شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الاستسقاء - حديث 535-538


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

رقم هذا الدرس: (188)، من سلسلة شرح بلوغ المرام، وهذا يوم الأربعاء (15) من شهر جمادي الأولى من سنة (1426هـ).

باب صلاة الاستسقاء: وفي صلاة الاستسقاء حوالي أحد عشر حديثاً، سوف نأتي اليوم على أربعة أحاديث منها تقريباً، وبإذن الله تعالى نكمل الباقي في يوم غد.

الحديث الأول منها كما يقول المصنف رحمه الله: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد؛ لم يخطب خطبتكم هذه )، يقول المصنف: رواه الخمسة وصححه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان .

تعريف الاستسقاء

أولاً: فيما يتعلق بالاستسقاء، معناه في اللغة: هو طلب السقيا، طلب الماء.

وفي الشرع: هو طلب الغيث من الله عز وجل إذا قحط المطر وأجدبت الأرض، وقد ورد في السنة الاستسقاء على ثلاثة أنحاء:

الأول: وهو المشهور؛ أن يخرج الإمام والناس إلى مصلى العيد أو الصحراء، ويخطب بهم ويصلي ويدعو، وهذا ما سوف نعرض له اليوم.

الثاني: أن يخرج بهم ويدعو من غير صلاة، وهذا أيضاً ورد عن جماعة من الصحابة، وهو ثابت.

الثالث: أن يدعو بمناسبة، مثل أن يدعو في وقت صلاة الجمعة، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس رضي الله عنه، وكل هذه الصيغ فيها طلب الاستسقاء وطلب الغيث.

تخريج الحديث

في حديث ابن عباس رضي الله عنه أولاً: عندنا ما يتعلق بالتخريج:

فالمصنف يقول: رواه الخمسة، وسبق معنا أن الخمسة هم: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، فهؤلاء الخمسة.

الأربعة أصحاب السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، رووا حديث ابن عباس في أبواب صلاة الاستسقاء.

والإمام أحمد رواه في مسنده في مسند ابن عباس رضي الله عنه.

والحديث أيضاً رواه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم وأبو عوانة والبيهقي والدارقطني وغيرهم.

في سند الحديث قصة، وهي عن هشام بن إسحاق بن أبي كنانة عن أبيه قال: أرسلني أحد الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن صلاة الاستسقاء، فقال ابن عباس : ما له لا يسألني؟ ثم قال له ابن عباس : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً ) إلى آخر الحديث.

وكان هذا الأمير هو الوليد بن عقبة، وربما لم يسأل ابن عباس بسبب جفوة بينهما، فأحب أن يسأله بطريق غير مباشر.

وفي هذا الإسناد هشام بن إسحاق كما ذكرت لكم، وقد وثقه ابن حبان ذكره في الثقات، وسئل عنه الإمام أبو حاتم الرازي صاحب الجرح والتعديل فقال: شيخ، وهي عنده من أدنى درجات التعديل، ولذلك يمكن أن يقال: إن هشاماً هذا فيه جهالة يسيرة، وإن كان روى عنه أهل السنن .

وأما أبوه فهو ثقة، ولذلك صحَّح هذا الحديث جمع كما ذكره المصنف رحمه الله عن الترمذي وأبي عوانة، والحاكم، وكذلك صححه ابن حبان وابن خزيمة حيث خرجاه في صحيحيهما.

معاني ألفاظ الحديث

ألفاظ الحديث:

قوله رضي الله عنه: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم )، يعني: خرج إلى المصلى، والمقصود: خروجه إلى الصحراء، فإن صلاة الاستسقاء غالباً ما تكون في مصلى العيد؛ لكثرة الناس إليها، وتوحدهم .

( متواضعاً )، التواضع: هو أن يضع الإنسان من قدر نفسه، والمقصود هنا: الانكسار لله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو اللائق بحال الحاجة والمسألة والدعاء.

( متبذلاً )، التبذل له في اللغة معنيان، نريد أن نعرف أيهما المراد في الحديث:

من معاني التبذل: تواضع الإنسان في ملبسه، أي: أن يلبس الإنسان ملابس رثَّة غير معتنىً بها، لا يختار الملابس الجميلة، وهذا معروف عند أهل اللغة، يقولون: فلان خرج متبذلاً أو خرج في ثياب البذلة، ثياب البذلة يعني: الثياب التي يشتغل فيها، إذا كان الإنسان متبذلاً في بيته مثلاً: يقوم ويقعد ويضاحك الأطفال، ويدخل ويخرج ويتعرض لأشياء كثيرة تؤثر على ثيابه، فهذه تسمى ثياب البذلة، أو ثياب المهنة التي يشتغل فيها، بخلاف (البدلة)، نحن نقول أحياناً: البدلة، ونعني بالبدلة: أن يكون عند الإنسان قطعتان من الثياب إزار ورداء، ويكونان بصفة واحدة، يعني: يكون بينهما تشاكل -في الإزار والرداء- وهذا ما كان يسمى عند السابقين بالحلة، خرج أبو ذر وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فهذه حلة، أما البذلة فالمقصود بها: ثوب المهنة.

المعنى الثاني في التبذل: الإنسان الذي لا يتصاون عن المعصية، يعني: إذا كان الإنسان مجاهراً بالخطأ والمعاصي وتجده مثلاً: لا يبالي بالناس يقال: فلان متبذل.

باليقين المقصود في هذا الحديث أيهما؟ المقصود الأول، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في ثياب مهنته، ولم يعتن بلبس أحسن الثياب؛ لأنه هو المناسب لمقام التضرع وإظهار الحاجة والافتقار.

قوله: ( متخشعاً )، والخشوع مأخوذ من السكون، تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت:39]، وفي الآية الأخرى: هَامِدَةً [الحج:5]، فالخاشع هو الساكن، هذا معناه هنا، معنى الخشوع هو السكون، وهو أيضاً مناسب للمقام.

( مترسلاً )، الترسل هو الهدوء وعدم الاستعجال أو السرعة، فهذا المعنى.

( متضرعاً )، التضرع هو الدعاء وإظهار الحاجة والمسكنة .

فذكر ابن عباس رضي الله عنه هذه الصفات الخمس التي كلها تدل على أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذل وانكسار لله سبحانه وتعالى، ولم يعتن كما هي الحال مثلاً في العيد بلبس أحسن الملابس، وإن كان يشرع للإنسان أن تكون ثيابه حسنة ونظيفة ولو لم تكن ثياباً عالية وراقية، وكذلك أن يكون بدنه طيباً وخالياً من الروائح، ولهذا يقول كثير من الناس باستحباب الغسل للتجمعات العامة كالعيد والكسوف والاستسقاء وغيرها.

قال: ( فصلى ركعتين كما يصلي في العيد )، قوله: (كما يصلي في العيد) هذه تحتمل وجهين:

تحتمل صفة الصلاة، وأن يكون صلى كصلاة العيد. يعني: يكون كبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً.

وتحتمل أن تكون تأكيداً لكون الصلاة ركعتين فقط، يعني: كصلاة العيد من حيث العدد.

(لم يخطب خطبتكم هذه)، وهذا أيضاً يحتمل وجهين:

الوجه الأول: أنه لم يخطب، فيكون ابن عباس أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ولم يخطب.

والوجه الثاني: أن لا يكون ابن عباس قصد نفي الخطبة، ولكن قصد نفي الخطبة المعهودة، وهذا أقرب، خصوصاً أن الرسالة كانت لأمير، وبالذات للوليد بن عقبة، فأراد ابن عباس أن يقول: إن تطويلكم وتشقيقكم للكلام فيما لا فائدة منه ولا جدوى من ورائه فيه إشغال للناس بما لم تأت به السنة، وإنما يقتصر في الخطبة على الدعاء والتضرع وما كان مناسباً للمقام.

(ورواه الخمسة) ذكرنا ما معنى الخمسة.

أقوال العلماء في مشروعية صلاة الاستسقاء

حديث ابن عباس رضي الله عنه فيه أكثر من مسألة:

المسألة الأولى: ما يتعلق بصلاة الاستسقاء، ما هو حكمها؟

وفي صلاة الاستسقاء قولان مشهوران:

القول الأول: استحباب صلاة الاستسقاء وأدلته

الأول: قول جمهور أهل العلم، مذهب الصحابة رضي الله عنهم وجمهور التابعين والأئمة المتبوعين، ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم؛ أنه يستحب أن يصلي للاستسقاء صلاةً على وفق ما ورد في السنة بعد ارتفاع الشمس مثل صلاة العيد، ويدعو بها.

