سلسلة فلسطين الدعاء


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

واجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك قابلين لها، وأتممها علينا.

اللهم إنا نسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح، وخير العمل وخير الثواب، وخير الحياة وخير الممات، وثبّتنا وثقل موازيننا، وحقق إيماننا وارفع درجاتنا وتقبل صلاتنا واغفر خطايانا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه، وجوامعه وأوله، وظاهره وباطنه، والدرجات العلى من الجنة. آمين.

اللهم إنا نسألك خير ما نأتي وخير ما نفعل، وخير ما نعمل، وخير ما بطن وخير ما ظهر، والدرجات العلى من الجنة. آمين.

اللهم إنا نسألك أن ترفع ذكرنا وتضع أوزارنا، وتصلح أمورنا، وتطهر قلوبنا، وتحصن فروجنا، وتنور قلوبنا، وتغفر لنا ذنوبنا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة. آمين.

اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا في نفوسنا وفي أسماعنا وفي أبصارنا، وفي أرواحنا، وفي خلقنا، وفي خُلُقنا، وفي أهلنا، وفي محيانا وفي مماتنا، وفي عملنا، فتقبل حسناتنا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة. آمين.. آمين.

وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.

أما بعد:

فمع المحاضرة الثانية عشرة والأخيرة في مجموعة المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين.

وتحدثنا في المحاضرات السابقة عن بعض الوسائل الإيجابية في حل قضية فلسطين وذكرنا منها أربعاً: الفهم، والأمل، والبذل، والمقاطعة.

واليوم نتحدث عن وسيلة خامسة مهمة جداً في هذه القضية، بل هي مهمة في كل قضايا المسلمين، سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي، أعني: أنها وسيلة مهمة جداً في قضايانا الشخصية، وكذلك هي مهمة في قضايا الأمة بأسرها.

هذه الوسيلة العظيمة ما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقيقة واحدة من دقائق حياته الكريمة، كان يستخدمها دوماً، ويعلم أصحابه أن يستخدموها دوماً، لم يتركها صلى الله عليه وسلم مع تبدل أحواله وظروفه، لا في صحته ولا في مرضه، لا في حله ولا ترحاله، لا في حربه ولا في سلمه، لم يتركها في لحظات الشدة ولا في أوقات الرخاء، داوم عليها في السعادة والحزن، داوم عليها في الغنى والفقر، داوم عليها في النهار والليل، هذه الوسيلة هي منة من الله على عباده، وفضل من الخالق على مخلوقاته، هذه الوسيلة هي عطاء فيّاض من الله عز وجل، وراحة قلب دائمة للمؤمنين؛ ولكونها عظيمة ولفهمه صلى الله عليه وسلم لقيمتها ودرجتها وفضلها فقد أطلق عليها أنها هي العبادة.

تلك الوسيلة هي الدعاء لله عز وجل، وطلب العون منه سبحانه وتعالى.

الدعاء نوع من أنواع العبادة ليس سلبياً ولا مجرد اختيار

الدعاء ليس شيئاً سلبياً، فكثير من الناس يظنون أن الدعاء أمر مقابل للأخذ بالأسباب، يظنون أنه إما أن تأخذ بالأسباب وإما أن تدعو، وهذا خطأ كبير وسوء فهم عظيم، فالأعمال بصفة عامة لا يُبارك فيها إلا إذا كنت متوكلاً على الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]والتوكل على الله يقتضي الاعتقاد الجازم بقدرته وقوته وسلطانه سبحانه وتعالى، وأن الأمور لا تتم إلا بإرادته سبحانه، وذلك مع الأخذ بكامل الأسباب دون الاعتقاد في قدرة الأسباب بذاتها، قال بعض الناس لـأنس بن مالك رضي الله عنه: ادع الله لنا، قال: الدعاء يرفعه العمل الصالح، أي: لا بد من عمل مع الدعاء وإلا يصبح تواكلاً منبوذاً.

نعطي مثالاً حتى نقرب الصورة: المريض مثلاً لا بد أن يأخذ الدواء؛ لأنه يأخذ بالأسباب، ولا بد أيضاً أن يسأل الله الشفاء، ولا بد مع هذا أن يعتقد أن الدواء لن يفيد إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى.

إذاً: الدعاء لم يمنع من أخذ الدواء، والدواء لم يمنع من الاستعانة بالدعاء.

إذاً: الدعاء ليس أمراً جانبياً في قضية فلسطين أو في غيرها من القضايا، ليس أمراً اختياراً إن شئت فعلته وإن شئت تركته أبداً، الدعاء ركن أساس من أركان النص، وسبب أكيد من أسباب رفعة المسلمين.

أيضاً يخطئ كثير من الناس بأن يلجئوا في الدعاء إذا فشلت الأسباب، ولا يطرقون باب الله سبحانه وتعالى إلا بعد طرق كل أبواب البشر، ورأينا في تاريخ فلسطين أن بعض المسلمين يطرقون أبواب من لا يجوز لهم أن يطرقوا أبوابهم، وذلك قبل أن يتّجهوا إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، وهذا جهل عظيم وفساد كبير، ولو طرقوا بابه سبحانه وتعالى لاستجاب لهم، وما أيسر الدعاء كي تصل به إلى السماء.

سُئل زين العابدين رحمه الله: كم بين عرش الرحمن وتراب الأرض؟

قال: دعوة مستجابة.. سبحان الله!! أسرع الوسائل إلى عرش الرحمن دعوة مستجابة.

فالدعاء يا إخوة! ليس شيئاً اختيارياً، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].

يقول ابن كثير رحمه الله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60] أي: عن دعائي وتوحيدي، فترك الدعاء استكبار، وسماه الله عبادة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عبادة.

روى الإمام أحمد وأصحاب السنن -وقال الترمذي: حسن صحيح- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]).

والرجل العظيم والسلطان الكبير والمتمكن من صنعته والبارع في مهنته قد يشعر أنه قد امتلك الأسباب، فلا حاجة له في الدعاء، وهنا تكون الهزيمة تلو الهزيمة، والانتكاسة تلو الانتكاسة، ناهيك عن حساب الآخرة.

روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]).

أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ربه

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله ما ترك الدعاء أبداً، وما يئس منه قط مهما تأخرت الإجابة، ومهما طال الطريق، وكان أشد ما يكون دعاءً ورجاءً وخشوعاً وابتهالاً عند مواقف الضيق والشدة، يفزع إلى ربه ويحتمي بحماه، ويطلب عونه، ويرجو مدده وتأييده، كما هو حالنا اليوم على أرض فلسطين وغيرها من أراضي المسلمين التي تحتاج إلى دعاء لا يتوقف.

انظر إليه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد اشتد الضيق بالمسلمين. يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد) وبالغ في الابتهال صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداءه عن منكبيه، وأشفق عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأتى إليه يقول: حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك.

وفي غزوة الخندق والصحابة منهمكون في حفر الخندق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهم ويقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة).

ونحن ندعو لأهل فلسطين أن يغفر الله لهم وهم منهمكون في حرب عدوهم وعدونا: اللهم اغفر لنا ولأهل فلسطين.

وفي الأحزاب أيضاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ لأنهم أضاعوا عليهم صلاة العصر؛ وذلك لانشغال المسلمين بالدفاع عن الخندق، فقال صلى الله عليه وسلم: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)، ونحن أيضاً ندعو على اليهود أن يملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما فعلوا في أبنائنا وإخواننا وأمهاتنا وبناتنا في فلسطين ما فعلوا، فقد أحالوا بيوتهم وشوارعهم إلى نار موقدة لعنهم الله.

بل انظر إليه صلى الله عليه وسلم كيف كان يدعو الله في كل أحواله حتى بعد فجيعة أحد، انظر إليه كيف كان شاكراً حامداً راضياً مطمئناً حتى بعد كارثة استشهاد 70 من أجلاء الصحابة، اسمع وتدبر جيداً وهو يبدأ دعاءه صلى الله عليه وسلم بشيء عجيب. يقول: (اللهم لك الحمد كله) يبدأ بالحمد، وذلك حتى لا يظن ظان أنه ساخط، أو أنه معترض على قضاء الله، (اللهم لك الحمد كله) ويعلم الله كم من النعم والأفضال في أرض فلسطين الآن، مع كل ما نراه من آلام، والتي يجب أن يُحمد عليها سبحانه وتعالى، يكفي قوله سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141] فضائل عظيمة، فتمييز المؤمنين من المنافقين الذين لا يريدون جهاداً هذه فضيلة، واتخاذ شهداء هذه فضيلة، وتمحيص المؤمنين -أي: تطهيرهم من الذنوب- هذه فضيلة، محق الكافرين -أي: إهلاكهم واستئصالهم- هذه فضيلة، هذه كلها نعم تستوجب حمد الله سبحانه وتعالى.

جاء في مسند الإمام أحمد والطبراني ، ورواه أيضاً البخاري في الأدب المفرد: (إنه لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولما مبعّد لما قرّبت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق!)، لا يفتر عن دعاء صلى الله عليه وسلم في بدر كان أو في أحد، في نصر كان أو في هزيمة، في فرح كان أو في هم صلى الله عليه وسلم.

نماذج من عبادة الصحابة والتابعين لربهم بالدعاء

على نفس الدرب سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من التابعين والصالحين والمجاهدين، دعاء طويل، وابتهال عميق، وتضرع في خشوع، ونداء في خضوع.

هذا سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه يوم الأحزاب يناجي ربه، وكان سعد رضي الله عنه قد أصيب إصابة كبيرة يقول: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم. كان سعد بن معاذ رضي الله عنه يظن أن الحرب قد انتهت، وأن المسلمين قد انتصروا وكفى، فيقول رضي الله عنه: اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، أي: أنه لا يريد أن يموت في هذا الوقت، ولكنه يريد أن يستمر في الجهاد في سبيل الله إن كان للحرب بقية، ثم يُكمل فيقول: وإن كنت وضعت الحرب فافجرها -أي: افجر الإصابة حتى أموت- واجعل موتتي فيها، وذلك حتى يموت شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، ثم يُكمل: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.

وانظر كيف فعل الله سبحانه وتعالى بدعائه وكيف استجاب له؟

كانت الإصابة سبباً لشهادته في سبيل الله؛ لأن الحرب كانت قد وضعت فعلاً في الأحزاب، وأقر الله عينه من بني قريظة قبل أن يموت.. سبحان الله!

اتصال مباشر مع رب العالمين، واستجابة كاملة منه سبحانه وتعالى لدعاء العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه.

دعاء البراء بن مالك يوم تُستر، تذكرون عندما تحدثنا عن موقعة تستر في فتوح فارس، تلك الموقعة العجيبة التي استمر حصار المسلمين فيها للفرس مدة سنة كاملة ونصف، وفي آخر هذه المدة الطويلة جداً يدعو البراء بن مالك رضي الله عنه دعاء قصيراً لكنه عجيب، يقول: اللهم امنحنا أكتافهم وألحقني بنبيك، يطلب النصر ويطلب الشهادة، فإذا بالجيش ينتصر، وإذا بحصن تُستر يُفتح، وإذا بـالبراء يفوز بالشهادة ويلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم كما أراد، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (رُب أشعث أغبر ذي طمرين) والطمر: هو الثوب البالي الرث، يعني: رجل بسيط الهيئة (رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك).

ويروي الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (رُب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).

فالاستجابة ليست بعظم المركز أو بقوة السلطان، ولكن الاستجابة تكون بطهارة القلب، ونقاء القصد، وجمال الطلب، وإلحاح الطالب.

وهذا النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه، يدعو في نهاوند فيقول: اللهم إني أسألك أن تُقر عيني بفتح يكون فيه عز للإسلام وذُل يُذل به الكفار، ثم اقبضني بعد ذلك على الشهادة، واجعل النعمان أول شهيد.

الموت عندهم كان غاية وهدفاً ومطمحاً، فهذا النعمان بن مقرن يدعو أن يكون أول شهداء المسلمين، وانتهى من دعائه رضي الله عنه فكان النصر للمسلمين، وكان النعمان أول مُصاب، ثم لا يستشهد إلا بعد أن يقر الله عينه بالنصر، وذلك كما فصّلنا لكم من قبل في فتح نهاوند.

استجابات عجيبة، وكرامات من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين.

وهذا موقف عجيب من حروب الردة، إذ نزل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه قائد الجيش السابع من جيوش حروب الردة منزلاً ليلاً، وكانوا في صحراء قاحلة، وما إن استقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش والخيام والشراب، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فكانت كارثة وقعت في صحراء قاحلة ويفقدون الزاد والماء!!

وركب الناس من الهم والغم ما لا يوصف، فنادى العلاء عليهم، ثم قال في ثبات عجيب: أيها الناس! ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا، فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم. انظروا إلى اليقين وإلى أسباب عدم الخذلان في سبيل الله، فهم أنصار الله فكيف يخذلهم الله؟

وبعد صلاة الفجر جثا العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه وأرضاه على ركبتيه وجثا الناس، ونصب في الدعاء ورفع يديه، وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس وهم مجتهدون في الدعاء، حتى إذا فرغوا من دعائهم وجدوا بجوارهم شيئاً عجباً، وجدوا في عمق الصحراء غديراً عظيماً -جدول مياه- جعل الله فيه ماء عذباً فراتاً، فمشى الناس إليه وشربوا واغتسلوا، ثم ما هي إلا لحظات، حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها لم يفقد الناس من أمتعتهم شيئاً، آية من آيات الله، وما هي من المؤمنين ببعيد.

وليس هذا والله يا إخوة! في زمان الصحابة فقط، بل تعال وتدبر في دعاء يوسف بن تاشفين رحمه الله زعيم دولة المرابطين العظيم، بعد أكثر من أربعة قرون من الصحابة، وذلك عندما ركب السفن لعبور مضيق جبل طارق إلى بلاد الأندلس؛ ليحارب الصليبيين هناك في موقعة فاصلة، فهاج البحر، وثارت الرياح، وارتفعت الأمواج، وكادت السفن أن تهلك، ماذا فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله؟

وقف في تضرع وخشوع ناصباً قدمه رافعاً يده، مستحضراً قلبه وعقله، يقول: اللهم إن كنت تعلم أن في عبورنا هذا البحر خيراً للمسلمين فسهّل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعّبه حتى لا نعبره، فإذا بالريح تسكن وإذا بالبحر يهدأ، وإذا بالجيش يعبر، وإذا بالنصر يتم.

هذا والله قليل من كثير، وقلما تجد موقعة أو أزمة إلا وتجد الصالحين قد رفعوا أيديهم في خشوع يطلبون من الله العون والتوفيق، فهو المجيب للدعاء القادر على كل شيء سبحانه.

الدعاء ليس شيئاً سلبياً، فكثير من الناس يظنون أن الدعاء أمر مقابل للأخذ بالأسباب، يظنون أنه إما أن تأخذ بالأسباب وإما أن تدعو، وهذا خطأ كبير وسوء فهم عظيم، فالأعمال بصفة عامة لا يُبارك فيها إلا إذا كنت متوكلاً على الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]والتوكل على الله يقتضي الاعتقاد الجازم بقدرته وقوته وسلطانه سبحانه وتعالى، وأن الأمور لا تتم إلا بإرادته سبحانه، وذلك مع الأخذ بكامل الأسباب دون الاعتقاد في قدرة الأسباب بذاتها، قال بعض الناس لـأنس بن مالك رضي الله عنه: ادع الله لنا، قال: الدعاء يرفعه العمل الصالح، أي: لا بد من عمل مع الدعاء وإلا يصبح تواكلاً منبوذاً.

نعطي مثالاً حتى نقرب الصورة: المريض مثلاً لا بد أن يأخذ الدواء؛ لأنه يأخذ بالأسباب، ولا بد أيضاً أن يسأل الله الشفاء، ولا بد مع هذا أن يعتقد أن الدواء لن يفيد إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى.

إذاً: الدعاء لم يمنع من أخذ الدواء، والدواء لم يمنع من الاستعانة بالدعاء.

إذاً: الدعاء ليس أمراً جانبياً في قضية فلسطين أو في غيرها من القضايا، ليس أمراً اختياراً إن شئت فعلته وإن شئت تركته أبداً، الدعاء ركن أساس من أركان النص، وسبب أكيد من أسباب رفعة المسلمين.

أيضاً يخطئ كثير من الناس بأن يلجئوا في الدعاء إذا فشلت الأسباب، ولا يطرقون باب الله سبحانه وتعالى إلا بعد طرق كل أبواب البشر، ورأينا في تاريخ فلسطين أن بعض المسلمين يطرقون أبواب من لا يجوز لهم أن يطرقوا أبوابهم، وذلك قبل أن يتّجهوا إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، وهذا جهل عظيم وفساد كبير، ولو طرقوا بابه سبحانه وتعالى لاستجاب لهم، وما أيسر الدعاء كي تصل به إلى السماء.

سُئل زين العابدين رحمه الله: كم بين عرش الرحمن وتراب الأرض؟

قال: دعوة مستجابة.. سبحان الله!! أسرع الوسائل إلى عرش الرحمن دعوة مستجابة.

فالدعاء يا إخوة! ليس شيئاً اختيارياً، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].

يقول ابن كثير رحمه الله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60] أي: عن دعائي وتوحيدي، فترك الدعاء استكبار، وسماه الله عبادة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عبادة.

روى الإمام أحمد وأصحاب السنن -وقال الترمذي: حسن صحيح- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]).

والرجل العظيم والسلطان الكبير والمتمكن من صنعته والبارع في مهنته قد يشعر أنه قد امتلك الأسباب، فلا حاجة له في الدعاء، وهنا تكون الهزيمة تلو الهزيمة، والانتكاسة تلو الانتكاسة، ناهيك عن حساب الآخرة.

روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]).

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله ما ترك الدعاء أبداً، وما يئس منه قط مهما تأخرت الإجابة، ومهما طال الطريق، وكان أشد ما يكون دعاءً ورجاءً وخشوعاً وابتهالاً عند مواقف الضيق والشدة، يفزع إلى ربه ويحتمي بحماه، ويطلب عونه، ويرجو مدده وتأييده، كما هو حالنا اليوم على أرض فلسطين وغيرها من أراضي المسلمين التي تحتاج إلى دعاء لا يتوقف.

انظر إليه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد اشتد الضيق بالمسلمين. يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد) وبالغ في الابتهال صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداءه عن منكبيه، وأشفق عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأتى إليه يقول: حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك.

وفي غزوة الخندق والصحابة منهمكون في حفر الخندق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهم ويقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة).

ونحن ندعو لأهل فلسطين أن يغفر الله لهم وهم منهمكون في حرب عدوهم وعدونا: اللهم اغفر لنا ولأهل فلسطين.

وفي الأحزاب أيضاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ لأنهم أضاعوا عليهم صلاة العصر؛ وذلك لانشغال المسلمين بالدفاع عن الخندق، فقال صلى الله عليه وسلم: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)، ونحن أيضاً ندعو على اليهود أن يملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما فعلوا في أبنائنا وإخواننا وأمهاتنا وبناتنا في فلسطين ما فعلوا، فقد أحالوا بيوتهم وشوارعهم إلى نار موقدة لعنهم الله.

بل انظر إليه صلى الله عليه وسلم كيف كان يدعو الله في كل أحواله حتى بعد فجيعة أحد، انظر إليه كيف كان شاكراً حامداً راضياً مطمئناً حتى بعد كارثة استشهاد 70 من أجلاء الصحابة، اسمع وتدبر جيداً وهو يبدأ دعاءه صلى الله عليه وسلم بشيء عجيب. يقول: (اللهم لك الحمد كله) يبدأ بالحمد، وذلك حتى لا يظن ظان أنه ساخط، أو أنه معترض على قضاء الله، (اللهم لك الحمد كله) ويعلم الله كم من النعم والأفضال في أرض فلسطين الآن، مع كل ما نراه من آلام، والتي يجب أن يُحمد عليها سبحانه وتعالى، يكفي قوله سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141] فضائل عظيمة، فتمييز المؤمنين من المنافقين الذين لا يريدون جهاداً هذه فضيلة، واتخاذ شهداء هذه فضيلة، وتمحيص المؤمنين -أي: تطهيرهم من الذنوب- هذه فضيلة، محق الكافرين -أي: إهلاكهم واستئصالهم- هذه فضيلة، هذه كلها نعم تستوجب حمد الله سبحانه وتعالى.

جاء في مسند الإمام أحمد والطبراني ، ورواه أيضاً البخاري في الأدب المفرد: (إنه لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولما مبعّد لما قرّبت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق!)، لا يفتر عن دعاء صلى الله عليه وسلم في بدر كان أو في أحد، في نصر كان أو في هزيمة، في فرح كان أو في هم صلى الله عليه وسلم.

على نفس الدرب سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من التابعين والصالحين والمجاهدين، دعاء طويل، وابتهال عميق، وتضرع في خشوع، ونداء في خضوع.

هذا سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه يوم الأحزاب يناجي ربه، وكان سعد رضي الله عنه قد أصيب إصابة كبيرة يقول: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم. كان سعد بن معاذ رضي الله عنه يظن أن الحرب قد انتهت، وأن المسلمين قد انتصروا وكفى، فيقول رضي الله عنه: اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، أي: أنه لا يريد أن يموت في هذا الوقت، ولكنه يريد أن يستمر في الجهاد في سبيل الله إن كان للحرب بقية، ثم يُكمل فيقول: وإن كنت وضعت الحرب فافجرها -أي: افجر الإصابة حتى أموت- واجعل موتتي فيها، وذلك حتى يموت شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، ثم يُكمل: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.

وانظر كيف فعل الله سبحانه وتعالى بدعائه وكيف استجاب له؟

كانت الإصابة سبباً لشهادته في سبيل الله؛ لأن الحرب كانت قد وضعت فعلاً في الأحزاب، وأقر الله عينه من بني قريظة قبل أن يموت.. سبحان الله!

اتصال مباشر مع رب العالمين، واستجابة كاملة منه سبحانه وتعالى لدعاء العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه.

دعاء البراء بن مالك يوم تُستر، تذكرون عندما تحدثنا عن موقعة تستر في فتوح فارس، تلك الموقعة العجيبة التي استمر حصار المسلمين فيها للفرس مدة سنة كاملة ونصف، وفي آخر هذه المدة الطويلة جداً يدعو البراء بن مالك رضي الله عنه دعاء قصيراً لكنه عجيب، يقول: اللهم امنحنا أكتافهم وألحقني بنبيك، يطلب النصر ويطلب الشهادة، فإذا بالجيش ينتصر، وإذا بحصن تُستر يُفتح، وإذا بـالبراء يفوز بالشهادة ويلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم كما أراد، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (رُب أشعث أغبر ذي طمرين) والطمر: هو الثوب البالي الرث، يعني: رجل بسيط الهيئة (رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك).

ويروي الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (رُب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).

فالاستجابة ليست بعظم المركز أو بقوة السلطان، ولكن الاستجابة تكون بطهارة القلب، ونقاء القصد، وجمال الطلب، وإلحاح الطالب.

وهذا النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه، يدعو في نهاوند فيقول: اللهم إني أسألك أن تُقر عيني بفتح يكون فيه عز للإسلام وذُل يُذل به الكفار، ثم اقبضني بعد ذلك على الشهادة، واجعل النعمان أول شهيد.

الموت عندهم كان غاية وهدفاً ومطمحاً، فهذا النعمان بن مقرن يدعو أن يكون أول شهداء المسلمين، وانتهى من دعائه رضي الله عنه فكان النصر للمسلمين، وكان النعمان أول مُصاب، ثم لا يستشهد إلا بعد أن يقر الله عينه بالنصر، وذلك كما فصّلنا لكم من قبل في فتح نهاوند.

استجابات عجيبة، وكرامات من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين.

وهذا موقف عجيب من حروب الردة، إذ نزل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه قائد الجيش السابع من جيوش حروب الردة منزلاً ليلاً، وكانوا في صحراء قاحلة، وما إن استقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش والخيام والشراب، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فكانت كارثة وقعت في صحراء قاحلة ويفقدون الزاد والماء!!

وركب الناس من الهم والغم ما لا يوصف، فنادى العلاء عليهم، ثم قال في ثبات عجيب: أيها الناس! ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا، فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم. انظروا إلى اليقين وإلى أسباب عدم الخذلان في سبيل الله، فهم أنصار الله فكيف يخذلهم الله؟

وبعد صلاة الفجر جثا العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه وأرضاه على ركبتيه وجثا الناس، ونصب في الدعاء ورفع يديه، وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس وهم مجتهدون في الدعاء، حتى إذا فرغوا من دعائهم وجدوا بجوارهم شيئاً عجباً، وجدوا في عمق الصحراء غديراً عظيماً -جدول مياه- جعل الله فيه ماء عذباً فراتاً، فمشى الناس إليه وشربوا واغتسلوا، ثم ما هي إلا لحظات، حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها لم يفقد الناس من أمتعتهم شيئاً، آية من آيات الله، وما هي من المؤمنين ببعيد.

وليس هذا والله يا إخوة! في زمان الصحابة فقط، بل تعال وتدبر في دعاء يوسف بن تاشفين رحمه الله زعيم دولة المرابطين العظيم، بعد أكثر من أربعة قرون من الصحابة، وذلك عندما ركب السفن لعبور مضيق جبل طارق إلى بلاد الأندلس؛ ليحارب الصليبيين هناك في موقعة فاصلة، فهاج البحر، وثارت الرياح، وارتفعت الأمواج، وكادت السفن أن تهلك، ماذا فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله؟

وقف في تضرع وخشوع ناصباً قدمه رافعاً يده، مستحضراً قلبه وعقله، يقول: اللهم إن كنت تعلم أن في عبورنا هذا البحر خيراً للمسلمين فسهّل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعّبه حتى لا نعبره، فإذا بالريح تسكن وإذا بالبحر يهدأ، وإذا بالجيش يعبر، وإذا بالنصر يتم.

هذا والله قليل من كثير، وقلما تجد موقعة أو أزمة إلا وتجد الصالحين قد رفعوا أيديهم في خشوع يطلبون من الله العون والتوفيق، فهو المجيب للدعاء القادر على كل شيء سبحانه.

