أرشيف المقالات

الاستراتيجية الطائفية.. الطريق إلى المحاصصة؟ - أمير سعيد

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .

التصفيق الحاد الذي أعقب إعلان الرئيس الراحل السادات عزل شنودة أنبا للكرازة المرقسية في اجتماع مجلسي الشعب والشورى قبل ثلاثة عقود، عكس حالاً لم تعد موجودة في المشهد السياسي المصري..
وانتشاء الجالسين في قاعة المجلس فور سماعهم قوله: "على هؤلاء الأساقفة سرعة معالجة الشعور القبطي العام في الداخل والخارج لكسر حاجز التعصب والحقد والكراهية وبث روح المحبة والتسامح، وعلى هذه اللجنة أن تتقدم للحكومة بكل الاقتراحات المناسبة لإعادة الكنيسة إلى وضعها التقليدي الأصيل كنسيج حي في جسم الدولة وترسيخ روح الحب والوداعة والصبر والحكمة تجاه جميع الطوائف والناس والتي كانت فيه رائدة لكل كنائس العالم" كان تعبيراً لافتاً عن شعور بالاحتقان تسلل إلى داخل دواليب الحكم والمجلس التشريعي والنخبة السياسية والثقافية حينها..
كانت هذه حالة تاريخية ردفها قول الرئيس حينها "أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة"، وأتبعها بقوله: "البابا شنودة الثالث حاول أن يصبح قائداً سياسياً وأن يجعل أقباط مصر كيانا منفردا داخل المجتمع المصري، وفى هذه اللحظة بدأ شرار الفتنة الطائفية .
لقد دفع شنودة رجال الدين لمواجهة النظام الشرعي أما خطته فكانت تعتمد على الجماعات القبطية في الخارج ...
في أوروبا وأمريكا واستراليا لإظهار أن أقباط مصر مضطهدون وأنهم من الدرجة الثانية (...) وفى لقائي في الكاتدرائية سألت البابا شنودة مباشرة : لماذا فعلتم كل هذا وما هي نواياكم الحقيقية بعد كل هذه الأكاذيب؟ كنت أعلم أن شنودة وراء الإشاعات فقلت له : تريد أن تصبح زعيما سياسيا في نفس الوقت الذى أنت فيه زعيم ديني؟ ..
لقد استمر شنودة في مناوراته .." [آخر لقاء للسادات مع القبس الكويتية قبل اغتياله بثلاثة أيام وفقاً لإحدى مواقع السادات الإلكترونية].

هذا كان في تاريخ مضى، والتاريخ لا يتكرر حقيقةً غير أن قسمات أوجهه تتشابه وقد تعيد استنساخ أطوارها مرة أخرى.

ومن التاريخ القريب إلى جغرافيا اللحظة يمكننا تلمس القفزة التي حققتها الاستراتيجية الطائفية في مصر، وستقودنا اللحظة الكاشفة لجغرافيا "جوجل إيرث" حيث يمكننا التجول ببساطة عبرها في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون (Deir El Amba Bishoi )، كأحد المعالم التي يمكننا الاسترشاد بها عن حجم التغيير الذي طرأ على "الحالة القبطية" في مصر، ومدى ما باتت تتمتع به من نفوذ وحضور طاغٍ في دائرة التأثير.


لا أحد يتصور في الطرف الآخر أن يتوافر للمساجد هذا القدر من الحصانة والخصوصية والاستقلال أبداً، لكن ما يزيد عن ذلك كثيراً، هو أن هذه المشاهد والصور ليست سوى إحدى تجليات التفوق القبطي على الذات والآخر معاً في ظل مناخ سمح ليس بالانتشار الفكري وإنما التمدد السياسي والاقتصادي مستظلة بحصانة محلية ودولية لم يسبق لها مثيل حتى زمن الاحتلال الإنجليزي ذاته.

وإذا مددنا خط التاريخ والجغرافيا المعرفية على استقامتهما ربما أمكننا تصور المستقبل الذي ينتظر مصر في كنف ظروف عبدت الطريق أمام عربة مسرعة تسابق أخرى تسير معتلة في سبيل مختلة مناظرة.

لسنا في الحقيقة بحاجة كبيرة إلى استشراف المستقبل ما دامت إرهاصاته بادية، وإنما سيعيننا ذلك على تحديد وضعنا، على أي درك نقف وفي أي مرحلة تعيشها الاستراتيجية الطائفية في بلادنا.


والإرهاصات عديدة، وتقود إلى الاعتقاد بأن ما نراه ليس إلا رأس جبل الجليد، وأن ما دون ذلك كبير وهادف فيما يتوقع إلى تنفيذ مخطط المحاصصة الطائفية القادم، ولعلنا نلحظ فيها ما يلي:

أولاً: الحرص على الترويج لرقمين مزورين ومبالغ فيهما عن تعداد الطائفة "القبطية" في مصر، وقد بدأت الآلة الإعلامية الساويريسية تسوق بقوة لأحد الرقمين، وهو الذي يعتمده شنودة (12 مليون قبطي) في مصر، ويتحدث القمص صليب متى ساويرس، عضو المجلس الملى وكاهن كنيسة مار جرجس عن أن "التعداد الفعلي للمسيحيين في مصر هو 18 مليون مسيحي تقريبا "، ويوافقه على ذلك رئيس منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان نجيب جبرائيل وغيرهما، وهما رقمان يفترضان أن واحداً من كل سبعة هو "قبطي مسيحي"، أو واحداً من كل خمسة هو كذلك!!

والنتيجة أن التسليم بهذا الوهم سيفضي إلى فرض مبدأ المحاصصة الطائفية بعدما نجحت "استعمارياً" في دول أخرى، عبر المبالغة في تضخيم أقلية ثم المطالبة لها بحصة في الحكم، وقد تناهى إلى مسامع الكثيرين قبل أيام ما طالبت به حركة "شركاء من أجل الوطن" من حصة برلمانية تبلغ 25% من مقاعد مجلس الشعب، لاعتبارها ـ كما قالت في بيانها ـ "أن هذه هي النسبة الحقيقية للمسيحيين في الداخل والخارج"!! (بالطبع لدى فضيلة المفتي رقمه المعلن عن نحو 6% من عدد السكان من غير المسلمين في مصر، ولدى مركز "بيو" الأمريكي المتخصص، وهو 5%، وهو الأقرب للدقة، لاسيما أن المركز لا يمكن اتهامه بالتقليل من النسبة بالنظر إلى خريطته العامة في العالم كله والتي لم تأت أبداً في صالح المسلمين، أي أن العدد الحقيقي لا يزيد عن 6 ملايين "مسيحي").

ثانياً: إطلاق بالونات اختبار حول إمكانية تقبل وجود "قبطي" في منصب رفيع بالدولة كجزء من الشراكة المؤثرة في الحكم، وقد وردت تلك الشائعات عبر فرضية ترشيح ساويروس لرئاسة الجمهورية عبر الوفد، أو رامي لكح مثلما نسب إلى ناشط الأقليات المعروف د.سعد الدين إبراهيم، واجترار مرحلة تاريخية كان الاحتلال البريطاني يسعى فيها إلى تمييز طائفي "مسيحي" في مصر على حساب المسلمين، وبرغم إدراك مطلقي البالونات أن سقف طموح الطائفيين لن يلامس المنصب الأسمى سياسياً في مصر، لكنه قد تداعب أحلامه رؤية رئيس وزراء قبطي مستقبلاً في مصر ضمن محاصصة ترعاها دولة عظمى لا زال بعضنا يتذكر قول أحد كبار منظريه الاستراتيجيين وهو لوران مورافيتش المستشار الصهيوني السابق في وزارة الدفاع الفرنسية وهو يقول في خاتمة تقرير لمؤسسة راند الأمريكية سري ومثير للجدل, والذي نشرته واشنطن بوست (6/8/2002): "إن الحرب على العراق مجرد خطوة تكتيكية ستغير وجه الشرق الأوسط والعالم، أما السعودية فهي هدف استراتيجي، ومصر هي الجائزة الكبرى.."

ثالثاً: أن معركة كسر العظام التي يقوم بها متطرفو الكنيسة الأرثوذكسية ليس ضد الشعب المسلم وحده، بل أيضاً ضد أجهزة الدولة المصرية، والعمل بدأب على "تكريس" أمر واقع بتوسيع دائرة "دور التكريس الكنسية" لتشمل كل التراب المصري، هي إحدى حلقات الضغط المتوازي مع التدخلات الخارجية لاسيما الأمريكية في الشؤون المحلية، والهادفة إلى تكوين سيادة سياسية للكنيسة على رعاياها إضافة إلى توسيع رقعة الممارسة السياسية لتشمل المساحة الكاملة للدولة عبر إبداء الرأي في قضايا سياسية بحتة كماهية الحكم القادم ونحو ذلك، علاوة على جملة من الحوادث المتلاحقة التي تشي بأن هذا "التكريس" آخذ في الرسوخ والتأكد مع ظهور ميليشيات نفذت بجرأة عملية اختطاف زوجة مسلمة (مسيحية سابقاً) من بيتها في رابعة النهار، وأمام جمع من المسلمين العزل في منطقة الهرم بالقاهرة فشلوا في منعهم، وحادثة السفينة القادمة من الكيان الصهيوني، علاوة على التصريحات النارية المبثوثة على اليوتيوب لقساوسة بدؤوا في ممارسة دور أمني فضلاً عن السياسي يعترفون فيه بصراحة عن حوادث اختطاف وعلاج قسري بزعم إعادة مسلمة إلى عقيدتهم، وتصريحات مؤكدة لشنودة نفسه تتحدث بجرأة لا سابق لها عن تحدي أحكام القضاء وعن رفض القوانين المصرية، وأخرى منسوبة إليه تبرهن على رفضه القاطع لسلطة الدولة وسيادتها والإساءة للشعب المصري برمته باعتباره "سينسى كاميليا كما نسي وفاء" (كما ورد في صحيفة المصريون وغيرها)، من دون أن يقابل كل هذا بأي نقد أو نفي أو حتى إشعار بالنفي من أي من أقطاب الكنيسة.

رابعاً: أن الآلة الإعلامية "الطائفية" الكبيرة التي فرضت سطوتها على الحالة الإعلامية بأنواعها المختلفة، والتي كشفت عنها العديد من الحوادث كالتعامل الإعلامي مع قضية سفينة تهريب السلاح في بورسعيد، ومساندة القمني، والتعتيم على قضية كاميليا وإثارة مسألة المادة الثانية من الدستور المصري، وصنع كاريزما سياسية لكبار القساوسة، والتهوين من شأن علماء المسلمين في المقابل، وإحياء رماد مسألة النوبة، واتخاذ موقف متلون من قضية الحكم بإظهار المعارضة العلمانية "المسيحية" لـ"التوريث" وتأييده "دينياً" عبر الكنيسة وتعهداتها، وإثارة النعرة "المصرية" أو "الفرعونية" في مقابل "العربية" أو "الإسلامية"، والإساءة إلى العلاقات المصرية السعودية، وتبني الأجندة العلمانية اليسارية في مصر، والتي تلتحف بالهجوم على "البدوية" للنيل من ثوابت قيمية راسخة لا علاقة لها لا بالبدو ولا بأهلنا على شرق البحر الأحمر، وما إلى ذلك، تبدو أداة ضغط من جهة، ورافعة للمشروع الطائفي في مصر.

خامساً: أن المنظمات والمراكز الحقوقية التي ضربت بآلام كاميليا عرض الحائط وأصمت أذنيها عن مشكلتها، ومنها المنظمات المراكز التالية: مركز "المليون لحقوق الإنسان" ومنظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، مركز الكلمة لحقوق الإنسان، المركز المصري لحقوق الإنسان، مركز السلام لحقوق الإنسان، من واجبنا أن ننعش بشأنها ذاكرة المصريين بتذكيرهم بأنها ذاتها هي التي تقدمت قبل عام بطلبات لترشيح شنودة لجائزة نوبل للسلام، وهي بالطبع التي فضلت "السياسي" شنودة عن الرئيس المصري علماً بأن الأخير لم يزل منخرطاً في "عملية السلام" بينما شنودة لم يؤثر عنه أي دور "سلمي" خارجي أو داخلي، اللهم إن كان المقصود الإخفاق (العفوي أو المتعمد) في استخدام نفوذه لدى الإثيوبيين لحلحلة مشكلة مياه النيل والتي ربما أدت إلى حدوث صراع مستقبلي.

سادساً: أن الاقتصاد، وهو له مفردات "قبطية" لا يمكن استيعابها في كلمات كهذه، ويحتاج إلى دراسة شاملة من بعض المتخصصين، هو أحد الأدوات المستخدمة بقوة في هذا المشروع، والتي يكفي أن نشير هنا فقط فيها إلى عمليات الشراء غير المفهومة لأراضٍ زراعية وأخرى ساحلية بأموال من خارج مصر حالياً في أكثر من مكان، وكذلك يتوجب فتح ملف الاحتكارات المالية في عدد من المجالات الاقتصادية الاستثمارية، والتسهيلات التي منحت بسخاء، والتخصيصات التي قفزت برجال أعمال كانوا طارئين على الساحة الاقتصادية المصرية، لهم علاقاتهم الخارجية "المتميزة"، وجعلتهم في واجهة الاقتصاد المصري بنسبة تتحدث مصادر متطابقة عن أنها باتت تمثل نحو 60% من الاقتصاد المصري، وأطاحت بشرفاء آخرين من رجال الأعمال الوطنيين الذين أقاموا صروحاً اقتصادية وباشروا بناء اقتصاد تنموي رائد في المنطقة؛ فأجبروا على مغادرة الاقتصاد، وأحلوا بدلاً من ذلك ضيوفاً على شاشات التلفزة عن مصر التي كانت، يبكون أطلالها.

ما يستقى من ذلك أن المرارة التي يلقاها المصريون الآن من مظاهر هذا التغول والتمدد في الفراغ الاستراتيجي ليست مسألة تغذيها الغوغائية من الجانب الإسلامي، وإنما لأن هذه المظاهر حقيقة تعزز مخاوفه الموضوعية لاسيما أن كل يوم يمضي يحمل جديداً يخرق أسس "التعايش"، وينذر بالأسوأ..

4/10/1431 هـ

 

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير