نهاية التاريخ


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعــد:

فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته أجمعين.

ثم إن هذه الليلة، ليلة الإثنين السادس من شهر ربيع الأول، من سنة (1414) من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا الدرس هو السادس والتسعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وعنوانه: (نهاية التاريخ.

وهذا العنوان مستعار من كتاب أحدث ضجة كبيرة، وقد طبع في أمريكا ووزع في أنحاء العالم، وترجم إلى اللغات الحية بما في ذلك اللغة العربية، ومؤلف هذا الكتاب رجل ياباني الأصل أمريكي الجنسية والمولد، اسمه فرنسيس فوكوياما، أما المترجم العربي فهو الدكتور حسين الشيخ، وقد طبعت الترجمة العربية للكتاب في دار العلوم العربية بـبيروت في قرابة ثلاثمائة صفحة، وقد أتيح لي أن أقرأ مجموعة من التحاليل، والتقارير، والدراسات حول هذا الكتاب، ثم أن أطلع عليه بترجمته العربية.

وفكرة هذا الكتاب -نهاية التاريخ- فكرة بسيطة إلى حد السذاجة -كما يقول أحد المحللين- وهي تعتمد على أن المؤلف يقول وهو يحتفل بسقوط الشيوعية، وانهزامها، ودفنها: إن الديمقراطية الغربية قد انتصرت، وانتصر معها الغرب، ولم يعد أمام العالم -أمريكا والغرب- ما ينتظرونه من جديد، فلقد حدث الجديد فعلاً، وهو انهيار الماركسية وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانتشار النظام الديموقراطي الليبرالي الحر في العالم، بما في ذلك الدول الشرقية التي كانت تابعة للمنظومة الشيوعية، ولهذا فقد أُغلق باب التاريخ فلا جديد بعد اليوم، إلا في حدود بعض الإصلاحات والتغييرات الطفيفة هنا أو هناك.

فهذه هي فكرة الكتاب، يقول المؤلف: ليس هناك أيدلوجية، أو عقيدة يمكن أن تحل محل التحدي الديمقراطي الغربي الذي يفرض نفسه على الناس، لا الملكية، ولا الفاشية، ولا الشيوعية، ولا غيرها، حتى أولئك الذين لم يؤمنوا بـالديمقراطية، ولم يتبنوها كمنهاج لحكمهم، أو حياتهم، أو عملهم، يقول: سوف يضطرون إلى التحدث بلغة ديمقراطية، ومجاملة التيار من أجل تبرير الانحراف والديكتاتورية والتسلط الذي يمارسونه.

أما الإسلام فإن المؤلف يتحدث عنه بلغة مختلفة بعض الشيء، فهو يقول: يمكن أن نستثني الإسلام من هذا الحكم العام، وهذا الكلام، فهو دين متجانس، ودين منتظم وهو قد هزم الديمقراطية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، وشهدت نهاية الحرب الباردة بين الغرب والشرق، تحدياً سافراً للغرب على يد العراق، وهو يعتبر أن التحدي العراقي يتضمن تحدياً إسلامياً، باعتبار الموروثات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط، فهذا الدين الإسلامي، يقول المؤلف: على رغم جاذبيته العالمية، وقوته إلا أنه ليس له جاذبية خارج المناطق ذات الثقافة الإسلامية، فالشباب مثلاً في برلين، أو طوكيو، أو موسكو، أو واشنطن لا يجذبهم الإسلام، وإن كان يؤمن به أعداد من الذين يعانون ظروفاً صعبة، أو من الساخطين على الأوضاع العامة هنا أو هناك.

إذاً: يقول: أصبح من الممكن أن نخترق العالم الإسلامي بالأفكار التحررية الغربية، وأن نكسب أنصاراً داخل المسلمين ممن يؤيدون الليبرالية الغربية، أو العلمنة الغربية.

وهذا التوقع الذي طرحه المؤلف في كتابه نهاية التاريخ، هو مجرد حلم لذيذ، أو توقع محتمل على أحسن الأحوال في ظنه، أما الآخرون فيقولون خلاف ذلك، إن هذا الكلام الذي قاله، قاله من قبله هتلر حينما تحدث عن الرايخ الثالث الذي سيعيش ألف عام على حد زعمه، ولكن هذا التوقع اصطدم بالواقع المخالف تماماً لما يقول.

ومثل ذلك الماركسية التي كانت تتحدث عند انتصار اليوتوبيا، وقيام جنة دنيوية، وفردوس ينتظم العالم كله تحت ظل الشيوعية، فإذا بـالشيوعية لم تعش أكثر من سبعين سنة، وهي عمر إنسان عادي ليس عمر دولة، أو أمة، أو معتقد، ثم في ظل هذه السنوات القصيرة يعيش العالم الشرقي تحت الشيوعية حياة بائسة كئيبة.

ومثل ذلك نبوءة شبلنجر عن انهيار الغرب.

إذاً: هي مجرد ظنون، أو أوهام، أو أحلام لذيذة مخدرة، يتوقعها هؤلاء الكاتبون.

وكما ذكرت فقد أشار وأثار هذا الكتاب زوبعة كبيرة، وكتبت عنه مئات الصحف في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وكتب عنه كاتبون كثيرون، بعضهم قسس، وبعضهم مفكرون اجتماعيون أو سياسيون، وانتقدوا هذا الطرح الأمريكي المتطرف، واعتبروا أن الكاتب بسيط إلى حد السذاجة، وأن ما قاله لا يعدو أن يكون احتفالاً بسقوط الشيوعية، ولا يملك مقومات النظرية العلمية الصحيحة.

والسؤال: ماذا يعني سقوط الحضارة الغربية، أو الحضارة الأمريكية على وجه الخصوص؟

ماذا يعني تحديداً؟

بعض الناس يتصورون -مثلاً- أننا حينما نتحدث عن سقوط الغرب، أو أمريكا، أو الحضارة الغربية، يعنون معنىً عاماً شاملاً يترتب عليه تدمير جميع المنجزات الحضارية، وعودة الإنسان -كما يقولون- إلى العصور البدائية بعيداً عن كل ما يتمتع به في هذا العصر.

وهناك -مثلاً- طرح عبارة عن فيلم اسمه: مقاتل على الطريق لـجورج ميلر، وهذا الروائي يتنبأ بهذه النهاية المرعبة للعالم الغربي، والبؤس الذي سوف يلف العالم هناك، ويقضي على كل المنجزات الحضارية التي يتمتع بها الناس اليوم، سواء منجزات الاتصالات المختلفة، أم المتعة، أم الرفاهية، أم النقل، أم الكهرباء، أم غير ذلك.

وهكذا روايات الخيال العلمي -كما يسمونها- التي تصور تدمير الحضارة التكنولوجية الحديثة، والعودة المفاجئة إلى العصور البدائية، ولذلك فإن البعض يبدون انـزعاجاً من الحديث عن سقوط الغرب، لأنهم يظنون أن سقوط الغرب سوف يترتب عليه زوال هذه الفرص والإمكانيات التي يتمتعون بها الآن.

حتى إنني قرأت لكاتب إسلامي في جريدة الحياة، أنه يقول: ينبغي ألا نطرح هذا الأمر بتفاؤل لأن هذه الأشياء مصلحة مشتركة بين الأمم كلها، وهذا في الواقع ليس مقصوداً لنا، حينما نتحدث عن سقوط الغرب، أو سقوط أمريكا، وإن كان هذا مطروحاً لدى بعض الغربيين، فهناك جماعات من العلماء المتخصصين يتوقعون أحوالاً سيئة سوف تكون إليها البشرية، حتى يوم كان هناك نظرة متفائلة مثالية للمستقبل قبل عشرات السنوات وكانت هي السائدة.

حين ذاك كتب فيلسوف ألماني اسمه سبيكر، كتب كتاباً عن تدهور الحضارة الغربية، وتوقع مستقبلاً مظلماً للغرب، وللعالم كله من وراء الغرب، ثم جاء العالم الإنجليزي جورج أورويل، وكتب كتاباً اسمه: العالم عام أربع وثمانين، وكان كاتباً متشائماً، وتوقع أوضاعاً سيئة، لكن الواقع كان أكثر تشاؤماً منه!!

فإن الأوضاع التي مر بها العالم عام أربع وثمانين وما بعده، كانت أكثر سوءاً وسوداوية وقتامة، مما تصوره وظنه ذلك العالم الإنجليزي.

ثم كتب الفيلسوف الآخر أيضاً هولن ويلتن، وهو الآخر إنجليزي، كتب عن سقوط الحضارة الغربية وذلك ضمن منظومة متسلسلة من البحوث والكتب والدراسات القديمة، التي كانت تتحدث عن سقوط وشيك للعالم الغربي.

وهناك علماء الفلك الذين يكتبون نهايات مفزعة عن الكون، بسبب زيادة طاقة الشمس وحرارتها -مثلاً- ووجود ثقب ضخم لطبقة عليا، يسمونها: طبقة الأوزون، ويقولون: إن هذا الثقب إذا ظل يكبر بالمعدلات التي تحدث الآن فإنه سوف يترتب عليه أخطار تهدد الحياة البشرية كلها.

مثلاً: زحف الماء على الكرة الأرضية، وتغطية مدن بأكملها، وغمرها بالمياه، وابتلاع هذه المدن بسكانها، وإمكانياتها، تلوث البيئة والجو، وانتشار الأمراض، ومنها: سرطان الجلد، إلى أشياء أخرى مترتبة على هذا الخطر الذي يسمى ثقب الأوزون.

وعلماء الطب -مثلاً- يتحدثون أيضاً بنفس النظرة، ويتكلمون عن الأخطار والأمراض التي سوف تحدث للبشرية من جراء هذا الثقب الذي أصبح مرئياً وملاحظاً الآن، وهو يتزايد بسبب كثافة الاستهلاك التصنيعي خاصة في الدول الغربية.

إضافة إلى ذلك فعلماء الطب يدقون نواقيس الخطر من الأمراض الذي أصبحت تفتك بالبشرية، فلم يعد مرض السرطان هو أخطرها، بل أصبح مرض الإيدز الذي ضحاياه يعدون بعشرات الملايين، وحاملو الجراثيم مئات الملايين، ويتوقع أن تزداد النسبة بكثرة في السنوات القادمة، ويقف الطب عاجزاً عن ذلك، إن هذا يهدد السلالات البشرية، ويهدد الحياة على وجه الأرض.

أما علماء البيئة فهم يرسمون صورة مكبرة لما حدث في المعمل النووي في الاتحاد السوفيتي، معمل يسمونه "تشر نوبل" وقد تسرب من هذا المعمل بعض الإشعاعات النووية، فدمرت الحياة هناك، وأثرت، وقتلت، وغيرت أشياء كثيرة، وانتقلت آثارها عبر مأكولات وفواكه وخضروات وأشياء إلى العالم العربي والإسلامي بل إلى العالم كله.

فهم يقولون: ماذا لو حدث زلزال -مثلاً- في أحد المواقع التي تقام عليها مفاعلات أو معامل نووية، وترتب على ذلك تسرب خطير لهذه المواد والإشعاعات القاتلة للناس؟

بل ماذا لو حصلت حرب نووية أو حرب جرثومية بين دولتين من دول العالم، لامتد أثر ذلك وضرره إلى مواقع كثيرة، بل ماذا لو تملكت بعض ما يسمونها بالجماعات الإرهابية، أو عصابات المافيا، أو المجموعات التخريبية في العالم، وبطبيعة الحال أنا لا أقصد بهذا المسلمين إنما يُقصد بشكل عام تلك الجماعات التي تتاجر بكل شيء في الشرق والغرب، وهي جماعات إرهابية؛ همهما تحصيل المال والثراء والكسب، ماذا لو تملكت بعض هذه العصابات السلاح النووي، فضلاً عن أن المصانع والنفايات والإشعاعات النووية التي تدفن -غالباً- في بلاد المسلمين، أو تصدر بصورة أو بأخرى، حتى إن آخر ذلك أن الصومال وضع في مياهها بعض النفايات النووية أن هذا أيضاً يهدد الحياة البشرية على وجه الأرض.

إذاً: هؤلاء توقعوا نهاية حادة، وحاسمة للحياة البشرية، وأن سقوط الحضارة لا يعني فقط تأخراً أو تراجعاً، بقدر ما يعني تهديداً للحياة البشرية على وجه الأرض، أو على الأقل تهديداً للمنجزات الحضارية التي يتمتع بها الإنسان في العالم كله.

وهؤلاء العلماء يتفقون على أن العالم يسير إلى كارثة محققة لا مهرب منها، يقول كاتب روماني شهير: إن محاولة إنقاذ العالم حينئذ هي مثل محاولة الفئران أن تهرب من سفينة على وشك الغرق، فهي تهرب من السفينة لتغرق في البحر، فهي بين حرق أو غرق.

فهذه التوقعات أو الظنون مع أنها الآن لا تؤخذ بعين الجدية، إلا أنه ينظر إليها على أنها من الطرائف العلمية، ومع ذلك يجب ونحن نتحدث عنها أن نتنبه إلى أربع أو خمس نقاط:

أولاً: هذه الأشياء هي احتمالات قائمة وواردة، وليست أموراً في دائرة المستحيل وغير الممكن، والمعتاد أن مراكز التحليل الغربية تضع لكل احتمال حساباً، فينبغي أن تُوضع هذه الأشياء في الاعتبار، وألا تستبعد استبعاداً كلياً، أو نهائياً.

ثانياً: من المعلوم أن ثمة حضارات كثيرة سادت ثم بادت، وقد ذكر الله تعالى لنا في القرآن الكريم أخبار أمم كثيرة مكن الله تعالى لها، وبوّأها في الأرض، ثم حكم عليها بالهلاك والفناء، فلم يغن عنهم بأسهم من عذاب الله تعالى شيئاً، قال الله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج:42-48].

وتأمل:

أولاً: كأين: قرى كثيرة كانت ممكنة، وذات حضارة، وآبار، وقصور مشيدة، وقوة، وعروش، ثم خوت على عروشها، وعطلت آبارها وقصورها المشيدة.

ثانياً: هذا الأمر عبرة للذين يعقلون، ويدركون سنن الله تعالى في عباده أفراداً وأمماً وجماعات، ولا يغفل عن هذه العبر إلا أولئك العميان الذين ليس لهم قلوب يعقلون بها، ثم هم يستعجلوننا بالعذاب، فيقولون: متى ذلك؟

هاهو العالم الغربي مُمكن منذ عشرات السنين، وأنتم تقولون سقط الغرب، ونحن لا نرى الغرب إلا يزداد قوة، ورسوخاً، وتمكناً، وتغلغلاً، وسيطرة على العالم، وبعضهم يقول: وعلى الطبيعة، فأين أقوالكم، وزعومكم التي ملأتم بها آذاننا على حين أن الغرب لا يزال يتمكن يوماً فيوماً؟

قال الله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] ثم هذا التمكين الذين يعيشونه هو مرحلة الإملاء والإمهال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج:48] فأي ظلم أعظم من الظلم الذي يعيشه الغرب اليوم، وهو يكيل بمكيالين، ويزن بميزانين في قضايا كثيرة جداً معلومة.

النقطة الثالثة: ثمة نصوص شرعية، وأحاديث نبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم توحي وتدل على أن العالم سوف يعود إلى العصور البدائية في آخر الزمان، وسوف يستعمل السلاح الأبيض، فمثلاً: في صحيح مسلم لما تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الملاحم الكبرى التي تقع قرب الساعة، وقبل ظهور المسيح الدجال، ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الفرسان الذين يفتحون القسطنطينية، ويعلقون سيوفهم على شجر الزيتون، إذاً هم يحملون السيوف، وقال: {إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم}.

إذاً: فهم يقاتلون -حسب ظاهر النص النبوي- عبر الخيول، ويحملون السلاح الأبيض، يحملون السيوف والخناجر ونحوها ويقاتلون بها، وهذا قد يدل -والله تعالى أعلم- على أن ما توقعه العلماء والخبراء من نكسة للحضارة الغربية، أنه أمر وارد وواقع، لكن متى؟

الله تعالى أعلم، بعد عشر سنين، أو مائة سنة، أو مائتي سنة، أو أقل أو أكثر، فإن هذا مما لا يطيق له البشر تحديداً أو ضبطاً، بل هو غيب من غيب الله تعالى جل وعلا.

وبعض المحللين والدارسين للنصوص النبوية، قالوا: إن ما أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام لا يلزم أن يكون مقصوداً به السيف ذاته، أو الخيل نفسه، بل قد يكون هذا تعبيراً عن السلاح الذي يستعملون أياً كان، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عبر باللغة التي يفهمها المخاطبون يومئذ.

الأمر الرابع: أن المسلمين، بل وغير المسلمين حتى من أهل الديانات السماوية يؤمنون بالساعة وأنها ستقع، والقيامة أنها ستحق فهي الصاخة، والحاقة، والقارعة التي أخبر الله تعالى عنها، وهي التي سوف تدمر الحياة الدنيوية ونظامها المعتاد، وتنقل الناس إلى العالم الأخروي، عالم الجزاء والحساب.

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [الإنفطار:1-4] ذلك هو يوم الجزاء والحساب: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] وقبل ذلك الساعة التي هي تبليغ الحياة الدنيوية والقضاء على البشر وموتهم عن آخرهم، حتى ملك الموت يموت.

خامساً: أمريكا بالذات برزت بسرعة، فبروزها كقوة عالمية وقيادة دولية كان بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال تقريباً خمسين سنة تبوأت هذا المنصب العظيم الكبير كشرطي للعالم اليوم، والغرب ربما احتمى بها واستعان بها خوفاً وذعراً من الشيوعية التي كانت تهدده، بل سيطرت على جزء كبير من أوروبا الشرقية على ما هو معروف.

ولذلك العالم الغربي يريد الآن أن يخلع نير السيطرة الأمريكية عنه، ويتخلص من هيمنتها عليه، ولهذا يوجد تناقض صارخ وواضح بين أمريكا وأوروبا الموحدة، وبين أمريكا ودول أوروبا كلاً على حدة كـبريطانيا، أو ألمانيا، أو فرنسا، وبين أمريكا والصين، وبين أمريكا واليابان، وبينها وبين دول أخرى.

إذاً: أمريكا برزت بسرعة، ولهذا لا غرابة أن يكون انهيارها سريعاً أيضاً، كما تتوقع بعض الدراسات، وبعض التحاليل، وسوف أشير إلى شيء منها الآن.

فهذه صورة تتوقع أن سقوط العالم الغربي سقوطاً متداعياً وسريعاً يأخذ بعضه برقاب بعض، وتنهار دفعة واحدة، وربما يخسر البشر جميع المنجزات الحضارية بسبب ذلك السقوط.

أما الصورة الثانية للانهيار: وهي التي غالباً ما يرسمها السياسيون الغرب فهي لا تعدو أن تكون نوعاً من انكفاء العالم الغربي على نفسه، وانكماشه، وانشغاله بهمومه الخاصة، ومشاكله الداخلية، وكف يده عن العالم الخارجي، وهذا الأمر أصبح يمثل تياراً في السياسة الأمريكية حيث يطالب بعدم التدخل في الدول الأخرى، والانهماك والانشغال بالهم الداخلي، وأن علاقة أمريكا بالعالم، وما يتطلبه ذلك من تدخل، وإرسال القوات، ودفع المساعدات إلى غير ذلك، أن هذا من أهم أسباب الانهيار الاقتصادي الذي يهددها، ولهذا عليها أن تقلل من حجم تدخلها العالمي.

حتى في بعض الصور الديمقراطية الغربية يُخشى أن تتحول أيضاً إلى خطر يهدد أمريكا في نظر السياسيين، فإن مستشار الأمن القومي السابق واسمه بريجنسكي ألف كتاباً اسمه: (خارج نطاق السيطرة) وهذا الكتاب يقول فيه: إن العالم الذي جاء بعد الشيوعية عالم خطر، عالم قلق، ومتوتر، ويجب أن ندرك المخاطر الناجمة عن الديمقراطية الغربية، حيث سيوجد في أمريكا نوع من الإباحية المطلقة، كل شيء مسموح، وكل شيء مباح، وبالتالي سوف تتعرض مصالح الأفراد للخطر، وسوف يوجد هناك قدر كبير من الأنانية بين الأفراد توجد انشطاراً في المجتمع وخطراً عظيماً، إنه عالم -كما يقول بريجنسكي- يعيش حالة غليان بعد انهيار الشيوعية.

ومن الجدير بالذكر أن هذا الرجل وهو بريجنسكي أنه كان قد توقع سقوط الشيوعية عام سبع وثمانين للميلاد-تقريباً- في كتاب سماه: السقوط العظيم توقع فيه سقوط الشيوعية كما حدث فعلاً.

وهذا أسلوب أو نموذج لهذا الأمر، وينبغي أن أشير في المجال إلى أن هذا الأمر يشمل رجال الاقتصاد الغربي، فإن الاقتصاد الغربي الأمريكي يعيش ما يسمونه بمرحلة النكبة، نكبة الاقتصادي الأمريكي.

وعلى سبيل المثال هذا كتاب جديد ومهم اسمه: الإفلاس عام خمس وتسعين، ومؤلف الكتاب باحث ومؤرخ أمريكي اسمه هاوإي كيكي، وهذا الكتاب الذي نشرته دار أمريكية -دار ليكل باور- يرسم مسلسلاً متلاحقاً للانهيارات الأمريكية التي سببها الاقتصاد المثقل بالديون على الخزينة الأمريكية.

والغريب أن صحيفة: نيويورك تايمز اعتبرت هذا الكتاب ضمن قائمة الكتب الأكثر رواجاً وانتشاراً في العالم.

فهذا الكتاب يحدد بالضبط عام خمس وتسعين ميلادية، يعني: بعد أقل من سنتين أنه عام السقوط والانهيار الأمريكي، ويحدد أن الانهيار سوف يتم من خلال الاقتصاد الأمريكي المتردي، وهناك دراسة اقتصادية رصينة جداً، بل دراسات اطلعت عليها، ولا يسعفني الوقت أن أعرضها لكم، لكن على سبيل المثال، تقول إحدى هذه الدراسات وهي دراسة علمية دقيقة، تقول: إن الاقتصاد الأمريكي الآن -الاقتصاد الحكومي- محمل بأربعة ترليونات من الديون، وهو رقم خيالي لا يمكن للعقل أن يتصوره، وأن هذا الرقم سوف يزداد إلى نهاية العقد الحالي، أي: حوالي ستة سنوات سوف يزداد إلى حوالي ثلاثة عشر ونصف ترليون دولار أمريكي.

فهذا الرقم الخطير -يقول- سوف يجعل أمريكا أمام عدة خيارات لا مخلص لها منها، هذه الخيارات أولها خفض المرتبات للموظفين بنسبة ربما قد تصل إلى أكثر من (30%) للموظف العادي، وبالمقابل زيادة الضرائب عليهم إلى نحو (50%) وماذا تتصور من رجل خُفض مرتبه بنسبة (30%) وزيدت الضريبة (50%) هذا أمر لا يحتمل ولا يطاق، والذين يعرفون العقلية والنفسية الغربية يدركون أن هذا الأمر لا يمكن أن يعمله رئيس مهما كان في الظروف العادية.

وهذا الاحتمال لا يمكن أن يعملوه من أجل تطوير والحفاظ على اقتصادهم من الانهيار.

الحل الثاني هو: أن يعلن العجز عن سداد الديون، وهذا معناه إعلان الإفلاس وهو لا يعني سقوط الاقتصاد الأمريكي فقط، بل يعني سقوط الدولار الأمريكي، وسقوط اقتصاد جميع الدول التي ربطت نفسها بالدولار، ومع الأسف الدول العربية هي جزء من هذا العالم الذي ربط اقتصاده بالدولار الأمريكي.

الحل الثالث، وهو المتوقع: أن تقوم الحكومة هناك بما يسمونه بتسييل الدولار، وهو يعني طباعة كميات هائلة من الأوراق النقدية ليس لها رصيد يقابلها، لمجرد إغراق الأسواق بها وسد الحاجة وهذا الأمر سوف يؤدي إلى انهيار الاقتصاد فعلاً، بمعنى أن الدولار سيفقد قيمته بالتدريج، حتى إنه في النهاية لا يساوي إلا قيمة الورقة التي طبع عليها فقط، وهذا أيضاً هو انهيار كالذي قبله ولكنه بدلاً من أن يكون انهياراً مفاجئاً سوف يكون انهياراً بطيئاً أو تدريجياً.

فهذه الدراسات ليست مجرد أوهام، أو خيالات، إنها دراسات علمية من مراكز متخصصة غربية، وشرقية، تدق نواقيس الخطر، ولذلك فإن أمريكا نفسها بدأت تشن حرباً اقتصادية ضد اليابان مثلاً، وضد أوروبا، وضد الصين، وهي حرب مكشوفة وأخبارها تعلن يومياً، وأي شخص متابع للصحف الاقتصادية أو الملاحق الاقتصادية في الصحف يدرك ذلك جيداً.

وعلى سبيل المثال: فإنك تجد أن أمريكا تضغط على اليابان من أجل أن تفتح أسواقها للمنتجات الأمريكية، وبالمقابل تحاول أن تُحد من وجود المنتجات اليابانية في الأسواق الأمريكية، وكذلك تضغط على بعض الدول من أجل توقيع معاهدات للتبادل التجاري سواء مع فرنسا أم مع أوروبا أم غيرها تكون في النهاية لمصلحة أمريكا.

وكذلك تنافسها على الأسواق الآسيوية، وهي الأسواق الرئيسية في العالم اليوم، سواء في ذلك أسواق العالم الإسلامي أم بقية الدول الآسيوية المعروفة، والعجيب أنه في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي والغربي من التضخم، والتراجع في معدلات النمو، فإنك تجد أن الدول الأخرى كـالصين -مثلاً- واليابان، بل والدول النامية كـماليزيا، وكوريا، وغيرها أن معدلات النمو فيها ترتفع باضطراد، أحياناً بنسبة (7%) وأحياناً بأكثر من هذا، وهذا أمر تحدث عنه بعض الخبراء بأنه أمر يشبه المعجزة -في ظنهم- لأنه ليس له تفسير واضح مكشوف.