وأدلة هذا القول باستحباب صلاة الاستسقاء كثيرة:

منها حديث الباب -حديث ابن عباس رضي الله عنه- وقد ذكرنا من خرجه ومن صححه، وهذا الحديث فيه التصريح والنص بأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لصلاة الاستسقاء، ودعا وتضرع لله عز وجل، إضافة إلى الصلاة كما سوف نذكره.

أيضاً من أدلة مشروعية صلاة الاستسقاء: ما رواه الشيخان عن عبد الله بن زيد بن عاصم، وليس هو صاحب الأذان : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بهم إلى المصلى فاستغفر، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة ).

وحديث عبد الله بن زيد بن عاصم يروى عن عباد بن تميم عن أبيه، وهو بكل حال في الصحيحين، أحياناً يقال: حديث عباد بن تميم، فبعض الناس يظن أن هذا حديث وهذا حديث وهما في النهاية حديث واحد، هو حديث عبد الله بن زيد بن عاصم .

طبعاً حديث عبد الله بن زيد بن عاصم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج، وفيه أنه صلى، وفيه أنه استغفر، والاستغفار إشارة إلى الدعاء والسؤال، فهذا أيضاً دليل على مشروعية صلاة الاستسقاء.

الدليل الثالث: ما رواه الشيخان أيضاً -البخاري ومسلم - عن عبد الله بن يزيد الخطمي رضي الله عنه: ( أنه خرج هو والبراء بن عازب وزيد بن أرقم، فقام عبد الله بن يزيد على رجليه من غير منبر واستغفر، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة ).

وهذا الحديث أيضاً دليل على ما دل عليه حديث عبد الله بن زيد، ففيه أن هؤلاء الصحابة وهم عبد الله بن يزيد الخطمي والبراء بن عازب وزيد بن أرقم خرجوا بالناس -يعني وليس هم فقط- وإنما المقصود مع أهل العراق، وأنهم صلوا ودعوا.

فهذه الأحاديث وغيرها كثير يدل على مشروعية الخروج لصلاة الاستسقاء.

وطبعاً الباب فيه أحاديث كثيرة، لكن نحن ذكرنا أصحها مثل هذه الأحاديث.

أيضاً: حديث عائشة -وسوف يأتي بعد قليل- وهو عند أبي داود، وفيه الدعاء والذكر الطويل، فهو دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم واعدهم يوماً يخرجون فيه، ثم خرج إلى المصلى وصعد المنبر وذكر الله تعالى، ثم تضرع وسأل الله نزول الغيث.

فهذه أربعة أحاديث كلها إما أحاديث في الصحيحين، أو أحاديث لا بأس بإسنادها، تدل على مشروعية الاستسقاء، وهذا ما ذهب إليه جماهير أهل العلم كما ذكرنا.

طبعاً توجد أحاديث أخرى مثل أحاديث عن أبي هريرة وعن حريث بن عمرو وعن عائشة رضي الله عنها، لكن في أسانيدها ضعف؛ ولهذا أضربت عنها؛ لأن ما ذكرناه يغني.

القول الثاني: عدم مشروعية صلاة الاستسقاء وأدلته

القول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة والنخعي، قالوا: بأنه لا يشرع صلاة الاستسقاء، قالا: بأنه لا يشرع للاستسقاء صلاة.

واحتجا أولاً بالقرآن كما في قصة وسورة نوح، أنه قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، ولم يذكر فيها الصلاة، وإنما ذكر الاستغفار.

فقالوا: يمكن أن يخرج ويستغفر ويدعو ولا يصلي، ونحن ذكرنا أن هذه هي إحدى الصيغ الواردة، لكن لا يمنع ثبوت هذه الصيغة من ثبوت غيرها، إذاً هذا هو دليلهم الأول.

كذلك استدلوا بحديث أنس في صلاة الجمعة، وهو في الصحيحين: لما جاء أعربي في الأسبوع الأول وقال: ( يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه واستسقى، فنشأت سحابة مثل الترس حتى عمت، ولم يأت أحد إلا حدث بالمطر والجود، فلما كان من الأسبوع الثاني جاء رجل وقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا -يعني: السماء- فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، فكان صلى الله عليه وسلم لا يشير بيده إلى جهة إلا زال السحاب وتفرق، فطلعت الشمس ).

فقالوا: هذا دليل أيضاً على أن الاستسقاء ليس له صلاة تخصه، وإنما يكون في الجمعة وغيرها.

كذلك استدلوا بأحاديث مشابهة لحديث أنس عن جابر وابن عباس وآبي اللحم وغيرهم في مثل ما سبق، وقد ذكر العيني في شرح البخاري نحواً من ستة عشر حديثاً وأثراً عن بعض الصحابة تدل على ما ذكرناه من أنه يخرج يدعو ولا يصلي.

والراجح في هذه المسألة ما هو؟

مداخلة:...

الشيخ: نعم، الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور: من أنه يستحب أن يخرج الإمام ويصلي بالناس ويدعو، وهذا لا يعارض أن يدعو في الجمعة أو غيرها، أو يخرج أحياناً فيدعو من غير صلاة، فهذه كلها أضرب وطرائق في السنة.

هذه المسألة الأولى ما يتعلق بحكم صلاة الاستسقاء.

صفة صلاة الاستسقاء

هناك مسألة أخرى مهمة، وهي صفة صلاة الاستسقاء:

بعدما تبين أنها مشروعة ومستحبة، يأتي السؤال: ما هي صفتها؟ وهذه فيها إشكال كبير في الواقع، ما هي صفة صلاة الاستسقاء؟

أولاً: صلاة الاستسقاء ركعتان باتفاق العلماء، بإجماعهم أنها ركعتان.

وهذا منصوص في حديث ابن عباس وفي حديث عبد الله بن زيد، وفي حديث عبد الله بن يزيد الخطمي، وفي حديث أبي هريرة وغيرهم، فهم مجمعون على أن صلاة الاستسقاء ركعتان، لكنهم مختلفون جداً في صفة هذه الصلاة، وهو اختلاف محدود -تقريباً- في موضوع التكبير.

ولذلك كان القول الأول: أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، يكبر فيها سبع تكبيرات في الأولى بعد تكبيرة الإحرام، وخمساً في الثانية، وهذا مذهب الإمام الشافعي وأحمد في أحد قوليه وفي ظاهر مذهبه، وأصحاب أبي حنيفة كـأبي يوسف ومحمد بن الحسن والظاهرية وغيرهم.

واستدل هؤلاء بحديث ابن عباس رضي الله عنه في قوله: ( فصلى ركعتين مثل صلاة العيد ).

وقالوا: إن ابن عباس صرح بأنهما ركعتان، ولم يكن بحاجة إلى تأكيد أنهما كصلاة العيد إلا أنه يقصد معنىً زائداً، وهو أنها كصلاة العيد في صفتها بالتكبيرات.

وفي الباب أحاديث واهية لا يحتج بها.

القول الثاني: أن صلاة الاستسقاء كالصلاة العادية، يعني: أنها ركعتان ولا زيادة فيها بالتكبير، بل يكبر تكبيرة واحدة للإحرام، وهذا أيضاً هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب المالكية وبعض أئمة الحديث.

ودليلهم على أنه يصلي ركعتين كالنافلة من غير زيادة تكبير:

أولاً: حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين فإنه قال: ( ثم صلى ركعتين )، ولم يذكر زيادة على ذلك، وهو بدون شك أصح من حديث ابن عباس ؛ لماذا؟ لأنه متفق عليه، بينما حديث ابن عباس قلنا: إن فيه هشام بن إسحاق وفيه جهالة يسيرة.

فحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين، وفيه أنه قال: ( ثم صلى ركعتين )، وهذا نوع من البيان في وقت الحاجة، فهو إجمال يدل على أنه ليس في الركعتين زيادة على ما هو معروف، وإلا لبينه رضي الله عنه.

وهكذا أيضاً قصة عبد الله بن يزيد والبراء وزيد بن أرقم ؛ فإنه صلى ركعتين، ولم يذكر أنه كبر فيهما، والحديث أيضاً أقوى من حديث ابن عباس ؛ لأنه متفق عليه.

ولذلك ذهب داود الظاهري إلى التخيير، وقال: إن هذا سنة وهذا سنة، فإن شاء كبر في صلاة الاستسقاء وإن شاء صلى ركعتين من غير تكبير، والأمر في ذلك واسع؛ لأن التكبير حتى في العيد سنة، إن فعله فحسن، وإن تركه فلا شيء عليه.

وفيما يتعلق بصلاة الاستسقاء فإنه لم يثبت دليل خاص صريح في التكبير، وأقوى ما تمسك به هؤلاء هو حديث ابن عباس في قوله: ( كصلاة العيد ).

وهذا الاستدلال قلنا: يستشكل من ناحيتين:

أولاً: أن الأحاديث الأخرى أقوى منه، يعني: حديث ابن عباس قلنا: إن فيه ضعفاً يسيراً؛ لأن هشام بن إسحاق فيه جهالة يسيرة، هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني: أنه ليس صريحاً أيضاً في التكبيرات؛ لأنه قال: ( كصلاة العيد )، فيحتمل أن يكون مقصوده تأكيد أنهما ركعتان، ويحتمل مثلما قال أبو عمر : أن يكون مقصوده مثل صلاة العيد في الوقت؛ أنها بعد ارتفاع الشمس أو ما شاء الله، أو يحتمل أن يكون في قدر الصلاة وطولها، أو فيما يقرأ، فليس صريحاً في التكبيرات.

ولهذا نقول: إن الأقرب والله أعلم، أنه لا يشرع أو لا يثبت في صلاة الاستسقاء تكبير، ولكن لو كبر فالتكبير ذكر، ولو جهر الإمام بالتكبير وكبر الناس وراءه فلا حرج في ذلك، خصوصاً وأن هذا قول جماعة كثيرة من أهل العلم كما ذكرنا.

فوائد الحديث

في هذا الحديث أيضاً مجموعة من الفوائد، حديث ابن عباس

رضي الله عنه. منها: أولاً: مشروعية الخروج للاستسقاء، وهذا محل إجماع كما ذكره ابن رشد

وغيره، محل إجماع حتى عند أبي حنيفة

رضي الله عنه، فهو يرى الخروج ولكنه لا يرى خصوص الصلاة. ومن فوائد الحديث: صلاة الاستسقاء، وأنها ثابتة كما هو قول الجمهور أيضاً. وفيه: صفة الخروج للاستسقاء، وأنه يستحب للناس أن يخرجوا بسكينة وانكسار، وتواضع وتخشع، وتضرع وتبذل. ويمكن أن يؤخذ منه دليل لبعض الفقهاء فيما ذكروه من مشروعية التقدم بعمل صالح قبل الاستسقاء، فإن كثيراً من الفقهاء ذكروا أنه يستحب أن يصوم قبله، وآخرون ذكروا أنه يستحب أن يتصدق قبله بما تيسر. ولا شك أن الصوم مشروع والصدقة مشروعة في العموم، وأيضاً التقديم بين يدي سؤال الله عز وجل بمثل هذه الأعمال الصالحة، فهو أمر حسن وإن لم يثبت بخصوصه شيء. أيضاً من الفوائد: بيان أسباب إجابة الدعاء، فإن الدعاء عبادة: (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ))[غافر:60]، وأعظم أسباب الإجابة في الدعاء هو صدق اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وصدق الانكسار بين يديه، ولهذا كان الله عز وجل لا يخيب سؤال المستغيثين المضطرين، حتى إنه يجيب سبحانه دعاء المشركين أحياناً إذا كانوا في الضرورة لصدق لجوئهم إليه، (( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ))[العنكبوت:65]. فمن أعظم بل أعظم أسباب إجابة الدعاء الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى بالقلب، والاضطرار إليه. وكذلك من أسباب الإجابة أن يدعو الإنسان وهو موقن بالإجابة، ومؤمِّل لله عز وجل. من الفوائد أيضاً: أن صلاة الاستسقاء ركعتان، وقد ذكرنا الإجماع على ذلك. منها: مشروعية تخفيف الخطبة، من أين عرفنا هذا؟ من قوله: ( لم يخطب مثل خطبتكم هذه )، فهذا دليل على مشروعية تخفيف الخطبة في الاستسقاء، بل قال كثير من أهل العلم: إنه لم يثبت للاستسقاء خطبة، بمعنى: أن كلمة (خطبة) لم تثبت في شيء من النصوص في الاستسقاء، وإنما ورد فيه ماذا؟ استغفر ودعا، في حديث عائشة

رضي الله عنها ذكرت ماذا قال، إنما لفظ (خطبة) لم يثبت في شيء من الروايات. فنقول: إنها خطبة ولكنها خفيفة وقصيرة، وغالب ما فيها هو الدعاء والمسألة، ولهذا ابن عباس

قال: ( لم يخطب مثل خطبتكم هذه ). أيضاً من الفوائد: أن الاستسقاء صلاة جهرية، وسوف يأتي هذا في حديث عبد الله بن زيد

، ولكن نأخذ من هذا كونها صلاة جهرية، أنها صلاة نهارية تؤدى في النهار قبل الزوال عند جماهير أهل العلم، وأن لها خطبة يسيرة، وما كان له خطبة فالصلاة فيه جهر أيضاً.

أولاً: فيما يتعلق بالاستسقاء، معناه في اللغة: هو طلب السقيا، طلب الماء.

وفي الشرع: هو طلب الغيث من الله عز وجل إذا قحط المطر وأجدبت الأرض، وقد ورد في السنة الاستسقاء على ثلاثة أنحاء:

الأول: وهو المشهور؛ أن يخرج الإمام والناس إلى مصلى العيد أو الصحراء، ويخطب بهم ويصلي ويدعو، وهذا ما سوف نعرض له اليوم.

الثاني: أن يخرج بهم ويدعو من غير صلاة، وهذا أيضاً ورد عن جماعة من الصحابة، وهو ثابت.

الثالث: أن يدعو بمناسبة، مثل أن يدعو في وقت صلاة الجمعة، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس رضي الله عنه، وكل هذه الصيغ فيها طلب الاستسقاء وطلب الغيث.

في حديث ابن عباس رضي الله عنه أولاً: عندنا ما يتعلق بالتخريج:

فالمصنف يقول: رواه الخمسة، وسبق معنا أن الخمسة هم: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، فهؤلاء الخمسة.

الأربعة أصحاب السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، رووا حديث ابن عباس في أبواب صلاة الاستسقاء.

والإمام أحمد رواه في مسنده في مسند ابن عباس رضي الله عنه.

والحديث أيضاً رواه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم وأبو عوانة والبيهقي والدارقطني وغيرهم.

في سند الحديث قصة، وهي عن هشام بن إسحاق بن أبي كنانة عن أبيه قال: أرسلني أحد الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن صلاة الاستسقاء، فقال ابن عباس : ما له لا يسألني؟ ثم قال له ابن عباس : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً ) إلى آخر الحديث.

وكان هذا الأمير هو الوليد بن عقبة، وربما لم يسأل ابن عباس بسبب جفوة بينهما، فأحب أن يسأله بطريق غير مباشر.

وفي هذا الإسناد هشام بن إسحاق كما ذكرت لكم، وقد وثقه ابن حبان ذكره في الثقات، وسئل عنه الإمام أبو حاتم الرازي صاحب الجرح والتعديل فقال: شيخ، وهي عنده من أدنى درجات التعديل، ولذلك يمكن أن يقال: إن هشاماً هذا فيه جهالة يسيرة، وإن كان روى عنه أهل السنن .

وأما أبوه فهو ثقة، ولذلك صحَّح هذا الحديث جمع كما ذكره المصنف رحمه الله عن الترمذي وأبي عوانة، والحاكم، وكذلك صححه ابن حبان وابن خزيمة حيث خرجاه في صحيحيهما.

ألفاظ الحديث:

قوله رضي الله عنه: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم )، يعني: خرج إلى المصلى، والمقصود: خروجه إلى الصحراء، فإن صلاة الاستسقاء غالباً ما تكون في مصلى العيد؛ لكثرة الناس إليها، وتوحدهم .

( متواضعاً )، التواضع: هو أن يضع الإنسان من قدر نفسه، والمقصود هنا: الانكسار لله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو اللائق بحال الحاجة والمسألة والدعاء.

( متبذلاً )، التبذل له في اللغة معنيان، نريد أن نعرف أيهما المراد في الحديث:

من معاني التبذل: تواضع الإنسان في ملبسه، أي: أن يلبس الإنسان ملابس رثَّة غير معتنىً بها، لا يختار الملابس الجميلة، وهذا معروف عند أهل اللغة، يقولون: فلان خرج متبذلاً أو خرج في ثياب البذلة، ثياب البذلة يعني: الثياب التي يشتغل فيها، إذا كان الإنسان متبذلاً في بيته مثلاً: يقوم ويقعد ويضاحك الأطفال، ويدخل ويخرج ويتعرض لأشياء كثيرة تؤثر على ثيابه، فهذه تسمى ثياب البذلة، أو ثياب المهنة التي يشتغل فيها، بخلاف (البدلة)، نحن نقول أحياناً: البدلة، ونعني بالبدلة: أن يكون عند الإنسان قطعتان من الثياب إزار ورداء، ويكونان بصفة واحدة، يعني: يكون بينهما تشاكل -في الإزار والرداء- وهذا ما كان يسمى عند السابقين بالحلة، خرج أبو ذر وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فهذه حلة، أما البذلة فالمقصود بها: ثوب المهنة.

المعنى الثاني في التبذل: الإنسان الذي لا يتصاون عن المعصية، يعني: إذا كان الإنسان مجاهراً بالخطأ والمعاصي وتجده مثلاً: لا يبالي بالناس يقال: فلان متبذل.

باليقين المقصود في هذا الحديث أيهما؟ المقصود الأول، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في ثياب مهنته، ولم يعتن بلبس أحسن الثياب؛ لأنه هو المناسب لمقام التضرع وإظهار الحاجة والافتقار.

قوله: ( متخشعاً )، والخشوع مأخوذ من السكون، تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت:39]، وفي الآية الأخرى: هَامِدَةً [الحج:5]، فالخاشع هو الساكن، هذا معناه هنا، معنى الخشوع هو السكون، وهو أيضاً مناسب للمقام.

( مترسلاً )، الترسل هو الهدوء وعدم الاستعجال أو السرعة، فهذا المعنى.

( متضرعاً )، التضرع هو الدعاء وإظهار الحاجة والمسكنة .

فذكر ابن عباس رضي الله عنه هذه الصفات الخمس التي كلها تدل على أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذل وانكسار لله سبحانه وتعالى، ولم يعتن كما هي الحال مثلاً في العيد بلبس أحسن الملابس، وإن كان يشرع للإنسان أن تكون ثيابه حسنة ونظيفة ولو لم تكن ثياباً عالية وراقية، وكذلك أن يكون بدنه طيباً وخالياً من الروائح، ولهذا يقول كثير من الناس باستحباب الغسل للتجمعات العامة كالعيد والكسوف والاستسقاء وغيرها.

قال: ( فصلى ركعتين كما يصلي في العيد )، قوله: (كما يصلي في العيد) هذه تحتمل وجهين:

تحتمل صفة الصلاة، وأن يكون صلى كصلاة العيد. يعني: يكون كبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً.

وتحتمل أن تكون تأكيداً لكون الصلاة ركعتين فقط، يعني: كصلاة العيد من حيث العدد.

(لم يخطب خطبتكم هذه)، وهذا أيضاً يحتمل وجهين:

الوجه الأول: أنه لم يخطب، فيكون ابن عباس أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ولم يخطب.

والوجه الثاني: أن لا يكون ابن عباس قصد نفي الخطبة، ولكن قصد نفي الخطبة المعهودة، وهذا أقرب، خصوصاً أن الرسالة كانت لأمير، وبالذات للوليد بن عقبة، فأراد ابن عباس أن يقول: إن تطويلكم وتشقيقكم للكلام فيما لا فائدة منه ولا جدوى من ورائه فيه إشغال للناس بما لم تأت به السنة، وإنما يقتصر في الخطبة على الدعاء والتضرع وما كان مناسباً للمقام.

(ورواه الخمسة) ذكرنا ما معنى الخمسة.

حديث ابن عباس رضي الله عنه فيه أكثر من مسألة:

المسألة الأولى: ما يتعلق بصلاة الاستسقاء، ما هو حكمها؟

وفي صلاة الاستسقاء قولان مشهوران: