كذلك فهو كذب وبهتان، فنكذبه ويكذبه التوراة والإنجيل قبل القرآن ويكذبه النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (كان الأنبياء قبلي يبعثون إلى أقوامهم خاصة، وبعثت إلى الناس كافة).
وفي الإنجيل يقول عيسى: أرسلت إلى خراف بني إسرائيل، الخراف الضالة، والقرآن يؤكد هذا: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:6]، فعيسى ليس رسولاً إلا إلى بني إسرائيل، ومن آمن به من غير اليهود فقد آمنوا بشيء لم يطلب منهم، ولم يؤمروا به.
وهؤلاء القوم أمر الله نبيه لوطاً بأن يعظهم ويخوفهم وينذرهم، فما زادوا إلا عتواً، حتى بلغ بهم الأمر أن جاء إليه ملائكة على صورة شباب مرد يخبرونه عن أمر الله بأن يترك البلدة، وأنه سيصيبهم جميعاً الخسف من الأرض، والرجم من السماء، وأن يتركهم من الآن فيخرج مع أهله، إلا امرأته فإنها كانت تبلغ قومه عندما يأتيه أحد من هؤلاء الشباب، وكانت كافرة ومجرمة كقومها، فعاقبها الله بعقابهم.