ويتوقع أنه في ظل التراجع والتردي الاقتصادي الأمريكي، أن أمريكا ستجد نفسها مضطرة إلى التدخل المباشر لحماية اقتصادها، ومصالحها، ونفطها، وصناعاتها، سواء كان ذلك في اليابان -كما توقعت إحدى الدراسات- أم في مناطق أخرى من العالم كـالخليج العربي أم غيرها.

إذاً: هذا لون من الدراسات السياسية والاقتصادية، يصور انحساراً للوجود الأمريكي والغربي بشكل عام، على نمط ما حدث لـبريطانيا، فقد كانت بريطانيا يوماً من الأيام امبراطورية لا تغيب عنها الشمس -كما يقال- ثم اضطرت إلى التخلي عن مستعمراتها، ومحمياتها، وعادت أدراجها إلى الوراء إلى بلادها، ولكنها ظلت محتفظة بتقدمها العلمي والعسكري، وتفوقها ومركزها الدولي، على ما هو معروف الآن.

وهذا بحد ذاته كافٍ، فإنه سوف يعطي المسلمين فرصة أن يرتبوا أوراقهم، وأن يعرفوا مصالحهم، وأن يتعاملوا مع من يكون التعامل معه أصلح لهم وأضمن لنجاحهم وحفظ اقتصادهم.

أما النوع الثالث من الدراسات الغربية: فهي الدراسات التي ترسم تصوراً آخراً لنهاية الحضارة الغربية، وهو يتمثل فيما يسمونه بالصراع الحضاري، وهي صراعات مكشوفة وأحياناً مخفية غير معلنة بين الحضارات المختلفة، وهذه يمثلها كتاب يعتبر تقريباً أحدث كتاب صدر هناك، وقد أعدت عنه دراسات في جريدة الحياة قبل بضعة أيام.

وهذا الكتاب اسمه: صدام الحضارات ومؤلفه صمويل هنتجتون ويعتقد هذا المؤلف أن ثمة صداماً وصراعاً سوف يحدث بين حضارات مختلفة، ويرشح هو ستة حضارات في العالم إضافة إلى الحضارة الغربية، فما هذه الحضارات الست المرشحة لدخول المعركة؟:

أولاً: الكونفوشيوسية: الصين.

ثانياً: اليابانية.

ثالثاً: الإسلامية.

رابعاً: الهندية.

خامساً: الأرثوذكسية السُلافية

سادساً: الأمريكية اللاتينية.

ويرشح في الدرجة الأولى الحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية للمستقبل القريب، باعتبارها أعظم خطر يهدد الحضارة الغربية، وقد حشد هذا المؤلف كل ما يحتاج إليه من الأدلة والشواهد والإثباتات على أن الصراع الحضاري هو القادم، وعلى أن الحضارة الإسلامية والصينية هي أخطر ما يهدد الغرب اليوم.

مع أن المؤلف أيضاً توقع وجود نوع من التعاون بين المسلمين وبين الصينيين، وقال: إن ذلك يهدد الحضارة الغربية، والقيم والمصالح الغربية.

وهذه الدراسة صدام الحضارات، تعطي الدين أهمية قصوى في الصراع بين الحضارات، ولذلك ينظر المؤلف إلى الصراع العربي اليهودي، على أنه صراع بين دينين -دين الإسلام واليهودية- ومثل ذلك الصراع بين الجمهوريات السوفيتية يعتبره صراعاً دينياً، وربما الصراع في البوسنة والهرسك يدخل في هذه القائمة أيضاً.

فهناك صراع حضاري منوع في كل المجالات.

صراع فكري، صراع ديني وعقائدي، صراع علمي، صراع سياسي، صراع اقتصادي، صراع حضاري شمولي. وأمام هذا الصراع هناك عدة احتمالات:

الاحتمال الأول: هو تغريب العالم: أي تحويل العالم إلى عالم تابع للغرب مسلم بنظريات الغرب، وقيمه، وأخلاقياته، وحضارته، وهذا غير ممكن ولا وارد.

الاحتمال الثاني: هو الصدام الحضاري، الصدام بين الحضارات والمواجهة بينها، وهو ما توقعه المؤلف وذهب إليه.

الاحتمال الثالث: هو -كما قال المؤلف- انتصار قيم التسامح الثقافي والحوار بين الحضارات، والمبادئ المشتركة التي تجمع الأمم كلها، وهذا الأمر مستبعد جداً.

فالمؤلف رجح ورشح أنه سيكون هناك صراع بين الحضارات، وهذا المؤلف وضع نفسه في الخندق الغربي، لأنه رجل أمريكي يقول -كما قال الذي قبله فوكوياما يقول: أنا أمريكي (100%) وإن كنت من أصل ياباني إلا أنني لا أعاني من عقدة ازدواجية الانتماء فأنا أمريكي (100%) وهو يقدم أمريكا، بل يقول: إنني أشعر أنني سوف أقدم دوراً عظيماً لـأمريكا وقد يكون هذا الدور في البيت الأبيض -هكذا يقول فوكوياما- ومثله أيضاً هنتجتون فهو يقول مثل ذلك، ويضع نفسه في الخندق الغربي.

ثم يقول: يجب أن نرص الصفوف الغربية أمام التحدي الإسلامي والتحدي الصيني، ويجب أن نطور نوعاً من الوحدة بين أمريكا وأوروبا، ويجب إيجاد علاقة تعاون على أقل تقدير بين أمريكا وروسيا، بين أمريكا واليابان، يجب ألا نذهب بعيداً في تخفيض القدرة العسكرية الغربية.

وهذه الأشياء الذي يطالب بها، لأنه يقول: إن هناك عدواً منتظراً استعدوا له، كيف يستعدون له؟

وحدوا صفوفكم، وتعاونوا مع أصدقائكم الآخرين، لا تخفضوا أسلحتكم كثيراً، ولا تذهبوا بعيداً في ذلك لأنكم سوف تحتاجونها.

فانظر إلى الوعي والعمق والإدراك والتخطيط للمستقبل وأنت حين تأتي للمسلمين تجد أنهم على رغم الضعف، والذلة، والقلة، والتأخر إلا أن الخلافات الشرسة تعصف بهم فلا تبقي أحداً مع أحد، وإلى الله المشتكى وهو وحده المستعان!

وهذا الكتاب: صدام الحضارت قد يكون ردة فعل للمد الأصولي العالمي، والتوجهات الدينية الموجودة في الإسلام، وفي بقية الديانات الأخرى، وكأنه يدعو أمريكا إلى أن تعتصم بمعطياتها، وخصائصها في مواجهة قوم مسلمين يؤمنون بدين، وينتمون إليه انتماءً عريقاً.

كما أن هذا الكتاب يتحدث ويكشف حرج القوى الغربية -أمريكا وغيرها- إزاء ما يسمونه بـالديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، فهو يقول لك: إن الديمقراطية مع أنها هي البديل الذي يقدمه الغرب، وهي الشيء الذي يتحدثون عنه، وهي دين الغرب، وعقيدته، ومنهجه، وسياسته إلا أنهم يقولون لك: إن الديمقراطية خطر في العالم العربي والإسلامي.

وذلك لأن الديمقراطية الحقيقية لو طبقت في العالم العربي والإسلامي فسوف تدعم قوى معادية للغرب، على نمط ما حصل في الجزائر، والأردن، واليمن، وما يمكن أن يجري في مصر وأي بلد آخر، أي أنها سوف تدعم التوجهات الأصولية التي تكتسح الشارع العربي والإسلامي، وبالمقابل فإن رفض الديمقراطية في العالم الإسلامي سوف يكرس التذمر، والتوتر، والقلق الاجتماعي والسياسي، ويجعل الرفض والغضب الشعبي يزداد ويتفاقم يوماً بعد يوم.

إن هذا الطرح -طرح الصراع الحضاري- هو طرح معقول في نظري في الجملة، وإن كان هذا الطرح مقلقاً للعلمانيين لأنه يقتضي الاعتصام بالدين، وسوف يجعل كل أمة تعود إلى دينها، وإلى عقيدتها، وإلى تراثها الصحيح تعتصم به أمام من يحاربونها بدين مختلف، وعقيدة مختلفة، وتراث متغير، وأمور وخصائص تاريخية مميزة.

ولذلك يقول البعض: إذا صح هذا التوقع في صدام الحضارات فإن النصر في جميع الديانات، وفي جميع الأمم، وفي جميع الدول، سوف يكون لأكثر التيارات تشدداً وانغلاقاً في جميع الحضارات، وسوف يكون النصر بالنسبة للمسلمين -مثلاً- حليف من يسمونها بالتيارات الأصولية التي تدعو إلى رجعة صادقة وكاملة إلى الدين في جميع ميادين الحياة.

ومثل ذلك في الديانات الأخرى، فـالنصرانية -مثلاً- سوف يكون النصر للتيارات الأصولية المتشددة فيها، والهندوس سوف يكون النصر للتيارات الهندوكية المتشددة التي تؤمن بالحديد والنار في مقاومة خصومها وأعدائها، ومثل ذلك بالنسبة لليهود أو غيرهم، وخاصة إذا كانت تلك التيارات تملك قوة الاستقطاب والتأثير في الجماهير.

فهذه ثلاثة توقعات يمكن أن يتم من خلالها سقوط الحضارة الغربية، وبالجملة فهناك قائمة طويلة جداً من الأمراض الفتاكة المزمنة التي تنخر في الجسم الغربي عامة، والجسم الأمريكي خاصة.

وهناك على سبيل المثال: الأمن واختلال الأمن، فساد الأسرة وتفككها، ضياع الشباب ومشكلاتهم، الإجهاض وهو قضية خطيرة، المخدرات وانتشارها وعصاباتها، الشذوذ الأخلاقي والجنسي، الفقر المدقع في تلك الدول الغنية حتى إنك تجد أنه عام (1978م) كان عدد الفقراء الذين لا يجدون قوت اليوم -دون مستوى الفقر المعدم- ثلاثمائة مليون إنسان فقط، وبعد عشر سنوات تحول هذا الرقم إلى كم؟!

هل تتوقع أنه انخفض؟!

كلا، بل ارتفع إلى مليارين من الناس، مليارا إنسان يعيشون دون مستوى الحياة الإنسانية العادية من شدة الفقر، حتى في أرقى المدن الغربية والأمريكية ينامون على الأرصفة ويأخذون أطعمتهم من صناديق القمامة، وقد رأيت بعيني مثل هذه المشاهد، وهم يعدون في بعض الولايات بالملايين.

البطالة: وانتشار معدلات البطالة وارتفاعها في أمريكا وغيرها.

عصابات الإجرام: كالمافيا وغيرها، وهي عصابات خطيرة للخطف، وللسرقة، وللقتل، وللاغتيال، ولتعاطي وبيع كل الأشياء بلا استثناء.

الديون الفردية: كل الأفراد مدينون في أمريكا، والديون الفردية تزيد الآن على (4.4 تريليون دولار) على أفراد الشعوب الأمريكية! فكل فرد مدين وهو يقضي حياته كلها في تسديد الديون: دين للسيارة، دين للبيت، دين للزواج، دين لكل شيء، وهذا أمر خطير بدأ يتسرب أيضاً للبلاد الإسلامية.

التعليم وانهياره: حتى إن هناك كتابا ًانتشر ودرس، عنوانه: أمة معرضة للخطر -أظن أني سبق أن تحدثت عنه- يتكلم عن انهيار التعليم في أمريكا.

الإعلام وخطره أيضاً، التجسس على الأفراد، أو على الدول، أو على المؤسسات، والتجسس المضاد أيضاً.

النعرات العنصرية في أمريكا، والصدام بين البيض والسود مثلاً، وقد حدثت كما تعرفون أحداث كثيرة من هذا القبيل في العام الماضي، وراح ضحيتها عشرات الأفراد، ومليارات من الأموال.

تلوث البيئة: وهو أحد الأمراض الخطيرة، الأمراض الفتاكة كما أسلفت، الفشل السياسي والفضائح الكثيرة التي تلاحق البيت الأبيض وتلاحق جميع مراكز الإدارة والسياسية في فرنسا، وفي إيطاليا، وفي بريطانيا، وفي ألمانيا، وفي غيرها.

وعلى سبيل المثال: هناك عشرات بل مئات المقالات موجودة عندي تتحدث فقط عن الفشل السياسي في أمريكا، ومشكلات داخل البيت الأبيض، وقضايا تتعلق بشخص الرئيس هناك، وفضائح عن ذاته، وعن علاقاته، وعن إخوانه، وأخواته، ومن الذي سجن بالمخدرات، ومن الذي سجن بالسرقة، ومن ومن، وبعض القضايا المتعلقة به، وأشياء شخصية تدل على أن هناك -فعلاً- إخفاقات كثيرة، وفشلاً في الإدارة، وتأخراً في الإنتاجية.

أيضاً الفضائح التي تلاحق الإيطاليين اليوم، يومياً فضائح تكشف عن رجال الحكم هناك، وكثير من رجال السياسة هناك لم يعودوا لامعين لشعوبهم بما فيه الكفاية.

فهذه قائمة طويلة، وعندي فيها معلومات كثيرة لعل جلسة خاصة -إن شاء الله- تخصص لمثل هذه الأمور، لأنها لا تخلو أيضاً من عبرة، وطرافة في بعض الأحيان، وبغض النظر عن هذا كله إلا أن الجميع يتفقون على وجود صعوبات جمة تنتظر المسيرة الغربية عامة، وتنتظر المسيرة الأمريكية على وجه الخصوص.

ولقد كنا في يوم من الأيام نقرأ كلاماً كهذا عن انهيار الحضارة الغربية، وأذكر أنه وقع في يدي كتاب للأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى اسمه: المستقبل لهذا الدين، فقرأت فيه فصلاً بعنوان: انتهى دور الرجل الأبيض، وهو يتكلم كلاماً شبيهاً بهذا، عن أن دور الغربيين قد انتهى، وجاء دور المسلمين الذين يجب أن يحملوا ويقدموا للعالم الحل، فكنا نعلم أن ذلك حق، ولكن الإنسان يراوده شيء مما يرى من هيمنة الغرب، ومما يسمعه من المستغربين الذين كانوا يعدون هذا الكلام أضحوكة يسخرون بها ويتلهون بها، بل حتى الصالحون داخلتهم الظنون في ذلك، وصار إيمانهم أحياناً نظرياً، فهم يقولون نعم صحيح ولكن!

إذاً: عندهم شك ويتوقعون أن العالم الغربي سيظل مهيمناً لفترة طويلة غير منظورة، حتى المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله وهو مفكر عميق، واجتماعي متخصص، إلا أنه مع ذلك كان يميل إلى القول بخلود الحضارة الغربية وأبديتها في الدنيا، ثم تراجع عن ذلك وأعلن خلافه.

ونحن إذاً نفرح ونسر لكل حديث عن سقوط أمريكا أو الحضارة الغربية، لأننا وإن جاءنا بعض إنتاجها، وبعض تيسيراتها المادية والحضارية، إلا أنها أصلتنا بنارها في مجتمعاتنا وأممنا، فنحن وإن كنا كأفراد في نعمة، إلا أننا كأمة في خطر، ولا يجوز أبداً أن ننظر إلى الناحية المادية، أو الأنانية، أو الفردية فحسب، وأردد وترددون مع الشاعر هذا الأبيات:

أنا ضد أمريكا إلى أن تنقضي      هذي الحياة ويوضع الميزان

أنا ضدها حتى وإن رقَّ الحصى      يوماً وسال الجلمد الصوان

بغضي لـأمريكا لو الأكوان      ضمت بعضه لأنهارت الأكوان

هي جذر دوح الموبقات وكل ما     في الأرض من شر هو الأغصان

من غيرها زرع الطغاة بأرضنا     ومن ذا سواها أكبر الطغيانا

حبكت فصول المسرحية حبكة     يعيا به المتمرس الفنان

هذا يكر وذا يفر      وذا بهذا      يستجير ويبدأ الغليان

حتى إذا انقشع الدخان مضى     لنا جرح وحل محله سرطان

وإذا ذئاب الغرب راعية لنا     وإذا جميع رجالنا خرفان

وإذا بأصنام الأجانب قد ربت      وبلادنا ورجالها القربان

إذاً: لا نلام حينما نبغض هذا الصنم الذي مارس ألوان التسلط على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

أيها الأحبة: إن سنة التغيير قطعية، والتاريخ ما توقف لغير فوكوياما حتى يتوقف له، أما الشرع فإن الله تعالى بين لنا في القرآن أن الأيام دول، قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] وهذا نص قطعي في ثبوته؛ لأنه قرآن، وقطعي في دلالته على أن الأيام دول، حتى بين المؤمنين والكفار: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] وقال سبحانه: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251].

فالدهر دول، وحتى الدولة الإسلامية ودولة الخلافة تدرجت بها الأمور والليالي والأحوال حتى سقطت وحلت محلها دول أخرى، فما بالك بالدول المادية التي قامت على أساس لا ديني، هي أحق وأولى بالسقوط من الدول الإسلامية، فهذا من الناحية الشرعية.

أما من الناحية التاريخية فإن التاريخ كله كتاب، يثبت لنا أن الأمم تتناوب، وأن سنة الله تعالى جارية، والتاريخ شاهد ماثل للعيان على ذلك، حيث إنه لم تثبت دولة مهما كانت في قوتها، وصولتها، واقتصادها، ورجالها، وكثرتها، وكثافتها، فإنها تسود ثم تبيد.

أما من ناحية الفطرة فإنك ترى أن الإنسان وهو بشر، يبدأ صغيراً ثم يكبر، وتكتمل قوته، ثم تبدأ فيه عوامل الهرم والشيخوخة، وهكذا بالنسبة للنبات، وهكذا بالنسبة للحيوان، وإذا كان هذا في الأفراد فالأمم والجماعات هي عبارة عن مجموعة من الأفراد، حتى إن من الطريف أنه حتى معدلات النمو البشري في الغرب، معدلات تدل على كثرة الشيوخ، وقلة الشباب، وهذا ما يعبر عنه بالهرم الاجتماعي في الغرب، بمعنى أن نسبة الشباب تقل بسبب: قلة المواليد، وتحديد النسل، ولأحداث معنية، والكبار والشيوخ يكثرون، وهذا يهدد بالانقراض.

أما العالم الإسلامي فهو يتجدد وينمو ويتكاثر، والنسبة الشبابية أكثر بكثير من الشيوخ.

إذاً: فنظرية الصمود الغربي لا يمكن أن تصمد للنقد العلمي بحال من الأحوال، والنظرية القائلة بسقوط الغرب نظرية صحيحة (100%) لغة، وشرعاً، وواقعاً، وتاريخاً، وفطرة، ولكن كيف؟

ومتى؟!

هذا علمه عند ربي.

لماذا هذا الموضوع المهم؟

وربما يكون هذا السؤال قد جاء متأخراً. لماذا نتحدث عن هذا الموضوع؟

لكن الكلام يجر بعضه بعضاً:-

أولاً: نتحدث عن هذا الموضوع لأنني أعتقد أن الذي يتكلم اليوم عن الغرب، هو كمن يحمل معوله ويحطم الأصنام، وقد كان إبراهيم أبو الحنفاء عليه الصلاة والسلام قد سن لنا هذه السنة، فأخذ معوله وقام إلى كبير الأصنام فضربه حتى جعله رفاتاً، كما هو مذكور في كتاب الله تعالى.

فالذي يتحدث عن سقوط الغرب اليوم، هو كمن يحطم الأصنام، ويكشف لعابديها زيفها، وأنها لا تضر ولا تنفع، فمعظم المثقفين اليوم مبهورون بما عند الغرب ولا يملكون أي شيء متميز، ولما سقطت الشيوعية سقطت دولها في العالم الإسلامي، وسقطت أحزابها القائمة في بلاد المسلمين، وسقط مفكروها، فنحن بحاجة إلى من يؤكد للذين ربطوا أنفسهم بالغرب، فجعلوا سياستهم من سياسة الغرب، واقتصادهم من اقتصاده، وقراراتهم مرهونة برغبته وشهوته ورضاه، وعملوا على تلمس إشارته قبل عبارته.

فأحياناً هم يسبقونه إلى ما يريد، ويحققون له ما يتمنى قبل أن تنبس به شفتاه، وأصبحوا غربيين أكثر من الغرب نفسه، وأصبحوا عبئاً على بلاد المسلمين، وعلى أمم الإسلام أكثر من الغرب نفسه، وقدموا له ما كان عاجزاً عن أن يقوم به بنفسه وذاته.

فنحن بحاجة إلى أن ننبه هؤلاء إلى قول الله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].

فأولئك المنافقون الذين باطنهم مع الغرب، وقلوبهم قلوب الذئاب، وعقولهم غربية مستمرة لـأمريكا أو لغيرها من الدول، تفكر بالطريقة الأمريكية وإن كانت تتكلم بالحروف العربية، أو تلبس الثياب العربية، أو تعيش في مجتمعات عربية أو إسلامية، نحن بحاجة إلى أن نؤكد لهؤلاء بل لجميع المسلمين أنه ليس أمام الجميع إلا أن يعتصموا بالله جل وعلا كما أمر سبحانه، وأن يعتصموا بالحل الإسلامي الذي شرعه ربنا تبارك وتعالى، وأنه لا مخرج لهم أفراداً أو حكومات أو شعوباً، أو أمماً إلا بذلك، وما هو الحل الإسلامي؟

ليس الحل الإسلامي إلا الجهد البشري في توصيف ذلك، وتنـزيل الواقع عليه، وهو اجتهاد الناس في تطبيق شريعة الله تعالى على الواقع، وتصويب ذلك بقدر المستطاع.

ثانياً: وهذا يقودنا أيضاً لأمر آخر، وهو أن المسلمين يملكون الحل من خلال دينهم ومنهجهم المنـزل -الوحي المعصوم- وهو الوحي الوحيد الموجود على وجه الأرض، فإن جميع الشرائع السماوية قد لعب بها، وحرفت، فضلاً عن أنها منسوخة، أما الإسلام فهو الحق الوحيد الباقي على ظهر الأرض.

فالمسلمون يملكون إقامة النظام الدولي على أساس العدالة الإسلامية، كما شرحت ذلك في محاضرة تحرير الأرض أم تحرير الإنسان.

والمسلمون يملكون إصلاح الاقتصاد، واستبدال الاقتصاد الشرعي بالربا، كما دعا إلى ذلك مجموعة من الخبراء اليابانيين.

والمسلمون يملكون حماية المجتمعات الشرقية والغربية من الفساد وتحطيم الأسرة وضياع الشباب.

والمسلمون يملكون قبل ذلك كله وبعده العقيدة الربانية التي تملأ قلب الإنسان وعقله، فيطمئن لها، ويؤمن بها، وإذا حاد عنها أو ابتعد أصابه الهم والغم، والكرب والتردد، قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] وقال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124].

المسلمون يملكون منهج التعليم، والإعلام، والإدارة، والحياة البشرية بشكل عام، وعليهم أن يقدموا ذلك عملياً من خلال النماذج الواقعية، ونظرياً من خلال الدراسات.

أما اليوم فالواقع أن المسلمين حجبوا ذلك كله بسوآتهم العظام، وبتأخرهم العلمي، وبتفريطهم في الدين، وبإهمالهم الدعوة إلى الله تعالى، وبالخلاف المستشري بينهم، وبسيرهم في ركاب الغرب، فقد آمن الغرب أن المسلمين لا يملكون شيئاً، إذ لو كانوا يملكون شيئاً أما جاءوا يتطفلون على موائده، ويأخذون من حضارته، ويقلدونه في الدقيق والجلي.

ثالثاً: نحن نطرح هذا الموضوع من أجل حماية المصالح الإسلامية المرتبطة بالغرب، اقتصاداً، وسياسة، وإدارةً، وإعلاماً، وتعليماً، فعلى المسلمين أن يدركوا الهوة التي يسير الغرب إليها حتى يستكفوا أنفسهم من ركابه ومن قيوده.

وقد كتب الدكتور المالك في مجلة اليمامة قبل أعداد مقالاً عنوانه: أمريكا للبيع، تجربة للاعتبار، وتحدث عن بعض المخاطر التي تهدد الاقتصاد الأمريكي، وضرورة الاعتبار بها، والاستفادة منها.

وهناك دراسات عديدة حذرت من ربط الاقتصاد العربي، والخليجي، والإسلامي بالدولار الأمريكي، وحذرت من احتمال التدخل المباشر في العالم الإسلامي وعودة عهود الاستعمار، وهذا ليس ببعيد، فها نحن نرى في الصومال تدخلاً غربياً وأمريكياً مباشراً، وقبل يومين صرح رئيس الكتيبة الإيطالية هناك بأنه ينتقد الإرهاب الأمريكي في الصومال الذي يتخذ من الأمم المتحدة ستاراً له، وهذا يدل على حقيقة الأهداف التي جاءوا من أجلها.

إن تعامل المسلمين مع أمريكا الحكومة، ومع أمريكا الدولة، ومع أمريكا الشعب، بل مع الغرب كله يجب أن يضع هذا الاعتبار في تفكيره وعقله أيضاً، السلع التي نستوردها من هؤلاء، ألا يمكن أن نعيد النظر فيها؟

لماذا نركز على شراء السلع الأمريكية من أجل دعم الاقتصاد الأمريكي المنهار، أو رفع معدلاته؟

أو تقليل نسب البطالة وتوظيف شباب أمريكان في صناعة الأسلحة، أو الطائرات، أو البضائع، أو التجارة، أو الثياب أو غيرها؟

لماذا لا يبحث المسلمون عن بدائل في اليابان، أو في الصين، أو بريطانيا، أو فرنسا، أو روسيا أو غيرها، بحيث تكون الأسواق الإسلامية ميداناً للمنافسة بين تلك الدول، وذلك تمهيداً للتسريع بسقوط الاقتصاد الأمريكي على وجه الخصوص، وليس المساهمة في دعمه وتقويته.

لماذا لا يتبنى المسلمون حكومات، وشعوباً، وجماعات، وأمماً، وعلماء الدعوة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية التي يمكن الاستغناء عنها، ونحن واقعيون لا نطالب بمقاطعة تامة، لكن يمكن أن يكون هناك توعية للشعوب الإسلامية باختيار مقدَّم على البضائع الأمريكية بقدر المستطاع، ولو أن حملة إعلامية قوية تبناها العلماء، والدعاة، والمخلصون، والجماعات الإسلامية في كل مكان، ورُكز عليها زماناً طويلاً، وضربت على هذا الوتر، لأحدثت تأثيراً كبيراً في عقول المسلمين، وبُعداً عن البضائع الأمريكية، وعلى أقل تقدير فإنها تعتبر نوعاً من الحرب النفسية الذي يُخيف الأمريكان ويجعلهم يدركون أنه يجب أن يضعوا المسلمين في الاعتبار، ويدركوا أن مصالحهم مرتبطة بالمصالح الإسلامية.

وأخيراً: فإننا نعالج هذا الموضوع من باب قول الله تعالى: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22] لنؤكد على أن السنة الربانية قائمة على أمريكا، وعلى أوروبا، وعلى الغرب، كما هي قائمة على غيرهم، وأن الأخبار السارة التي ينتظرها المسلمون بسقوط تلك الدول وتراجعها، وانهماكها في صراعات داخلية، أنها -إن شاء الله- قريبة غير بعيدة، وحينما أقول قريبة فأرجو ألا يذهب أحد ليدير جهاز الراديو وهو يتوقع أخباراً، فإن خمس وعشر سنوات تعتبر أمراً قريباً: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].

إذاً: طرح هذا الموضوع لتطمئن قلوب المؤمنين، ويعلموا أن نصر الله تعالى آت، وأن تلك القوى التي سخرت وجندت إمكانياتها لحرب الإسلام والمسلمين والحيلولة دون انتصار الحل الإسلامي، والوقوف في وجه أي أمة من المسلمين تريد أن تحكم ذاتها حتى لو كانت أمة مقصرة مخلة، أن هذه القوى سوف تزول عن الطريق، وسيكتب الله تعالى النصر للمؤمنين.

من أين نبدأ؟

إن طرق هذا الموضوع صعب جداً:

أولاً: من حيث كثافة المادة العلمية، حتى إني رأيت أن مجرد عرض المراجع المتوفرة عندي -وهي قليل من كثير- أنه يستغرق زمناً طويلاً، فهناك مئات الكتب، وآلاف المحاضرات وعشرات الآلاف من الدراسات والتحليلات، بل ومئات الآلاف من الأخبار اليومية، والتقارير الطويلة أو القصيرة عن هذا الموضوع.

فكيف تستطيع أن تنتقي مادة مناسبة خلال ساعة أو ساعة ونصف من بين هذا الركام الطويل؟

ثانياً: هو -أيضاً- صعب من حيث طبيعة الموضوع، فهو موضوع متشابك ومعقد إلى حد بعيد، إذ أن الحديث -مثلاً- عن موت شخص أمر سهل، لكن الحديث عن تراجع كيان بأكمله، وكيان ضخم هائل ليس بالأمر اليسير، فليس سقوط الحضارة أو الدولة كسقوط فرد -مثلاً- أو تغير حكومة يتم من خلال يوم أو شهر أو سنة.

فالسقوط عملية بطيئة، وأسباب القوة الموجودة في الأمم الغربية لا تزول كلها دفعة واحدة، بل منها ما يظل يقاوم عوامل الضعف ويصمد لفترة طويلة، وقد يتوقف الهبوط -أحياناً- وقد يحدث ارتفاع طفيف، فهو أشبه بإنسان ينـزل من جبل بقوة، فأحياناً يتوقف، وأحياناً يستطيع أن يصعد خطوات إلى أعلى، لكن المؤشر النهائي يدل على تراجع مستمر، ولذلك الفرد العادي قد يصعب عليه ملاحظة ذلك بشكل جيد، ويصعب عليه أن يربط الأحداث بعضها ببعض، ويصعب عليه أن يفهم الأحداث التي لا تمس الموضوع بشكل مباشر.

والكثيرون لا يهتمون إلا بالأحداث التي تعنيهم بصفة شخصية، فهو يعنيه ارتفاع الراتب أو انخفاضه، ارتفاع العملة أو انخفاضها، فهذه مشكلات تتعلق بحياته اليومية، أما القضايا العامة فلا تعنيه أبداًَ، إلا بقدر ما تمس مصالحه الذاتية، ولهذا الكثيرون لا يفهمون هذا الموضوع، أو لا يتعاطفون معه، أو لا يدركونه، أو لا يشعرون بالحاجة إلى طرقه.

وأضرب لك مثلاً: حرب الخليج أنت ممن عاشها، وتابعها أولاً بأول، ولحظة لحظة، بتفاصيلها، ومخاوفها، ومفاجآتها، وأخبارها، وربما كنت باستمرار تصغي إلى المذياع بقلق وانفعال، وهذا القلق جعلك تتصور تلك الحرب وحجمها بشكل واضح وقوي، لكن لا يقارن ما عشته أنت بما يمكن أن يكون لدى شخص آخر مر عليه هذا الأمر كحدث تاريخي مهم أو غير مهم، لا يعنيه إلى حد بعيد، فأولادنا الصغار لن يحتفظوا بهذه الحرب، وآثارها، وتاريخها كما تتصور وتدرك أنت.

مثال آخر: أحياناً عندما نتكلم عن بعض الأوضاع نقول: أحداث لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فحينما نتحدث عن الصومال مثلاً، أو البوسنة، أو أي وضع آخر، نقول: هذه أحداث لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، نعم هي أحداث بشعة، ومفجعة، ومروعة، ومدمرة، وفوق مستوى ما يطيقه البشر أو يتحملونه، لكنه مع ذلك لا يمكن أن نجزم بأنه لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.

لكننا نجزم بأننا نحن لم نر لها مثيلاً، ولم نعش أحداثاً بحجم هذه الأحداث في ترويعها، وقسوتها، وشدتها، وشراستها، أما التاريخ فربما شهد أفظع بكثير منها، سواء فيما يتعلق بأحداث وقعت على المسلمين أم على غيرهم من الأمم والشعوب، لكن بشكل عام فالأحداث التي يعيشها الإنسان، ويراها بعينه، ويسمعها بأذنه يتأثر بها، وينفعل لها أكثر من غيرها، ويتجاوب معها أكثر وأكثر.

والمهم أن الموضوع واسع جداً، ومتداخل، وكما وعدت أنه سوف يتم -إن شاء الله- تقديم أجزاء منه في مناسبات قادمة، خاصة فيما يتعلق بالتفاصيل الإخبارية، والأحداث والتقارير العلمية.

وجانب ثالث من صعوبة الموضوع -أيضاً-: وهو صعوبة الجمع بين عرض السنن الإلهية، فإن هذا الموضوع هو عبارة عن مثال واحد لسنن إلهية حقت على الكافرين، وعلى الأمم كلها من قبل، فلا بد من عرض السنن، وهذا سبق أن عرضت أجزاء منه في درس مطارق السنن الإلهية.

فكيف الجمع بين هذا الأمر، وبين موضوع التحليل العلمي الذي -أحياناً- يكون فوق مستوى الإنسان، أو فوق مستوى فهمه، أو إدراكه، وكيف الجمع بين الجانب الثالث وهو ضرورة التبسيط المناسب والملائم لواقع حال جمهور المسلمين الذين يحتاجون إلى هذا الموضوع؟

وعلى كل حال فالأمر الذي يمكن تلخيصه وتبسيطه أن مسألة تقهقر الغرب هي الهم السائد لدى غالبية الناس والشعور بذلك شعور مشترك، كامن في أعماق الإنسان الغربي والشرقي على حد سواء، بل هو ظاهر يتكلم عنه الجميع.

المهمة الإسلامية:

هل مهمتنا إذاً أن نجلس للانتظار؟

وأن نضع أيدينا على خدودنا ننتظر سقوط أمريكا أو سقوط العالم الغربي، هب أن أمريكا سقطت أو سقط العالم الغربي؟

ماذا يكون لنا بعد ذلك؟

فهل ننتقل إلى سيد آخر لنستفيد من أوروبا، أو من اليابان، أو من غيرها، ونسلم أنفسنا لها، وعقولنا، وقلوبنا، واقتصادنا، ودولنا، وسياستنا، وأممنا؟ كلا.

إنه ليس مشروعاً أن يقف الناس في الانتظار، فإن المطلوب من كل إنسان ومن الأمة بشكل عام أن تعتبر هذا أمراً مستقبلياً، وأن تسعى لتخطيط حاضرها ومستقبلها، ولا يمكن أن نرضى أن يخرج المسلمون من بين فكي حيوان مفترس، ليقع في فكي مفترس آخر.

وقد تسقط أمريكا، أو يسقط الغرب، ومع ذلك تظل قيمهم وأخلاقياتهم، وتظل جميع بضائعهم العلمية والفكرية، والعقلية، والأخلاقية سائدة بين المسلمين بسبب غياب الدعوة، والفراغ من الدين، والخلو من العقيدة الصحيحة، والفقر من التوحيد، وعدم وجود أخلاقيات في بلاد المسلمين.

إذاً: فالحل الذي ينتظر المسلمين يمكن تلخيصه في كلمة واحدة فقط هي: الجهاد، والجهاد أشمل من القتال، ولذلك انظر كم ذكر القتال في القرآن من مرة، وبالمقابل كم ذكر الجهاد، والقتال: هو القتال بالسيف، ولهذا قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] أما الجهاد: وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:218] فهي آيات كثيرة جداً تدعو إلى الجهاد.

إنه لا يجوز لنا أن نبسط القضية، ونختزلها أو نختصرها بمعركة عسكرية محدودة في بلد من البلدان الإسلامية، أو حتى بمعركة عسكرية شاملة مع الغرب، وإن كان هذا الأمر وارداً بل متوقعاً، بل نحن نعتقد أنه آتٍ، وقد تحدثت عن ذلك في المجلس السابق: صناعة الموت.

بل نقول الآن: إن الحياة كلها ميدان للمعركة، والأسلحة ليست هي البندقية، والرصاصة، والطائرة، والدبابة، والمدفعية فحسب، بل الفكر سلاح، والاقتصاد سلاح، والمال سلاح، بل والماء سلاح فهو ميدان الصراع اليوم، والتقنية سلاح، والتخطيط سلاح، والوحدة سلاح، وهكذا أسلحة كثيرة.

لقد بدأت اليابان من الصفر بعد تدميرها، وإلقاء القنابل النووية على هيروشيما، وناجازاكي بدأت من نقطة الصفر، وبدأت بعدما استسلمت ولكن ظل المشهد ماثلاً، فيراه أبناؤها، ويراه زوارها إلى اليوم، حتى يأخذوا منه العبرة، ويكون دافعاً لهم إلى الإنجاز والتقدم.

فلقد بنت، وخططت، وصممت، وسعت حتى وصلت اليوم إلى مستوى أصبحت تهدد أمريكا باقتصادها الذي ينمو بقوة وبسرعة، وتهددها بأشياء كثيرة، حتى على المستوى العسكري، فإن هناك دراسات وتقارير تقول: إن ثمة مصانع كثيرة في اليابان من السهل جداً تحويلها إلى مصانع عسكرية ونووية، بمجرد تعديلات بسيطة لا تستدعي وقتاً طويلاً، وقد أصبحت اليابان اليوم تستقطب وتمتلك اليورانيوم، وغير ذلك من المواد الخطرة التي يحتاج إليها في الصناعات العسكرية وسواها، فينبغي للمسلمين أن يأخذوا العبرة والأسوة من ذلك.

الجهاد بالدعوة إلى التوحيد

ومن الجهاد الدعوة إلى الإسلام في بلاد المسلمين، ليكون الإسلام هو الأساس الذي عليه يجتمعون ومنه ينطلقون، والدعوة إلى التوحيد، توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة، ونفي جميع الأوثان والأنداد والأصنام التي ما أغنت عن المسلمين شيئاً، ولا يمكن أن تغني عنهم شيئاً، ولا يمكن أن يكونوا مسلمين حقاً وهم يرونها بين أظهرهم، ويسكتون عنها أو يداهنونها.

فلا بد من توحيد الله تعالى، وصرف جميع أنواع العبادة له، فلا حب إلا لله، ولا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا عبادة لغيره، وكل ألوان العبادة: الصلاة، والصيام، والذبح، والنذر، والحكم، والعبودية، كلها تصرف لواحد جل وتعالى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26].

إن الفرد بالتوحيد لله تعالى ينضبط في عمله، وتستقر نفسه، وعقله، ويثمر، وينتج، ويصبح إنساناً فعالاً مؤثراً في هذه الحياة.

الجهاد بأسلمة النظم

ولا بد أيضاً من اعتماد الشريعة الإسلامية في جميع الشرائع، وفي جميع الأنظمة، وفي جميع الإدارات، فلا يكون هناك مصدر آخر للتقنين أو التشريع غير الإسلام، وعلى كافة المستويات الداخلية: في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، أو علاقة الحاكم بالمحكوم، أو علاقة الرجل بالمرأة، أو الخارجية في علاقة المسلمين بالدول الأخرى عربية كانت أو إسلامية، أو عالمية.

وكذلك في الاقتصاد، أو الإعلام، أو التعليم، أو العلاقات الاجتماعية، أو غيرها، فنسلم لله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].

إذاً لا بد من إقامة الحياة الإسلامية في بلاد المسلمين كلها على أساس الإسلام عقيدة وشريعة، وإذا آمنا بذلك، وسعينا في تطبيقه بصدق وجد، فحينئذ التقصير، والنقص، والخطأ غير المقصود يصحح على مدى الأيام.

وإذا وجد المسلم الواثق بدينه، والواثق بمستقبله، الذي يعلم أنه لا حل إلا في الإسلام، ويحرك طاقاته في هذا السبيل لأدركنا حقاً ويقيناً وصدقاً أننا -لا أقول سوف نحرر بلاد الإسلام منهم- بل سوف نملك حتى موضع أقدامهم، كما قال هرقل: {لئن كان ما تقوله صدقاً لسوف يملك ما بين قدمي هاتين}.

الجهاد بعرض شمولية الإسلام لغير المسلمين

ولا بد من دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ودعوتهم إلى العقيدة الإسلامية التي هي الحل لكل المعضلات الفلسفية التي تعبث بعقولهم، ودعوتهم إلى المنهج الأخلاقي البديل عن الفساد، والانحراف، والفوضى، والأنانية الموجودة في بلاد الغرب، والذي يُؤمن لهم الرحمة، والتعاون، والأخوة التي يفتقدونها، ولا بد من دعوتهم إلى المنهج التعبدي الذي يربط الإنسان بربه في عالم الماديات والآلة.

ولابد من دعوتهم إلى الاقتصاد والسياسة على نمط الإسلام، وتقديم المنهج الإسلامي الصحيح من خلال معاهد ومؤسسات تطرح هذا الجانب، فالإسلام جذاب في كل شيء، كما هو جذاب في عقائده، هو جذاب أيضاً في أخلاقه، وفي عبادته، وفي منهجه للحياة، ولابد من تصحيح النظرة الغربية التي أصبحت موجودة لدى المواطن الغربي عن الإسلام والمسلمين.

ثم لا بد من الإفادة من معطيات العصر، ووسائل الإعلام، ووسائل الاتصال المختلفة، والتقنيات الحديثة واللغات في إيصال الدعوة إلى أولئك القوم وشرح الإسلام لهم، إن من المدهش والمحزن أن تجد مكتبات ضخمة في الكونجرس في أمريكا، وفي بريطانيا وفي غيرها، فيها كل كتب الدنيا، ثم إذا بحثت عن الكتب الإسلامية لا تجد أي كتاب موجود، وفي بعض الأحيان لا تجد إلا الكتب التي تمثل اتجاهاً خاصاً ككتب الرافضة -مثلاً- أو الإباضية، أو القاديانية، أو غيرهم من أهل البدع وأرباب الضلالة.

أولئك الطلاب أو غيرهم من الذين يذهبون من العالم الإسل

ومن الجهاد الدعوة إلى الإسلام في بلاد المسلمين، ليكون الإسلام هو الأساس الذي عليه يجتمعون ومنه ينطلقون، والدعوة إلى التوحيد، توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة، ونفي جميع الأوثان والأنداد والأصنام التي ما أغنت عن المسلمين شيئاً، ولا يمكن أن تغني عنهم شيئاً، ولا يمكن أن يكونوا مسلمين حقاً وهم يرونها بين أظهرهم، ويسكتون عنها أو يداهنونها.

فلا بد من توحيد الله تعالى، وصرف جميع أنواع العبادة له، فلا حب إلا لله، ولا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا عبادة لغيره، وكل ألوان العبادة: الصلاة، والصيام، والذبح، والنذر، والحكم، والعبودية، كلها تصرف لواحد جل وتعالى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26].

إن الفرد بالتوحيد لله تعالى ينضبط في عمله، وتستقر نفسه، وعقله، ويثمر، وينتج، ويصبح إنساناً فعالاً مؤثراً في هذه الحياة.