سلسلة فلسطين تهويد فلسطين


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فخذه أخذ عزيز مقتدر، واجعل تدبيره تدميره، واجعل كيده في نحره؛ إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

أما بعد:

فمع المحاضرة السادسة من المحاضرات المتعلقة بقضية فلسطين.

وفي الحلقتين السابقتين تحدثنا عن بزوغ فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وكان الداعي لها هو تيودور هرتزل الزعيم الصهيوني المعروف، وتحدثنا عن جهوده في هذا المجال، بدءاً من (مؤتمر بال)، ومروراً بالمباحثات التي تمت بينه وبين كل من إنجلترا وألمانيا وروسيا، والخلافة العثمانية.

وتعرضنا أيضاً لموقف السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله من مطامع اليهود، وكيف تصدى لها في ذكاء وإخلاص.

ثم أشرنا إلى أن اليهود قرروا إقصاء السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله عن الحكم، وتقويض أركان الخلافة، وكيف حاولوا اغتياله، وفشلت هذه المحاولات.

ثم كيف سلكوا سبيل التفريق بين المسلمين على أساس العنصر، وكيف ساهموا في إنشاء الجمعية العلمانية المعروفة بجمعية الاتحاد والترقي، ثم كيف أقصي بالفعل الخليفة الجبل عبد الحميد الثاني رحمه الله.

وتحدثنا أيضاً عن ظهور فكرة القومية العربية بإيعاز من اليهود والإنجليز أيضاً، وكيف ظهر الشريف حسين ينادي بمملكة للعرب، وذكرنا دخول الحرب العالمية الأولى وآثارها على المسلمين، وبالذات على فلسطين، وفصلنا في المعاهدة المشئومة معاهدة الشريف الحسين مع مكماهون الإنجليزي، وفيها يضرب الشريف حسين الخلافة العثمانية في ظهرها في مقابل وعد من إنجلترا بإقامة مملكة عربية يكون هو على رأسها.

ثم ذكرنا ما فعلته إنجلترا في معاهدة (سايكس بيكو)، وكيف خانت عهودها كالمعتاد، وفصلنا بعد ذلك في الكوارث التي حلت على المسلمين في سنة 1917م، وعددنا منها أربعاً:

أولاً: وعد بلفور .

ثانياً: ظهور شخصية مصطفى كمال أتاتورك كقائد خائن لجيش العثمانيين في فلسطين.

ثالثاً: احتلال الإنجليز لفلسطين، وغفلة أهلها عن نوايا الإنجليز.

رابعاً: الثورة الشيوعية في روسيا، بما لها من آثار مدمرة.

واليوم نستكمل معاً التنقيب عن الأسباب التي أدت إلى تمكين شعب خسيس مهين -كشعب اليهود- من أرض طاهرة مقدسة -كأرض فلسطين- ونستكمل معاً التقليب في صفحات التاريخ، نستخرج من بينها أنواراً تضيء لنا طريق المستقبل، فليس في الدنيا أحداث جديدة، ما حدث منذ زمن آدم وإبليس إلى ما يحدث إلى يوم القيامة واحد لا يختلف، وثابت لا يتغير، فقط تختلف الأسماء والأماكن، لكن صلب الأحداث واحد.

ذلك أن لله سنناً لا تتغير ولا تتبدل، ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].

اليوم نبدأ في الحديث من حيث انتهينا في المرة السابقة، فقد انتهت سنة 1917م، وقد حدثت فيها مصائب كثيرة كما نوهنا، وجاءت السنة التالية 1918م، وانتهت الحرب العالمية الأولى، وبدأت الأمور تتضح في المنطقة.

إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا انتصروا على ألمانيا والخلافة العثمانية، وبدءوا جميعاً يقتسمون -كما قالوا: تركة الرجل المريض- تركة الخلافة العثمانية، وبدأ الإنجليز والفرنسيون في تطبيق معاهدة (سايكس بيكو)، وتقسيم المملكة العربية التي وعدوا بها الشريف حسين ، فأخذت إنجلترا الأردن والعراق، وأخذت فرنسا سوريا ولبنان.

كما طلبت إنجلترا من فرنسا إلغاء البند الخاص بفلسطين، حيث كان من المقرر أن تكون تحت حماية دولية مشتركة باستشارة روسيا، وأن تجعل فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي فقط في مقابل أن تطلق إنجلترا يد فرنسا في الجزائر وتونس، ووافق الفرنسيون على ذلك، وأصبحت فلسطين محتلة رسمياً من الإنجليز، ولكي يستقر الوضع في فلسطين أعلنت إنجلترا أنها لا تحتل البلاد، ولكن فقط تجعل عليها انتداباً وإشرافاً إلى أجل، وهذا الأجل جعلته ثلاثين عاماً، فينتهي الانتداب الإنجليزي على فلسطين في الرابع عشر من مايو سنة 1948م.

ولكي تسهل إنجلترا مهمتها في تسليم فلسطين لليهود لم تجعل على فلسطين حاكماً منها كما كان معتاداً في مثل هذه الظروف، فإنجلترا كانت تحتل مصر مثلاً، وكان هناك خديوي أو ملك في الواجهة، وكذلك في غيرها من البلاد المحتلة، لكن هنا في فلسطين لم تفعل هذا حتى لا يجد الفلسطينيون أي رمز يلتفون حوله ولو كان عميلاً، ويصبح بذلك الطريق لليهود مفتوحاً.

من الذي ثار على هذا الوضع المذل؟ الشريف حسين : أين ما وعدتموني به؟ فقالت إنجلترا: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22]، زاد في اعتراضه، وبكى ملكه الضائع، فاعتقل ونفي إلى قبرص، وخرج الشريف حسين من الصورة تماماً، فقد المملكة المزعومة، وفقد مكة المكرمة، وفقد المسلمين، بل فقد نفسه وفقد كل شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

بريطانيا الآن تريد أن تضع حكاماً على ممتلكاتها، ويجب أن يكونوا من العرب، ويحكم الإنجليز من وراء الستار، أو حتى من أمام الستار، لكن لا بد من وجود صورة، تُرى أي صورة اختارها الإنجليز؟

انظر إلى السخرية والاستهزاء! بعد نفي الشريف حسين إلى قبرص، وضعوا أبناءه على رئاسة هذه البلاد بعد تقسيمها، وضعوا الأمير فيصل بن الحسين قائد الجيوش العربية ضد الخلافة العثمانية على العراق، ووضعوا الأمير عبد الله بن الحسين على الأردن، أما في فلسطين فقد شكلوا فيها إدارة عسكرية إنجليزية، ولم يضعوا فيها حكاماً عرباً كما ذكرنا، وجعلوا فلسطين تابعة لمكتب الإدارة الإنجليزي بالقاهرة.

وفي سنة 1919م عقد مؤتمر للسلام في باريس للدول المتصارعة في الحرب العالمية الأولى، وحضر فيه الأمير فيصل بن الشريف حسين ممثلاً عن العرب، وفي المرة الوحيدة التي سمح له فيها بالكلام قام وقال: أطالب باستقلال البلدان العربية، مع ترك فلسطين جانباً بالنظر إلى طابعها العالمي -حسبنا الله ونعم الوكيل! وكأن الخيانة مرض وراثي- وبعدها أرسل رسالة إلى فرانك فورتر الزعيم الصهيوني الأمريكي، قال فيها: نحن العرب -وخاصة المثقفين- ننظر برغبة شديدة إلى النهضة الصهيونية، ولسوف نعمل ما في وسعنا لمساعدة اليهود أبداً، ونتمنى لهم وطناً ينزلون فيه على الرحب والسعة، وإني أتطلع وشعبي إلى مستقبل نستطيع فيه أن نتبادل التعاون؛ لتصبح البلاد التي نشترك في الاهتمام بها ذات مركز بين الأمم المتمدنة في العالم.

سبحان الله!

بريطانيا لا تهدأ أبداً، دسائس ومؤامرات على كل المستويات، توجهت إلى تركيا الجريحة ترسم خطوات النهاية، وصناعة الزعيم مصطفى كمال أتاتورك الذي تريد له أن يصعد على كرسي الحكم، وماذا يفعل بالخليفة؟ ومن هو مصطفى كمال أتاتورك حتى يستبدلوا الخليفة به؟ صناعة الزعيم تبدأ!

إنجلترا تدبر معركة بين تركيا واليونان، وتدخل هي في صف اليونان، ويأتي مصطفى كمال أتاتورك ويحارب اليونان، ويحارب معها إنجلترا الدولة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، فينسحب الإنجليز أمام مصطفى كمال أتاتورك ، ويهرب اليونانيون، وينتصر البطل المقدام مصطفى كمال أتاتورك في معركة هائلة كما صوروها.

لكن -سبحان الله!- التاريخ يسجل هذه المعركة الهائلة لم يقتل فيها رجل واحد من الطرفين، التمثيلية لم تكن محبوكة، لكن أخبار الانتصار تنتشر في العالم بأسره، الصحافة اليهودية والإنجليزية تنشر أخبار الهزيمة الإنجليزية المرة، وأخبار البطل الجديد الذي أعاد لتركيا كرامتها، صور البطل في كل مكان، لقاءات مع كبار الساسة في العالم، ولا ينسون أن يلتقي بكبار رجال الدين الإسلامي؛ ويبدي في براعة حبه للإسلام وللمسلمين، ويضطر البطل أن يدخل المساجد ليظهر في الصورة وهو يصلي في خشوع، كما اضطر قبل ذلك تيودور هرتزل أن يدخل المعبد اليهودي تمثيلاً وتصنعاً، ويفتن به المسلمون، ويتمنون أن لو يتنازل فيتولى قيادتهم، حتى أن أحمد شوقي أمير الشعراء ظن فيه خيراً، وشبهه بـخالد بن الوليد رضي الله عنه حيث قال:

الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب

ثم دبرت مؤامرة أخرى: مؤتمر في الغرب، وثورات ومظاهرات وادعاءات وافتراءات، المهم صعد في النهاية البطل المغوار، حامي الإسلام والمسلمين، وهازم الإنجليز واليونانيين إلى كرسي الحكم.

وأقصي السلطان عبد المجيد بن عبد العزيز السلطان العثماني في ذلك الوقت، وكان ذلك في سنة 1924م في 3 مارس، وأعلن مصطفى كمال أتاتورك استقلال تركيا، واعترفت به مباشرة إنجلترا، وتحسنت علاقاتها جداً مع الدولة التي كانت تحاربها منذ شهور معدودات، واستلم مصطفى كمال أتاتورك الحكم، وفعل ما لم يكن يستطيع الإنجليز أن يفعلوه في سنوات عديدة، انظروا ماذا فعل مصطفى كمال أتاتورك مؤيداً بحزبه العلماني الاتحاد والترقي؟!

ألغى الخلافة الإسلامية، وهي أول مرة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلغى الخلافة الإسلامية، نعم. ضعفت الخلافة الإسلامية قبل ذلك كثيراً، لكنها بقيت رمزاً يلتف حوله المسلمون ليقوموا من جديد، أما الآن فقد ألغى الخلافة الإسلامية تماماً، وفصل تركيا بالكامل عن الدول الإسلامية الأخرى، وفصل الدين بالكلية عن الدولة، وحرم لبس الحجاب الإسلامي، وفرض الأزياء الأوروبية، وألغى لعدة سنوات الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى، ومنع المسلمين من أداء فريضة الحج، وأغلق عدداً كبيراً من المساجد، وحول مسجد أيا صوفيا إلى كنيسة، ثم إلى مخزن بعد ذلك، ومنع تعدد الزوجات، وأباح زواج المسلمة بغير المسلم، وألغى عطلة الجمعة وجعلها الأحد، ومنع الأذان للصلاة باللغة العربية، وأصر على أن يكون الأذان باللغة التركية، وألغى الحروف العربية من الكتابة، واستبدلها باللاتينية، وألغى من الدستور التركي المادة التي تنص على أن دين الدولة الإسلام، ونص في الدستور على أن تركيا دولة علمانية، وألغى الشريعة الإسلامية تماماً، واستبدلها بالقانون الإيطالي والسويسري، وألغى منصب شيخ الإسلام، وأجبر أئمة الدين على ارتداء القبعة بدلاً من العمامة، وألغى التقويم الهجري، وأباح الردة عن الإسلام، وساوى بين الذكر والأنثى في الميراث، وأعدم أكثر من مائة وخمسين من علماء المسلمين، وألغى من اسمه كلمة: ( مصطفى )، واكتفى بـ( كمال أتاتورك )، وأوصى في وصيته قبل موته ألا يصلى عليه.

ولما مات احتار مقربوه هل يصلون عليه أم لا في ظل علمانية الدولة وفي ظل وصيته؟ وفي النهاية صلى عليه أحدهم منفرداً، وذهبوا به إلى قبره ليجد أعماله في انتظاره، ويا له من لقاء!

وهكذا سقطت الخلافة العثمانية، وقامت الدول العلمانية، وضاعت هيبة الدين، وتُركت فلسطين لمصيرها لا يدافع عنها إلا قومها، أما من حولها من الزعماء فلم يتركوها فقط، بل ساهموا في تضييعها إسهاماً.

هذه الزعامات -التي سادت آنذاك وكانت وبالاً على الأمة- صدق فيهم قول الشاعر -يتحدث عن الأمة الإسلامية وزعمائها فيقول-:

عجيب أمرها حقاً إذ الدنيا بها تشقى

وما زالت لهاوية بكل غبائها ترقى

وساستها أرى القطرا ن من نياتهم أنقى

ضلالات تراودهم وقد هاموا بها عشقا

وصاروا طوع قبضتها عبيداً أدمنوا الرقا

قلوباً لا تعي شيئاً وأرشد من بهم حمقا

وبات الخرق متسعاً وما اسطاعوا له رتقا

وتحسبهم على علم وهم في جهلهم حمقى

وفي التاريخ من لعبوا بنار عوقبوا حرقا

ومن لفوا على الأعنا ق حبلاً غالهم شنقا

وقيل لمثلهم بعداً وقيل لمثلهم سحقا

نعم. سحقاً لـأتاتورك وأمثاله.

وها قد مرت السنوات، وما زالت تركيا تحكم بشرع أتاتورك لا بشرع الله، فإلى أي شيء وصلت؟ كيف انتقلت الخلافة العثمانية من خلافة تبسط أجنحتها على عشرين مليون كيلو متر مربع، وهي أكبر مساحة حُكمت في دولة في كل التاريخ، إلى دولة تستجدي العون والغذاء من الاتحاد الأوروبي.

كيف تحولت الخلافة العثمانية من خلافة تحكم الأرض -وأنا أعني ما أقول- في زمن قوتها إلى دولة تفتح قواعدها لكل من هب ودب؛ ليضرب المسلمون في صدورهم وظهورهم؟

كيف تحولت الخلافة العثمانية من دولة تنشر الإسلام في ربوع الدنيا، إلى دولة تجبر على تدريس المسيحية واليهودية بل والبوذية لأطفالها المسلمين؟

كيف تحولت الخلافة العثمانية من خلافة ترفع من شأن العلماء، فيسمع لهم الحاكم والمحكوم، إلى دولة علمانية تحاكم فريقاً للكرة لأنه سجد لله شكراً بعد انتصار في مباراة، قالوا: أدخلوا الدين في الرياضة، وهذا ضد مبادئ الدولة العلمانية، هكذا قالوا بكل صفاقة.

الإجابة عن كل هذه التساؤلات هي كلمة واحدة: الإسلام.

كانت الخلافة بالإسلام كل شيء، وأصبحت بغيره لا شيء.

كانت بالإسلام تسوس الشعوب، فإذا بها بغيره في ذيل القائمة، وتحول القائد إلى مقود، وتحول المتبوع إلى تابع، وصدق الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].

إذاً: باختصار نراجع ونرتب ما سبق من أحداث تمهيداً لقيام دولة إسرائيل في فلسطين.

الأمر مر بعدة مراحل:

المرحلة الأولى -أسميها-: مرحلة الفكرة والخطة، وهي التي سعى فيها تيودور هرتزل إلى تحقيق فكرته، وعقد لأجلها فيها مؤتمر بال، واستقروا على اختيار فلسطين وطناً لليهود، واتفقوا على ثلاثة أشياء رئيسية:

أولاً: التشجيع على الهجرة بالدين والإعلام والمال.

ثانياً: تنظيم اليهود في العالم عن طريق المؤتمرات والجمعيات السرية واللغة العبرية.

ثالثاً: السعي إلى اعتراف دولي، وذهبوا إلى إنجلترا وألمانيا وروسيا والخلافة العثمانية، ووجدوا تجاوباً من إنجلترا، وإعراضاً من كل من الخلافة العثمانية وروسيا.

المرحلة الثانية -أسميها-: مرحلة التأسيس، وفيها برز دور إنجلترا المهم في مساعدة اليهود، وقام فيها اليهود أيضاً بمجهود وفير، وكانت الغاية في هذه المرحلة:

أولاً: إسقاط السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، وصناعة زعيم عميل لليهود والإنجليز هو مصطفى كمال أتاتورك .

ثانياً: احتلال إنجلترا لفلسطين ووعد بلفور .

ثالثاً: تقوية فكرة القومية العربية، والقومية التركية، وفصل الشعوب الإسلامية عن بعضها البعض.

رابعاً: احتلال الجزء الأكبر من الخلافة العثمانية عن طريق إنجلترا وفرنسا وإيطاليا؛ حتى يشغل كل قطر بمصائبه، وبالتالي تخرج فلسطين من بؤرة اهتمام المسلمين.

خامساً: إسقاط الخلافة العثمانية المانع الرئيسي لقيام دولة يهودية في فلسطين.

ساساً: إسقاط الحكم القيصري في روسيا، وقيام الحكم الشيوعي الموالي لليهود.

نتيجة هذه الأمور:

أصبحت فلسطين محتلة بإنجلترا صديقة اليهود، والدول الإسلامية المحيطة -بما فيها تركيا- لا تفكر بفلسطين، وخلا الطريق لليهود.

يبدأ الآن بعد الاحتلال الإنجليزي لفلسطين مرحلة جديدة أسميها: مرحلة التهويد.

هذه المرحلة تبدأ من سنة 1918م، وتنتهي في سنة 1948م عند إعلان دولة إسرائيل، يعني: حوالي ثلاثين سنة، مرحلة خطيرة تدخلها فلسطين في هذه الفترة.

الجنرال اللنبي الحاكم البريطاني على فلسطين يستدعي رجلاً من بريطانيا؛ ليساعده في إدارة أمور فلسطين، فمن يستدعي؟

يستدعي رجلاً هو هربرت صموئيل ، أول وزير يهودي في الحكومة الإنجليزية؛ ليضعا سوياً القوانين المناسبة في فلسطين، بمعنى آخر: أن اليهود قد جلسوا مع الإنجليز أمام الستار وليس خلف الستار؛ لوضع خطة تحويل فلسطين المسلمة إلى إسرائيل اليهودية، فماذا فعلوا؟

الحقيقة وضعوا قوانين كثيرة ونظماً عدة، وأنا لا أريد أن أخوض في كثرة التفريعات؛ فآثرت أن أضم هذه المخططات اليهودية الإنجليزية في أربعة محاور رئيسية تشمل معظم أركان المخطط البشع:

الهجرة اليهودية المبرمجة والانتقائية إلى فلسطين

المحور الأولى: الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

والحقيقة يا إخوان! أن ما فعله اليهود بتهجير شعب من أماكن متفرقة في العالم إلى مكان معين لاستعماره، وإخراج أهله منه أو قتلهم؛ يعد جريمة عظمى لم تتكرر في التاريخ إلا في حوادث معدودة، على سبيل المثال:

حدثت من قبل في الأندلس، لما طرد وذبح المسلمون على يد الصليبيين الأسبان، وتحولت بذلك الأندلس من مملكة إسلامية إلى دولتين صليبيتين: أسبانيا والبرتغال، وقد أشرنا إلى ذلك في بدء المحاضرات.

حدث ذلك أيضاً في أمريكا: لما طرد الأمريكان الهنود الحمر، وذبحوا منهم عشرين مليوناً، حتى تصبح أمريكا دولة متحضرة على حساب الهنود الحمر.

وحدث ذلك أيضاً في أستراليا، لما فعل الإنجليز نفس الشيء مع سكان البلد الأصليين، كما فعل الأمريكان مع الهنود الحمر، جريمة كبرى، وأخلاق منحدرة، وإنسانية منعدمة.

أريد أن ألفت النظر إلى بعض الحقائق الهامة الخاصة بقضية تهجير اليهود إلى فلسطين:

أولاً: مجموعة من الأرقام: عدد اليهود في فلسطين في زمن الخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله -ذكرناه في المحاضرة الرابعة- 4500 يهودي، كان ذلك حتى عام 1909م عند عزل الخليفة عبد الحميد الثاني .

في الفترة التي تولى فيها حزب الاتحاد والترقي الحكم الفعلي -وإن كانت الصورة صورة خليفة رمزي- من سنة 1909م إلى سنة 1917م عند دخول الإنجليز إلى فلسطين وصل تعداد اليهود في فلسطين إلى (50000) يهودي، تخيلوا! تضاعفوا عشر مرات، من أقل من خمسة إلى خمسين.

ومن هنا نعرف قيمة الخليفة، وقيمة الخلافة، لكن لما تكون كل دولة قومية منفصلة؛ فهذه هي النتائج، هذا العدد الخمسون ألف يهودي كانوا يمثلون 8% فقط من عدد السكان في أواخر سنة 1917م يعني: مع كل هذه الزيادة من (4500) إلى (50000) كانوا يمثلون 8% من سكان فلسطين في سنة 1917م، عندما أعطى بلفور وعده كما ذكرنا من قبل.

في هذه المرحلة الجديدة مرحلة التهويد من سنة 1918م إلى سنة 1948م في غضون هذه الثلاثين سنة وصل تعداد اليهود في أوائل سنة 1948م إلى (600000) يهودي، وهو رقم رهيب في بلد صغير كفلسطين، أي: يمثلون نسبة 32% من سكان فلسطين.

ففي كل سنة كانوا يهجرون أفراداً من اليهود، مثلاً: في سنة 1920م هجروا (8000) يهودي، وفي سنة 1924م سنة سقوط الخلافة هجروا (13000) يهودي، وفي 1925م بعد أن أعلنوا سقوط الخلافة رسمياً هجَّروا (34000) يهودي، وهكذا إلى سنة 1948م، وبعد سنة 1948م إلى يومنا هذا ما زالوا مستمرين في نفس السياسة الإحلالية لشعب فلسطين.

ثانياً: نوعية المهجرين: معظم المهاجرين من اليهود كانوا من الشبان الذين ينضمون إلى معسكرات التدريب في بولونيا أو إيطاليا أو النمسا، أو دول أوروبا الشرقية، أي: أن طليعة المهاجرين كانت عبارة عن جيش مدرب.

كان اليهود يرفضون هجرة المعاقين، أو من يحتاجون إلى إعانة اجتماعية، فاليهود لم يكن لهم اهتمام بيهود العالم إلا أولئك الذين يريدون الذهاب إلى فلسطين.

يقول (بن غوريون ): لو عرض عليَّ إنقاذ كل أطفال ألمانيا من اليهود إلى إنجلترا أو إنقاذ نصفهم إلى فلسطين لاخترت الحل الثاني، هكذا يقول. حتى نعرف طبيعة اليهود.

بل كان اليهود يشجعون على الهجرة بأبشع الطرق المتخيلة وغير المتخيلة، فكانوا يتعاونون مع هتلر الزعيم النازي الدموي المشهور، أشد الناس كراهية لليهود، كيف كانوا يتعاونون معه؟ اسمع ولا تتعجب فهم يهود!

كانوا يكشفون له عن أماكن اليهود في ألمانيا وفرنسا وبولندا؛ ليقتلهم في نظير ترحيل الشخصيات اليهودية المرموقة إلى فلسطين، مع العلم أن الراغبين في الذهاب إلى فلسطين كانوا أقل من 5% في ألمانيا وفرنسا وبولندا؛ ولذلك قتل عدداً ضخماً من اليهود هناك، سبحان الله! وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].

خلاصة هذا الانتقاء في التهجير أنه جاء إلى فلسطين مجموعات خاصة من اليهود؛ لتضع الأساس الأول للكيان الصهيوني البغيض، وتأسست بذلك مجموعة من العصابات العسكرية المشهورة:

(عصابة الهاجانا): وهي العصابة الرئيسة، بلغ عدد أفرادها في سنة 1948م اثنين وستين ألف جندي، وأصبحت بعد ذلك نواة لجيش الدفاع الإسرائيلي.

(عصابة أرغن) ستة آلاف مسلح.

(عصابة شترن) ثلاثمائة مسلح.

ثالثاً: موقف إنجلترا من المهاجرين اليهود:

الإمداد بالسلاح الحديث بصورة مستمرة، التدريب في معسكرات الإنجليز، الإيواء في المستوطنات التي تبنى على أرض فلسطين، إهداء قطع من أرض فلسطين لهم لإقامة المشاريع، الدفاع عنهم والوقوف بجانبهم إذا هجم عليهم الإرهابيون -طبعاً يقصدون الفلسطينيين، أطلقوا على من يدافعون عن بلادهم: إرهابيون- هذا كان موقف إنجلترا من الهجرة اليهودية؛ هذا هو وضع إنجلترا في تاريخ فلسطين.

أذكر أنني كنت أحدث صديقاً في مقاطعة المنتجات اليهودية والأمريكية مساعدة للانتفاضة الفلسطينية، وذكرت له شركة من الشركات الغربية الضخمة، وقلت له: لعل هذا يهودي، فقال لي: لا يا أخي حرام عليك! هذا إنجليزي، فقلت: سبحان الله! لو تعلم ماذا فعلت إنجلترا لأجل تثبيت اليهود في فلسطين لما قلت هذا الكلام.

إذاً: في قضية تهجير اليهود علمنا أن الأعداد كانت متزايدة دوماً، وأن النوعيات كانت محاربة دوماً، وأن إنجلترا كانت مساعدة دوماً.

بذل شتى الوسائل لامتلاك الأراضي الفلسطينية

المحور المهم في عملية التهويد: هو الأرض، وأنا هنا أريد منكم التركيز بشدة؛ لأنني سأذكر أرقاماً في غاية الأهمية، وترد على شبهات في غاية الخطورة:

اليهود حرصوا من بداية الأمر على امتلاك أرض في فلسطين، وكان تيودور هرتزل كما ذكرنا يريد أن يدفع أموالاً طائلة للخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله نظير قطعة صغيرة من الأرض.

إذاً: امتلاك الأرض كان هدفاً يهودياً هاماً لتهويد الأرض الفلسطينية، لنسمع هذه الأرقام:

في عهد الخليفة والخلافة كان اليهود عددهم (4500) يهودي، وكانوا لا يملكون شيئاً في فلسطين؛ وذلك لأنه لم يكن مسموحاً لهم بالتملك هناك.

بعد سقوط الخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله في سنة 1909م إلى سنة 1917م، وفي ظل حكومة الاتحاد والترقي، وعن طريق الرشوة للحكام العلمانيين تملك اليهود 2% من مساحة أرض فلسطين، ومساحة فلسطين كاملة: (26.000) كيلو متر مربع، يعني: أن مساحتها أقل من مساحة سيناء، انظر إلى هذه الأرقام.

من سنة 1918م إلى سنة 1948م في ثلاثين سنة كم النسبة المئوية للأرض التي امتلكها اليهود.

في هذه الثلاثين سنة زادوا في العدد من 8% إلى 32%، واسمعوا إلى هذه الحقيقة الغريبة:

مع هذه الزيادة الضخمة في أعداد اليهود، إلا أن ممتلكاتهم من الأرض لم تصل إلا إلى 5.7% فقط من أرض فلسطين، يعني: في ثلاثين سنة لم يقدروا على ضم شيء إلى أملاكهم إلا 3.7% في المائة فقط من أرض فلسطين؛ لأنه كان هناك 2% منها مملوكة عن طريق حزب الاتحاد والترقي كما ذكرنا قبل دخول الإنجليز.

وعند تحليل هذه النسبة 3.7% التي امتلكها اليهود في ثلاثين سنة تجد الآتي:

1.2% إهداء من حكومة الانتداب البريطاني بدون ثمن.

1.5% بيع من عائلات نصرانية لبنانية وسورية، مثل عائلات سرسك، والمطران، وتيان، هذه العائلات كانت تمتلك أرضاً في فلسطين على سبيل الاستثمار، فلما رأت أن الدائرة تدور على الأرض الفلسطينية، وأن اليهود والإنجليز يتسلحون ويتمكنون، وأن ما لم تبعه اليوم سيؤخذ منك عنوة في الغد، باعوا أرضهم، ورجعوا إلى بلادهم.

يتبقى 1% فقط من الأرض، وهو الذي باعه الفلسطينيون أصحاب البلد، ولا شك أن من الخطأ أن يبيع الفلسطينيون أرضهم، واعتبر فقهاء فلسطين ذلك خيانة، وصدرت فتاوى كثيرة بتحريم بيع الأرض لليهود، ابتداء بفتوى سنة 1922م للحاج أمين الحسيني مفتي القدس، ومروراً بعدد كبير من الفتاوى في السنوات التالية.

ومن هذا الشعب الذي ليس فيه خائنون؟ من هذا الشعب الذي ليس فيه مفرطون وأصحاب مصالح؟ ومع ذلك كانوا قليلين جداً في فلسطين، 1% فقط من الأرض بيعت على غير رغبة العموم، ومع ذلك انتشرت بين العالمين -بما فيهم المسلمين- فرية عظيمة وشبهة منكرة تقول: لقد باع الفلسطينيون أرضهم لليهود، وكان لهذه الفرية كان ترويج صهيوني وعربي.

أما الصهاينة فقد روجوا لها حتى يثبتوا أنهم اشتروا الأرض فهي حقهم، ومن أخذ هذا الحق منهم فهو ظالم أو معتد أو إرهابي، وليس مستغرباً أن يشيع اليهود هذه الفرية، ولكن لماذا روج العرب لهذه الفرية سواء عن قصد أو عن جهل؟ لماذا أعجبت الناس حتى رددوها جميعاً في مجالسهم فلا تسأل أحداً إلا ووجدته يعلم عن يقين أنهم باعوا أرضهم؟ ذلك لأمر واضح، وهو إسكات الضمير، وتسكين النفس، وإراحة البال، وتطمين القلب، وتهدئة الجوارح، وتفريغ الوقت والجهد والمال والعرق في مشاكل أخرى كثيرة تملأ على الناس حياتهم.

نعم يا إخوة! نحن نضحك على أنفسنا لأجل أن نستريح، العمل لفلسطين يحتاج إلى مجهود وطاقة وعمل، فالأيسر علي أن أقول: إنهم باعوا أرضهم بأنفسهم؛ فيستحقون ما يحل بهم.

لكن الحق أن 1% فقط من الأرض هو الذي باعه الفلسطينيون، وذكرنا تحليل ذلك على لسان أهل فلسطين.

ولو فرضنا أنهم باعوا أكثر من ذلك فهل يبيح ذلك ترك البلاد؟ وهل يملك الفلسطينيون حق حكم الله للأرض حتى يبيعوه؟

حتى لو باعوا أكثر من ذلك على المسلمين أن يحرروا هذه الأرض، فيقروا اليهود على ما أخذوه بيعاً وشراء ما داموا معاهدين دافعين للجزية، ويأخذون عنوة ما أخذه اليهود عنوة، ويحكمون البلاد بشرع الله بدلاً من شرع اليهود المحرف، حكم الله، ومن أحسن من الله حكماً؟ لا أحد، كلام الله، ومن أصدق من الله حديثاً؟ لا أحد.

إذاً: تحدثنا عن محورين أساسيين في قضية تهويد فلسطين وهما:

المحور الأول: الاهتمام بالتهجير.

المحور الثاني: الاهتمام بشراء الأرض، وإن كانوا لم يفلحوا كثيراً في هذا المجال.

السيطرة على الاقتصاد في فلسطين

أما المحور الثالث في الخطة اليهودية الإنجليزية فهو: السيطرة على الاقتصاد في فلسطين.

طبعاً الأموال اليهودية لا حصر لها كما هو معلوم، فحدث استقطاب عالمي لرءوس الأموال اليهودية؛ لتأتي وتقيم المشاريع في فلسطين، وهذه المشاريع الاقتصادية أجنبية، وإعطاء تسهيلات لإنعاش الاقتصاد -كما يقولون- كانت أحد الأسباب المباشرة لتمكين اليهود من احتلال فلسطين، فلنحذر أن يتكرر ذلك في قطر آخر، فقد حدث هذا النوع من الاحتلال الاقتصادي في فلسطين، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري.

وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم خطورة هذا الاحتلال الاقتصادي؛ لأجل هذا عندما دخل المدينة المنورة وآخى بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، وعلم أنه قد أصبحت له دولة، بدأ يؤمن وضع الدولة الاقتصادي، سبحان الله! دين متكامل شامل: اقتصاد.. سياسة.. اجتماع.. جهاد.. صلاة.. رياضة.. سياحة.. قضاء، كل نواحي الحياة وفروعها.

دين عجيب: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، دين محكم: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، دين قيم عظيم، نعتز ونفتخر ونسعد بالانتماء إليه.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل أيامه في المدينة يسعى إلى تأمين الوضع الاقتصادي، أمن الماء أولاً، فأمر بشراء بئر رومة، وكان يملكه يهودي.

واضح أن الصراع قديم جداً مع اليهود.

ثانياً: أمر ببناء سوق خاص بالمسلمين؛ حتى يستغني به عن أسواق اليهود، فقد كان اليهود يسيطرون على تجارة المدينة من خلال سوق بني قينقاع، فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

أمر بالبحث عن مكان لسوق المسلمين، وجرت أكثر من محاولة للبحث، ولم يصلوا إلى مكان مناسب إلا بعد جهد جهيد، روى الطبراني وابن ماجه عن أبي أسيد رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي! إني قد رأيت موضعاً للسوق، أفلا تنظر إليه؟ قال: بلى! فقام معه حتى جاء موضع السوق، فلما رآه أعجبه وركضه برجله ثم قال: نعم، هذا سوقكم، فلا ينتقصن، ولا يضربن عليه خراج)، وشجع المسلمين على التجارة فظهر التجار، وشجع على الزراعة فظهر الزراع، وشجع على الصناعة فظهر الصناع، وشجع الناس جميعاً على العمل مهما كان العمل بسيطاً ما دام شريفاً، روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه).

وبذلك تحولت المدينة المنورة إلى خلية نحل، الكل يعمل لتقوية الاقتصاد الإسلامي، ولتحريره من سيطرة اليهود في المدينة، وهم في ذلك كله يبتغون وجه الله تعالى.

سبحان الله! ما أسعدهم.

أما الوضع في فلسطين فهو مختلف تماماً، اليهود سيطروا على معظم الاقتصاد في فلسطين، ولم تكن إنجلترا سلبية، بل ساعدت اليهود بسن قوانين تمكن لهم ذلك، من هذه القوانين:

أولاً: رفع الضرائب والجمارك على المنتجات المستوردة شبيهة المنتجات اليهودية؛ حتى تسوق المنتجات اليهودية.

ثانياً: تخفيض الضرائب جداً على المواد الخام المستوردة التي يحتاجها اليهود في صناعتهم.

ثالثاً: تسليم اليهود المشاريع الضخمة المؤثرة -والمفروض أن هذه المشاريع تكون ملكاً للدولة- مثل شركات الكهرباء، واستغلال أملاح ومعادن البحر الميت.

أضرب لذلك مثالاً سريعاً يوضح وضع مدينة القدس الاقتصادي؛ حتى نتخيل السيطرة اليهودية على فلسطين:

القدس كان فيها تسعة عشر مصرفاً، لليهود من هذه المصارف أربعة عشر مصرفاً.

القدس كان فيها اثنان وأربعون شركة لبيع أدوات البناء، لليهود منها ثلاثون شركة.

القدس كان فيها اثنان وستون شركة لشراء الأرض، اليهود لهم في هذه الشركات ستون شركة.

القدس كان فيها ست شركات آلات زراعية، لليهود خمس منها.

القدس كان فيها خمس وخمسون شركة للمقاولات الهندسية، لليهود منها أربعة وخمسون.

القدس كان فيها خمس وستون شركة طباعة، كلها لليهود.

ست عشرة شركة أدوية وأملاح ومعادن كلها لليهود.

طبعاً الوضع الاقتصادي المتردي للفلسطينيين والمتفوق لليهود كان من الدعامات الأساسية لتمكين اليهود من الاحتلال لفلسطين.

إذاً: تحدثنا إلى الآن عن ثلاثة محاور رئيسية استخدمها اليهود للسيطرة على فلسطين وتهويدها:

محور التهجير، ومحور الأرض، ومحور السيطرة على الاقتصاد في فلسطين.

سيطرة اليهود على التعليم والإعلام في فلسطين

بقي لنا المحور الرابع والخطير جداً، ألا وهو: التعليم والإعلام، وهما من أنجح الوسائل لتربية شعب أو لهدمه، فالتعليم والإعلام هما السلاحان الرئيسان للمؤامرة الفكرية، والتي ذكرنا خطورتها في أول محاضرة في هذه المجموعة.

فاليهود لم يكونوا يسيطرون على الإعلام في فلسطين فقط، بل كانوا يسيطرون على الإعلام في العالم، وكم من المرات يستخدمونه لإثبات حقوق باطلة، ولإلغاء حقوق صحيحة، وأنا سأتحدث عن إعلام اليهود في محاضرة لاحقة إن شاء الله في نفس المجموعة، لكن أود هنا أن أشير بسرعة إلى بعض النقاط في قضية التعليم اليهودي في فلسطين:

أولاً: الاهتمام بالتعليم كان مبكراً جداً، لدرجة أنه في سنة 1921م -يعني: بعد أقل من أربع سنوات من دخول الإنجليز إلى فلسطين- جاء ونستون تشرشل بنفسه -وكان آنذاك وزير المستعمرات البريطاني- من إنجلترا ليضع حجر الأساس للجامعة العبرية فوق جبل الزيتون.

ثانياً: أنشأ اليهود دائرة تعليم خاصة بهم دون الفلسطينيين يكون التدريس فيها بالعبرية، فمن أيام تيودور هرتزل واليهود يحرصون على تعليم الناس العبرية كلغة أولى وأساسية، ليس فقط لتجميع الناس حول لغة واحدة، ولكن أيضاً لإدخال الاعتزاز بهذه اللغة وهذا الدين وهذه الأرض التي تتكلم بلغة موحدة.

فإن قيل: يا يهود! يمكن أن تكون لغة الطفل الإنجليزية ليست جيدة. يقولون: ليس بمهم، المهم العبرية.

وإن قيل: يا يهود! هذا الولد قد لا يقدر أن يسافر للخارج لبعثة أو خلافه، يقولون: ليس بمهم، سيتعلم ذلك عندما يسافر.

وإن قيل: يا يهود! هذا الولد قد لا يجد عملاً عندما يكبر، وكل الفرص موجودة للذي يعرف كيف يتحدث الإنجليزية. يقولون: ليس بمهم، خوفاً من أن يضعف الولد في العبرية أو يحب اللغة الإنجليزية أكثر من العبرية، أو لا يعرف كيف يقرأ التوراة.

لن أزيد في التكلم عن هذا واللبيب بالإشارة يفهم.

ثالثاً: اليهود في مدارسهم بدءوا يزرعون في قلوب أبنائهم الكراهية للفلسطينيين، ويثبتون في عقيدتهم أن الفلسطينيين معتدون إرهابيون، يريدون أن يخرجوكم من أرضكم بإرهابهم، فماذا تأمرون؟

يذكر لي أحد الإخوة من فلسطين أن اليهود كانوا يوزعون على الأطفال في المدارس شوكولاتة مرة جداً، ويقولون لهم: هذه جاءتكم من جاركم الفلسطيني، فيأكلها الأطفال فيجدونها مرة، فيعلمون أنه لا يأتيهم من أهل فلسطين إلا المرارة، مع أن بعض البلاد الإسلامية حذفت من مناهجها للأطفال الآيات والأحاديث التي تحض على قتال اليهود، وحذفت الغزوات النبوية ضد اليهود؛ حتى ترسخ في اليهود أنهم أصدقاء، وأبى الله ذلك والمؤمنون: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82].

المهم أن هذه هي المحاور الأربعة الرئيسية التي استخدمها اليهود كي يقوموا بتهويد فلسطين، من سنة 1918م إلى سنة 1948م.

المحور الأولى: الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

والحقيقة يا إخوان! أن ما فعله اليهود بتهجير شعب من أماكن متفرقة في العالم إلى مكان معين لاستعماره، وإخراج أهله منه أو قتلهم؛ يعد جريمة عظمى لم تتكرر في التاريخ إلا في حوادث معدودة، على سبيل المثال:

حدثت من قبل في الأندلس، لما طرد وذبح المسلمون على يد الصليبيين الأسبان، وتحولت بذلك الأندلس من مملكة إسلامية إلى دولتين صليبيتين: أسبانيا والبرتغال، وقد أشرنا إلى ذلك في بدء المحاضرات.

حدث ذلك أيضاً في أمريكا: لما طرد الأمريكان الهنود الحمر، وذبحوا منهم عشرين مليوناً، حتى تصبح أمريكا دولة متحضرة على حساب الهنود الحمر.

وحدث ذلك أيضاً في أستراليا، لما فعل الإنجليز نفس الشيء مع سكان البلد الأصليين، كما فعل الأمريكان مع الهنود الحمر، جريمة كبرى، وأخلاق منحدرة، وإنسانية منعدمة.

أريد أن ألفت النظر إلى بعض الحقائق الهامة الخاصة بقضية تهجير اليهود إلى فلسطين:

أولاً: مجموعة من الأرقام: عدد اليهود في فلسطين في زمن الخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله -ذكرناه في المحاضرة الرابعة- 4500 يهودي، كان ذلك حتى عام 1909م عند عزل الخليفة عبد الحميد الثاني .

في الفترة التي تولى فيها حزب الاتحاد والترقي الحكم الفعلي -وإن كانت الصورة صورة خليفة رمزي- من سنة 1909م إلى سنة 1917م عند دخول الإنجليز إلى فلسطين وصل تعداد اليهود في فلسطين إلى (50000) يهودي، تخيلوا! تضاعفوا عشر مرات، من أقل من خمسة إلى خمسين.

ومن هنا نعرف قيمة الخليفة، وقيمة الخلافة، لكن لما تكون كل دولة قومية منفصلة؛ فهذه هي النتائج، هذا العدد الخمسون ألف يهودي كانوا يمثلون 8% فقط من عدد السكان في أواخر سنة 1917م يعني: مع كل هذه الزيادة من (4500) إلى (50000) كانوا يمثلون 8% من سكان فلسطين في سنة 1917م، عندما أعطى بلفور وعده كما ذكرنا من قبل.

في هذه المرحلة الجديدة مرحلة التهويد من سنة 1918م إلى سنة 1948م في غضون هذه الثلاثين سنة وصل تعداد اليهود في أوائل سنة 1948م إلى (600000) يهودي، وهو رقم رهيب في بلد صغير كفلسطين، أي: يمثلون نسبة 32% من سكان فلسطين.

ففي كل سنة كانوا يهجرون أفراداً من اليهود، مثلاً: في سنة 1920م هجروا (8000) يهودي، وفي سنة 1924م سنة سقوط الخلافة هجروا (13000) يهودي، وفي 1925م بعد أن أعلنوا سقوط الخلافة رسمياً هجَّروا (34000) يهودي، وهكذا إلى سنة 1948م، وبعد سنة 1948م إلى يومنا هذا ما زالوا مستمرين في نفس السياسة الإحلالية لشعب فلسطين.

ثانياً: نوعية المهجرين: معظم المهاجرين من اليهود كانوا من الشبان الذين ينضمون إلى معسكرات التدريب في بولونيا أو إيطاليا أو النمسا، أو دول أوروبا الشرقية، أي: أن طليعة المهاجرين كانت عبارة عن جيش مدرب.

كان اليهود يرفضون هجرة المعاقين، أو من يحتاجون إلى إعانة اجتماعية، فاليهود لم يكن لهم اهتمام بيهود العالم إلا أولئك الذين يريدون الذهاب إلى فلسطين.

يقول (بن غوريون ): لو عرض عليَّ إنقاذ كل أطفال ألمانيا من اليهود إلى إنجلترا أو إنقاذ نصفهم إلى فلسطين لاخترت الحل الثاني، هكذا يقول. حتى نعرف طبيعة اليهود.

بل كان اليهود يشجعون على الهجرة بأبشع الطرق المتخيلة وغير المتخيلة، فكانوا يتعاونون مع هتلر الزعيم النازي الدموي المشهور، أشد الناس كراهية لليهود، كيف كانوا يتعاونون معه؟ اسمع ولا تتعجب فهم يهود!

كانوا يكشفون له عن أماكن اليهود في ألمانيا وفرنسا وبولندا؛ ليقتلهم في نظير ترحيل الشخصيات اليهودية المرموقة إلى فلسطين، مع العلم أن الراغبين في الذهاب إلى فلسطين كانوا أقل من 5% في ألمانيا وفرنسا وبولندا؛ ولذلك قتل عدداً ضخماً من اليهود هناك، سبحان الله! وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].

خلاصة هذا الانتقاء في التهجير أنه جاء إلى فلسطين مجموعات خاصة من اليهود؛ لتضع الأساس الأول للكيان الصهيوني البغيض، وتأسست بذلك مجموعة من العصابات العسكرية المشهورة:

(عصابة الهاجانا): وهي العصابة الرئيسة، بلغ عدد أفرادها في سنة 1948م اثنين وستين ألف جندي، وأصبحت بعد ذلك نواة لجيش الدفاع الإسرائيلي.

(عصابة أرغن) ستة آلاف مسلح.

(عصابة شترن) ثلاثمائة مسلح.

ثالثاً: موقف إنجلترا من المهاجرين اليهود:

الإمداد بالسلاح الحديث بصورة مستمرة، التدريب في معسكرات الإنجليز، الإيواء في المستوطنات التي تبنى على أرض فلسطين، إهداء قطع من أرض فلسطين لهم لإقامة المشاريع، الدفاع عنهم والوقوف بجانبهم إذا هجم عليهم الإرهابيون -طبعاً يقصدون الفلسطينيين، أطلقوا على من يدافعون عن بلادهم: إرهابيون- هذا كان موقف إنجلترا من الهجرة اليهودية؛ هذا هو وضع إنجلترا في تاريخ فلسطين.

أذكر أنني كنت أحدث صديقاً في مقاطعة المنتجات اليهودية والأمريكية مساعدة للانتفاضة الفلسطينية، وذكرت له شركة من الشركات الغربية الضخمة، وقلت له: لعل هذا يهودي، فقال لي: لا يا أخي حرام عليك! هذا إنجليزي، فقلت: سبحان الله! لو تعلم ماذا فعلت إنجلترا لأجل تثبيت اليهود في فلسطين لما قلت هذا الكلام.

إذاً: في قضية تهجير اليهود علمنا أن الأعداد كانت متزايدة دوماً، وأن النوعيات كانت محاربة دوماً، وأن إنجلترا كانت مساعدة دوماً.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة فلسطين المؤامرة 2870 استماع
سلسلة فلسطين اغتيال الخلافة 2763 استماع
سلسلة فلسطين أمة لن تموت 2759 استماع
سلسلة فلسطين مفاهيم خاطئة 2738 استماع
سلسلة فلسطين جريمة التقسيم 2365 استماع
سلسلة فلسطين الجهاد بالمال 2336 استماع
سلسلة فلسطين إسرائيل الكبرى 2299 استماع
سلسلة فلسطين فلسطين إسلامية 2287 استماع
سلسلة فلسطين الدعاء 2025 استماع