إخواني في الله! تأخُّر النصر قد يورث في قلوب البعض يأساً، ويتبع ذلك اليأس فتور في الدعاء، قد يقول قائل أو يعلق معلق أو يزعم زاعم أنه كثيراً ما دعونا الله أن ينصر أهل فلسطين، ومع ذلك ما زال الفلسطينيون يقتلون ويشردون ويُظلمون، إن لم يقل ذلك بلسانه فقد ينطق به حاله، وهذا أمر خطير، يحتاج منا إلى وقفة ونظر، ولي عليه ثلاث تعليقات:

تحري الحلال وتحري الأوقات الفاضلة عند الدعاء

التعليق الأول: لعل الداعي الذي يدعو الله لم يراع أموراً كانت سبباً في تعطيل الإجابة وتأخير النصر.

بمعنى: أن هناك أشياء إن فعلتها كانت إجابة دعائك أقرب، وتلبية ندائك أرجى، ومن أخطر هذه الأشياء الحرص على الحلال في المطعم والمشرب والملبس، وغير ذلك من الأمور.

روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن سعد بن أبي وقاص قام يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: يا سعد ! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به) والسحت: أي الحرام.

ومن المعلوم طبعاً أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه طيب المطعم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحمته يريد أن يعلم أمته جميعاً طريقة يستجاب بها دعاؤهم وينقذون بها من النار، يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نحرص على الحلال في كل أمورنا، هذا الحديث وإن كان البعض قد ضعّفه إلا أن معناه يشهد له الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك) فالرجل قد استكمل كثيراً من الأمور التي يستجاب لأجلها الدعاء، فهو مسافر وليس مسافراً فقط بل يطيل السفر، ثم هو يرفع يديه تضرعاً إلى الله، ثم هو يلح في الدعاء: يا رب! يا رب! ولكنه يعاني من مرض خطير، مرض أكل الحرام.

إذاً: من أهم موجبات إجابة الدعاء تحري الحلال، فإن كنت للحلال متحرياً فهناك أمور أخرى لو فعلتها كنت إلى الإجابة أقرب، منها مثلاً: تحري الأوقات الفاضلة كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وغير ذلك من الأوقات الفاضلة.

أيضاً تحري الأحوال الشريفة وهي أحوال شريفة متاحة طوال العام، أثناء السجود، ودبر الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الجيوش، وعند الخوف والوجل، وعند رقة القلب، وفي السفر، أشياء كثيرة جداً ومهمة جداً، فلا بد أن يتحراها المؤمن حتى يستجاب لدعائه كاملاً.

أيضاً من موجبات إجابة الدعاء: أن يكون القلب حاضراً غير لاه ولا غافل، فإنه ليس من المعقول أن تكون أنت المحتاج وترفع طلبك إلى الخالق، وذهنك منشغل عنه مصروف إلى غيره.

أيضاً من موجبات إجابة الدعاء: أن تلح في الدعاء وتصر عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الدعاء في المرة الواحدة ثلاث مرات، ويكرره كثيراً في كل يوم، وطوال الشهر والسنة، بل وطوال العمر، وقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله بتغيير القبلة ولم يستجب الله له، إلا بعد 17 شهراً كاملة.

وتحري رقة القلب، فإذا لاحظت في قلبك رقة فادع الله سبحانه وتعالى، سيستجيب إن شاء الله.

يقول ثابت بن أسلم البناني رحمه الله: وإني أعلم حين يستجيب لي.

فعجبوا من قوله وقالوا: تعلم حين يستجيب لك ربك؟

قال: نعم.

قالوا: كيف تعلم ذلك؟

قال: إذا وجل قلبي، واقشعر جلدي، وفاضت عيناي، وفُتح لي الدعاء فثم هناك أعلم أن قد استُجيب لي.

إذاً: هذا هو التعليق الأول على سؤال من قال: إنه كثيراً ما دعونا ولا يستجاب لنا.

عدم الاستعجال في الإجابة

التعليق الثاني: أنه حتى لو استكملت صفات الدعاء المستجاب لا يجب أبداً أن يتعجل الإنسان الإجابة؛ لأن الله بحكمته يختار الوقت الأنسب للإجابة.

روى الإمام مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) أمر خطير، أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف دعا دعاء مستفيضاً، وهو شديد الحزن بعد خروجه من الطائف، وقد آذاه أهلها وسفهاؤها، وانظر إليه في دعائه يسطّر قاعدة مهمة للمسلمين يقول: (إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي).

فميعاد النصر تختاره أنت يا ربنا! لكن الذي يهمنا هو ألا نرتكب ما يغضبك، ثم استجاب الله لدعائه بعدها بأيام عندما أسلم ستة من الخزرج، ثم بعد أكثر من عامين تأتي الهجرة والنصرة المتدرجة المتأنية، ثم بعد الهجرة بسنتين تأتي بدر ويتم النصر الكبير، من الذي كان يدعو بعد الطائف؟ كان الذي يدعو هو أحب الخلق إلى الله عز وجل محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فلكل حدث ميعاد لن يتبدل هذا الميعاد ولن يتغير، يختاره الله سبحانه وتعالى بحكمته وقدرته وهو دائماً في صالح المؤمنين: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

ثم إنك يا أخي الحبيب! مستفيد على كل الأحوال، سواء عُجّل بالإجابة أم لم يُعجَّل، واستمع إلى حبيبنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه: (ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها).

يقول ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن دعاء المؤمن لا يُرد، غير أنه قد يكون الأولى تأخير الإجابة، أو يعوض بما هو أولى عاجلاً أو آجلاً، فينبغي للمؤمن ألا يترك الطلب من ربه، فإنه متعبّد بالدعاء كما هو متعبّد بالتسليم والتفويض.

الأخذ بالأسباب مقرون بالاجتهاد في الدعاء

التعليق الثالث: هو ما ذكرناه في أول المحاضرة من أنه إذا اجتهدت في الدعاء ولم تأخذ بالأسباب الصحيحة فإنك لا تكون أهلاً للإجابة، فالتوكل هو حسن العمل مع شدة التعلق بالله عز وجل، والاعتقاد في قدرته وطلب المعونة منه سبحانه وتعالى.

أما إذا دعا الإنسان ربه دون عمل صحيح موافق للسنة فإن هذا يسمى تواكلاً، وهو ليس من الإسلام في شيء.

ولذلك فلعل العاملين لقضية فلسطين قد ضلوا الطريق سنوات وسنوات؛ ولذلك لم يستجب الله دعاءهم، ولو استجاب لهم لكان في ذلك هلكتهم، كالذي يدعو الله أن يوفق المفاوضين للضغط على اليهود حتى يأخذ المسلمون خمس الأرض يقيمون عليها دولة بلا سيادة، هذا لا يستجيب الله سبحانه وتعالى له؛ لأنه خالف الشرع وخالف ما يريده الله سبحانه وتعالى.

ثم يا أخي! ما أدراك قد تتحقق الإجابة وأنت لا تعلم.

ما أدراك أن طائرة تقصف فيُصد قصفها بدعاء رجل بسيط في غرفة منعزلة في قرية صغيرة في طرف من أطراف العالم!

ما أدراك أن مخططاً يهودياً شيطانياً يدبر في الظلام، فإذا به يُحبط بدعاء امرأة عجوز أو طفل صغير في بلد قريب أو بعيد من فلسطين!

ما أدراك أن حجارة تطلق من يد شاب مجاهد فتُحمل إلى رأس يهودي مسلح فتقتله كما قتل داود جالوت ! وذلك بدعاء جماعة من المسلمين في قنوتهم، يدعون للمسلمين المجاهدين بالتوفيق، ويدعون على اليهود بالهلكة والزلزلة والتدمير!

التعليق الأول: لعل الداعي الذي يدعو الله لم يراع أموراً كانت سبباً في تعطيل الإجابة وتأخير النصر.

بمعنى: أن هناك أشياء إن فعلتها كانت إجابة دعائك أقرب، وتلبية ندائك أرجى، ومن أخطر هذه الأشياء الحرص على الحلال في المطعم والمشرب والملبس، وغير ذلك من الأمور.

روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن سعد بن أبي وقاص قام يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: يا سعد ! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به) والسحت: أي الحرام.

ومن المعلوم طبعاً أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه طيب المطعم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحمته يريد أن يعلم أمته جميعاً طريقة يستجاب بها دعاؤهم وينقذون بها من النار، يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نحرص على الحلال في كل أمورنا، هذا الحديث وإن كان البعض قد ضعّفه إلا أن معناه يشهد له الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك) فالرجل قد استكمل كثيراً من الأمور التي يستجاب لأجلها الدعاء، فهو مسافر وليس مسافراً فقط بل يطيل السفر، ثم هو يرفع يديه تضرعاً إلى الله، ثم هو يلح في الدعاء: يا رب! يا رب! ولكنه يعاني من مرض خطير، مرض أكل الحرام.

إذاً: من أهم موجبات إجابة الدعاء تحري الحلال، فإن كنت للحلال متحرياً فهناك أمور أخرى لو فعلتها كنت إلى الإجابة أقرب، منها مثلاً: تحري الأوقات الفاضلة كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وغير ذلك من الأوقات الفاضلة.

أيضاً تحري الأحوال الشريفة وهي أحوال شريفة متاحة طوال العام، أثناء السجود، ودبر الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الجيوش، وعند الخوف والوجل، وعند رقة القلب، وفي السفر، أشياء كثيرة جداً ومهمة جداً، فلا بد أن يتحراها المؤمن حتى يستجاب لدعائه كاملاً.

أيضاً من موجبات إجابة الدعاء: أن يكون القلب حاضراً غير لاه ولا غافل، فإنه ليس من المعقول أن تكون أنت المحتاج وترفع طلبك إلى الخالق، وذهنك منشغل عنه مصروف إلى غيره.

أيضاً من موجبات إجابة الدعاء: أن تلح في الدعاء وتصر عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الدعاء في المرة الواحدة ثلاث مرات، ويكرره كثيراً في كل يوم، وطوال الشهر والسنة، بل وطوال العمر، وقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله بتغيير القبلة ولم يستجب الله له، إلا بعد 17 شهراً كاملة.

وتحري رقة القلب، فإذا لاحظت في قلبك رقة فادع الله سبحانه وتعالى، سيستجيب إن شاء الله.

يقول ثابت بن أسلم البناني رحمه الله: وإني أعلم حين يستجيب لي.

فعجبوا من قوله وقالوا: تعلم حين يستجيب لك ربك؟

قال: نعم.

قالوا: كيف تعلم ذلك؟

قال: إذا وجل قلبي، واقشعر جلدي، وفاضت عيناي، وفُتح لي الدعاء فثم هناك أعلم أن قد استُجيب لي.

إذاً: هذا هو التعليق الأول على سؤال من قال: إنه كثيراً ما دعونا ولا يستجاب لنا.

التعليق الثاني: أنه حتى لو استكملت صفات الدعاء المستجاب لا يجب أبداً أن يتعجل الإنسان الإجابة؛ لأن الله بحكمته يختار الوقت الأنسب للإجابة.

روى الإمام مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) أمر خطير، أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف دعا دعاء مستفيضاً، وهو شديد الحزن بعد خروجه من الطائف، وقد آذاه أهلها وسفهاؤها، وانظر إليه في دعائه يسطّر قاعدة مهمة للمسلمين يقول: (إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي).

فميعاد النصر تختاره أنت يا ربنا! لكن الذي يهمنا هو ألا نرتكب ما يغضبك، ثم استجاب الله لدعائه بعدها بأيام عندما أسلم ستة من الخزرج، ثم بعد أكثر من عامين تأتي الهجرة والنصرة المتدرجة المتأنية، ثم بعد الهجرة بسنتين تأتي بدر ويتم النصر الكبير، من الذي كان يدعو بعد الطائف؟ كان الذي يدعو هو أحب الخلق إلى الله عز وجل محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فلكل حدث ميعاد لن يتبدل هذا الميعاد ولن يتغير، يختاره الله سبحانه وتعالى بحكمته وقدرته وهو دائماً في صالح المؤمنين: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

ثم إنك يا أخي الحبيب! مستفيد على كل الأحوال، سواء عُجّل بالإجابة أم لم يُعجَّل، واستمع إلى حبيبنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه: (ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها).

يقول ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن دعاء المؤمن لا يُرد، غير أنه قد يكون الأولى تأخير الإجابة، أو يعوض بما هو أولى عاجلاً أو آجلاً، فينبغي للمؤمن ألا يترك الطلب من ربه، فإنه متعبّد بالدعاء كما هو متعبّد بالتسليم والتفويض.

التعليق الثالث: هو ما ذكرناه في أول المحاضرة من أنه إذا اجتهدت في الدعاء ولم تأخذ بالأسباب الصحيحة فإنك لا تكون أهلاً للإجابة، فالتوكل هو حسن العمل مع شدة التعلق بالله عز وجل، والاعتقاد في قدرته وطلب المعونة منه سبحانه وتعالى.

أما إذا دعا الإنسان ربه دون عمل صحيح موافق للسنة فإن هذا يسمى تواكلاً، وهو ليس من الإسلام في شيء.

ولذلك فلعل العاملين لقضية فلسطين قد ضلوا الطريق سنوات وسنوات؛ ولذلك لم يستجب الله دعاءهم، ولو استجاب لهم لكان في ذلك هلكتهم، كالذي يدعو الله أن يوفق المفاوضين للضغط على اليهود حتى يأخذ المسلمون خمس الأرض يقيمون عليها دولة بلا سيادة، هذا لا يستجيب الله سبحانه وتعالى له؛ لأنه خالف الشرع وخالف ما يريده الله سبحانه وتعالى.

ثم يا أخي! ما أدراك قد تتحقق الإجابة وأنت لا تعلم.

ما أدراك أن طائرة تقصف فيُصد قصفها بدعاء رجل بسيط في غرفة منعزلة في قرية صغيرة في طرف من أطراف العالم!

ما أدراك أن مخططاً يهودياً شيطانياً يدبر في الظلام، فإذا به يُحبط بدعاء امرأة عجوز أو طفل صغير في بلد قريب أو بعيد من فلسطين!

ما أدراك أن حجارة تطلق من يد شاب مجاهد فتُحمل إلى رأس يهودي مسلح فتقتله كما قتل داود جالوت ! وذلك بدعاء جماعة من المسلمين في قنوتهم، يدعون للمسلمين المجاهدين بالتوفيق، ويدعون على اليهود بالهلكة والزلزلة والتدمير!

لا تستهينوا أبداً يا إخوة! بالدعاء، فإنه والله من أمضى الأسلحة.

روى البزار والطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن السيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يُغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء إلى يوم القيامة) أي: يتصارعان إلى يوم القيامة.

ثم إنه بدعائك لأهل فلسطين يتحقق لك ما دعوت به لهم، فإن دعوت لهم بالتوفيق وفقك الله، وإن دعوت لهم بالمغفرة غفر الله لك، وإن دعوت لهم بالسلامة سلّمك الله، وإن دعوت لهم بالثبات ثبّتك الله، وإن دعوت على عدوهم بالهلكة أهلك الله عدوك.

فكما جاء في صحيح مسلم عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين. ولك بمثل)، فهكذا كلما دعوت لأخيك هناك في فلسطين تحقق لك ما تدعو له به.

ولا تنسوا يا إخواني في دعائكم لأهل فلسطين أن تدعوا على من ظلمهم من اليهود، ومن عاونهم وساندهم ورضي بأفعالهم وكان على شاكلتهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت أربعين يوماً يدعو على من قتل قراء المسلمين في مأساة بئر معونة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً يقول في بعض أيامه التي لقي فيها العدو كما جاء في البخاري ومسلم عن عبد الله بن أوفى رضي الله عنه: (اللهم منزل الكتاب! ومجري السحاب! وهازم الأحزاب! اهزمهم وانصرنا عليهم)، وفي راوية: (اللهم اهزمهم وزلزلهم).

وروى أبو داود والنسائي بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: (اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم).

اللهم إنا نجعلك في نحور اليهود، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحور من ساعد اليهود ورضي بأفعالهم، ونعوذ بك من شرورهم جميعاً.