تفسير سورة الصافات [149-173]


الحلقة مفرغة

ثم قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ [الصافات:149-150].

الله يقول: سل يا محمد! من يعبد الجن والملائكة ويقول: هم بنات الله، لماذا اختاروا الأولاد وتركوا البنات لربهم؟ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58-59].

كان الواحد منهم إذا بشر بالأنثى اختفى واستحيا من الناس، وهم في هذه الحالة يفضلون أن يخفوها عن الناس أو يدفنوها حية، وقد كانوا يفعلون ذلك، وليسوا وحدهم بل العالم كله إلى عصرنا، ففي كل يوم تنشر الجرائد عن أوروبا وعن أمريكا وعن اليابان وعن جميع بلاد الكفر: أن النساء يقتلن أطفالهن لتبقى البنت أو لتبقى الشابة في نظرها خفيفة نشيطة لا تترهل بطنها، حتى إن نظام تلك الدول يسمح بالإجهاض وهكذا دواليك، وهذا هو فعل أسلافهم من الكفار والمشركين.

قوله: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ [الصافات:150] أي: أم أنهم كانوا حاضرين عندما خلقنا الملائكة؟! فهذا استفهام استنكاري، فهم حتى في شركهم كذابون غشاشون.

يقول الله عنهم: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الصافات:151-152].

الإفك: هو أشد الكذب، فيقولون لكذبهم وإفكهم: وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، فالله هو الخالق وليس بالوالد، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، وأكرم من ذلك، وأشرف من ذلك، فيرث عباده ولا يرثونه، وهو يخلق الوالد والولد، لكن هؤلاء يهرفون بما لا يعرفون، ويكذبون على أنفسهم وعلى الله.

أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الصافات:153-155].

أَصْطَفَى أي: أأصطفى، حذفت إحدى الهمزتين للتخفيف، أي: أأصطفى البنات على البنين، والاصطفاء بمعنى: الاختيار.

مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات:154] أليست لكم عقول؟! أليست لكم أذهان؟! أليس لكم إدراك ووعي؟ من أين لكم هذا؟ ومن الذي أخبركم به؟ كيف تحكمون بأن البنات لله سبحانه، وأن الأولاد لكم؟ سبحان الله عما يقولون!

أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الصافات:155] استفهام تقريري، أي: ينبغي لكم عندما يخطر هذا ببالكم أو تسمعونه من كافر لا يؤمن بالله أن تتفكروا في أنفسكم: من أين للقائل بهذا ما قاله؟ هل له سلطان من دليل أو حجة أو عقل أو نقل؟ بل هو الكذب والكفر والعياذ بالله.

وزعمهم أن الملائكة بنات الله وهم لم يروا ملكاً، ولكن هذا الكلام سمعوه عن أب أو عن جد فاجر فاستمسكوا به، وأشركوا مع الله ملائكته، وقالوا: هم بنات الله، فكذبوا على الله فقالوا: له بنات، وقالوا: له ولد، وكلهم قال: له صاحبة، وبعضهم قال: من الجن، وبعضهم قال: من الإنس، والكذب كثير والعقول السخيفة الضائعة الضالة أكثر.

أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الصافات:156-157] أي: فائتوا بهذا الكتاب الذي تزعمون أنه منزل على نبي لكم، وهذا أمر تعجيزي تقريعي توبيخي، أي: لا شيء من ذلك.

والنتيجة: أن كل هذا كذب وهراء، وكله لا أصل له ولا حقيقة، فمن يؤمن به إنما يؤمن بالأكاذيب والأضاليل، وإنما يضل عن الهدى أيصبح من المشركين عن جهل وغواية وتقليد لآباء جاهلين ضالين مضلين.

يقول تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:158-160].

(وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) هذه طائفة أخرى من الكذبة، فقد سُئلوا عندما قالوا: إن الملائكة بنات الله، فقيل لهم: ومن أمهم؟ قالوا: أخذ من بنات كبار الجن، فالجن أصهاره، وهذا معنى قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158] والجنة: جمع الجن.

وزعم أقوام أن معنى قوله: (الجنة) أي: الملائكة؛ لأن الجن من الاجتنان، وهو التستر، فهم لا يظهرون على البشر، وهم لا يعرفون إلا بالسماع والرواية، فهم جن بالنسبة للبشر، أي: مستورون.

وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه بعض الضالين، وقال لهم: إن كان لله بنات وهم الملائكة، فمن أمهم؟ قالوا: أخذ من سيدات الجن، تعالى الله عما قالوا علوا كبيراً، ولولا أن الله ذكر هذا في كتابه لما أعدناه ولما نطقنا به، ولكن القرآن لقوة دليله وقوة برهانه، وفرضيته على الخلق بالمنطق والبرهان فإنه يقول ويذكر كل ما قاله الكافرون.

والنصارى جعلت عيسى ابن الله، ومريم صاحبة الله، واليهود: جعلوا العزير ابن الله، وعبدوا العجل شريكاً مع الله، وآخرون وآخرون من مشارق الأرض ومغاربها فالبراهمة والمجوس وغيرهم.

قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، فالشيء الذي خلقه الله للإنسان وشرفه على الخليقة وملكه به على الأرض هو ملكه لعقله ولقلبه ولوعيه ولبصره ولسمعه، فإن كان هذا البصر لا يبصر، وهذا القلب لا يفقه، وهذه الأذن لا تسمع فهم دواب، بل هم أقبح أنواع الدواب، بل قد تكون الدواب أشرف منهم.

ولذلك من سوى الإنسان المسلم حيوان أعجمي حتى وإن وصف بأعظم الصفات من ملك وعلم، ورئاسة وقوة وفلسفة وما إلى ذلك من الهراء والباطل؛ لأن الذي ينكر موجد نفسه وموجد هذا الخلق يكون إنساناً لا عقل له، ويكون دابة تمشي على رجلين، وعوضاً عن أن يحمل اسم دابة حمل اسم إنسان خطأً.

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:158]، يقول الله عن هؤلاء: إن كفرهم أصبح من كفر الجن ومن كفر إبليس؛ لأن إبليس وجنده من الجن يعلمون: أن الله قد أنذر إبليس اليوم الأول عندما تكبر على الله وامتنع من أن يسجد لآدم.

إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:158] أي: محضرون إلى العذاب، وإلى جنهم، يسحبون إليها على وجوههم، وعلى جباههم.

سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات:159]، يسبح الله نفسه، ويمجد نفسه، وقد سبح نفسه بعد ذكر انتقاص الكافرين له بأن قالوا: إن بينه وبين الجنة نسباً، أي: سبحان الله، ننزه الله عن هذا، ونمجده عن هذا، ونخذل ونلعن قائليه ونجعلهم من الكفرة الذين هم خالدون في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين.

قال ربنا: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:160]، هذا استثناء من المحضرين إلى النار.

فـ سُبْحَانَ اللَّهِ [الصافات:159] جملة اعتراضية ذكرت للتعظيم وللتمجيد، وهي كلمة ذكرت فرادى.

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:160] إلا عباد الله من الجن فإن فيهم مؤمناً وفيهم كافراً أيضاً، وسورة الجن في القرآن معلومة، ومسجد الجن في هذه البلدة المقدسة معلوم، وفيه كان الوحي، وفيه نزلت السورة: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] فآمنوا وعاشوا مؤمنين، كالإنس.

قال ربنا جل جلاله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فخلق الجن للعبادة، وخلق الإنس للعبادة، فكلاهما عابدون وموحدون ومؤمنون، فالله قال عن الجن: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:158]، يعلمون أنهم محضرون إلى النار، وأنهم يساقون إليها قهراً وجبراً إلا المؤمن منهم، وكما قال: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:160] أي: المخلصين لله، الذين أزال شوائب الكفر منهم.

وقرئ في الروايات السبع (مخلصين) أي أخلصوا عبادتهم ودينهم وطاعتهم لله.

قال تعالى: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:161-163].

يقول ربنا لهؤلاء وأمثالهم من المشركين ومن عبد حجراً، ومن عبد ملكاً ومن عبد جناً، ومن عبد إنساناً، يقول الله لهم: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:161-163].

أي: أنتم وما تعبدون سواء كان جناً، أو كان ملكاً أو كان إنساناً، ما أنتم على ضلالتكم وعلى كفركم بفاتنين أي: بضالين ومضلين، إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:163]، إلا من سبق في علم الله أن مصيره ومآله الجحيم وأن يحترق بها، وأن يصلاها، وأن يحترق في جميع أجزاء بدنه وخلاياه، أي: لن يضلوا إلا من كان مؤهلاً للضلالة، ومن كان قلبه فاسداً مريضاً، فهو يحتاج إلى من يذكره وإلى من يعيذه من كفره، فهو لا يكاد يسمع كلمة الكفر إلا ويتعلق ويتشبث بها، ويصبح من الدعاة لها.

فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:161-163].

أي: أنتم وما تعبدون لن تضلوا ولن تفتنوا لا أنتم ولا معبودوكم أحداً إلا من كان على استعداد للضلال، وكانت قلوبهم فاسدة وكان مهيئاً ومعداً للكفر، وقد سبق في علم الله أنه صال الجحيم وأنه محترق فيها وداخل فيها.

قال تعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات:164-166].

يقول هذا ملائكة الله متبرئين من عبدتهم المشركين الذين قالوا إنهم بنات لله، وحاشا الله من ذلك، وحاشا الملائكة كذلك من مثل هذا الكفر، فالملائكة متبرئون من كفر الكافرين.

وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164] أي: لا يوجد أحد منا معاشر الملائكة إلا وله ومقام ورتبة من العبادة لله: بين قائم وساجد وذاكر وعابد، ومكلف بالموتى، ومكلف بزرع الحياة، ومكلف بأهل الجحيم، ومكلف بأهل النار، وهم جند لله: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

فجبريل كبير الملائكة ورسول الله إلى رسل الله من البشر، وإسرافيل المكلف بالنفخ في الصور، وعزرائيل المكلف بقبض الأرواح، وكما أن البشر لهم رتب في الحياة بين مالك وعابد ورسول ونبي فكذلك الملائكة، على أنهم جميعاً لا يأكلون ولا يشربون ومعصومون من الذنوب والخطايا، والعبادة عندهم كالنفس للبشر، فالإنسان إذا انقطع نفسه مات، والملك إذا انقطع عن الذكر مات، فهو لا يحيا إلا بالذكر.

وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات:165-166].

أي: صافون للعبادة، فهم يصطفون في السماء الدنيا وفي السماوات وحيث كانوا من كون الله أرضاً أو سماءً يصطفون للصلاة والعبادة بين قائم وراكع، وبين ساجد وتالٍ، وبين ذاكر ومنفذ للأمر، يسبحون الله، ويذكرون الله، ويقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وكل يسبح الله بذكر من أذكاره جلاله.

وعن نبي الله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون: أطت السماء وحق لها تئط)، أي: صوتت بما تحمل من ثقل من الملائكة، وكما يصوت السقف المصنوع من خشب، تجد له صوتاً وحركة لثقل ما عليه: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد).

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (صفوا كما تصف الملائكة -أي: في الصلاة- فقالوا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة؟ قال: يتقدمون إلى الصفوف المتقدمة -أو يتمون الصفوف المتقدمة- ويتراصون في الصف) بمعنى: أن الملائكة يصطفوا صفاً واحداً، ثم الثاني ثم الثالث، فمن كان في الثاني والثالث ورأى فرجة فعليه أن يملأها ويتقدم إليها إلى أن تتم، وإذا اصطفوا يقفون متراصين، الكتف إلى الكتف، والكعب إلى الكعب.

وأما المصلون بالمسجد الحرام فحكمهم آخر؛ لأن القبلة فيه مكعبة، فتجد المصلين يحيطون بالكعبة من جميع الاتجاهات ومع ذلك يمكن للناس أن يصفوا محيطين بالكعبة صفاً فصفاً.

وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الصافات:167-170].

كان العرب يقولون: لو أنزل علينا نبي لكنا عابدين مخلصين مطيعين، وقال الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن عندنا ذكراً من الأولين، ولو نزل علينا ذكر، ولو نزل علينا رسول، أو كتاب يأتينا بأخبار الأولين، أو بما كان عليه الأولون أقوام نوح وعاد وصالح وأنبياء بني إسرائيل.

لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:169]، أي: لعبدنا الله عبادة خالصة، ولأخلصنا العبادة له، ولوحدناه ولتركنا الشركاء والأعوان وما وجدنا عليه آباءنا.

فيقول الله مكذباً لهم: فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الصافات:170].

أي: فكفروا بالذكر لما جاءهم، والذكر هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، فقد جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، وكذبوا ما كانوا يزعمونه قبل، وأنزل عليهم الكتاب وهو القرآن الكريم، ومع ذلك كذبوا به، وقالوا عنه: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103]، وقالوا عنه كذباً: وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4]، وهم يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم عاش بينهم أربعين عاماً لم يقرأ في كتاب، ولم يخط بقلم، وكان صادقاً مصدقاً، وكان الأمين المؤتمن، فلم يعلموا عليه كذباً وتبعات، وبعد أن بلغ الأربعين ودخل في سن الرجولة، بل بداية الكهولة تقريباً وهو لم يكذب على الناس كذبة واحدة، أيكذب على الله؟! ولكنها عقول ذاهبة ضائعة، فزالت منهم عقولهم قبل أن تذهب أديانهم.

فعندما جاءهم ما كانوا يتمنون وما كانوا يرجعون إذا بهم بعد هذا يكذبونه ويكذبون بالذكر لما جاءهم.

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الصافات:170] فتهددهم الله وأنذرهم بأنهم سيعلمون نتيجة كذبهم، وسيعلمون عاقبة أمرهم، جزاء وفاقاً لتكذيبهم لكتاب الله، ولرسول الله، ولإصرارهم على الشرك والكفر.

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

كلمة الله هي: أمره ونهيه، فإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، وكان الكون من الله قوله.

وهو الذي كتبه وقدره وسبق في علمه وفي قضائه وفي اللوح المحفوظ: أن الأنبياء والرسل هم المنصورون، فينصرهم الله على أعدائهم، ويذل الله أعداءهم، تكون العاقبة لهم.

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات:171]، فمهما عارضوهم أو غالطوهم ومهما اغتم الصالحون وكربوا من أجلهم، فإن العاقبة والنصر في النهاية لهم، وقد قال الحسن البصري سيد التابعين: ما قتل رسول قط. وقد قتل أنبياء -قتلهم اليهود- لم يذكر الله أسماءهم، ولكن عيسى الرسول لم يقتلوه، وقد زعموا ذلك ولكن الله كذبهم بقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].

فسبق في علم الله وفي اللوح المحفوظ: أن أنبياءه ورسله هم المنصورون مهما حوربوا ومهما قوتلوا، فإنهم في النهاية سيكون النصر لهم.

ونحن نرى هذا في السيرة النبوية العطرة، فطالما لقي منهم النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد، وقالوا عنه ما قالوا، وقاطعوه هجروا قوله وبيعته ومعاملته، وأذلوا قومه، وقتلوا من قتلوا، ولكن النهاية كانت له، فانتصر عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً، فخرج من مكة عن غير رضا منه ثم عاد إليها وهو العزيز المظفر المنتصر، عاد إليها وهو يقول: (الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، فهو يرجع كل شيء لربه، وهكذا كانت حال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو داخل مكة بعد سنوات من الهجران والمقاطعة من الكفار، ومن المعرضين عنه.