شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 573-576


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون, وعلى أزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين, ورضي الله عنا وعنكم وعن جميع المسلمين.

والحمد لله الذي وفق وأمد في الأعمار, وأطال في الآثار, وأذن بالتكرار لمثل هذا المجلس المبارك في هذه الإجازة الصيفية, فهذا هو يوم السبت الرابع عشر من شهر جمادى الأولى من سنة (1427هـ), وسيكون هذا الدرس بعد صلاة العصر درساً لشرح بلوغ المرام , وبإذن الله تعالى بنهايته نكون أنجزنا كتاب الصلاة؛ لأن ما بقي من كتاب الصلاة -وهو بقية كتاب الجنائز- نحو ثمان وأربعين حديثاً, وعندنا اثنا عشر درساً, ففي كل درس -إن شاء الله- ننجز أربعة إلى خمسة أحاديث، نكون انتهينا من كتاب الصلاة.

ولعله من المناسب أيضاً إزجاء الشكر والحمد مرة أخرى لله وحده سبحانه في إتمام كتاب الطهارة من شرح البلوغ وطباعته, حيث طبع في أربع مجلدات, وبالنسبة للإخوة الطلبة الذين ليس لديهم هذا الكتاب فأرجو أن يكتبوا أسماءهم, وسنسعى إن شاء الله تعالى في توفيره لهم, وكذلك الإخوة الطلبة الذين سيستمرون في حضور هذه الدورة أرجو أن تكون أسماؤهم مكتوبة عند عميد هذا المجلس الشيخ صالح السلمان ؛ حتى يراعى هذا في توفير نسخة من البلوغ ومن الكتب والهدايا الأخرى التي سوف تجهز لهم.

وأيضاً بشرى أخرى إن شاء الله أن كتاب الصلاة قد تم تجهيزه والعمل عليه ككتاب, وسيكون في حجم كتاب الطهارة نحو أربع مجلدات, وإن شاء الله أرجو ألا يأتي الصيف القادم إلا وقد أصبح في متناول أيدي الطلاب.

أما بعد:

فعندنا اليوم مجموعة أحاديث في كتاب الجنائز, وقد سبق أن شرحنا طرفاً منها يتعلق بالموت, ويتعلق بالدفن, ويتعلق بالكفن, ويتعلق بالصلاة, وبقي أجزاء وأطراف من هذا الباب, وسنقف اليوم على أربعة أحاديث منها.

وكالمعتاد فإن طريقة العرض تبدأ بتخريج الحديث وعزوه, ثم الحكم عليه, ثم شرح الغريب من الكلمات والوقوف عند بعض المسائل العلمية والفقهية في الحديث, وتنتهي بذكر بعض الفوائد.

فالحديث الأول ورقمه: (551) هو حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سلباً سريعاً ).

وهذا الحديث سهل من حيث حفظه, ومختصر في ألفاظه.

تخريج الحديث

فالمبحث الأول ما يتعلق بتخريجه: فالمصنف -رحمه الله- عزا الحديث لـأبي داود , وقد خرجه أبو داود في سننه في كتاب الجنائز, باب: كراهية المغالاة في الكفن.

وقد رواه البيهقي أيضاً في سننه .

شواهد الحديث

وله شواهد.

من أشهر الشواهد: حديث أبي بكر رضي الله عنه وهو في البخاري عن عائشة : (أن أبا بكر لما حضر وكان عليه ثوب فيه ردع من زعفران, فقال: انظروا ثوبي هذا فاغسلوه ثم كفنوني فيه, فقالت عائشة رضي الله عنها: يا أبتاه! إنه ثوب خلق, أفلا نكفنك في ثوب جديد؟ فقال لها: يا بنية! إن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هو للمهلة -أو للمهل- والصديد) فحديث أبي بكر يشهد لمعنى حديث الباب.

كلام الأئمة على الحديث

النقطة الثانية: ما يتعلق بسند الحديث -حديث علي رضي الله عنه- فإن مدار طرق حديث علي على رجل اسمه عمرو بن هاشم , ويكنى بـأبي مالك , وهو الجنبي بالجيم ثم النون ثم الباء, وهي نسبة مشهورة, بعضهم تصحفت عنده الجنبي وحذفت الباء, وصارت الجني, والواقع أنه من الإنس, هو من بني آدم وليس من الجن, فهو الجنبي .

هذا الرجل تكلم فيه غير واحد من أهل العلم كالإمام أحمد ضعفه في إحدى روايتيه, وكذلك البخاري قال: فيه نظر, وهذه كلمة لا يقولها البخاري إلا على من هو شديد الضعف عنده, وضعفه أيضاً مسلم كما في كتاب التمييز له, مسلم صاحب الصحيح .

وابن حبان أشار إلى أنه يروي عن الثقات ما لا يشبه حديثهم, فبطل الاحتجاج به, فكأن ابن حبان يشير إلى أن الرجل صاحب غرائب, وصاحب غرائب تطلق على الراوي الذي يأتي بالأحاديث والروايات الغريبة عن الشيوخ, والتي لا يشاركه ولا يشاطره فيها غيره, فيتوقى العلماء حديثه, ولهذا أحياناً يقولون: فلان صدوق أو ثقة يغرب, يعني: يأتي بالشيء الغريب, وهذا مظنة أن يكون ثمة حذر وتوق منه، وهكذا الناس في مجالسهم وأحاديثهم إذا كان من بينهم شخص يأتي بالأخبار الغريبة يتقونه؛ لأنهم يقولون: هذه الأخبار الغريبة أين هي من الناس لا يأتي بها إلا هو؟ فيتجنبون حديثه.

إذاً: هذه هي العلة الأولى في حديث علي , وهي وجود أبي مالك , واسمه قلنا: عمرو بن هاشم الجنبي .

العلة الثانية: أن الحديث مروي من طريق عامر عن علي رضي الله عنه, وعامر هو الشعبي كما هو معروف, وبينه وبين علي انقطاع, فقد ذكر الدارقطني وغير واحد أنه لم يأخذ من علي إلا حرفاً أو حرفين, وبعضهم قال: إنه لم يأخذ منه شيئاً, وبعضهم قال: إنه لقيه , فهو قد يكون لقي علياً، لكنه لم يرو عنه؛ ولذلك فإن الحديث فيه ضعف, ولكن ليس في متن الحديث ما يستغرب, وهذه قضية ينبغي اعتبارها، فإن الأئمة كما هو واضح من صنيعهم؛ أئمة الحديث المتقدمين، كانوا يلاحظون المتن أيضاً, فإذا كان المتن متناً عظيماً أو فيه أصل لا يوجد في غيره فلا يأخذونه إلا عن الثقات الأثبات, أما إذا كان المتن من المتون المتداولة التي لا استقلال فيها عن غيرها فهم قد يتسامحون في أخذها وروايتها , ولهذا أحياناً يقولون: هذا الحديث عليه العمل كما كان الترمذي يقوله, وكذلك ابن عبد البر قد يقول مثل هذا ويصحح به أحاديث, والإمام أحمد وسواهم.

إذا أحد له تعليق أو سؤال ما يمنع أنه يطلب التعليق في وقته, إذا كان يتعلق بذات المسألة المنصوصة.

معاني ألفاظ الحديث

النقطة الثالثة: ما يتعلق بألفاظ الحديث:

اللفظ أول الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تغالوا في الكفن ) أكثر الروايات هكذا على ضم التاء وفتح الغين: (لا تغالوا), وهو مأخوذ من المغالاة، وهي: الزيادة ومجاوزة الحد في الشيء, ومنه الغلو أيضاً, يقال: غلا في الشيء إذا تجاوز الحد.

وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم عند النسائي وغيره: ( إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )، فهذا هو اللفظ المشهور, (لا تغالوا).

وبعض الأئمة والرواة ضبطوه ورووه بفتح التاء: (لا تغالوا في الكفن) وهنا يكون كأن هناك تاء ثانية محذوفة, يعني: أصله: (لا تتغالوا), ومرد اللفظ للأول, أنه من المغالاة والزيادة, لكن هنا فيه معنى إضافي غير الأول, وهو؟

مداخلة: التنافس.

الشيخ: التنافس، نعم. حين يقول: لا تتغالوا, يعني: لا يغالي بعضكم بعضاً, بمعنى: أن كل إنسان ينظر للآخر, يقول: فلان كفن ميته في كفن سعره كذا.. مائة ريال, فأنا أريد أن أكون أحسن منه فأكفن ميتي في مائتي ريال, وهذا ما يسميه علماء اللغة -ما يكون يعني: بين طرفين-: نوع من المفاعلة أو المغالبة بين طرفين, مثل المضاربة والمساباة والمساعدة وغيرها, مما يعني: أن كل طرف ينافس الطرف الآخر فيها, ومرده للمعنى الأول كما ذكرت: (لا تغالوا), وهناك طبعاً ألفاظ أخرى.

?(لا تغالوا في الكفن)، والكفن هنا: اسم لما يكفن ويلف به الميت, وهو بفتح الكاف والنون, والمصدر الكفْن بسكون الفاء, وهو من كفَن يكفِنُ كفْنَاً, والكفن معناه: التغطية, من معاني الكفن في اللغة: التغطية؛ وذلك لأن الكفن يغطى ويلف به جسد الميت, وقد أصبح هذا اسماً شائعاً معروفاً له لا يحتاج إلى مزيد بيان.

(فإنه يسلب سلباً سريعاً) مرجع الضمير في (إنه) إلى الكفن.

وقوله: (يسلب) هذا نسميه مبني للمجهول, يعني: الكفن يسلب, من الذي يسلبه؟

إما الأرض أو الدود؛ لأنه يتآكل مع الوقت وينتهي, وهذا هو الذي عليه أكثر الشراح, أن المقصود أن الكفن يذهب بسرعة, فالمغالاة فيه لا فائدة منها, بل هي من إضاعة المال, فهذا الكفن يوضع في التراب ويتآكل سريعاً, حتى لو أنك أتيته بعد فترة وجيزة لم تجد له أثراً, وبدأ -أيضاً- الدود يأكل جسد الميت.

وهنا نذكر القصة التي وقعت لأحد الشعراء لما دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعد ولايته الخلافة, وقد تسامع الناس أن عمر يعطي الفقراء ويمنع الشعراء, فبدأ الشعراء يتقربون إلى عمر بن عبد العزيز بالمعاني التي تروقه, وقد ولي الخلافة فزهد في الدنيا, فجاءه أحد الشعراء ووقف بين يديه, وأنشد:

وبينما المرء أمسى ناعماً جذلاً في أهله معجباً بالعيش ذا أنق

غراً أتيح له من حينه عرض فما تلبث حتى مات كالصعق

ثمة أضحى ضحى من غب ثالثة مقنعاً غير ذي روح ولا رمق

يبكي عليه وأدنوه لمظلمة تعلى جوانبها بالترب والخرق

فما تزود مما كان يجمعه إلا حنوطاً وما واراه من خرق

وغير نفحة أعواد تشب له وقل ذلك من زاد لمنطلق

فبكى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حتى أخضل لحيته.

فهذا هو المعنى الأول, أنها تسلب سلباً سريعاً يعني: تتآكل وتنتهي, ولهذا في بعض الروايات قال: ( فإنه يُسلبه سلباً سريعاً ) بزيادة هاء الضمير, (يسلبه)، وعلى هذا يكون الضمير الأول (فإنه) يرجع إلى الميت, يعني: الميت يسلب منه كفنه, كأنه يؤخذ منه, حتى لو كان هذا الميت ملكاً عظيماً أو إمبراطوراً أو -يعني- ضخماً أو عزيزاً أو تاجراً أو قوياً في بدنه؛ فإنه في قبره غير قادر على أن يحمي نفسه حتى من الدود, ويسلبه الدود كل شيء حتى لباسه, بل حتى نفسه وأعضاءه وجسده، فالرواية الأخرى: ( فإنه يسلبه ), يعني: الميت يسلب ثوبه وكفنه.

المعنى الثاني: وقد ذكره غير واحد وإن كان فيه غرابة: يسلب يعني: يسلبه اللصوص, وقالوا: إن اللص إذا عرف أن الكفن عزيز وغال فإنه لا يبالي أن ينبش القبر وأن يأخذ الكفن أو يسرقه, فيبيعه لمن يتخذه كفناً آخر أو لغير ذلك، والأمر يسير على كل حال.

(يسلب سلباً سريعاً), يعني: غير بطي, وإنما في أيام وليال.

حكم المغالاة في الكفن

النقطة الرابعة: ما يتعلق بمسألة الحديث: فالحديث في مسألة المغالاة في الكفن:

وقد اتفق العلماء والفقهاء على أن المغالاة الزائدة عن الحد في الكفن محرمة؛ لأنها من باب ماذا؟ من باب الإسراف, وإذا كان الإسراف محرماً على الحي فهو على الميت أولى بالتحريم؛ لأن الحي قد يستفيد من اللباس للزينة وللسفر وللوقاية من الحر والبرد, وغير ذلك, أما الميت فلا ينتفع به إلا أنه يستر به بدنه, ولهذا اتفق الفقهاء على أن الإسراف في الكفن المتجاوز للاعتدال منهي عنه, وقد يصل إلى التحريم إذا زاد عن الحد, وهذا الحديث دليل لما قالوه.

والضابط في هذا: أن الواجب في الكفن هو ما يستر الميت. ولهذا نقول: الواجب هو ثوب واحد. لو أنهم ستروا الميت بثوب واحد أو لفوه بخرقة واحدة تستر جسده أجزأ ذلك وكفى، ويستحب أن يكون الكفن بالنسبة للرجل كما مر معنا كم قطعة؟ ثلاث, واحدة كالإزار, والأخرى كالرداء, والثالثة لفافة, مع تغطية الرأس.

ويستحب بالنسبة للمرأة كم؟ خمس, فهذه السنة.

طيب، لو زادوا على ثلاث أو على خمس؟ فنقول: هذه الزيادة سواء كانت زيادة في العدد أو كانت زيادة في الصفة ونوع الكفن، الزيادة إن تعدت الحد المشروع والمعتدل فهي منهي عنها, وقد تصل إلى التحريم, تكون مكروهة ثم تصل إلى التحريم إذا كان فيها إتلاف للمال وإضاعة له, وأما لو زادت زيادة معتدلة فإن هذا لا يضر, كما أنه لو نقص نقصاً معتدلاً فاكتفى بخرقة واحدة ولفافة واحدة للميت فإن هذا جائز أيضاً، والسنة -كما قلنا- ثلاث للرجل, وخمس للمرأة؛ لأن المرأة مطلوب فيها الستر حتى حال الموت أكثر مما هو مطلوب من الرجل.

والاعتدال أيضاً هو في الجمع بين هذا الحديث وبين الحديث الذي سبق معنا, وهو حديث جابر في صحيح مسلم، ما هو هذا الحديث؟ حديث جابر في مسلم وهو: ( أن أحد الصحابة مات بليل فكفنوه بكفن غير طائل ودفنوه, فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه )، فهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان الكفن، وفي حديث علي قال: ( لا تغالوا في الكفن ) إذاً: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67]، فلا يبالغ في الكفن بأسعار خيالية وغالية, ولا يقتر أيضاً ويقصر فيه ويكون الكفن كفناً غير ساتر، أو كفناً رديئاً.. أو ما أشبه ذلك.

ومن جميل ما يمكن أن يضبط به هذا الباب أن يقال: أن يكفن الإنسان بجنس ما يلبس في الدنيا؛ لأن الناس يتفاوتون بالغنى والتجارة وغير ذلك. فيقال: يكفن الإنسان من جنس ما يلبس في الدنيا من اللباس المعتدل المناسب لمثل حاله ومقامه، ولو أن إنساناً أوصى بأن يكفن بما دون ذلك جاز, فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه كما سلف أمر أن يكفن في ثوبيه اللذين كان يصلي فيهما، وربما اختار أبو بكر رضي الله عنه الكفن فيهما؛ لأنه كان يصلي فيهما, فأحب أن يكفن فيما كان يناجي به ربه, وقد يشهد له عند الله عز وجل, أو يكون له بذلك أنه شهد بها مشاهد, أو ما أشبه ذلك من المعاني, وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم أهدى لفلان ثوباً فأحب أن يكفن فيه.. إلى غير ذلك مما قد يجعل الإنسان يختار ما هو أقل قيمة من الأكفان.

حكم تكفين الميت في الحرير

طيب، مما يتعلق بهذه المسألة أيضاً: الكفن في الحرير. هل يجوز أن يكفن الإنسان في ثوب حرير؟ إن كان الحرير محرماً عليه وهو حي فهو محرم عليه وهو ميت, مثل ماذا؟ من هو الذي يحرم عليه الحرير وهو حي؟

الرجل. إذاً: نقول جواباً على سؤال: هل يجوز أن يكفن الإنسان في ثوب حرير؟ إن كان رجلاً فلا يجوز أن يكفن في ثوب حرير؛ لأن الحرير حرام عليه في الحياة، فيكون أولى بالتحريم حال الموت؛ لما ذكرناه من أن وضع الحرير في القبر إضافة إلى المخالفة فيه إتلاف للمال.

أما إن كانت امرأة فالصواب أنه يجوز أن تكفن في ثوب حرير, ولكن الأولى ألا تفعل, وصرح بعض الفقهاء بالكراهة, الأولى ألا يفعلوا, وصرح بعض الفقهاء بالكراهة؛ لأن ثوب الحرير بالنسبة للمرأة جائز لها لبسه في حال الحياة, وما كان جائزاً في الحياة فالأصل جوازه بعد الوفاة, وأما الكراهية فلأن المرأة في حال الحياة أبيح لها ذلك لمعنى التزين والتجمل, وهو جزء من طبيعة المرأة: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، لكن بالنسبة للميت هو لا يستفيد منه شيئاً, فيكون في ذلك إتلاف للمال.

فوائد الحديث

النقطة الخامسة: فوائد من هذا الحديث: وهذه ممكن نقول شيئاً منها, ونسمع منكم ما تروه من فوائد الحديث. من فوائد الحديث الواضحة: كراهية المغالاة في الكفن, ويحرم إذا تجاوز الحد وكان فيه إسراف وإضاعة للمال. ومن فوائد الحديث أيضاً: استحباب تحسين الكفن, وهذا وإن كان منصوصاً به في حديث جابر

: ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) إلا أنه مفهوم أيضاً من حديث علي

؛ لأنه لما نهى عن المغالاة دل على أن ما دونها مطلوب, وهو التحسين أو الاعتدال. وأيضاً من فوائد الحديث: وجوب الكفن -وهذا سبق- فإن الكفن واجب, بل هو من أولى ما يجب الاشتغال به, ويقدم في تركة الميت. إذاً: من الفوائد: وجوب الكفن, والمقصود بالكفن: ما يستر جسد الميت, حتى إنه حدث كما في قصة عبد الرحمن بن عوف

لما ذكر مصعب بن عمير

رضي الله عنه وحديثه في الصحيح: ( أنه مات ولم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا بردة إذا غطوا بها رأسه ظهرت رجلاه, وإذا غطوا بها رجليه ظهر رأسه, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه, وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر ) وهو نبات معروف في المدينة . فالمقصود بالكفن هو: ستر البدن بما يمكن ستره به، وإذا لم يوجد كفن يستر جسده كله ستر أهمه, وأهم ما يجب ستره من الميت العورة، كالحي, وهي ما بين السرة والركبة على المشهور, ثم يستر أعلى بدنه لشرفه, وهو رأسه ووجهه, ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قاتل أحدكم أخاه فليتق الوجه )، ولهذا لا يجوز ضرب الإنسان في وجهه, صفعه -مثلاً- أو ما أشبه ذلك, ثم يستر أسفل بدنه بهذا الترتيب. أيضاً من فوائد الحديث: أنه لا بأس أن يكفن الإنسان بالجديد أو بالخلق, سواء كان ثوباً جديداً, وهو ما عليه عمل الناس, فإنهم يكفنون في أثواب جديدة, ولكنها من الأنواع الرخيصة غير ذات القيمة, أو يكفن بالخلق, يعني: الثوب المغسول, وما عمله أبو بكر

رضي الله عنه، فإنه أمر أن يكفن بالخلق المغسول, وقال: إنما هو للمهل والصديد. و(المهل) بضم الميم أو فتحها أو كسرها ثلاثة أوجه, والمقصود بالمهل إما أن يكون المقصود به الصديد, يعني: هو ما يقع للميت في قبره من سيلان الماء وغيره, وبعضهم يقول: إنما هو (للمهل) بفتح الميم, وهو المهلة, يعني: الوقت, المدة, وعلى هذا يكون المقصود أن الجديد يكون للمهل, يعني: الجديد للحي؛ لأنه ممهل, معطى فرصة, فيكون أولى به, والميت يأخذ الخلق, إنما هذا اختيار أبي بكر

رضي الله عنه. وإذا أوصى الميت أن يكفن في ثوب خلق تنفذ وصيته, ولكن لا يكون هذا دليلاً على استحباب أن يكون الثوب الذي يكفن فيه الميت خلقاً, وإنما نقول: يستوي أن يكون جديداً أو أن يكون خلقاً, المهم أن يكون ثوباً نظيفاً, وأن يكون ثوباً مناسباً لا مغالاة فيه, وأيضاً أن يكون ثوباً ساتراً, فلو كفن في ثوب لا يستر لا ينفع ولا يغني. وأيضاً أن يكون طاهراً, فلا يصلح أن يكفن في ثوب نجس, حتى لو كان جائزاً أن يلبسه حال الحياة؛ لأن الفقهاء قد يقولون بجواز أن يلبس الإنسان الثوب النجس حال الحياة, لكن لا يجوز أن يصلي فيه , لكن لو لبسه ونام به أو قعد به وعليه -مثلاً- بول طفل رضيع أو ما أشبه ذلك فإن الأقرب أنه ليس في ذلك حرج, لكن الميت لا ينبغي أن يكفن في ثوب نجس, بل ينبغي أن يكون ثوباً طاهراً, ولهذا أوصى أبو بكر

رضي الله عنه أن يغسل ثوبه. من فوائد الحديث: منع إضاعة المال, وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال )، والواقع أنه في هذا الحديث عبرة قوية جداً, فالمقام مقام الموت, وكثير من الناس إذا جاء ذكر الموت فكأنهم يصدون عن الدنيا صدوداً, ويرون الزهد المطلق في خيرها وشرها وحلوها ومرها وحقها وباطلها, وهذا غلط, فالدين جاء لإقامة الدنيا وإقامة الدين , وجاء لحفظ الدنيا وحفظ الآخرة، ولهذا الآن فيما يتعلق بالكفن -وهو كفن للميت- علل النبي صلى الله عليه وسلم عدم المغالاة في الكفن بأنه يسلب سلباً سريعاً, ففيه إشارة إلى إتلاف وإضاعة المال وسلبه وضياعه, وهذا فيه محافظة على المال من أجل الدنيا، فالإنسان بالمال يطعم فقيراً أو مسكيناً أو محتاجاً, أو يساعد مجاهداً, أو ينفق على نفسه وعلى زوجه وعلى ولده وعلى قريبه, ويستغني عن الناس, ولهذا كان بعض الصحابة يردد قول أميمة بن الجلاح

يقول: (استغن أو مت) يعني: كون الإنسان طيب وتقي وعابد ومع ذلك هو فقير ومحتاج للناس يمد يده إليهم؛ هذا ذل. استغن أو مت ولا يغررك ذو نسب من ابن عم ولا عم ولا خال إني أبيت على الزوراء أعمرها إن الحبيب إلى الإخوان ذو المال فالإنسان صاحب المال يكون حبيباً إلى الناس؛ ولهذا جاء الدين بالنهي عن إضاعة الأموال. من فوائد الحديث أيضاً: أن الحي أحق بالجديد من الميت, وهذا فيه معنى لطيف, وهو استحباب التجمل للحي, استحباب التجمل للحي، وقد سبق معنا مباحث من هذا القبيل, يعني: الله سبحانه وتعالى يحب أن يُرى أثر نعمته على عبده, وأن يكون الإنسان نظيفاً في ثوبه وبدنه ولباسه وغترته وشعره وجسده, فإن هذا يحبه الله؛ يحبه الله في العبادة, ويحبه في الصلاة, يحبه للجمعة, ويحبه للجماعة, ويحبه للناس. فلذلك نقول: من فوائد الحديث: استحباب لبس الطيب والنظيف والجديد من الثياب. من فوائد الحديث: أن الإنسان يبعث عارياً. من أين نأخذ الفائدة هذه؟ يسلب: ( فإنه يسلب سلباً سريعاً )، وهذا ورد في أحاديث كثيرة جداً ومشهورة, منها: حديث عائشة

لما قال: ( إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلاً: ((كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ))[الأنبياء:104] وأن أول من يكسى إبراهيم عليه السلام).. إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة. وهذا الحديث يشهد لهذا المعنى, أن الناس يبعثون ويحشرون يوم القيامة حفاة عراة، بلا لباس ولا ثياب ولا نعال عليهم. جاء في حديث عند أبي داود

أن أبا سعيد الخدري

رضي الله عنه لما حضرته الوفاة أمر بثوب جديد له فلبسه, وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس يبعثون يوم القيامة في ثيابهم التي ماتوا عليها )، ولذلك أخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث: أنهم يبعثون في ثيابهم, ثم تزول ويحشرون حفاة, وهذا لا يخلو من تكلف, والأقرب أن الثياب بليت في المقابر, وأنهم يخرجون من قبورهم كما خلقوا؛ لأنهم ينبتون كما تنبت الحبة -أو الحِبة- في حميل السيل, ثم يحشرون إلى الله عز وجل, يبعثون ويحشرون حفاة عراة، فلابد في حديث أبي سعيد الخدري

من أحد أمرين: إما التضعيف أو التأويل. فأما التضعيف فيقال: بأن الحديث على فرض صحة إسناده في الظاهر إلا أنه حديث منكر؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة. وإما أن يقال: إن المقصود به أن الناس يبعثون في ثيابهم يعني: يبعثون على الحال التي كانوا عليها, والثوب قد يعبر به عن الفعل والعمل, كما في قوله تعالى: (( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ))[المدثر:4]، قال كثير من المفسرين: إنه لا يعني طهارة الثوب فقط, بل طهارة الظاهر والعمل والسمعة والخير الذي ينسب للإنسان ويعرف به كما يعرف بالثوب , فلابد من أحد الأمرين, ولا داعي للتكلف. وأشد من ذلك تكلفاً وبعداً: أن بعض الشراح يقولون: إن الأموات يتفاخرون بثيابهم التي كانوا عليها, وأقول: ما أبعد هذا! فالأموات في شأن آخر, ليس في شأن الدنيا أن يتزاوروا ويتفاخروا بثيابهم, إلا أن يكون المقصود أن يتفاخروا بعملهم الصالح, فهذا حسن. أيضاً من فوائد الحديث: وجوب أن يكون الكفن مباحاً, وألا يكفن الإنسان فيما هو حرام, سواء كان حراماً لأنه حرير يمنع منه الرجل, أو لأنه مغصوب, أو للمبالغة, فإنه يحرم على الإنسان لبس ما فيه إسراف ومبالغة. من الفوائد أيضاً: قضية الاعتدال في القبر؛ لأنه إذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتدال في الكفن فمثل ذلك بل أولى منه الاعتدال في القبر. وماذا نعني بالاعتدال في القبر؟ لاعتدال بصفة القبر, فاليوم ومنذ قديم جداً الملوك والكبراء والوزراء والأمراء أحياناً في كثير من الأمصار يتفاخرون بالقبور, وقد عرف الناس كلهم في بلاد الإسلام من شرقها إلى غربها إلا ما رحم الله أنك تجد كثيراً من المقبورين ممن لهم شأن ومكانة، تجد قبره مزاراً ضخماً, وتجد عليه ألواناً من الذهب أحياناً والفضة والمعادن والأحجار الكريمة والقيم الغالية, وقد يكون بملايين أحياناً, بينما الناس يعيشون حالة من الفقر, وفي دولة مصر رأيت بعيني أحياء -وأكيد الكل يسمع هذه الأحياء- هي عبارة عن مقابر يسكن فيها الناس, مقابر والناس يعيشون فيها, هي مدافن للأموات وهي مدافن للأحياء, يعيشون فيها ويتزوجون فيها وينجبون فيها, في داخل هذه المقابر, حارات بأكملها, بينما على بعد ربما كيلو مترات منها تجد مدفناً أو مقاماً للسيد فلان أو للسيدة فلانة، وتجد فيه من ألوان الأحجار النفيسة الغالية, ولهذا أظن حافظ إبراهيم

كان يتشكى ويقول: أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألف ترزق الأموات فتجد أن هذا من الخلل الكبير والجهل العظيم.

فالمبحث الأول ما يتعلق بتخريجه: فالمصنف -رحمه الله- عزا الحديث لـأبي داود , وقد خرجه أبو داود في سننه في كتاب الجنائز, باب: كراهية المغالاة في الكفن.

وقد رواه البيهقي أيضاً في سننه .

وله شواهد.

من أشهر الشواهد: حديث أبي بكر رضي الله عنه وهو في البخاري عن عائشة : (أن أبا بكر لما حضر وكان عليه ثوب فيه ردع من زعفران, فقال: انظروا ثوبي هذا فاغسلوه ثم كفنوني فيه, فقالت عائشة رضي الله عنها: يا أبتاه! إنه ثوب خلق, أفلا نكفنك في ثوب جديد؟ فقال لها: يا بنية! إن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هو للمهلة -أو للمهل- والصديد) فحديث أبي بكر يشهد لمعنى حديث الباب.

النقطة الثانية: ما يتعلق بسند الحديث -حديث علي رضي الله عنه- فإن مدار طرق حديث علي على رجل اسمه عمرو بن هاشم , ويكنى بـأبي مالك , وهو الجنبي بالجيم ثم النون ثم الباء, وهي نسبة مشهورة, بعضهم تصحفت عنده الجنبي وحذفت الباء, وصارت الجني, والواقع أنه من الإنس, هو من بني آدم وليس من الجن, فهو الجنبي .

هذا الرجل تكلم فيه غير واحد من أهل العلم كالإمام أحمد ضعفه في إحدى روايتيه, وكذلك البخاري قال: فيه نظر, وهذه كلمة لا يقولها البخاري إلا على من هو شديد الضعف عنده, وضعفه أيضاً مسلم كما في كتاب التمييز له, مسلم صاحب الصحيح .

وابن حبان أشار إلى أنه يروي عن الثقات ما لا يشبه حديثهم, فبطل الاحتجاج به, فكأن ابن حبان يشير إلى أن الرجل صاحب غرائب, وصاحب غرائب تطلق على الراوي الذي يأتي بالأحاديث والروايات الغريبة عن الشيوخ, والتي لا يشاركه ولا يشاطره فيها غيره, فيتوقى العلماء حديثه, ولهذا أحياناً يقولون: فلان صدوق أو ثقة يغرب, يعني: يأتي بالشيء الغريب, وهذا مظنة أن يكون ثمة حذر وتوق منه، وهكذا الناس في مجالسهم وأحاديثهم إذا كان من بينهم شخص يأتي بالأخبار الغريبة يتقونه؛ لأنهم يقولون: هذه الأخبار الغريبة أين هي من الناس لا يأتي بها إلا هو؟ فيتجنبون حديثه.

إذاً: هذه هي العلة الأولى في حديث علي , وهي وجود أبي مالك , واسمه قلنا: عمرو بن هاشم الجنبي .

العلة الثانية: أن الحديث مروي من طريق عامر عن علي رضي الله عنه, وعامر هو الشعبي كما هو معروف, وبينه وبين علي انقطاع, فقد ذكر الدارقطني وغير واحد أنه لم يأخذ من علي إلا حرفاً أو حرفين, وبعضهم قال: إنه لم يأخذ منه شيئاً, وبعضهم قال: إنه لقيه , فهو قد يكون لقي علياً، لكنه لم يرو عنه؛ ولذلك فإن الحديث فيه ضعف, ولكن ليس في متن الحديث ما يستغرب, وهذه قضية ينبغي اعتبارها، فإن الأئمة كما هو واضح من صنيعهم؛ أئمة الحديث المتقدمين، كانوا يلاحظون المتن أيضاً, فإذا كان المتن متناً عظيماً أو فيه أصل لا يوجد في غيره فلا يأخذونه إلا عن الثقات الأثبات, أما إذا كان المتن من المتون المتداولة التي لا استقلال فيها عن غيرها فهم قد يتسامحون في أخذها وروايتها , ولهذا أحياناً يقولون: هذا الحديث عليه العمل كما كان الترمذي يقوله, وكذلك ابن عبد البر قد يقول مثل هذا ويصحح به أحاديث, والإمام أحمد وسواهم.

إذا أحد له تعليق أو سؤال ما يمنع أنه يطلب التعليق في وقته, إذا كان يتعلق بذات المسألة المنصوصة.

النقطة الثالثة: ما يتعلق بألفاظ الحديث:

اللفظ أول الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تغالوا في الكفن ) أكثر الروايات هكذا على ضم التاء وفتح الغين: (لا تغالوا), وهو مأخوذ من المغالاة، وهي: الزيادة ومجاوزة الحد في الشيء, ومنه الغلو أيضاً, يقال: غلا في الشيء إذا تجاوز الحد.

وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم عند النسائي وغيره: ( إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )، فهذا هو اللفظ المشهور, (لا تغالوا).

وبعض الأئمة والرواة ضبطوه ورووه بفتح التاء: (لا تغالوا في الكفن) وهنا يكون كأن هناك تاء ثانية محذوفة, يعني: أصله: (لا تتغالوا), ومرد اللفظ للأول, أنه من المغالاة والزيادة, لكن هنا فيه معنى إضافي غير الأول, وهو؟

مداخلة: التنافس.

الشيخ: التنافس، نعم. حين يقول: لا تتغالوا, يعني: لا يغالي بعضكم بعضاً, بمعنى: أن كل إنسان ينظر للآخر, يقول: فلان كفن ميته في كفن سعره كذا.. مائة ريال, فأنا أريد أن أكون أحسن منه فأكفن ميتي في مائتي ريال, وهذا ما يسميه علماء اللغة -ما يكون يعني: بين طرفين-: نوع من المفاعلة أو المغالبة بين طرفين, مثل المضاربة والمساباة والمساعدة وغيرها, مما يعني: أن كل طرف ينافس الطرف الآخر فيها, ومرده للمعنى الأول كما ذكرت: (لا تغالوا), وهناك طبعاً ألفاظ أخرى.

?(لا تغالوا في الكفن)، والكفن هنا: اسم لما يكفن ويلف به الميت, وهو بفتح الكاف والنون, والمصدر الكفْن بسكون الفاء, وهو من كفَن يكفِنُ كفْنَاً, والكفن معناه: التغطية, من معاني الكفن في اللغة: التغطية؛ وذلك لأن الكفن يغطى ويلف به جسد الميت, وقد أصبح هذا اسماً شائعاً معروفاً له لا يحتاج إلى مزيد بيان.

(فإنه يسلب سلباً سريعاً) مرجع الضمير في (إنه) إلى الكفن.

وقوله: (يسلب) هذا نسميه مبني للمجهول, يعني: الكفن يسلب, من الذي يسلبه؟

إما الأرض أو الدود؛ لأنه يتآكل مع الوقت وينتهي, وهذا هو الذي عليه أكثر الشراح, أن المقصود أن الكفن يذهب بسرعة, فالمغالاة فيه لا فائدة منها, بل هي من إضاعة المال, فهذا الكفن يوضع في التراب ويتآكل سريعاً, حتى لو أنك أتيته بعد فترة وجيزة لم تجد له أثراً, وبدأ -أيضاً- الدود يأكل جسد الميت.

وهنا نذكر القصة التي وقعت لأحد الشعراء لما دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعد ولايته الخلافة, وقد تسامع الناس أن عمر يعطي الفقراء ويمنع الشعراء, فبدأ الشعراء يتقربون إلى عمر بن عبد العزيز بالمعاني التي تروقه, وقد ولي الخلافة فزهد في الدنيا, فجاءه أحد الشعراء ووقف بين يديه, وأنشد:

وبينما المرء أمسى ناعماً جذلاً في أهله معجباً بالعيش ذا أنق

غراً أتيح له من حينه عرض فما تلبث حتى مات كالصعق

ثمة أضحى ضحى من غب ثالثة مقنعاً غير ذي روح ولا رمق

يبكي عليه وأدنوه لمظلمة تعلى جوانبها بالترب والخرق

فما تزود مما كان يجمعه إلا حنوطاً وما واراه من خرق

وغير نفحة أعواد تشب له وقل ذلك من زاد لمنطلق

فبكى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حتى أخضل لحيته.

فهذا هو المعنى الأول, أنها تسلب سلباً سريعاً يعني: تتآكل وتنتهي, ولهذا في بعض الروايات قال: ( فإنه يُسلبه سلباً سريعاً ) بزيادة هاء الضمير, (يسلبه)، وعلى هذا يكون الضمير الأول (فإنه) يرجع إلى الميت, يعني: الميت يسلب منه كفنه, كأنه يؤخذ منه, حتى لو كان هذا الميت ملكاً عظيماً أو إمبراطوراً أو -يعني- ضخماً أو عزيزاً أو تاجراً أو قوياً في بدنه؛ فإنه في قبره غير قادر على أن يحمي نفسه حتى من الدود, ويسلبه الدود كل شيء حتى لباسه, بل حتى نفسه وأعضاءه وجسده، فالرواية الأخرى: ( فإنه يسلبه ), يعني: الميت يسلب ثوبه وكفنه.

المعنى الثاني: وقد ذكره غير واحد وإن كان فيه غرابة: يسلب يعني: يسلبه اللصوص, وقالوا: إن اللص إذا عرف أن الكفن عزيز وغال فإنه لا يبالي أن ينبش القبر وأن يأخذ الكفن أو يسرقه, فيبيعه لمن يتخذه كفناً آخر أو لغير ذلك، والأمر يسير على كل حال.

(يسلب سلباً سريعاً), يعني: غير بطي, وإنما في أيام وليال.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4737 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4383 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4202 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4083 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4036 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4011 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3963 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3910 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3890 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3871 استماع