شروط الاستنباط من القرآن الكريم
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
شروط الاستنباط من القرآن الكريمالقرآن كلام الله أنزله بالحق وهو قول فصل وليس بالهزل، قال الله سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ [الطارق:13-14] وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت:41-42 ]، ولكلام الله معنى يريده الله، ويعرف مراد الله بما بينه هو في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو بينه أصحاب رسوله الذين هم أعلم الناس بالقرآن لأنهم عاصروا التنزيل وعرفوا أسباب النزول والقرآن الكريم نزل بلغتهم العربية، فتفسيرهم وتفسير تابعيهم الذين أخذوا العلم عنهم مقدم على تفسير غيرهم.
القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه..
وهو يهدي للتي هي أقوم في كل زمان ومكان كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء:9] أي لأحسن الخصال في كل شيء، سواء للأفراد والأسر والمجتمعات والدول، وقال الله سبحانه: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل:89]، فكل ما نحتاج إليه في ديننا بينه الله لنا في كتابه العظيم نصا أو ظاهرا أو إشارة أو استنباطا علمه من علمه وجهله من جهله.
ويجوز الاستنباط من القرآن الحكيم بشرطين هما:
الشرط الأول: أن يحتمل المعنى المستنبط ظاهر لفظ القرآن، بما يوافق قواعد اللغة العربية في الإفراد والتركيب، وبهذا يعلم بطلان تفسير الباطنية والفلاسفة والصوفية.
مثال تفسير الباطنية: قالوا: "الوضوء" عبارة عن موالاة الإمام، و"التيمم" هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذى هو الحُجَّة، و"الصلاة" عبارة عن الناطق الذى هو الرسول و"الغسل" تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى "الاحتلام".
و"الزكاة" عبارة عن تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين..
و"الكعبة" النبي.
و"الباب" علي بن أبي طالب.
و"الصفا" هو النبي.
و"المروة" علي.
و"الميقات" الإيناس.
و"التلبية" إجابة الدعوة.
و"الطواف بالبيت سبعاً" موالاة الأئمة السبعة.
و"الجنة" راحة الأبدان من التكاليف.
و"النار" مشقتها بمزاولة التكاليف!! انظر التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي (2/ 179).
ومثال تفسير الفلاسفة: تفسير الفيلسوف ابن سينا لقوله تعالى: ﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾ حيث يقول: "هذه القوة التي توقع الوسوسة هي القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية، ثم إن حركتها تكون بالعكس، فإن النفس وجهها إلى المبادئ المفارقة، فالقوة المتخيلة إذا جذبتها إلى الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنس - أي تتحرك - بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس، فلهذا سمى خَنَّاساً"!!
وقال في تفسير قوله تعالى: ﴿ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾ "الجن هو الاستتار، والإنس هو الاستئناس، فالأُمور المستترة هي الحواس الباطنة، والمستأنسة هي الحواس الظاهرة"!! انظر التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي (2/ 318).
ومثال تفسير الصوفية: تفسير ابن عربي الصوفي لقوله تعالى: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ حيث يقول: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ﴾ بحر الهيولى الجسمانية الذى هو الملح الأُجاج، وبحر الروح المجرد الذى هو العذب الفُرات، ﴿ يَلْتَقِيَانِ ﴾ فى الوجود الإنسانى، ﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ ﴾ هو النفس الحيوانية التى ليست فى صفاء الروح المجرَّدة ولطافتها، ولا فى كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها، ﴿ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ لا يتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصيته، فلا الروح يجرد البدن ويخرج به ويجعله من جنسه، ولا البدن يجسد الروح ويجعله مادياً!! انظر التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي (2/ 253).
الشرط الثاني: أن لا يخالف المعنى المستنبط صريح القرآن أو السنة الصحيحة، فإن القرآن حق يصدق بعضه بعضا، والسنة حق توافق القرآن ولا تخالفه، فمن أتى باستنباط أو معنى جديد يخالف ما قرره القرآن أو السنة الصحيحة فإنه خطأ يقينا لا يقبل بحال، وأما إن أتى باستنباط أو معنى جديد يحتمله لفظ القرآن ولا يخالف ما قرره القرآن أو السنة الصحيحة فإنه يقبل؛ لأن من خصائص القرآن الكريم أنه حمَّال أوجه، وهذا من عظمته، فالآية الواحدة قد تفسر بأكثر من قول إن كانت تلك الأقوال معانيها صحيحة ويحتملها اللفظ القرآني بما يوافق قواعد اللغة العربية.
وبهذا الشرط يعلم بطلان تفاسير أهل البدع الذين يحرفون معاني القرآن بما يوافق أهواءهم، فهي تفاسير باطلة وإن ظنوا أنها توافق قواعد اللغة العربية؛ لأنها تخالف ما قرره الله في آيات أخرى أو تخالف ما ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم مما يبين معنى الآية.
مثال ذلك: تفسير المعتزلة والشيعة لقوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة:22-23] أن المعنى منتظرة الثواب، وأعرضوا عن الآيات والأحاديث التي تثبت رؤية المسلمين لربهم يوم القيامة وحجب الكفار عن رؤية الله، قال المفسرون: ﴿ نَاضِرَةٌ ﴾ أي مضيئة مسفرة مشرقة، ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ أي: إلى خالقها ومالك أمرها ناظرة أي: تنظر إليه، هكذا قال جمهور أهل العلم، والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.
قال ابن كثير: "وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام".
ومن قال: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، فهو خطأ قال الثعلبي: العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا: نظرته، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ﴾ [الزخرف: 66]، وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان.
وقال الأزهري: لا يقال: نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وقول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذلك تقوله العرب؛ لأنهم يقولون نظرت إليه: إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا: نظرته.
انتهى من تفسير القرطبي مختصرًا (19/ 109).
ومثال الاستنباط الصحيح من القرآن الكريم الاستدلال بقوله تعالى: ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾ [يوسف: من الآية25] على وجوب طاعة الزوجة لزوجها، ووجوب خدمتها له بالمعروف؛ لأن الله تعالى سمى الزوج سيداً فقال: (سَيِّدَهَا) يعني زوجها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هنَّ عوان عندكم" رواه الترمذي وصححه وقال: معنى قوله: "عوان عندكم" يعني: أسرى في أيديكم، فهذا الاستنباط مقبول لتوافر الشرطين فيه: موافقة قواعد اللغة العربية، وعدم مخالفة القرآن أو السنة الصحيحة.