خطب ومحاضرات
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة - حديث 474-476
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اليوم السبت الأول من شهر جمادى الأولى من سنة (1425هـ)، ورقم هذا الدرس (73) من أمالي شرح بلوغ المرام، ضمن الدورة العلمية المكثفة الثالثة المنعقدة بجامع الراجحي ببريدة والذي ينظمها مكتب الدعوة.
عندنا اليوم ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول: رقم الحديث: (449) يقول المصنف رحمه الله تعالى: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته)، يقول: رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني وإسناده صحيح، لكن قوى أبو حاتم إرساله.
تخريج الحديث
وسند الحديث لابد منه؛ لأننا سوف نحتاجه قليلاً للتعليق على كلام المصنف في قوله: (إسناده صحيح، وقوى أبو حاتم إرساله) فقد رواه هؤلاء وغيرهم من طريق بقية بن الوليد، عن يونس الأيلي، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر .. هكذا إسناده.. عن بقية بن الوليد، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
شواهد الحديث
فهذا حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عند النسائي أيضاً في الباب نفسه، وعند ابن خزيمة، والحاكم، والترمذي، وغيرهم، عن أبي سلمة عن أبي هريرة .
وهناك أيضاً أحاديث أخرى غير حديث أبي هريرة وغير حديث ابن عمر، هناك حديث مرسل: عن سالم بن عبد الله عن رسول الله، وسالم من التابعين، لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فيكون الحديث مرسلاً، وهو بمعنى حديث الباب، وقد ذكره النسائي أيضاً في سننه.
كما أن الباب نفسه: (باب من أدرك ركعة فليضف إليها أخرى) هذا الباب جاء فيه آثار عن جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عمر، يعني: من قوله هو وفتواه، وليس من روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند عبد الرزاق .. وغيره، وأثر آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه أفتى بنحو ذلك كما عند ابن أبي شيبة والبيهقي وابن المنذر .. وغيرهم، وعن أنس بن مالك عند ابن أبي شيبة وجماعة من الصحابة والتابعين الذين أفتوا بأنه إن أدرك ركعة أضاف إليها أخرى من صلاة الجمعة، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه يصلي أربعاً، يتمها أربعاً.
المصنف رحمه الله قال هنا: إسناده صحيح، لكن قوى أبو حاتم إرساله.
أبو حاتم هذا هو: الإمام أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس الحنظلي صاحب كتاب الجرح والتعديل، وهو من أعظم أئمة الحديث وخصوصاً في باب العلل.
ونقصد بالعلل: معرفة العيوب الخفية في الإسناد، يغوصون على العيوب الخفية في الإسناد، مثل: أن يكون الحديث حقيقته أنه مرسل فيغلط بعض الرواة -ولو كان ثقة- فيصله ويذكر صحابياً، أو أن يكون الحديث حقيقته أنه موقوف من كلام أحد الصحابة فيغلط بعض الرواة فيرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون الحديث من رواية صحابي فيغلط راوي وينسبه إلى صحابي آخر، أو يكون في الإسناد تدليس .. أو ما أشبه ذلك من العلل الخفية أو الظاهرة.
فهذا الباب يسمى باب العلل، وله أئمة مختصون من أشهرهم وأعظمهم أبو حاتم، وله كتاب مطبوع، وكذلك الدارقطني له كتاب مطبوع، والإمام أحمد والبخاري، والترمذي .. وغيرهم من الأئمة الذين تخصصوا في هذا الفن.
حتى إن من بعض ما يقولونه، يقول: لكي تعرف أنني أعرف علة الحديث اسألني ثم اذهب واسأل فلاناً وفلاناً من أهل الاختصاص، فإن وجدتنا اتفقنا على هذه العلة فمعنى ذلك أن الكلام صحيح، فنحن مثل الصيرفي -أو الجوهرجي- صاحب الذهب الذي إذا أتيته بالحلي قال لك: هذا مغشوش، بدون أن يحتاج إلى أن يعرِّضه لاختبارات، وإذا ذهبت إلى الثاني والثالث وجدتهم أطبقوا على هذا المعنى، فهكذا هؤلاء بحكم طول معاناتهم للسنة أصبح عندهم حدس وحاسة خفية يدركون بها بسهولة: أن هذا الحديث ليس على وجهه.
على سبيل المثال: حديث الباب الآن، قلنا: إنه من رواية بقية، وبقية رواه عن يونس عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر، فظاهر هذا الحديث أنه ليس فيه كلام، وأن إسناده صحيح، لكن بقية بن الوليد هذا مدلس، وما هو التدليس؟
التدليس هو أن يوهمك الراوي أنه روى هذا الحديث عن فلان، وهو لم يروه عنه مباشرة، وإنما بينه وبينه راوٍ آخر، فهو أسقط هذا الراوي أو طواه، فيقول مثلاً: عن فلان -ما قال: إنه حدثني فلان- بحيث تظن أنه أخذ منه، والواقع أنه ما أخذ منه مباشرة وإنما بواسطة.
فلو سألته: أنت سمعت من فلان؟ قال لك: لا، أنا سمعته ممن سمعه منه، فهذا تدليس!
لكن شر أنواع التدليس ما يسمى بتدليس التسوية.
تدليس التسوية: أن الشيخ أو الراوي يقوم على الإسناد فيحذف الرواة الضعفاء -وليس شيخه فقط- يحذف الرواة الضعفاء في الإسناد كله، سواءً شيخه أو من فوقه إلى الصحابي، يعني: ما بين الصحابي وما بينه هو، إذا وجد راوياً ضعيفاً في الإسناد حذفه، وحذف كلمة (حدثنا) وقال: عن فلان عن فلان عن فلان، فيطلع لك الإسناد ظاهره أنه صحيح.
بقية هذا ممن يدلس ويسوي كما يقول العلماء، يعني: يصنع تدليس التسوية، فلو سألت بقية، وقلت له: هذا الإسناد هل هو بهذا الشكل؟
قال لك: لا، حقيقته أنه فلان أن فلاناً حدثه، فلان ربما أتى باثنين أو ثلاثة من الرواة الضعفاء الذين طواهم وأبعدهم هو عن الإسناد.
وقد يقول قائل: لماذا يصنع هذا؟
أحياناً المنافسة بين الطلاب أو النقل أو ما أشبه ذلك، ليس المقصود أنه يدخل في السنة ما ليس منها؛ لأنه يعرف أن هذه الحيلة لن تنطوي، ولن يترتب عليها إثبات حديث ضعيف، وإنما لأنه لا يريد أن يظهر كما لو روى عن ضعفاء فيلغي هؤلاء ويعرف أن أهل العلم والفقه والخبرة سوف يكتشفون هذا الأمر ولن يأخذوا به.
فإذاً نقول: إن هذا الحديث فيه بقية بن الوليد وهو يدلس ومع التدليس يسوي، طيب!
حكم الأئمة على إسناد الحديث ومتنه
وممن قال هذا أبو حاتم -كما أشار إليه المصنف- والدارقطني وأطال النفس في شرحه في العلل، وأيضاً العقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل، والحافظ ابن حجر كما في كتابه التلخيص الحبير .. وغيرهم من أهل العلم.
أيضاً أبو حاتم ابن حبان صاحب الصحيح، كلهم ذكروا أن الحديث غلط في السند وغلط في المتن.
أما الخطأ في السند فيقولون: إن الصواب أن الحديث ليس من رواية الزهري عن سالم، عن ابن عمر، يقولون: لا، وإنما الصواب أن الحديث من رواية الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة هذا الصواب.
ولعل اللبس هنا حصل بسبب أثر مروي عن ابن عمر، فقد ذكرنا لكم قبل قليل: أن الحديث جاء عن ابن عمر من فتواه هو، فقد يكون التبس عند الراوي الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالفتوى المنسوبة إلى ابن عمر فجعل مكان الموقوف المرفوع ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حقه أن يقفه على ابن عمر، هذا ما يتعلق بالسند.
إذاً: الصواب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة .
أما ما يتعلق بالمتن: ففيه خطأ أيضاً، فإن متن هذا الحديث -كما ذكره المصنف هنا وغيره- متنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها، فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته ).
والعلماء يقولون: إن ذكر (صلاة الجمعة) هنا ليس صحيحاً ولا محفوظاً؛ يعني: ليس هو المرفوع الصحيح الثابت عند أهل العلم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليس محفوظاً.
وإنما المحفوظ: قلنا بالنسبة للإسناد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، المحفوظ هنا: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وهذا القدر صحيح، وسبق أن شرحناه، وهو لا يتعلق بصلاة الجمعة وإنما يتعلق بالوقت: أنه من أدرك ركعة من العصر، -مثلاً- قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك صلاة العصر، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك صلاة الفجر، وحديث أبي هريرة هذا في مسلم وغيره.
إذاً: عرفنا أن الحديث فيه خطأ في الإسناد وفيه خطأ في المتن، والصواب ما ذكرناه عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، ولم يذكر فيه الجمعة، فذكر الجمعة هنا في الحديث غير محفوظ.
هذا ما يتعلق بتخريج الحديث والكلام على إسناده.
معنى قول المصنف: (لكن قوى أبو حاتم إرساله)
وقوله: (قوى إرساله) الإرسال: هو ما يرويه التابعي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يذكر فيه الصحابي، مثل أن يقول -مثلاً- سالم أو غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نعلم أنه لم يلقَ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروِ عنه مباشرة، وإنما بينه وبينه صحابي، وقد يكون بينه وبينه أيضاً تابعي ولم يذكره.
ما تدرك به صلاة الجمعة وأقوال أهل العلم فيها
أو بشكل أفضل دعنا نقول: في الحديث مسألة، وهي: بماذا تدرك صلاة الجمعة؟
هذه المسألة أهم ما فيها ثلاثة أقوال للعلماء:
القول الأول: أنه كما دلّ عليه ظاهر حديث الباب، أن الإنسان إذا أدرك من صلاة الجمعة ركعة أضاف إليها ركعة أخرى وقد تمت صلاته، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه يتمها ظهراً أو يتمها أربعاً، أي: من غير استئناف، ولا يحتاج الأمر إلى نية خاصة .. أو ما شابه ذلك، هذا هو القول الأول وهو مذهب الجمهور، فهو مذهب مالك رحمه الله، والشافعي، وأحمد، ومحمد من الحنفية، وبه قال أكثر العلماء، حتى إن ابن المنذر رحمه الله نسب هذا الحديث إلى جماعة من الصحابة، مثل: ابن مسعود -وذكرنا أثر ابن مسعود - وابن عمر أيضاً -وذكرنا أثر ابن عمر - وأنس -وأشرنا إلى أثر أنس في هذا الباب- وهو مذهب جماعة من التابعين كـسعيد بن المسيب، والأسود، وعلقمة، والحسن، والنخعي، والزهري، ومذهب جماعة من الفقهاء كمن ذكرنا، والأوزاعي إمام أهل الشام، وغيرهم.
والترمذي رحمه الله في صحيحه قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يرون أنه إن أدرك ركعة أتم إليها أخرى، وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً.
استدل هؤلاء بأدلة:
أولاً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة : ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).
وفي لفظ: ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر ).
ودلالة هذا الحديث عندهم ظاهرة، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن إدراك ركعة إدراك للصلاة سواءً في ذلك إدراك وقت الصلاة، أو إدراك حكم الصلاة، أو إدراك فضيلتها.
فدل ذلك على أنه إذا أدرك من الجمعة ركعة واحدة فقد أدرك فضيلة الجمعة -فضيلة الصلاة- وأدرك حكمها بحيث إنه يصليها ثنتين، وأدرك وقتها من باب أولى، فهذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: حديث الباب، وهو صريح في المسألة بأنه إذا أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الجمعة.
ودلالته ظاهرة، لكن يشكل على استدلالهم به ما قلناه: من أن ذكر الجمعة في الحديث غير محفوظ، فيرجع هذا الدليل للدليل الأول.
الدليل الثالث لهم على هذا وهو في نظري دليل قوي: ما نقل عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، كما نقلناه عن ابن عمر رضي الله عنه، وجاء عنه بأسانيد صحيحة عند عبد الرزاق .. وغيره: [ أن ابن عمر رضي الله عنه أفتى: بأن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى ].
وهكذا أنس رضي الله عنه، يقول: [ إن أدركهم جلوساً في صلاة الجمعة صلى أربعاً ]، وحديث أنس عند ابن أبي شيبة وغيره.
وابن مسعود رضي الله عنه نقل عنه أثر في هذا بنحو ما سبق: إنه إن أدرك ركعة صلى اثنتين، وإن أدرك أقل من ذلك فليتمها أربعاً، وحديثه عند عبد الرزاق .. وغيره.
وعمران بن حصين أيضاً له أثر صحيح عند عبد الرزاق : (أن رجلاً سأله وقال له: كيف ترى في رجلٍ فاتته صلاة الجمعة؟ فقال له عمران : لِمَ تفوته صلاة الجمعة؟ فانصرف الرجل كأنه استحيا، فقال عمران رضي الله عنه: أما أنا فلو فاتتني صلاة الجمعة لصليت أربعاً).
إذاً: الدليل الثالث، نستطيع أن نقول: إن الدليل الثالث هو الآثار المنقولة عن جماعة الصحابة، وهي آثار غالبها بأسانيد صحيحة، ولا شك أنهم عملوا بهذا بناءً على فهم صحيح أو سماع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
القول الثاني في المسألة: هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، قال: إنه إذا أدرك التشهد مع الإمام في صلاة الجمعة فقد أدرك الجمعة، يعني: إذا أدرك مع الإمام أقل وقت أو أقل قدر من الصلاة فإنه يتمها ركعتين، حتى قالوا: لو أنه أدركه وهو في آخر سجود السهو -مثلاً- فإنه يتم بعده ركعتين فقط.
فإذا أدرك أقل قدر من الصلاة مع الإمام من صلاة الجمعة أتمها ركعتين، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف والحكم وحماد بن أبي سليمان .. وغيرهم.
وحجة الحنفية على ما ذهبوا إليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا -أو فاقضوا- ).
وهذا أقوى دليل لهم، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر من فاته شيء من صلاته أن يتمه أو يقضيه، وكما يقول الفقهاء: القضاء يحكي الأداء.
ومعنى (القضاء يحكي الأداء) أن الإنسان يقضي الشيء على صفته، إذا قلنا: اقضِ هذا العمل فهو مثلما تؤديه لو أديته في وقته ومناسبته تماماً.
فبناءً على ذلك قالوا: كم فاته من صلاته؟
ركعتان، صلاة الجمعة فاته منها ركعتان، فنقول: يقضي ركعتين أيضاً من دون زيادة، هذا استدلالهم بالحديث، وبطبيعة الحال فإنهم ضعفوا أحاديث الباب كما أشرنا.
القول الثالث في المسألة: أن من فاتته خطبة الجمعة صلى أربعاً حتى لو أدرك الصلاة من أولها مع الإمام وأدرك تكبيرة الإحرام.
وهذا القول منسوب لبعض السلف كـمكحول وعطاء وطاوس ومجاهد .. وغيرهم.
وهذا القول اندرس حتى لا يكاد يوجد من قال به من أهل العلم.
لكن حجتهم قالوا: لأن الخطبتين مقام ركعتين، يعني: صلاة الظهر أربع، وصلاة الجمعة ركعتان وخطبتان، فقالوا: إن الخطبتين مقام الركعتين، فإذا فاتته الخطبتان فلا تجزئه الركعتان من صلاة الجمعة.
واحتجوا لذلك أيضاً: بأن الإجماع منعقد على أن الإمام لو لم يخطب، يعني: لو لم يوجد خطيب أن الناس يصلون ظهراً، فقالوا: كذلك إذا فاتته الخطبة فإنه يصليها أربعاً.
وما ذكره هؤلاء الأئمة مرجوح ومحجوج بما ذكرناه قبل قليل من الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والفتاوى الصحيحة الثابتة عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولذلك نقول: إن القول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ونقلت فيه الفتوى ولم ينقل مخالف من الصحابة فيما أعلم لذلك: أن من أدرك من صلاة الجمعة ركعة واحدة أضاف إليها أخرى -ركعة ثانية- ومن أدرك أقل من ركعة فإنه يتمها أربعاً، وهذا فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة ).
ونحن نقول: إن هذا الحديث عبارة عن قاعدة عامة: أن من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة، وهذه القاعدة يندرج تحتها عدد من المسائل:
مثلاً: يندرج تحتها أنه لو أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، فنقول: إنه حينئذٍ يكون صلى صلاة الفجر في وقتها، وهكذا لو أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس، فإنه يكون أدرك صلاة العصر في وقتها.
كذلك من أفراد هذه المسألة: أنه لو أدرك ركعة من الجماعة مع الإمام -يعني: أدرك الركعة الأخيرة والإمام راكع- فإنه حينئذٍ يكون قد أدرك فضيلة الجماعة، وأدرك مع الفضيلة حكم الجماعة، لاحظ الفضيلة والحكم، ما هو الفرق بين الفضيلة والحكم؟
الفضيلة هي الأجر المترتب على إدراك الجماعة والحكم، أي: حكم الصلاة.
مثلاً: الفضيلة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين أو سبع وعشرين درجة )، فهذه يدركها الإنسان، ليس فقط بالركعة، يدركها ولو بأقل قدر مع الإمام، يعني: لو جئت للإمام قبل أن يسلم ينتظر ويرجى أن تكون أدركت سبعاً وعشرين، أدركت الفضيلة.
لكن الفضيلة غير الحكم؛ فالحكم معناه: أن يكون حكمك حكم الإمام سواء بسواء، مثلاً: إذا كان حكمك حكم الإمام، والإمام صلى الجمعة ركعتين، فأنت تصلي ركعتين مثله، لكن إذا أدركت أقل من ركعة في صلاة الجمعة مع الإمام تدرك الفضيلة لكن لا تدرك الحكم، فيلزمك أربعاً.
وأنا أرى أن هذا الكلام يصلح أن يعمم على مسألة المقيم والمسافر -كمثال- وهذا هو المثال الثالث.
يعني: افرض أنك مسافر وصليت خلف إمام مقيم، يعني: هذا نقل عن جماعة من الأئمة ومالك .. وغيرهم رحمهم الله، قالوا: إنه إذا أدرك ركعة مع الإمام حكمه حكم الإمام، فإذا كان الإمام مقيماً -مثلاً- فيلزمك أن تكمل الصلاة كلها ولو كنت مسافراً، إذا كانت صلاة الظهر وأدركت مع الإمام ركعة فيلزمك أن تأتي بثلاث، إنما لو أدركت أقل من ركعة، أدركت التشهد وأنت مسافر كم تقضي؟
اثنتين، ولا يلزمك أربعاً، يلزمك ركعتين، طبعاً هذا قول، وهو أحد الأقوال في المسألة، وأنا سبق أن بحثت في المسألة، وربما أنا أقول بهذا، بل أقول بما هو أبعد منه في موضوع السفر، وهو: أنه إن أدرك ركعتين تكفيه، وإن أدرك أقل من ذلك أكمل ركعتين.
يعني: لو كنت مسافراً وصليت خلف إمام مقيم، فإن أدركت الصلاة من أولها -ولتكن صلاة العصر مثلاً- إن أدركت الصلاة من أولها يلزمك أربع، هذا واضح، وهو مذهب الجماهير.
الحالة الثانية: لو أدركت ركعتين، كأن أدركت الإمام وهو قائم من التشهد الأول كم يكون أدركت معه؟ ركعتين فقط وأنت مسافر، كم صلاتك؟ ركعتان.
فالذي أختاره: أنه تكفيك الركعتان؛ لأن هذه صلاة المسافر، وأنت لم تختلف مع الإمام، أدركت اثنتين وصليت معه.
الحالة الثالثة: لو أدرك ركعة واحدة، في الحالة هذه تضيف إليها أخرى.
طيب! لو لم يدرك إلا التشهد؟ طبعاً، هذه تكون أشد وضوحاً: أنه في الحالة هذه ليس لك حكم الإمام، وبالتالي فلا إشكال -إن شاء الله- أنك تصلي ركعتين فقط؛ لأنه لا يشملك حكم الإمام في كونه مقيماً وأنت مسافر.
المهم: أن نفرق بين الفضيلة وبين الحكم، هذا هو المقصود في المسألة.
وبكل حال: فالذي نختاره في موضوع صلاة الجمعة هو ما عليه الجمهور وفتيا الصحابة كـابن عمر وابن مسعود وعمران بن حصين وأنس بن مالك .. وغيرهم، وجمهور التابعين كما نقل عنهم، وأكثر الأئمة كـمالك والشافعي وأحمد ومحمد وابن المبارك والأئمة، ونقله الترمذي عن أكثر الفقهاء والعلماء: أنه إن أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه يصليها ظهراً، يصليها أربعاً.
وأما فوائد الحديث فهي لا تخرج عما ذكرنا.
الحديث رواه النسائي كما أشار المصنف في سننه الصغرى المجتبى، في كتاب المواقيت، باب من أدرك ركعة من الصلاة، ورواه أيضاً ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن أدرك ركعة من الجمعة، ورواه الدارقطني أيضاً في كتاب الجمعة: (من أدرك ركعة من الصلاة)، عن ابن عمر كما ذكر المصنف هنا.
وسند الحديث لابد منه؛ لأننا سوف نحتاجه قليلاً للتعليق على كلام المصنف في قوله: (إسناده صحيح، وقوى أبو حاتم إرساله) فقد رواه هؤلاء وغيرهم من طريق بقية بن الوليد، عن يونس الأيلي، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر .. هكذا إسناده.. عن بقية بن الوليد، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
وهناك حديث آخر ممكن أن يقال: إنه شاهد لحديث الباب، أو يقال: إنه في الباب أيضاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث الباب عن ابن عمر .
فهذا حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عند النسائي أيضاً في الباب نفسه، وعند ابن خزيمة، والحاكم، والترمذي، وغيرهم، عن أبي سلمة عن أبي هريرة .
وهناك أيضاً أحاديث أخرى غير حديث أبي هريرة وغير حديث ابن عمر، هناك حديث مرسل: عن سالم بن عبد الله عن رسول الله، وسالم من التابعين، لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فيكون الحديث مرسلاً، وهو بمعنى حديث الباب، وقد ذكره النسائي أيضاً في سننه.
كما أن الباب نفسه: (باب من أدرك ركعة فليضف إليها أخرى) هذا الباب جاء فيه آثار عن جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عمر، يعني: من قوله هو وفتواه، وليس من روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند عبد الرزاق .. وغيره، وأثر آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه أفتى بنحو ذلك كما عند ابن أبي شيبة والبيهقي وابن المنذر .. وغيرهم، وعن أنس بن مالك عند ابن أبي شيبة وجماعة من الصحابة والتابعين الذين أفتوا بأنه إن أدرك ركعة أضاف إليها أخرى من صلاة الجمعة، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه يصلي أربعاً، يتمها أربعاً.
المصنف رحمه الله قال هنا: إسناده صحيح، لكن قوى أبو حاتم إرساله.
أبو حاتم هذا هو: الإمام أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس الحنظلي صاحب كتاب الجرح والتعديل، وهو من أعظم أئمة الحديث وخصوصاً في باب العلل.
ونقصد بالعلل: معرفة العيوب الخفية في الإسناد، يغوصون على العيوب الخفية في الإسناد، مثل: أن يكون الحديث حقيقته أنه مرسل فيغلط بعض الرواة -ولو كان ثقة- فيصله ويذكر صحابياً، أو أن يكون الحديث حقيقته أنه موقوف من كلام أحد الصحابة فيغلط بعض الرواة فيرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون الحديث من رواية صحابي فيغلط راوي وينسبه إلى صحابي آخر، أو يكون في الإسناد تدليس .. أو ما أشبه ذلك من العلل الخفية أو الظاهرة.
فهذا الباب يسمى باب العلل، وله أئمة مختصون من أشهرهم وأعظمهم أبو حاتم، وله كتاب مطبوع، وكذلك الدارقطني له كتاب مطبوع، والإمام أحمد والبخاري، والترمذي .. وغيرهم من الأئمة الذين تخصصوا في هذا الفن.
حتى إن من بعض ما يقولونه، يقول: لكي تعرف أنني أعرف علة الحديث اسألني ثم اذهب واسأل فلاناً وفلاناً من أهل الاختصاص، فإن وجدتنا اتفقنا على هذه العلة فمعنى ذلك أن الكلام صحيح، فنحن مثل الصيرفي -أو الجوهرجي- صاحب الذهب الذي إذا أتيته بالحلي قال لك: هذا مغشوش، بدون أن يحتاج إلى أن يعرِّضه لاختبارات، وإذا ذهبت إلى الثاني والثالث وجدتهم أطبقوا على هذا المعنى، فهكذا هؤلاء بحكم طول معاناتهم للسنة أصبح عندهم حدس وحاسة خفية يدركون بها بسهولة: أن هذا الحديث ليس على وجهه.
على سبيل المثال: حديث الباب الآن، قلنا: إنه من رواية بقية، وبقية رواه عن يونس عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر، فظاهر هذا الحديث أنه ليس فيه كلام، وأن إسناده صحيح، لكن بقية بن الوليد هذا مدلس، وما هو التدليس؟
التدليس هو أن يوهمك الراوي أنه روى هذا الحديث عن فلان، وهو لم يروه عنه مباشرة، وإنما بينه وبينه راوٍ آخر، فهو أسقط هذا الراوي أو طواه، فيقول مثلاً: عن فلان -ما قال: إنه حدثني فلان- بحيث تظن أنه أخذ منه، والواقع أنه ما أخذ منه مباشرة وإنما بواسطة.
فلو سألته: أنت سمعت من فلان؟ قال لك: لا، أنا سمعته ممن سمعه منه، فهذا تدليس!
لكن شر أنواع التدليس ما يسمى بتدليس التسوية.
تدليس التسوية: أن الشيخ أو الراوي يقوم على الإسناد فيحذف الرواة الضعفاء -وليس شيخه فقط- يحذف الرواة الضعفاء في الإسناد كله، سواءً شيخه أو من فوقه إلى الصحابي، يعني: ما بين الصحابي وما بينه هو، إذا وجد راوياً ضعيفاً في الإسناد حذفه، وحذف كلمة (حدثنا) وقال: عن فلان عن فلان عن فلان، فيطلع لك الإسناد ظاهره أنه صحيح.
بقية هذا ممن يدلس ويسوي كما يقول العلماء، يعني: يصنع تدليس التسوية، فلو سألت بقية، وقلت له: هذا الإسناد هل هو بهذا الشكل؟
قال لك: لا، حقيقته أنه فلان أن فلاناً حدثه، فلان ربما أتى باثنين أو ثلاثة من الرواة الضعفاء الذين طواهم وأبعدهم هو عن الإسناد.
وقد يقول قائل: لماذا يصنع هذا؟
أحياناً المنافسة بين الطلاب أو النقل أو ما أشبه ذلك، ليس المقصود أنه يدخل في السنة ما ليس منها؛ لأنه يعرف أن هذه الحيلة لن تنطوي، ولن يترتب عليها إثبات حديث ضعيف، وإنما لأنه لا يريد أن يظهر كما لو روى عن ضعفاء فيلغي هؤلاء ويعرف أن أهل العلم والفقه والخبرة سوف يكتشفون هذا الأمر ولن يأخذوا به.
فإذاً نقول: إن هذا الحديث فيه بقية بن الوليد وهو يدلس ومع التدليس يسوي، طيب!
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 | 4784 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 | 4394 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 | 4213 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 | 4095 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 | 4047 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 | 4021 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 | 3974 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 | 3917 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 | 3900 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 | 3879 استماع |