مشاهدات في يوغسلافيا


الحلقة مفرغة

قال الشيخ: سلمان بن فهد العودة حفظه الله:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

فالمفترض في هذه الليلة، أن المجلس هو من مجالس الأمالي شرح بلوغ المرام وهو المجلس التاسع عشر بعد المائة، ولكنني رأيت أن في الأخبار الجديدة والأحوال التي نقلها لنا فضيلة الدكتور صالح بن محمد السلطان الأستاذ بقسم الفقه بجامعة الإمام بكلية الشريعة فرع القصيم رأيت فيها ما يستوجب أن يسمعه الإخوان غضاً طرياً من فمه، فلذلك كان هذا المجلس ندوة في الحديث عن مشاهدات في يوغسلافيا.

وأريد أن أقدم -أيها الأحبة- برأي أراه وأعتقد أن فيه بشارة كبيرة، وتسرية عن القلوب والنفوس:

ليس صحيحاً أن ما يعانيه المسلمون اليوم في يوغسلافيا أو غيرها أمر جديد غريب لم يمر حقبة من حقب التاريخ. كلا.. بل أزعم أن المسلمين عاشوا منذ سنوات ليست بالبعيدة، عاشوا أوضاعاً أصعب وأشد من الأوضاع التي يعيشونها الآن، بل إن ما نسمعه اليوم من أخبار المسلمين في تلك البلاد أو غيرها ينبئ بخير كثير ينتظر المسلمين في القرون والعقود المقبلة، وأعز هذا الزعم بأمور:-

تمسك المسلمين بدينهم

أولها: أن المسلمين ما لقوا من هذه الحرب الضروس التي يلقونها الآن إلا لأنهم قد تمردوا واستعصوا على التهجين والتدجين والتكفير الذي يحاوله الأعداء، ولو أن المسلمين أعطوا الدنية في دينهم ورضوا أن يتخلوا عن دينهم إلى غير رجعة، لما كان بينهم وبين الكافرين من النصارى واليهود والشيوعيين مشكلة تذكر، ولعاشوا إخواناً في وطنيتهم وفي مصالحهم المشتركة، وفي تربتهم التي توحدهم، ولكن المسلمين قد أصروا على التشبث بدينهم حتى آخر قطرة من دمهم وحتى آخر نفس، ولذلك لقوا ما لقوا من الحرب التي تقول: لو أن هؤلاء المسلمين رضوا بطريق المهادنة للكفار والرضا بما يطلب منهم؛ لما لقوا هذا الأمر، هذا أولا.

الحرب بين النصرانية والإسلام

وثانيها: أن النصارى واليهود وسائر أعداء الدين لو لم يشعروا الآن بأن المسلمين الآن خطر داهم لما قاوموهم بهذه الطريقة الغريبة، فإنك لا تكاد تجد اليوم حرباً أو مشكلة ذات بال في الشرق أو في الغرب، إلا وتجدها مواجهة بين دين الإسلام ودين النصرانية.

الحرب في يوغسلافيا -وهي موضوع الحديث- هي حرب بين الإسلام والنصرانية والحرب التي تدور رحاها الآن في عدد من ولايات الاتحاد السوفيتي مثلاً بين الأرمن والأذاريين هي حرب بين الإسلام والنصرانية، والحرب في بورما والحرب في بلاد العرب هي بين الإسلام والنصرانية.

ولا أعتقد أن النصارى الآن يستطيعون أن يخفوا سمة هذه الحرب أو يلبسوها لبوساً آخر، فهي حرب صليبية ضد الإسلام، وإلا فأي معنى أن تكون تلك الدول التي تنادي بالديمقراطية هي أول من يرضى بذبح الديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية؟ لأنهم يقولون: إن تلك الديمقراطية سوف تكون معبراً وجسراً للأصوليين، ولن تكون في صالحنا في يوم من الأيام، وأي معنى أن تكون الدول التي تنادي بحقوق الإنسان، وتتشدق بحفظ حقوق الإنسان أول من يبصم ويوقع على انتهاك حقوق الإنسان في الجزائر ومصر وتونس بل وإسرائيل وغيرها من البلاد؟!

أي معنى في أن الجمعيات في فرنسا تنتقد تصرفات الحكومة الجزائرية تجاه شعبها، أما الحكومة الفرنسية فتوافق على وضع الديمقراطيةعلى الرف إلى أجل غير مسمى، وتعلن أنها تقر وتؤيد تصرفات المجلس الأعلى بدون تحفظ، ثم تتبعها أمريكا فتؤيد أيضا بدون أي تحفظ جميع التصرفات والقرارات التي اتخذها المجلس الأعلى!

وأي معنى أن تكون المواجهة في بعض البلاد في مصر بين الأقباط وبين المسلمين تُصوَّر على أنها تصرفات من بعض الأصوليين؟؟ وتقوم الدول العلمانية لتقدم للدول الغربية عربوناً على أنها ضد كل ما هو إسلامي، فتقول: إن أجهزة أمنها تلاحق الأصوليين المتطرفين وتعمل على اجتثاث جذورهم، وأنها تسعى إلى حماية حقوق الأقباط والمسيحيين والنصارى، وكأنها تقول للغرب: نحن أكثر منكم إخلاصاً لما تريدون، وأكثر منكم حرباً على الإسلام، وأكثر منكم حماية للآليات، فاطمئنوا فلن تهدأ لنا عين، ولن ينعم لنا بال، ولن يقر لنا قرار إلا بعد أن نقلم أظفار كل من ينتسبون إلى الإسلام والدعوة الإسلامية.

الحرب -الآن- في كل بلاد العالم حرب -كما يعبرون هم- بين الهلال والصليب، ونحن نقول: حرب بين التوحيد والتثليث، حرب بين الإسلام وبين النصرانية ويعجبني أن عدداً من الكتاب الذين هم أبعد ما يكونون عن تمثل هذه المعاني وإدراكها، أصبحوا يدركون الآن بشكل واضح بل ويكتبون بصورة قوية عن حقيقة هذه الحرب، وألفت أنظاركم مثلاً إلى كتابات الدكتور فهمي هويدي والدكتور فهمي هويدي من الكتاب الذين لم نعهد منهم أي نظرة لتعميق مفهوم الولاء والبراء في الإسلام، أو مفهوم الحرب على النصارى، أو أي مفهوم من هذه المفاهيم التي كنا وكان غيرنا يتحدث عنها منذ زمن بعيد، ولكني رأيت كتاباته الأخيرة تنضح بالتركيز على هذا المعنى وإبراز هذه الحقيقة؛ لأنها لم تعد مجرد حقيقة دينية موجودة في النصوص السماوية، كلا، بل أصبحت حقيقة سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية وإعلامية يدركها كل متابع للأحداث والأوضاع والتطورات في العالم، وليس فقط يدركها الذين يقرؤون النصوص القرآنية والنبوية بعمق وإدراك.

ما لقيه المسلمون في الماضي أشد مما يلاقونه اليوم

الأمر الثالث: أن المسلمين واجهوا فيما مضى أشد مما واجهوا الآن على حسب ما تقوله التقارير والإحصائيات، فأنت مثلاً لو قرأت ما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وماذا فعل استالين في المسلمين، لوجدت أنه أجرى الدماء أنهاراً من أهل لا إله إلا الله، بل أقرب مثال يوغسلافيا نفسها -وهي موضوع حديثنا الليلة- ألم تعلم أنه هجَّر من المسلمين اليوغسلاف بعد الحرب العالمية الأولى أكثر من ستة ملايين، أي أكثر من العدد الموجود الآن هجروا إلى تركيا وغيرها من البلاد، وأنه قتل منهم ما يزيد على مائتين وخمسين ألفاً، ولم يطلق طلقة واحدة من المسلمين أنفسهم، ولم يتكلم خطيب واحد آنذاك عن تلك المجازر، ولا عن هذه الهجرة الجماعية، ولا عما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية.

إذاً ليس الفارق أن المسلمين الآن يواجهون ما لم يواجهوا من قبل، ولكن أن المسلمين الآن أصبح لهم عيون يبصرون بها، وآذان يسمعون بها، وألسن يتحدثون بها.

صحيح أن هناك جهوداً كبيرة لسمل تلك العيون وقطع تلك الآذان، ولمحاولة تدمير تلك العيون، ولقطع تلك الألسن، والحيلولة بينها وبين كلمة الحق، نعم.. ولكن العيون تبصر والأذان تسمع، والألسن تتكلم، والمسلمون الآن الفارق بينهم وبين المسلمين قبل ثلاثين وأربعين وخمسين وستين سنة، أن المسلمين آنذاك لم يكونوا يكترثون لما يجري لإخوانهم في أي مكان، ولم يكن هناك من يتحدث عن أحوال المسلمين وما يلاقون، فكان يجري ما يجري في غيبة المسلمين، وفي ظل التجهيل الكامل والقطيعة الكاملة بينهم وبين إخوانهم.

أما اليوم فكل ما يجري إنما يقع على مرأى ومسمع من العالم كله، بما في ذلك المسلمون الذين أصبحوا الآن أكثر وعياً وإدراكاً وتعاطفاً وتحمساً وغيرة، فأصبح المتكلم يتحدث بحرقة، والسامع يستمع بلهفة، وأصبح المسلم الذي يضرب في يوغسلافيا ينادي ويستغيث بالله عز وجل، ثم بإخوانه المسلمين في كل مكان من الأرض، ويدري أنهم يسمعون ويرون، وأنهم يعملون على نصرة إخوانهم بقدر ما يستطيعون.

إذاً هذا هو الفارق، فلا يصيبنك -يا أخي الكريم- شيء من اليأس أو القنوط، وأنت تسمع مثل هذه الأحداث، واعلم أن ما يجري للمسلمين اليوم جرى قبله الكثير الكثير، بل إننا نلمح بوادر تقدم كبير في الواقع الإسلامي الآن، تقدم في التجاوب، وما اجتماعكم هذا إلا نموذج للتجاوب، فإن هذا المجلس لم يقرر إلا البارحة في مثل هذه الدقائق، ولم يكن ثمَّ وقت كافٍ للإعلان عنه، ولا لدعوتكم إليه، ولم نكن نتوقع أننا نجد ولا شيئاً يذكر بالنسبة إلى هذا الجمع الحاشد الحافل الذي احتشد لسماع هذا الحديث، هذا مع أنكم سمعتم قبل ذلك عن أوضاع يوغسلافيا الكثير، فسمعتم في الدروس العلمية على مدى ثلاثة أسابيع، وسمعتم في المحاضرات والدروس والندوات الذي خصصت لهذا الموضوع، ثم ها أنتم أولاء تقبلون في مثل هذا المجلس وتملئون هذه الساحة الواسعة في هذا المسجد المبارك لهفةً إلى سماع الجديد والمزيد والمفيد، فجزاكم الله خيراً.

وهذا دليل مادي قريب على أن المسلمين الآن أصبحوا أكثر تماسكا، وأكثر استعداداً للتضحية، وأكثر حرصاً على سماع أوضاع إخوانهم وبشكل عام أن المسلمين اليوم يعيشون واقعاً أكثر حيوية وتجاوباً مع إخوانهم مما كان من قبل، وتجاوب المسلمين مع أوضاع إخوانهم في أفغانستان هو نموذج آخر، فإن الحرب الأفغانية دامت أربع عشرة سنة، وهذه مدة طويلة كانت كفيلة بأن تزرع في النفوس اليأس والقنوط، وتجعل الذين يقبلون على الجهاد الأفغاني دعماً بالمادة أو بالسلاح أو ذهاباً إليهم للمشاركة أن يتخلوا عنه، ولكن الواقع يشهد أن المسلمين لم يتخلوا عن الجهاد في أفغانستان وما كانوا أكثر حماساً للجهاد في أفغانستان منهم في شهر رمضان من هذا العام وما بعده؛ حيث بشائر النصر المبين تزف إلى المسلمين في هذا البلد وفي كل بلد.

فأقول أيها الإخوة... لننظر إلى هذا الواقع من هذا المنطلق، ولندرك أن هذا يشبه إلى حد كبير ما تسمعونه من المنكرات التي تقع اليوم في المجتمع، فكثيرون يقولون: والله أصبحنا اليوم نسمع منكرات ما كنا نسمعها من قبل.

أقول: نعم هذا صحيح وأنا واحد من هؤلاء، لكن هذا ليس لأن المنكرات لم تكن موجودة، كلا، بل كانت موجودة ويوجد أضعاف أضعافها في الماضي، ولكن لأن كثيراً من المنكرات في الماضي كانت تتم في الظلام، وفي غيبة الرقيب وفي غفلة الناس، ولم يكن الناس يعرفون لمن يشتكون، ومن يخبرون، ومن يبلغون، بل ربما تجد أحياناً مؤسسات كبيرة، يقع فيها المنكر فلا يوجد من ينكره، ولا من يبلغ به، ولا من يخبر أهل العلم عنه، فلذلك مضت أمور كثيرة طافت على المسلمين وتمت في غيبتهم.

أما اليوم فكل ما يفعل أو ينشر في الصحف، أو يقال في المجالس أو يتم؛ حتى ولو كان عليه من التحفظات والسرية الشيء الكثير، فإنه بعد ساعات قلائل يصل إلى أسماع من يعنيهم إنكار المنكر، وأحياناً كثيرة يصل موثقاً بالصوت أو بالصورة أو بالوثائق التي لا تقبل الجدل إذ هي وثائق دامغة، ولذلك أصبحت المنكرات تعرف، ويسهل مقاومتها ومحاربتها والقضاء عليها.

أما في الماضي فكانت تقع دون أن يعلم بها أحد، أقول هذا الكلام لأننا بحاجة إلى أن يكون عندنا قدر من الثقة بمستقبل الإسلام، ووالله إننا كلما رأينا مزيداً من الضغط على الإسلام والمسلمين، ومزيداً من الحرب وجدنا في ذلك آية من آيات الله تعالى في النصر المبين للمؤمنين، لأن الله عز وجل يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] يقولون ذلك وقد أبطأ النصر عليهم وتأخر، وأصابهم ما أصابهم، وتحرقت قلوبهم، وتلهفت نفوسهم، فسألوا متى نصر الله؟ وهاهنا يأتيهم الجواب من الله جل وعلا: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

المسلمون في حال دفاع لا إقامة خلافة

أيها الأحبة: وفيما يتعلق بـيوغسلافيا فسوف يحدثكم شاهد عيان انتدبه الإخوان المشايخ في هذا البلد قبل أيام ليرى ويسمع ويطمئن، وجاء يحمل لكم الأخبار الجديدة، ولكنني أختم كلمتي بملاحظة واحدة فقط هي: أن المسلمين في يوغسلافيا الآن يدافعون عن أنفسهم، هذا هو تشخيص الوضع القائم هناك، ويجب أن يكون هذا واضحاً فالمسلم يدافع عن نفسه، وعن زوجته، وعن أطفاله، وعن بيته، وعن مزرعته، وعن ممتلكاته، فلم يقم المسلمون بـيوغسلافيا بإعلان الجهاد المقدس، والزحف على البلاد المجاورة لضمها إلى دولة الإسلام، لا،وإنما هم يدافعون عن أنفسهم، والدفاع عن النفس مشروع بجميع المقاييس، وبكل الديانات، وبكل الأعراف، وبكل القوانين، فلا أحد يعتب عليهم، لماذا يدافعون عن أنفسهم؟ من حق كل مسلم في يوغسلافيا وهو يقتل أن ينتقم من قاتله وقاتل أولاده إن استطاع قبل أن يموت، هذه هي الصورة، وبناء عليه فالمطلوب مساعدة المسلم في يوغسلافيا حتى يستطيع أن يدافع عن نفسه، أو ينتقم من قاتله قبل أن يموت، فلا تتصور أنك إذا بذلت ما تبذل من المساعدة لإخوانك هناك، أنك ستسمع الأخبار غداً أو بعد غد عن قيام الإمبراطورية الإسلامية التي تضم بلاد البوسنة والهرسك والصرب والكروات والجبل الأسود وغيرها وإن كان هذا ممكناً وما هو على الله بعزيز؛ لكن ضع الأمور في نصابها، مسلم يقتل يريد أن يدافع عن نفسه، ومن حقه أن يدافع، ومن حقه على أخيه المسلم أن يساعده بما يستطيع، ونحن نعلم أن أخوة الإسلام جعلت المعتصم يثأر للمرأة المسلمة في عمورية وهي تقول (وامعتصماه) فيسيِّر الجيوش الجرارة حتى يفتح هذا البلد وينتصر لهذه المرأة الوحيدة التي ديست كرامتها، فكذلك من حق إخواننا وأخواتنا المسلمات في يوغسلافيا وغيرها أن نساعدهم؛ خاصة وقد تخلت عنهم السياسة في كل مكان، من منطلق التحالفات الدولية والإحراجات والتحفظات وغير ذلك، فلم يبق إلا القرش والريال التي يدفعها إخوانهم المسلمون، وهي مهما قلَّت يبارك فيها ربنا -جل وعلا- لأنها مساعدات صادقة غير مشروطة، والله تعالى يربي الصدقات ويبارك فيها.

رب وامعتصماه انطلقت     ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم لكنها     لم تلامس نخوة المعتصم

لا يلام الذئب في عدوانه     إن يك الراعي عدو الغنم

أمتي هل لك بين الأمم     منبرٌ للسيف أو للقلم

أتلقاك وطرفي مطرق     خَجَلاً من أمسك المنصرم

ويكاد الدمع يهمي عابثا     ببقايا كبرياء الألم

أين دنياك التي أوحت إلى     وترى كلِّ ينيم نغم

أو ما كنت إذا البغي اعتدى     موجة من لهب أو من دم

فيمَ أقدمت وأحجمت ولم     يشتف الثأر ولم تنتقم

أمتي كم صنم مجدته     لم يكن يحمل طهر الصنم

فاحبسي الشكوى فلولاك لما     كان في الحكم عبيد الدرهم

اسمعي نوح الحزانى واطربي     وانظري دمع اليتامى وابسمى

واتركي الجرحى تداوي جرحها     وامنعي عنها كريم البلسم

ودعي القادة في أهوائها     تتفانى في خسيس المغنم

أيها الإخوة: أترككم مع مشاهدات أخينا فضيلة الدكتور صالح بن محمد السلطان، فإلى حديثه جزاه الله خيرا.

أولها: أن المسلمين ما لقوا من هذه الحرب الضروس التي يلقونها الآن إلا لأنهم قد تمردوا واستعصوا على التهجين والتدجين والتكفير الذي يحاوله الأعداء، ولو أن المسلمين أعطوا الدنية في دينهم ورضوا أن يتخلوا عن دينهم إلى غير رجعة، لما كان بينهم وبين الكافرين من النصارى واليهود والشيوعيين مشكلة تذكر، ولعاشوا إخواناً في وطنيتهم وفي مصالحهم المشتركة، وفي تربتهم التي توحدهم، ولكن المسلمين قد أصروا على التشبث بدينهم حتى آخر قطرة من دمهم وحتى آخر نفس، ولذلك لقوا ما لقوا من الحرب التي تقول: لو أن هؤلاء المسلمين رضوا بطريق المهادنة للكفار والرضا بما يطلب منهم؛ لما لقوا هذا الأمر، هذا أولا.

وثانيها: أن النصارى واليهود وسائر أعداء الدين لو لم يشعروا الآن بأن المسلمين الآن خطر داهم لما قاوموهم بهذه الطريقة الغريبة، فإنك لا تكاد تجد اليوم حرباً أو مشكلة ذات بال في الشرق أو في الغرب، إلا وتجدها مواجهة بين دين الإسلام ودين النصرانية.

الحرب في يوغسلافيا -وهي موضوع الحديث- هي حرب بين الإسلام والنصرانية والحرب التي تدور رحاها الآن في عدد من ولايات الاتحاد السوفيتي مثلاً بين الأرمن والأذاريين هي حرب بين الإسلام والنصرانية، والحرب في بورما والحرب في بلاد العرب هي بين الإسلام والنصرانية.

ولا أعتقد أن النصارى الآن يستطيعون أن يخفوا سمة هذه الحرب أو يلبسوها لبوساً آخر، فهي حرب صليبية ضد الإسلام، وإلا فأي معنى أن تكون تلك الدول التي تنادي بالديمقراطية هي أول من يرضى بذبح الديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية؟ لأنهم يقولون: إن تلك الديمقراطية سوف تكون معبراً وجسراً للأصوليين، ولن تكون في صالحنا في يوم من الأيام، وأي معنى أن تكون الدول التي تنادي بحقوق الإنسان، وتتشدق بحفظ حقوق الإنسان أول من يبصم ويوقع على انتهاك حقوق الإنسان في الجزائر ومصر وتونس بل وإسرائيل وغيرها من البلاد؟!

أي معنى في أن الجمعيات في فرنسا تنتقد تصرفات الحكومة الجزائرية تجاه شعبها، أما الحكومة الفرنسية فتوافق على وضع الديمقراطيةعلى الرف إلى أجل غير مسمى، وتعلن أنها تقر وتؤيد تصرفات المجلس الأعلى بدون تحفظ، ثم تتبعها أمريكا فتؤيد أيضا بدون أي تحفظ جميع التصرفات والقرارات التي اتخذها المجلس الأعلى!

وأي معنى أن تكون المواجهة في بعض البلاد في مصر بين الأقباط وبين المسلمين تُصوَّر على أنها تصرفات من بعض الأصوليين؟؟ وتقوم الدول العلمانية لتقدم للدول الغربية عربوناً على أنها ضد كل ما هو إسلامي، فتقول: إن أجهزة أمنها تلاحق الأصوليين المتطرفين وتعمل على اجتثاث جذورهم، وأنها تسعى إلى حماية حقوق الأقباط والمسيحيين والنصارى، وكأنها تقول للغرب: نحن أكثر منكم إخلاصاً لما تريدون، وأكثر منكم حرباً على الإسلام، وأكثر منكم حماية للآليات، فاطمئنوا فلن تهدأ لنا عين، ولن ينعم لنا بال، ولن يقر لنا قرار إلا بعد أن نقلم أظفار كل من ينتسبون إلى الإسلام والدعوة الإسلامية.

الحرب -الآن- في كل بلاد العالم حرب -كما يعبرون هم- بين الهلال والصليب، ونحن نقول: حرب بين التوحيد والتثليث، حرب بين الإسلام وبين النصرانية ويعجبني أن عدداً من الكتاب الذين هم أبعد ما يكونون عن تمثل هذه المعاني وإدراكها، أصبحوا يدركون الآن بشكل واضح بل ويكتبون بصورة قوية عن حقيقة هذه الحرب، وألفت أنظاركم مثلاً إلى كتابات الدكتور فهمي هويدي والدكتور فهمي هويدي من الكتاب الذين لم نعهد منهم أي نظرة لتعميق مفهوم الولاء والبراء في الإسلام، أو مفهوم الحرب على النصارى، أو أي مفهوم من هذه المفاهيم التي كنا وكان غيرنا يتحدث عنها منذ زمن بعيد، ولكني رأيت كتاباته الأخيرة تنضح بالتركيز على هذا المعنى وإبراز هذه الحقيقة؛ لأنها لم تعد مجرد حقيقة دينية موجودة في النصوص السماوية، كلا، بل أصبحت حقيقة سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية وإعلامية يدركها كل متابع للأحداث والأوضاع والتطورات في العالم، وليس فقط يدركها الذين يقرؤون النصوص القرآنية والنبوية بعمق وإدراك.

الأمر الثالث: أن المسلمين واجهوا فيما مضى أشد مما واجهوا الآن على حسب ما تقوله التقارير والإحصائيات، فأنت مثلاً لو قرأت ما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وماذا فعل استالين في المسلمين، لوجدت أنه أجرى الدماء أنهاراً من أهل لا إله إلا الله، بل أقرب مثال يوغسلافيا نفسها -وهي موضوع حديثنا الليلة- ألم تعلم أنه هجَّر من المسلمين اليوغسلاف بعد الحرب العالمية الأولى أكثر من ستة ملايين، أي أكثر من العدد الموجود الآن هجروا إلى تركيا وغيرها من البلاد، وأنه قتل منهم ما يزيد على مائتين وخمسين ألفاً، ولم يطلق طلقة واحدة من المسلمين أنفسهم، ولم يتكلم خطيب واحد آنذاك عن تلك المجازر، ولا عن هذه الهجرة الجماعية، ولا عما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية.

إذاً ليس الفارق أن المسلمين الآن يواجهون ما لم يواجهوا من قبل، ولكن أن المسلمين الآن أصبح لهم عيون يبصرون بها، وآذان يسمعون بها، وألسن يتحدثون بها.

صحيح أن هناك جهوداً كبيرة لسمل تلك العيون وقطع تلك الآذان، ولمحاولة تدمير تلك العيون، ولقطع تلك الألسن، والحيلولة بينها وبين كلمة الحق، نعم.. ولكن العيون تبصر والأذان تسمع، والألسن تتكلم، والمسلمون الآن الفارق بينهم وبين المسلمين قبل ثلاثين وأربعين وخمسين وستين سنة، أن المسلمين آنذاك لم يكونوا يكترثون لما يجري لإخوانهم في أي مكان، ولم يكن هناك من يتحدث عن أحوال المسلمين وما يلاقون، فكان يجري ما يجري في غيبة المسلمين، وفي ظل التجهيل الكامل والقطيعة الكاملة بينهم وبين إخوانهم.

أما اليوم فكل ما يجري إنما يقع على مرأى ومسمع من العالم كله، بما في ذلك المسلمون الذين أصبحوا الآن أكثر وعياً وإدراكاً وتعاطفاً وتحمساً وغيرة، فأصبح المتكلم يتحدث بحرقة، والسامع يستمع بلهفة، وأصبح المسلم الذي يضرب في يوغسلافيا ينادي ويستغيث بالله عز وجل، ثم بإخوانه المسلمين في كل مكان من الأرض، ويدري أنهم يسمعون ويرون، وأنهم يعملون على نصرة إخوانهم بقدر ما يستطيعون.

إذاً هذا هو الفارق، فلا يصيبنك -يا أخي الكريم- شيء من اليأس أو القنوط، وأنت تسمع مثل هذه الأحداث، واعلم أن ما يجري للمسلمين اليوم جرى قبله الكثير الكثير، بل إننا نلمح بوادر تقدم كبير في الواقع الإسلامي الآن، تقدم في التجاوب، وما اجتماعكم هذا إلا نموذج للتجاوب، فإن هذا المجلس لم يقرر إلا البارحة في مثل هذه الدقائق، ولم يكن ثمَّ وقت كافٍ للإعلان عنه، ولا لدعوتكم إليه، ولم نكن نتوقع أننا نجد ولا شيئاً يذكر بالنسبة إلى هذا الجمع الحاشد الحافل الذي احتشد لسماع هذا الحديث، هذا مع أنكم سمعتم قبل ذلك عن أوضاع يوغسلافيا الكثير، فسمعتم في الدروس العلمية على مدى ثلاثة أسابيع، وسمعتم في المحاضرات والدروس والندوات الذي خصصت لهذا الموضوع، ثم ها أنتم أولاء تقبلون في مثل هذا المجلس وتملئون هذه الساحة الواسعة في هذا المسجد المبارك لهفةً إلى سماع الجديد والمزيد والمفيد، فجزاكم الله خيراً.

وهذا دليل مادي قريب على أن المسلمين الآن أصبحوا أكثر تماسكا، وأكثر استعداداً للتضحية، وأكثر حرصاً على سماع أوضاع إخوانهم وبشكل عام أن المسلمين اليوم يعيشون واقعاً أكثر حيوية وتجاوباً مع إخوانهم مما كان من قبل، وتجاوب المسلمين مع أوضاع إخوانهم في أفغانستان هو نموذج آخر، فإن الحرب الأفغانية دامت أربع عشرة سنة، وهذه مدة طويلة كانت كفيلة بأن تزرع في النفوس اليأس والقنوط، وتجعل الذين يقبلون على الجهاد الأفغاني دعماً بالمادة أو بالسلاح أو ذهاباً إليهم للمشاركة أن يتخلوا عنه، ولكن الواقع يشهد أن المسلمين لم يتخلوا عن الجهاد في أفغانستان وما كانوا أكثر حماساً للجهاد في أفغانستان منهم في شهر رمضان من هذا العام وما بعده؛ حيث بشائر النصر المبين تزف إلى المسلمين في هذا البلد وفي كل بلد.

فأقول أيها الإخوة... لننظر إلى هذا الواقع من هذا المنطلق، ولندرك أن هذا يشبه إلى حد كبير ما تسمعونه من المنكرات التي تقع اليوم في المجتمع، فكثيرون يقولون: والله أصبحنا اليوم نسمع منكرات ما كنا نسمعها من قبل.

أقول: نعم هذا صحيح وأنا واحد من هؤلاء، لكن هذا ليس لأن المنكرات لم تكن موجودة، كلا، بل كانت موجودة ويوجد أضعاف أضعافها في الماضي، ولكن لأن كثيراً من المنكرات في الماضي كانت تتم في الظلام، وفي غيبة الرقيب وفي غفلة الناس، ولم يكن الناس يعرفون لمن يشتكون، ومن يخبرون، ومن يبلغون، بل ربما تجد أحياناً مؤسسات كبيرة، يقع فيها المنكر فلا يوجد من ينكره، ولا من يبلغ به، ولا من يخبر أهل العلم عنه، فلذلك مضت أمور كثيرة طافت على المسلمين وتمت في غيبتهم.

أما اليوم فكل ما يفعل أو ينشر في الصحف، أو يقال في المجالس أو يتم؛ حتى ولو كان عليه من التحفظات والسرية الشيء الكثير، فإنه بعد ساعات قلائل يصل إلى أسماع من يعنيهم إنكار المنكر، وأحياناً كثيرة يصل موثقاً بالصوت أو بالصورة أو بالوثائق التي لا تقبل الجدل إذ هي وثائق دامغة، ولذلك أصبحت المنكرات تعرف، ويسهل مقاومتها ومحاربتها والقضاء عليها.

أما في الماضي فكانت تقع دون أن يعلم بها أحد، أقول هذا الكلام لأننا بحاجة إلى أن يكون عندنا قدر من الثقة بمستقبل الإسلام، ووالله إننا كلما رأينا مزيداً من الضغط على الإسلام والمسلمين، ومزيداً من الحرب وجدنا في ذلك آية من آيات الله تعالى في النصر المبين للمؤمنين، لأن الله عز وجل يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] يقولون ذلك وقد أبطأ النصر عليهم وتأخر، وأصابهم ما أصابهم، وتحرقت قلوبهم، وتلهفت نفوسهم، فسألوا متى نصر الله؟ وهاهنا يأتيهم الجواب من الله جل وعلا: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

أيها الأحبة: وفيما يتعلق بـيوغسلافيا فسوف يحدثكم شاهد عيان انتدبه الإخوان المشايخ في هذا البلد قبل أيام ليرى ويسمع ويطمئن، وجاء يحمل لكم الأخبار الجديدة، ولكنني أختم كلمتي بملاحظة واحدة فقط هي: أن المسلمين في يوغسلافيا الآن يدافعون عن أنفسهم، هذا هو تشخيص الوضع القائم هناك، ويجب أن يكون هذا واضحاً فالمسلم يدافع عن نفسه، وعن زوجته، وعن أطفاله، وعن بيته، وعن مزرعته، وعن ممتلكاته، فلم يقم المسلمون بـيوغسلافيا بإعلان الجهاد المقدس، والزحف على البلاد المجاورة لضمها إلى دولة الإسلام، لا،وإنما هم يدافعون عن أنفسهم، والدفاع عن النفس مشروع بجميع المقاييس، وبكل الديانات، وبكل الأعراف، وبكل القوانين، فلا أحد يعتب عليهم، لماذا يدافعون عن أنفسهم؟ من حق كل مسلم في يوغسلافيا وهو يقتل أن ينتقم من قاتله وقاتل أولاده إن استطاع قبل أن يموت، هذه هي الصورة، وبناء عليه فالمطلوب مساعدة المسلم في يوغسلافيا حتى يستطيع أن يدافع عن نفسه، أو ينتقم من قاتله قبل أن يموت، فلا تتصور أنك إذا بذلت ما تبذل من المساعدة لإخوانك هناك، أنك ستسمع الأخبار غداً أو بعد غد عن قيام الإمبراطورية الإسلامية التي تضم بلاد البوسنة والهرسك والصرب والكروات والجبل الأسود وغيرها وإن كان هذا ممكناً وما هو على الله بعزيز؛ لكن ضع الأمور في نصابها، مسلم يقتل يريد أن يدافع عن نفسه، ومن حقه أن يدافع، ومن حقه على أخيه المسلم أن يساعده بما يستطيع، ونحن نعلم أن أخوة الإسلام جعلت المعتصم يثأر للمرأة المسلمة في عمورية وهي تقول (وامعتصماه) فيسيِّر الجيوش الجرارة حتى يفتح هذا البلد وينتصر لهذه المرأة الوحيدة التي ديست كرامتها، فكذلك من حق إخواننا وأخواتنا المسلمات في يوغسلافيا وغيرها أن نساعدهم؛ خاصة وقد تخلت عنهم السياسة في كل مكان، من منطلق التحالفات الدولية والإحراجات والتحفظات وغير ذلك، فلم يبق إلا القرش والريال التي يدفعها إخوانهم المسلمون، وهي مهما قلَّت يبارك فيها ربنا -جل وعلا- لأنها مساعدات صادقة غير مشروطة، والله تعالى يربي الصدقات ويبارك فيها.

رب وامعتصماه انطلقت     ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم لكنها     لم تلامس نخوة المعتصم

لا يلام الذئب في عدوانه     إن يك الراعي عدو الغنم

أمتي هل لك بين الأمم     منبرٌ للسيف أو للقلم

أتلقاك وطرفي مطرق     خَجَلاً من أمسك المنصرم

ويكاد الدمع يهمي عابثا     ببقايا كبرياء الألم

أين دنياك التي أوحت إلى     وترى كلِّ ينيم نغم

أو ما كنت إذا البغي اعتدى     موجة من لهب أو من دم

فيمَ أقدمت وأحجمت ولم     يشتف الثأر ولم تنتقم

أمتي كم صنم مجدته     لم يكن يحمل طهر الصنم

فاحبسي الشكوى فلولاك لما     كان في الحكم عبيد الدرهم

اسمعي نوح الحزانى واطربي     وانظري دمع اليتامى وابسمى

واتركي الجرحى تداوي جرحها     وامنعي عنها كريم البلسم

ودعي القادة في أهوائها     تتفانى في خسيس المغنم

أيها الإخوة: أترككم مع مشاهدات أخينا فضيلة الدكتور صالح بن محمد السلطان، فإلى حديثه جزاه الله خيرا.

قال الشيخ: صالح بن محمد السلطان حفظه الله:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فإن هذه الأمة لا تكاد تفيق من صدمة موقف حل بها إلا والصدمة الأخرى تنتظرها، فبالأمس قضية المسلمين في بورما وقبلها في فلسطين وفي كشمير وفي أفغانستان وفي إريتريا وفي الصومال وفي الجزائر وفي تونس وفي يوغسلافيا وفي البوسنة والهرسك.

واليوم تعود محاولة تصفية المسلمين مرة أخرى، كما حدث في أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما جرت الأنهار بدماء المسلمين في تلك الحقبة، لكنها اليوم تعود أكثر عنفاً وشراسة وقد تطورت وسائل الفتك والتدمير في ظل غيبة الأمة وتداعي الأمم عليها، وفي هذه الندوة، وفي هذه الدقائق ألقي نظرة سريعة على قضية المسلمين في تلك الديار من خلال الفقرات أو النقاط الآتية:-

أولا: أطماع النصارى في هذه الجمهورية، ثم مشاهدات من تلك البلاد، ثم حديث عن الأحوال الاقتصادية، فالأحوال العسكرية، فالأحوال السياسية، فالنواحي الإعلامية، ثم أختم ذلك بما تعنيه البوسنة للمسلمين في رأي أهلها ونظرهم.

أطماع النصارى

قبل الكلام على ما حصل من مشاهدات في تلك البلاد أبدأ الحديث:

ببيان أطماع النصارى في هذه الجمهورية فأقول:

دأب النصارى هناك على ذكر أن البوسنة جزء من أراضيهم، وأنه لا يمكن انفصالها، وأن من فيها من المسلمين إنما هم أخلاط وفدوا إليها وينبغي أن يرحلوا منها، أو يبقوا تحت ظل وهيمنة هذه الدولة الصربية النصرانية ولا شك أن هذه دعاوى باطلة لا رصيد لها من الواقع، بل إن عند المسلمين هناك من الوثائق ما يثبت أن هذه الدولة كانت مستقلة منذ أكثر من ثمان مائة وخمسين عاماً، ولكن مع ذلك فقد اقتطع الصرب وكذلك الكروات منذ الحرب العالمية الثانية أجزاء كبيرة واستراتيجية ومهمة من هذه الجمهورية، واضطروها وحصروها في وسط هذه الجمهورية، ولم يبق لها إلا منفذ صغير على البحر لا يوجد فيها ميناء بحري، كما يزعمون.

ولكن السبب الحقيقي في هذه الأطماع: هو ما تحويه هذه الجمهورية من المواد الخام التي توجد فيها، ولا توجد في غيرها من الجمهوريات، إضافة إلى السبب الرئيسي، وهو الحقد الشديد على الإسلام وعلى المسلمين، والذي ظهر جلياً أثره في أثناء هذه الحروب المتتابعة على هذه البلاد، بعد ذلك أذكر مشاهد من داخل تلك البلاد وهذه المشاهد التي وقفنا عليها، هي على قسمين:-

قسم: رأيناه بأعيننا.

وقسم: رأيناه عن طريق التصوير وتارة كان ينقل التصوير حياً على الهواء، وتارة يعرض بعد أن ينقل.

مأساة اللاجئين

فالمسلمون يعيشون في داخل البوسنة أوضاعاً مأساوية لا يعلمها إلا الله، وقد شاهدت أوضاعاً تصور حجم هذه المعاناة والأسى والألم الذي يكابده هذا الشعب الأعزل، وسأذكر بعض هذه المشاهد، وهي نماذج لمشاهد أخرى تتكرر في كل يوم، بل في كل ساعة، فمن هذه المشاهد:

رأينا يوم الجمعة بعض اللاجئين الذين وفدوا من تلك البلاد، واستقبلهم المسلمون في المركز الإسلامي في زاغرد وعندما أرادوا ترحيلهم رأيت امرأة مسنة تبلغ السبعين وهي تبكي وحولها ثلاثة أطفال الأكبر منهم يبلغ أربع سنوات وثلاث وسنتين، وهي تبكي ثم تشيح بوجهها عن الناس، فسألنا عن حالها، فقالوا: إنها خرجت من هذه البلاد بعد أن هجم الصرب على منـزل ابنها، فأراودوا امرأته عن نفسها فأبت، فقتلوها وبقروا بطنها وتركوا هؤلاء الأطفال، فما كان من أم أبيهم إلا أن هربت بهم بمساعدة بعض المسلمين، حتى وصلت إلى هذا المركز، وهي في حالة من الإرهاق والخوف والتعب والألم والفقر فليس معها شيء غير ثيابها، وعلبة واحدة من الحليب لا تدري لمن تكفي من هؤلاء الأطفال، وهي تناشد المسلمين في المركز أن يبقوها عندهم في المركز، ولا يتركوها تذهب إلى معسكر اللاجئين في سلوفينيا وهي دولة نصرانية كافرة؛ لأن سلوفينيا تستقبل اللاجئين المسلمين استقبالاً سيئاً.

فهذا نموذج من النماذج التي رأينا في تلك الديار، وبعد ذلك قمنا بزيارة لأحد المراكز هناك، جُمع اللاجئون في صالة رياضية واحدة وحشروا -وهي عبارة عن صالة رياضية كأنها غرفة رياضية- جمعوا فيها ما يزيد على مائة وخمسين من الأطفال والنساء والشيوخ، وحالهم لا يعلم بها إلا الله، رأيت امرأة تبلغ الستين وهي تبكي ولا تقف عن البكاء، فسألناها عن ذلك فقالت: إنها مصابة بمرض في القلب، وإنها تركت أولادها السبعة في سراييفو يدافعون عنها ولقد انقطعت أخبارهم ولا تعلم عنهم، ثم طلبت منا أن نلمس الفرش التي ينامون عليها فإذا هي كالحجارة، ثم رأيت والإخوان امرأة تبكي بجانبها وهي دونها في السن، فقالت: إنها تركت أبناءها يدافعون عن سراييفو ولا تعلم عنهم شيئاً، وقد انقطعت أخبارهم منذ أكثر من ثلاثة أيام، ثم رأينا أيضاً امرأة تبلغ الثمانين أو تزيد، وهي لا تتكلم فوقفنا عندها وسألناها عن حالها، فقالت إنها أتت مع ابنتها وأبناء ابنتها وهم أطفال وهم الآن مرضى وبحاجة إلى الحليب، وإنها قد تركت ابنها وزوج ابنتها يدافعون عن بلادها، وما يحزنها هو أن أخبارهم لا تصل إليها وتخاف على هؤلاء الأطفال الذين أنهكهم المرض.

نقص السلاح

ومن المشاهد التي رأينا، أنّا كنا في المركز الإسلامي في زغراد فجاء أحد الجنود القواد والشجاعة ظاهرة في محياه، ولو هز سارية لهزها من شجاعته وقوته، لكنه عاجز عن الكلام ويفرك إحدى يديه بالأخرى، فاستوقفناه وسألناه فعجز أن يتكلم، ثم قال: -ومعنا المترجم- قدمت لتوي والناس في بلدنا يذبحون كما تذبح الأنعام، وهو يفرك يديه إحداهما بالأخرى ويقول: نريد السلاح نريد السلاح، إنهم جبناء لا يمكن أن يقفوا في وجوهنا، لكن ينقصنا السلاح، ثم يشيح بوجهه عنا وتذرف الدموع من عينيه، ورأيت بجانبه شاباً صغيراً يبلغ الثالثة أو الرابعة عشرة، وقد لبس بدلة عسكرية وظهر على عقله شيء من الخفة، فسألنا عن حاله، فقالوا: لقد أمسك به الصرب عند منـزله مع أخيه الذي يبلغ الثامنة عشرة من عمره، فشنقوا أخاه وهو ينظر، فهرب هذا الصغير فأطلقوا عليه النار فأصابوه في قدمه، لكنه -بحمد الله- تمكن من الهرب، فتلقفه بعض المسلمين وحمله إلى كرواتيا ومكث أسابيع يعالج ومنذ شفائه وهو يلبس هذه البدلة، ويقول: لن أخلعها إلا في سراييفو.

هذه بعض المشاهد التي رأيتها بعيني أنا والإخوان الذين كانوا معي.

وهناك مشاهد رأيناها حية على الهواء، ومشاهد رأيناها وكلها حدثت بعد يوم الثلاثاء الماضي، فيوم السبت الماضي رأينا في التليفزيون في الصورة على الهواء جندياً صربيا يستوقف مسلماً، ثم يقول له: أنت تقاتل الصرب ثم يطلق النار على رأسه، فتمر امرأة فيطلق النار على وجهها، فيرديها قتيلة وتنـزف الدماء من فمها.

القتل والحرق والتخريب

أما عن القتلى والجرحى في شوارع المدن فقد رأينا العشرين والثلاثين بجانب بعضهم البعض لا يمكن أن يقترب منهم أحد، ولا يمكن أن يواريهم المسلمون، ورأينا امرأة أطلق عليها النار، فالتف الناس حولها وأسرعوا بها لكنها ماتت بين أيديهم، ورأينا الأطفال عند إلقاء القنابل يهربون، لكن لا يدرون إلى أين يذهبون، وقد قتل عدد كبير منهم، كما سنقرأ بعد قليل -إن شاء الله-.

كذلك شاهدنا الناس في مقبرة مدينة سراييفو العاصمة يحفرون القبور، ويدفنون الموتى ولا يصدق المنظر إلا من رآه، كأنك تشاهد من في هذا المسجد، من كثرة من يحفر القبور ومن يقوم بدفن الموتى، وهذا لا شك أنه يدل دلالة قاطعة على عظم المصيبة وكثرة القتلى.

أما عن الحرائق فلا تسل، فرأيت قبل ليلتين سراييفو وهي تحترق جميعها، في كل مكان تحترق هي والمدن الكبيرة، وتنقلها التليفزيونات الألمانية والنمساوية حية على الهواء، رجال المطافي يتركون النار؛ لأن القنابل تتساقط عليهم، وبدأ الصرب في الآونة الأخيرة بإلقاء القنابل الكبيرة التي لم تكن تُعرف إلا في الحروب الكبيرة، كحرب الخليج فبدءوا يلقون القنابل التي يبلغ زنة الواحدة منها مائتين كيلو، وقد رأيتها وهي تلقى على أحد المنازل فتدمره تدميراً عظيماً حتى خلصت إلى الملجأ الذي دخله النساء والأطفال فقتلتهم جميعاً وهم ست عشرة نفساً، وقد بلغ عدد من فر إلى كرواتيا أكثر من مائتين وخمسين ألف لاجئ، وإلى سلوفينيا أكثر من ثلاثين ألفاً، أما الذين يدورون في داخل البوسنة يتنقلون من مكان إلى مكان، فيزيدون على الثلاث مائة ألف.

ويتبع الصرب في طريقة دخولهم للمدن الإسلامية وضربها أسلوباً في غاية الخبث، فيحيطون بالمدينة -كما وصف لنا أحد من خرج من تلك المدن واسمه حارث رجيج وهو من مدينة جفنسا، وقد خرج منها قريبا ورأيناه هناك- فقال: إنهم يحيطون المدينة بالدبابات، ثم يطلبون من المسلمين أن يسلموا أسلحتهم، وسواء سَلَّمْ المسلمون أسلحتهم أم لم يسلموا فإنهم يبدءون بضرب المدينة بالدبابات والمدافع ثلاثة أيام، ثم بعد أن يضربوا المدينة يدخلونها، فيقتلون كل من قابلوه على السواء ذكوراً وإناثاً، ويطلبون من الرجال أن يكشفوا عن عوراتهم، فمن وجدوه مختتناً قتلوه، ثم بعد ذلك يطردون من بقي، ويحضرون الشاحنات الكبيرة ويحمِّلونها بما تحويه هذه المخازن والبيوت من المواد الغذائية ومن الأثاث، ثم بعد ذلك يطلبون من الناس العودة، فإذا بدأ الناس بالعودة صوروا عودتهم إلى منازلهم، ثم تبع ذلك عرض في تليفزيوناتهم للعالم كله بأنهم لا يتعرضون للمسلمين، وأن المسلمين هم الذين يقاتلون الصرب ويطردونهم، وبعد ذلك يقومون بإحراق ما يشاءون من المدن، ويركزون على المساجد والمنشآت الحيوية في هذه المدن.

هذا عرض موجز لبعض المشاهد ولطريقة دخول الصرب وهتكهم للحرمات والأعراض، وسفكهم للدماء، وضربهم للرقاب.

قبل الكلام على ما حصل من مشاهدات في تلك البلاد أبدأ الحديث:

ببيان أطماع النصارى في هذه الجمهورية فأقول:

دأب النصارى هناك على ذكر أن البوسنة جزء من أراضيهم، وأنه لا يمكن انفصالها، وأن من فيها من المسلمين إنما هم أخلاط وفدوا إليها وينبغي أن يرحلوا منها، أو يبقوا تحت ظل وهيمنة هذه الدولة الصربية النصرانية ولا شك أن هذه دعاوى باطلة لا رصيد لها من الواقع، بل إن عند المسلمين هناك من الوثائق ما يثبت أن هذه الدولة كانت مستقلة منذ أكثر من ثمان مائة وخمسين عاماً، ولكن مع ذلك فقد اقتطع الصرب وكذلك الكروات منذ الحرب العالمية الثانية أجزاء كبيرة واستراتيجية ومهمة من هذه الجمهورية، واضطروها وحصروها في وسط هذه الجمهورية، ولم يبق لها إلا منفذ صغير على البحر لا يوجد فيها ميناء بحري، كما يزعمون.

ولكن السبب الحقيقي في هذه الأطماع: هو ما تحويه هذه الجمهورية من المواد الخام التي توجد فيها، ولا توجد في غيرها من الجمهوريات، إضافة إلى السبب الرئيسي، وهو الحقد الشديد على الإسلام وعلى المسلمين، والذي ظهر جلياً أثره في أثناء هذه الحروب المتتابعة على هذه البلاد، بعد ذلك أذكر مشاهد من داخل تلك البلاد وهذه المشاهد التي وقفنا عليها، هي على قسمين:-

قسم: رأيناه بأعيننا.

وقسم: رأيناه عن طريق التصوير وتارة كان ينقل التصوير حياً على الهواء، وتارة يعرض بعد أن ينقل.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5157 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع