شرح بلوغ المرام - كتاب الزكاة - حديث 624-626


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فجزاه الله تعالى وجزى إخوانه من النبيين والمرسلين أفضل الجزاء وأتمه وأوفاه، وجزى أصحابه الذين نقلوا وبلغوا وأدوا ما أمروا فكانوا خير أصحاب لخير نبي، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اليوم عندنا أربعة أحاديث:

الحديث الأول رقمه (601)، وهو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافر).

والحديث رواه الخمسة واللفظ لـأحمد وحسنه الترمذي وأشار إلى اختلاف في وصله، وصححه ابن حبان والحاكم.

تخريج الحديث

البحث الأول: ما يتعلق بسند الحديث وتخريجه: فإن هذا الحديث رواه الخمسة كما ذكر المصنف رحمه الله، والخمسة هم أصحاب الكتب الأربعة .. أصحاب السنن والإمام أحمد، الأئمة الأربعة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، رووا هذا الحديث في كتاب الزكاة، باب زكاة البقر.

أما الإمام أحمد فخرجه في مسنده في مسند معاذ بن جبل كما هو معروف؛ لأن المسانيد ليست مرتبة على حسب الموضوعات وإنما على حسب الرواة ، والترمذي قال عقب إخراج هذا الحديث: إنه حديث حسن، حسنه الترمذي، وكذلك روى هذا الحديث ابن حبان في صحيحه ، فيكون ابن حبان ممن صحح الحديث، والحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فهو عند الحاكم صحيح أيضاً على شرط البخاري ومسلم، ورواه البيهقي والطبراني والطيالسي وغيرهم.

أقوال الأئمة في الحديث

الأئمة الذين رووا هذا الحديث ممن ذكرت رووه عن مسروق أن معاذ بن جبل حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن .

وقد اختلف العلماء هل سمع مسروق من معاذ أو لم يسمع منه؟

والكثير من الأئمة كـالترمذي والدارقطني عدوا هذا الحديث مرسلاً، عدوه من المراسيل، يعني: أنه ليس بمتصل الإسناد، فـالترمذي والدارقطني عدوا الحديث مرسلاً، ولكن أخذ به أكثر أهل العلم، وذكر ابن عبد البر إجماع العلماء على معناه، وحسنه من ذكرت، حسنه الترمذي وابن حبان صححه والحاكم أيضاً، ووافقه الذهبي، ومن المعاصرين الألباني والأرنؤوط وغيرهم. وفي سنده الإشكال الذي ذكرت لكن له شواهد عن جماعة من الصحابة، وهو أيضاً يعتضد بالعمل به.

معاني ألفاظ الحديث

النقطة الثانية: ما يتعلق بألفاظ الحديث: فإن فيه قوله رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة).

والتبيع هو: ما تم له سنة ودخل في السنة الثانية، يعني: ولد البقر الذكر الذي تم له سنة يسمى: تبيعاً؛ وذلك لأنه يفطم عن أمه فيصبح يتبعها ويلحقها، فيسمى تبيعاً، أي: تابعاً لها.

ومن باب أولى لو أخرج بدل التبيع تبيعة، وهي الأنثى من ولد البقر التي تم لها سنة، فإن ذلك يجزئ بل هو أفضل وأولى.

وكذلك قوله: (ومن كل أربعين مسنة)، فالمسنة من البقر: ما تم لها سنتان ودخلت في السنة الثالثة، وسميت مسنة لنبات سنها.

وقوله: (ومن كل حالم ديناراً)، الحالم: هو المحتلم، والمقصود: البالغ، كل من بلغ سواء كان بلوغه بالاحتلام أو بغيره من علامات البلوغ ، فكلمة (حالم) كلمة أغلبية لا يقصد بها حقيقتها من حصول الاحتلام، وإنما يقصد بها البلوغ، سواءً بلغ بالاحتلام أو بغيره.

وقوله: (ومن كل حالم ديناراً)، فهذا يؤخذ جزية من أهل الكتاب، (فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً

ليأخذ الزكاة من المسلمين بـاليمن ، ويأخذ الجزية من أهل الكتاب، فيأخذ من كل حالم -أي: كل بالغ- ذكر)؛ لأن الأنثى لا تدخل أيضاً في قوله: (حالم)، فالمقصود: الذكران، وهذا دليل على أن الجزية لا تجب على الأنثى: (يأخذ من كل حالم ديناراً)، يعني: في السنة.

(أو عدله): بفتح العين أو بكسر العين، عَدل أو عِدل، والمقصود: ما يقابله أو ما يكافؤه إذا لم يأخذ منه ديناراً أو لم يوجد عنده دينار فإنه يأخذ عوضاً عنه عدل ذلك (معافر)، والمُعافر أيضاً بضم الميم، وأحياناً يقال: معافري ينسب إلى قبيلة في اليمن وهي برود تنسج عند هذه القبيلة، فالبرود تسمى: بروداً معافرية.

فمعنى الحديث: أنه يأخذ من كل إنسان بالغ جزية ديناراً واحداً، فإذا لم يوجد عنده دينار فيمكن أن يعطي بدله ثوباً أو ثياباً من المعافرية التي كانت موجودة في اليمن.

أقوال العلماء في مسألة: نصاب زكاة البقر

النقطة الثالثة: ما يتعلق بنصاب البقر وما مقداره وما يجب فيه:

والأمس شرحنا حديث أنس في كتاب أبي بكر الصديق له، وحديث أبي بكر الصديق فيه نوعان أو ثلاثة أنواع من الأنصبة، فيه أنصبة الإبل، وفيه أنصبة الغنم، وفيه أيضاً الورق وهي الفضة، لكن لم يذكر فيه البقر، وكأن ذلك -والله أعلم- لأن البقر ليست كثيرة الوجود في الحجاز ، فالبقر في اليمن وعمان وكثير من البلاد هي الأكثر وجوداً، تجدها عبارة عن مجموعات وقطعان تمشي في المزارع وفي الطرقات وغيرها، وليس الأمر كذلك في الحجاز ، فهي قليلة الوجود بـالحجاز ؛ ولهذا لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب أبي بكر الصديق الذي شرحناه بالأمس، ولما بعث معاذاً إلى اليمن وكانت البقر فيها كثيرة، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له -كما في هذا الحديث- نصاب البقر وما يجب فيه.

وهذا الحديث هو أصل في بيان نصاب البقر وبيان ما يجب فيها.

و قد اختلف العلماء في هذا النصاب بسبب اختلافهم في الحديث -كما أشرت- صحة وضعفاً، اتصالاً وإرسالاً؛ ولذلك الحديث لم يخرجه الشيخان في صحيحيهما؛ لأنه ليس على شرط البخاري ومسلم، فوقع الاختلاف في ثبوته كما ذكرت، وبناءً عليه فإن العلماء اختلفوا على أقوال عديدة أهمها:

القول الأول: أن نصاب البقر ثلاثون ثم أربعون.. وهكذا وأدلته

القول الأول: وهو أن نصاب البقر كما في حديث معاذ بن جبل هنا أن النصاب ثلاثون بقرة، فإذا وجد عنده ثلاثون بقرة فإنه يلزمه أن يخرج النصاب في الحول، أن يخرج من هذا النصاب تبيعاً أو تبيعة، ذكراً أو أنثى تم له سنة واحدة، فإذا زاد ووجد عنده أربعون وجب عليه أن يخرج مسنة، يعني: تم لها سنتان.

إذاً: الأربعون فيها مسنة.

والستون يكون فيها تبيعان، والسبعون تبيع ومسنة، والثمانون مسنتان. يعني: أربعون وأربعون. والتسعون ثلاثة أتبعة، وفي المائة تبيعان ومسنة، يعني: ثلاثون وثلاثون صارت ستون، وأربعون، هذه مائة. وفي المائة وعشر مسنتان وتبيع، وهكذا هذه هي الأنصبة.

وما بين الثلاثين والأربعين نسميه وقصاً، ما بين الأربعين والستين، أو الستين والسبعين، هذا يسمى وقصاً، وهو ما ليس فيه زكاة، وما قبل وجوب الزكاة يسمى وقصاً أيضاً، يسميه الشافعي وقصاً، يعني: ما قبل وجوب الزكاة.

إذاً: هذا هو القول الأول: أن الزكاة تجب في الثلاثين فما زاد، وعلى حسب ما ذكره حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة: الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد.

إذاً: هو قول الجمهور، وهو المعمول به والله أعلم في معظم بلاد وأمصار الإسلام، وهذا الحديث .. حديث معاذ بن جبل وإن لم يكن بقوة حديث أنس بن مالك في الثبوت إلا أنه يصح أن يقال فيه: إنه أصح ما ورد في الباب، وهذه لفظة يطلقها الأئمة كـالترمذي وأحمد وغيرهم على الحديث الذي يكون هو أحسن ما جاء في الباب فيؤخذ به ؛ لأنه أصح ما ورد في الباب ولا يعارضه ما هو مثله فضلاً عما هو أقوى منه.

إذاً: هذا مذهب الأئمة الأربعة، وحجتهم الكبرى هي: الاحتجاج بحديث الباب، وقد ذكرنا لفظه ومن خرجه ومن صححه.

وقد يحتجون أيضاً بالإجماع على ذلك وأنه هو المعمول به.

والذين يردون عليهم يقولون: إن الحديث فيه ضعف فلا تثبت به الفريضة.

وأما بالنسبة للإجماع: فإنه لا إجماع في المسألة، بل هناك خلاف عند السلف معروف، وقد خالف في ذلك أئمة كبار كما سوف أذكره بعد قليل.

إذاً: هذا هو القول الأول.

القول الثاني: أن نصاب البقر مثل نصاب الإبل مع اختلاف الواجب وأدلته

القول الثاني: أن نصاب البقر مثل نصاب الإبل مع اختلاف الواجب في النصاب، فنصاب البقر مثل نصاب الإبل، بمعنى: أن الخمس يكون فيها شاة، والعشر شاتان، والخمس عشرة ثلاث شياه، والعشرون أربع شياه، فإذا بلغت خمساً وعشرين بدأ فيها النصاب من البقر على ما هو معروف.

فهؤلاء يرون أن نصاب البقر يلحق بنصاب الإبل، وهذا مذهب سعيد بن المسيب وهو سيد من سادات التابعين، وهو مذهب الإمام محمد بن شهاب الزهري وهو أيضاً وعاء من أوعية العلم والسنة، وأبي قلابة، ونقل عن جمع من الأئمة والتابعين.

وحجتهم في ذلك: أن كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي فيه بيان أنصبة الزكاة فيه إشارة إلى أنه يؤخذ من البقر مثلما يؤخذ من الإبل، وكتاب عمر هذا رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال له وهو كتاب مطبوع، ورواه أيضاً حميد بن زنجويه في كتاب له اسمه كتاب الأموال وهو مطبوع أيضاً، ورواه ابن حزم في المحلى.

فاحتجوا بهذا الأثر في كتاب عمر أن نصاب البقر مثل نصاب الإبل.

بل قال الزهري: إن هذا كان آخر الأمرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذاً إلى اليمن أمره بذلك النصاب، تسهيلاً وتخفيفاً على أهل اليمن ، ثم بعد ذلك أمر أن يؤخذ من البقر مثل ما يؤخذ من الإبل.

ومما قد يستدلون به على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه مسلم وغيره في الذي لا يؤدي زكاة ماله يوم القيامة وما يعذب به، قال: (ولا صاحب بقر لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطحت له بقاع قرقر، فتطأه بأخفافها وأظلافها، وتنطحه بقرونها، حتى يقضى بين الخلائق فيرى سبيله). فقالوا: هذا دليل على وجوب الزكاة في البقر.

وبناءً على هذا الدليل فنقول: إن الأصل أن أقل قدر من النصاب تجب فيه الزكاة، هذا هو الأصل، وأقل قدر من النصاب هو نصاب الإبل كما ذكرنا، وهو خمس من الإبل.

القول الثالث: أن نصاب البقر عشر وفيها شاة ثم عشرون.. وأدلته

القول الثالث: أن في العشر من البقر شاة، وفي العشرين شاتين، وهذا بناءً عليه تكون البقرة تعادل نصف بعير، يعني: بقرتان عن بعير، فإذا كان نصاب الإبل خمساً فنصاب البقر عشر.

وهذا القول ينسب لـشهر بن حوشب. وحجة أصحاب هذا القول أنهم يقولون: إنه قد ورد في نصاب الدية أنها مائة من الإبل أو مائتان من البقر، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البقرتين عن بعير واحد، فأخذوا بهذا فيما يتعلق في موضوع الزكاة، وهذا نوع من القياس الذي ليس فيه دليل صحيح.

القوال الرابع: أن نصاب البقر خمسون وأدلته

وفي المسألة قول رابع للإمام الطبري والظاهرية: أن النصاب إنما يكون في الخمسين، قالوا: لأنها هي أقصى ما ورد، والأصل براءة ذمة المكلف، فلا تجب عليه الصدقة إلا في خمسين من البقر فما زاد عليها.

الراجح من أقوال العلماء في مسألة: نصاب البقر

وأنت إذا تأملت هذه الأقوال وجدت أن قول الجمهور هو أسلمها من الاعتراض، وأقربها مأخذاً وأصحها دليلاً وأوسطها، وهو أيضاً أكثرها قولاً، وأكثرها قائلاً به من أهل العلم، فهو مذهب الأئمة الأربعة، وهذا لا شك أنه مرجح في مثل هذه المسائل التي ليس فيها نصوص صريحة شديدة الصحة يمكن الاحتكام إليها.

فنقول: الأخذ بحديث معاذ مع ما عضده من عمل الأمة وعمل المسلمين وما عضده من بعض النصوص هو الراجح في هذه المسألة، فيأخذ من كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة على ما ذكرناه.

فوائد حديث معاذ في زكاة البقر

في حديث معاذ أيضاً عدد من الفوائد، منها طبعاَ: نصاب البقر وبيانه.

ومنها: أخذ الجزية من أهل الكتاب.

ومنها: مقدار الجزية، وسوف يأتي بيانه إن شاء الله في موضعه والخلاف فيه.

ومنها: أن الجزية تؤخذ من الذكر ولا تؤخذ من الأنثى.

ومنها: أن الجزية لا تؤخذ إلا من البالغ.

ومن فوائد الحديث أيضاً: جواز نقل الزكاة للحاجة، فإن معاذاً رضي الله عنه جمع هذه الزكاة ونقلها إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

و استدل بهذا الحديث أيضاً من قال بجواز دفع القيمة في الزكاة، يعني: إذا وجب عليه شيء أن يخرج قيمته، وفي المسألة خلاف لعله يأتي تفصيله؛ لأنها مسألة مهمة .

البحث الأول: ما يتعلق بسند الحديث وتخريجه: فإن هذا الحديث رواه الخمسة كما ذكر المصنف رحمه الله، والخمسة هم أصحاب الكتب الأربعة .. أصحاب السنن والإمام أحمد، الأئمة الأربعة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، رووا هذا الحديث في كتاب الزكاة، باب زكاة البقر.

أما الإمام أحمد فخرجه في مسنده في مسند معاذ بن جبل كما هو معروف؛ لأن المسانيد ليست مرتبة على حسب الموضوعات وإنما على حسب الرواة ، والترمذي قال عقب إخراج هذا الحديث: إنه حديث حسن، حسنه الترمذي، وكذلك روى هذا الحديث ابن حبان في صحيحه ، فيكون ابن حبان ممن صحح الحديث، والحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فهو عند الحاكم صحيح أيضاً على شرط البخاري ومسلم، ورواه البيهقي والطبراني والطيالسي وغيرهم.

الأئمة الذين رووا هذا الحديث ممن ذكرت رووه عن مسروق أن معاذ بن جبل حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن .

وقد اختلف العلماء هل سمع مسروق من معاذ أو لم يسمع منه؟

والكثير من الأئمة كـالترمذي والدارقطني عدوا هذا الحديث مرسلاً، عدوه من المراسيل، يعني: أنه ليس بمتصل الإسناد، فـالترمذي والدارقطني عدوا الحديث مرسلاً، ولكن أخذ به أكثر أهل العلم، وذكر ابن عبد البر إجماع العلماء على معناه، وحسنه من ذكرت، حسنه الترمذي وابن حبان صححه والحاكم أيضاً، ووافقه الذهبي، ومن المعاصرين الألباني والأرنؤوط وغيرهم. وفي سنده الإشكال الذي ذكرت لكن له شواهد عن جماعة من الصحابة، وهو أيضاً يعتضد بالعمل به.

النقطة الثانية: ما يتعلق بألفاظ الحديث: فإن فيه قوله رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة).

والتبيع هو: ما تم له سنة ودخل في السنة الثانية، يعني: ولد البقر الذكر الذي تم له سنة يسمى: تبيعاً؛ وذلك لأنه يفطم عن أمه فيصبح يتبعها ويلحقها، فيسمى تبيعاً، أي: تابعاً لها.

ومن باب أولى لو أخرج بدل التبيع تبيعة، وهي الأنثى من ولد البقر التي تم لها سنة، فإن ذلك يجزئ بل هو أفضل وأولى.

وكذلك قوله: (ومن كل أربعين مسنة)، فالمسنة من البقر: ما تم لها سنتان ودخلت في السنة الثالثة، وسميت مسنة لنبات سنها.

وقوله: (ومن كل حالم ديناراً)، الحالم: هو المحتلم، والمقصود: البالغ، كل من بلغ سواء كان بلوغه بالاحتلام أو بغيره من علامات البلوغ ، فكلمة (حالم) كلمة أغلبية لا يقصد بها حقيقتها من حصول الاحتلام، وإنما يقصد بها البلوغ، سواءً بلغ بالاحتلام أو بغيره.

وقوله: (ومن كل حالم ديناراً)، فهذا يؤخذ جزية من أهل الكتاب، (فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً

ليأخذ الزكاة من المسلمين بـاليمن ، ويأخذ الجزية من أهل الكتاب، فيأخذ من كل حالم -أي: كل بالغ- ذكر)؛ لأن الأنثى لا تدخل أيضاً في قوله: (حالم)، فالمقصود: الذكران، وهذا دليل على أن الجزية لا تجب على الأنثى: (يأخذ من كل حالم ديناراً)، يعني: في السنة.

(أو عدله): بفتح العين أو بكسر العين، عَدل أو عِدل، والمقصود: ما يقابله أو ما يكافؤه إذا لم يأخذ منه ديناراً أو لم يوجد عنده دينار فإنه يأخذ عوضاً عنه عدل ذلك (معافر)، والمُعافر أيضاً بضم الميم، وأحياناً يقال: معافري ينسب إلى قبيلة في اليمن وهي برود تنسج عند هذه القبيلة، فالبرود تسمى: بروداً معافرية.

فمعنى الحديث: أنه يأخذ من كل إنسان بالغ جزية ديناراً واحداً، فإذا لم يوجد عنده دينار فيمكن أن يعطي بدله ثوباً أو ثياباً من المعافرية التي كانت موجودة في اليمن.

النقطة الثالثة: ما يتعلق بنصاب البقر وما مقداره وما يجب فيه:

والأمس شرحنا حديث أنس في كتاب أبي بكر الصديق له، وحديث أبي بكر الصديق فيه نوعان أو ثلاثة أنواع من الأنصبة، فيه أنصبة الإبل، وفيه أنصبة الغنم، وفيه أيضاً الورق وهي الفضة، لكن لم يذكر فيه البقر، وكأن ذلك -والله أعلم- لأن البقر ليست كثيرة الوجود في الحجاز ، فالبقر في اليمن وعمان وكثير من البلاد هي الأكثر وجوداً، تجدها عبارة عن مجموعات وقطعان تمشي في المزارع وفي الطرقات وغيرها، وليس الأمر كذلك في الحجاز ، فهي قليلة الوجود بـالحجاز ؛ ولهذا لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب أبي بكر الصديق الذي شرحناه بالأمس، ولما بعث معاذاً إلى اليمن وكانت البقر فيها كثيرة، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له -كما في هذا الحديث- نصاب البقر وما يجب فيه.

وهذا الحديث هو أصل في بيان نصاب البقر وبيان ما يجب فيها.

و قد اختلف العلماء في هذا النصاب بسبب اختلافهم في الحديث -كما أشرت- صحة وضعفاً، اتصالاً وإرسالاً؛ ولذلك الحديث لم يخرجه الشيخان في صحيحيهما؛ لأنه ليس على شرط البخاري ومسلم، فوقع الاختلاف في ثبوته كما ذكرت، وبناءً عليه فإن العلماء اختلفوا على أقوال عديدة أهمها: