Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

سلسلة السيرة النبوية يوم حنين


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الثاني عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.

تحدثنا في الدروس السابقة عن الفتح العظيم فتح مكة، وإسلام معظم أهل مكة، وإضافة قوة هائلة للدولة الإسلامية، قوة مكة، وهي ليست قوة بشرية أو اقتصادية فقط، بل في الأساس قوة دينية واجتماعية وسياسية وأدبية، فحين أصبحت الكعبة المشرفة في يد المسلمين، فإنه لا يخفى أثر ذلك على العرب الذين كانوا يعظمونها جداً حتى في زمان الجاهلية، وعادت إلى المسلمين الكثير والكثير من أملاكهم المسلوبة، ومن جديد توثقت العلاقات بين الأسر التي فرقت الهجرة إلى المدينة وقبلها إلى الحبشة بينها وبين بقية أفرادها في مكة المكرمة، وأصبح للمسلمين وضع متميز ألقى الرهبة في قلوب كل العرب، وبدأت الكثير من القبائل تحسب للمسلمين ألف حساب.

ليس من السهل أن تهزم قريش، ليس من السهل أن تفتح مكة، ليس من السهل أن يقبل سدنة الأصنام وكهنة هبل والعزى ومناة أن يدخلوا في الإسلام.

لقد كان فتح مكة فتحاً مجيداً بكل المقاييس، ومع أن هذا الفتح دفع الكثير من أهل الجزيرة إلى التفكير في الإسلام، إلا أن هناك بعض القوى الأخرى في الجزيرة العربية أخذت موقفاً معادياً جداً من الإسلام ومن الدولة الإسلامية، فقد شعرت وأحست أن هذا النمو اللافت للنظر للدولة الإسلامية معناه اقتلاع القبائل الأخرى خلال زمن قليل، من أجل ذلك بدأت هذه القبائل في إعداد العدة لحرب الدولة الإسلامية، قبل أن يتفاقم الوضع ويصبح خارجاً عن السيطرة، فكان من أخطر القبائل التي أخذت هذا النهج وهذا الأسلوب قبيلة هوازن.

يعلم الجميع مدى الروح القبلية عند العرب، ومدى انتماء كل فرد لقبيلته بغض النظر عن الحق أو العدل، وكان هذا من الأمراض الخطيرة التي حاربها الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزول الرسالة.

من أجل أن نفهم قصة هوازن مع المسلمين لا بد أن نرجع قليلاً إلى ذاكرة التاريخ، من أجل أن ندرس جذور هذه القبيلة وعلاقة هذه القبيلة بقريش.

ينقسم العرب بصفة عامة إلى قسمين رئيسيين: ينقسمون إلى عدنانيين وقحطانيين، العدنانيون ينقسمون إلى: ربيعة، ومضر، ومضر تنقسم إلى: إلياس وعيلان، وقبيلة قريش تأتي من فرع إلياس بعد تفرعات كثيرة، وتأتي قبيلة هوازن من عيلان أيضاً بعد تفرعات كثيرة، وكلما بعدت الأنساب ازدادت الحزازيات بين القبائل، ويفقد الناس الشعور بالرحم التي ينتمون إليها.

إذا كان يحصل تنافسات وصراعات بين البطون القريبة من بعضها البعض بسبب القبلية، فما بالك لو كانت القبائل بعيدة الأنساب عن بعضها البعض؟

يعني مثلاً: كلنا يعلم ما كان يحدث من صراع بين بني هاشم وبني مخزوم، ومخزوم وقصي كانا أولاد عم مباشرة، ومخزوم هو الذي جاء منه قبيلة بني مخزوم، وقصي الذي جاء منه بنو هاشم بعد ذلك، ومع ذلك كان الصراع شديداً بين القبيلتين، تنافس قبلي، وقد يصل الأمر إلى المنافسة العسكرية الدموية.

كذلك كلنا يعلم الصراع بين الأوس والخزرج مع أن الاثنين أولاد حارثة بن ثعلبة من فروع قحطان، لكن داء القبلية كان يعصف بالجزيرة العربية.

والرسول عليه الصلاة والسلام من قريش؛ فلهذا القبائل البعيدة عن قريش ستفكر في الإسلام بصورة أكثر تحفظاً من القبائل القريبة من قريش، فهذا أبو جهل لم يرض أن يدخل الإسلام من أجل القبلية، مع أنه قريب من الرسول عليه الصلاة والسلام.

عندما نرجع لشجرة الأنساب مع وضع النظرة القبلية هذه سنفهم أحداثاً كثيرة جداً في السيرة، ستجد مثلاً أن القبائل البعيدة جداً عن قريش هي من أواخر القبائل التي أسلمت، ومن أشد القبائل قسوة على المسلمين، فأبعد الفروع عن قريش هي الفروع التي خرجت من قحطان، فهؤلاء لم يسلموا إلا متأخرين مثل: قبائل قضاعة، طي، مذحج، بجيلة..

ومنهم من كان شديداً جداً على المسلمين مثل: بني لحيان، لكن يشذ عن هذه القاعدة قبائل الأوس والخزرج فقد أسلموا قديماً، ويبدو أن ذلك للجذور اليمنية لهذه القبائل، ثلاث قبائل: الأوس والخزرج وأسلم من قبيلة الأزد اليمنية.

وأهل اليمن يتميزون برقة القلب وقوة العاطفة، يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام : (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً) رواه البخاري ومسلم .

إذاً: فروع قحطان كانت من أواخر القبائل إسلاماً، باستثناء الأوس والخزرج وأسلم.

أيضاً من الفروع البعيدة جداً عن قريش ربيعة، فربيعة هي الفرع الموازي لمضر، والخلاف بين ربيعة وبين مضر كبير جداً وطويل، فربيعة تأخر إسلامهم جداً، مثل: بني بكر بن وائل، بني تغلب، بني عبد القيس، ومنهم من كان شديد العداء للمسلمين ولم يسلم إلا مضطراً، وسارع بالردة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، وبعضهم حتى قبل وفاته صلى الله عليه وسلم مثل: بني حنيفة.

إذاً: تأتي بعد كذا مضر تنقسم إلى قسمين رئيسين: إلياس وعيلان. وعيلان مشهورة في التاريخ بقيس عيلان، فقيس هذا أشهر أبناء عيلان فاشتهرت القبيلة بكاملها بكلمة (قيس عيلان).

وقريش كما ذكرنا هي من إلياس؛ من أجل ذلك تجد قبائل عيلان تنافس بشدة قبائل إلياس ومنها قريش.

وقبائل عيلان كثيرة جداً، لكن أشهر هذه القبائل ثلاث قبائل، وعندما تسمع أسماء هذه القبائل الثلاث ستفسر لك مواقف كثيرة جداً في السيرة رأيناها ولا زلنا سنراها.

فأهم ثلاث قبائل في عيلان هم: غطفان، وبنو سليم، وهوازن، ونحن رأينا مدى المعاناة التي عاناها المسلمون من غطفان على مدار سنوات مختلفة، وكذلك عانوا من بني سليم، وبعد ذلك أسلمت غطفان وأسلم بنو سليم، وكان من الواضح جداً أن إسلامهم كان إسلام المضطر، فهم انبهروا جداً بقوة الإسلام، وشعروا أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين، وقد يجتاحهم المسلمون اجتياحاً مدمراً لذلك آثروا السلامة، آثروا أن يعيشوا تحت كنف الدولة الإسلامية، وجاءت الوفود كما رأينا إلى المدينة المنورة وبايعت على الإسلام بعد انتصار مؤتة وقبيل فتح مكة المكرمة، والإسلام لم يكن قد تمكن كثيراً من قلوبهم، وسنرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مدركاً هذا الأمر تماماً؛ من أجل هذا سيحاول أن يتألف قلوبهم في الأيام القادمة.

الشاهد من هذا الكلام أن فرعين رئيسيين مهمين جداً من عيلان أسلما مضطرين وأعلنا هزيمتهما أمام الرسول القرشي صلى الله عليه وسلم، ولم يبق غير قبيلة هوازن فقط، فهي التي لا زالت رافعة راية عيلان، وكانت انتصارات الرسول عليه الصلاة والسلام المتكررة تمثل نذير خطر كبير على هوازن، وتفاقم الأمر جداً بعد فتح مكة؛ لأن منازل هوازن قريبة جداً من مكة المكرمة، في الشمال الشرقي من مكة المكرمة، ولا يستبعد أبداً أن تكون الدائرة على هوازن في المرة القادمة. تعالوا بعد هذا ننظر نظرة تحليلية في داخل هوازن نفسها.

أيضاً قوة هوازن قبائل كثيرة جداً، لكن أشهر قبائل هوازن ثلاث: بنو نصر، وبنو سعد، وبنو سعد هؤلاء هم الذين رضع الرسول عليه الصلاة والسلام منهم رضع من حليمة السعدية من بني سعد، والقبيلة الثالثة خطيرة جداً ومشهورة وهي قبيلة ثقيف، فثقيف فرع من فروع هوازن، وإذا كان التجمع الرئيسي لهوازن في الشمال الشرقي لمكة المكرمة، فثقيف اختارت مدينة ثانية تعيش فيها ألا وهي مدينة الطائف في الجنوب الشرقي لمكة المكرمة، واستقرت فيها منذ قديم.

وقبيلة ثقيف من أهم القبائل العربية مطلقاً ومن أقوى القبائل العربية، بدليل أن مدينة الطائف هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة المكرمة؛ ولذلك أخبر الله تعالى عن الكفار قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] أي: مكة والطائف، وأعظم سادة في الجزيرة هم سادة مكة والطائف، يعني: سادة قريش وثقيف.

والدليل أيضاً على أهمية ثقيف وقوة ثقيف هو ذيوع شهرة الصنم الذي يعبد في ثقيف، وهو صنم اللات وهو من أشهر أصنام العرب كما هو معلوم.

أما صنم العزى فإنه يقع في منطقة نخلة داخل أملاك هوازن، والعرب بشتى أطيافها كانوا يقسمون باللات والعزى، وورد ذكر اللات والعزى في القرآن الكريم قال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19] الاثنان في هوازن، اللات في ثقيف والعزى في هوازن نفسها في بني نصر وبني سعد، لذلك كانت ثقيف تشعر بالمساواة دائماً مع قريش، بل إنها كانت تشعر بالتفوق على قريش عسكرياً واقتصادياً وعددياً، وأرض الطائف كانت جيدة جداً والتجارة فيها أيضاً كانت تجارة رائدة، لولا أن قريشاً كانت ترعى البيت الحرام المعظم عند العرب، فهذا كان يرفع مزية قريش عند العرب فوق ثقيف، لكن لم يغير من العلاقة القبلية المتنافرة بين القبيلتين الكبيرتين، فكان إسلام ثقيف صعباً جداً، وهذا يبين لنا العداء الشديد الذي قوبل به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى الطائف، لأنه في نظرهم قرشي، ورأينا أنه لم يسلم في هذه الزيارة ولا ثقفي واحد، وتأخر إسلام الثقفيين جداً، ومعظم الثقفيين لم يؤمنوا إلا في العام التاسع من الهجرة، والذين أسلموا قبل ذلك كانوا قليلين جداً معدودين على الأصابع، ومنهم المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه وغيره وهم قليلون جداً، ونفس الكلام ينطبق على بني نصر وبني سعد من هوازن لا تجد أحداً أسلم منهم إلى أول العام الثامن من الهجرة، وإنما معظمهم أسلموا في أخريات العام الثامن.

إذاً: هذه نفسية هوازن بفروعها الرئيسية الثلاثة: بني نصر وبني سعد وثقيف.

وأعتقد أن هذه المقدمة ستفسر لنا كثيراً جداً المعارك الهامة القادمة.

كان من عادة العرب في ذلك الوقت أنهم يعيشون حياة التفرق حتى في بطون القبيلة الواحدة، وما أكثر ما حدثت الحروب -كما ذكرنا- في داخل الفرع الواحد من القبيلة، كما يقولون أحياناً:

على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا.

وقبيلة هوازن كانت تسير بنفس النمط، ففروعها كثيرة، لكن في زمنها كله ما توحدت في كيان سياسي اقتصادي عسكري واحد، بل عاشت حياة الفرقة كما عاشها بقية العرب قبل الإسلام، وكما يعيشها العرب دائماً كلما بعدوا عن الإسلام، لكن ظهر في قبيلة هوازن في هذه الفترة وهي الفترة التي سبقت فتح مكة مباشرة وأثناء فتح مكة ظهرت شخصية قلبت الموازين في هذه القبيلة الكبيرة وغيرت كل شيء، هذه الشخصية هي شخصية مالك بن عوف النصري من بني نصر من هوازن، وأمثال هذه الشخصية كثير في التاريخ.

فمن هو مالك بن عوف هذا؟ مالك بن عوف كان شاباً لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد، لكنه كان يملك ملكات قيادية متميزة، عنده علم كبير جداً بالخطط العسكرية وبالفنون القتالية، وكان خطيباً مفوهاً له قدرة كبيرة جداً على التأثير على الناس، وكان يتميز بقدرته الفائقة على الحشد وتجميع الطوائف المختلفة لأداء مهمة معينة، كانت لديه طاقات هائلة، لكن للأسف كل طاقاته هذه كانت موظفة في الشر.

بدأ مالك بن عوف يجمع كل فروع هوازن تحت راية واحدة، وهذا حدث فريد في تاريخ هوازن، فهذه هي المرة الأولى تقريباً التي تتجمع فيها بطون بني نصر وبني سعد وثقيف تحت راية واحدة، وهذا يدلنا على مدى كفاءة هذا القائد، ومع أنه من بني نصر ومعروف أن ثقيفاً هي أكبر وأعز وأعظم قبيلة من قبائل هوازن ومع ذلك قبلت أن تسير تحت راية مالك بن عوف النصري .

لقد جمع مالك بن عوف منهم أكثر من (25.000) مقاتل، وهذا أكبر رقم تجمع في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبة، جيش هائل، فهو جمع هذه الأعداد الكبيرة باسم القبيلة: نحن من هوازن ومحمد من قريش، هذا هو المنطق مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سعى أبداً إلى تجميع القرشيين ضد القبائل العربية الأخرى، بل على العكس كان العدو الأكبر للرسول عليه الصلاة والسلام في خلال السنوات العشرين السابقة قبيلة قريش، وكان جيشه يضم أفراداً من كل قبائل العرب، والجانب الأعظم من جيش فتح مكة لم يكن من القرشيين، كان من أوس وخزرج وأسلم وغفار والأزد ومزينة وجهينة وغطفان وبني سليم وبني تميم.. وغير ذلك من الفروع القريبة والبعيدة جداً من قريش، وغطفان وبنو سليم هم أكثر قرباً لهوازن كانوا في جيش الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فتح مكة، مع كل ذلك إلا أن المحفز الوحيد الذي استخدمه مالك بن عوف هو قضية القبيلة، وأقنع الناس بما نشأ عليه العرب من أن القبيلة فوق كل شيء وقبل كل شيء، وأن عز القبيلة مقدم على الحق وعلى العدل وعلى القيم وعلى المثل العليا وعلى أي شيء، فنفس فكرة القومية التي ينادي بها الكثيرون في زماننا، أو في الأزمان التي سبقت أو الأزمان التي ستأتي بعد ذلك، ففكرة القومية أو فكرة الوطنية هي تقديم مصلحة القوم أو الوطن أو العنصر بغض النظر عن الحق، إذا خاض الوطن أو القوم حرباً ظالمة فأنا معه؛ لأن مصلحة الوطن مقدمة على الحق والعدل، هذا منطقهم.

إذا رأى البعض أن مصلحة القوم أو الوطن تتعارض مع قانون شرعي أو عرف دولي أو قاعدة أخلاقية يترك القانون الشرعي أو العرف الدولي أو القاعدة الأخلاقية وتقدم مصلحة القوم أو مصلحة الوطن.

هذا الكلام لا وزن له عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وليس معنى ذلك أن حب القوم أو الوطن مرفوضة إسلامياً، لا، بل على العكس حب الأهل والعشيرة فضيلة يحض الإسلام عليها، لكن بشرط ألا تكون على حساب الدين والحق والعدل، يقول الله عز وجل: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ [التوبة:24] ماذا يحصل؟ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].

في هذه الآية الجامعة وضح لنا ربنا سبحانه وتعالى أن تقديم الأهل والعشيرة، وهم القوم، وتقديم المساكن وهي الوطن، أن تقديم هذه الأشياء على أمر الدين هو نوع من الفسق، ومن فعله فعليه أن ينتظر العقاب من رب العالمين سبحانه وتعالى، والعقاب مخوف جداً، حتى إن الله سبحانه وتعالى أخفى هذا العقاب ولم يعينه لزيادة الرهبة، قال: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24] لكن ليس معنى الآية أن حب الآباء والأجداد والعشيرة أو القوم والقبيلة والوطن والتجارة مذموم، حاشا لله، ليس هذا هو المعنى مطلقاً، بل أمرنا الله عز وجل أن نصل آباءنا وأجدادنا وأهلنا ولو كانوا مشركين، لكن إذا تعارض الأمر مع الدين فلا بد من المفاصلة، إذا تعارض الأمر مع الحق والعدل فلا بد من المفاصلة.

قال تعال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، لكن كان الوضع عند مالك بن عوف النصري على خلاف ذلك، فهو على علمه اليقيني أن القرآن حق وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق إلا أنه ضحى بهذا الحق والدين في مقابل إعلاء القومية الهوازنية في منتهى الوضوح، وهذه أزمة أخلاقية وعقائدية خطيرة، فهذه هي الجاهلية بعينها، وكل من دعا إلى هذا الفكر فهو يدعو إلى فكر جاهلي، وهذا الكلام ليس كلامي، فقد روى مسلم وابن ماجه والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قاتل تحت راية عُمية -وفي رواية-: عِمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلةٌ جاهلية) يعني: الذي يقاتل تحت راية عمية لا يعرف لأي سبب يقاتل ولأي هدف يقاتل.

وروى أبو داود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام : (ليس منا من دعا إلى عصبية) يعني: يدعو إلى عنصر معين وإلى قومية معينة. (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية).

هناك نقاط سلبية كانت عند مالك بن عوف أولها: أنه يدعو إلى قومية وقبلية بغض النظر عن مواطن الحق والعدل.

النقطة السلبية الثانية خطيرة جداً: وهي أنه يستخدم البلاغة وحسن البيان في خداع الناس، فقد كان يوهم الناس بخلاف الواقع ويغرر بهم، فقد وقف مالك بن عوف يخطب في الناس في الشعب ويقول لهم: إن محمداً لم يقاتل قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فينصر عليهم. يعني: لو نحن قابلناهم سنرميهم في البحر.

فهذا الخطاب من الخداع غير المقبول بالمرة لشعب ساذج حقاً، شعب هوازن يبدو أنه كان شعباً معزولاً عن العالم الخارجي، لا يقرأ ولا يكتب ولا يرى ولا يسمع، وإلا لما صدق مالك بن عوف ، أي أقوام أولئك الذين لاقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أغماراً لا علم لهم بالحرب؟ هل قريش التي هزمت منذ أيام في عقر دارها أو قبل ذلك في بدر والأحزاب لا علم لها بالحرب؟ هل غطفان التي اكتسحت في ديارها فأذعنت وأطاعت وسلمت وأسلمت لا علم لها بالحرب؟ هل اليهود في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة بل وفي خيبر لم يكن لهم علم بالحرب؟ بل هل الرومان وأعوان الرومان من نصارى العرب بأعدادهم المهولة وبأسلحتهم المتقدمة وتاريخ طويل في الحروب وخبرة فائقة لم يكن لهم علم بالحرب؟ إن شعباً لا يدرك أحوال الدنيا حوله لجدير أن يضحك عليه، لجدير أن يسخر منه، لجدير أن يهزم ويذل.

فـمالك بن عوف خدعهم بكلامه المعسول وبالخطاب البلاغي، فهو شعب قابل للخداع، فقد قبل هذا الشعب الساذج أن يرى الدنيا بعيون مالك بن عوف ، من أجل ذلك لا بد أن يدفع الثمن.

النقطة السلبية الثالثة في مالك بن عوف : أنه لم يقم وزناً يذكر لشعبه، فليس عنده أي مانع أنه يضحي بشعبه كله بكل ممتلكاته من أجل تحقيق مجد شخصي له.

ماذا عمل مالك بن عوف بشعبه؟ أمر أن تؤخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال وكل ممتلكات شعب هوازن تؤخذ معهم إلى أرض القتال فتوضع في خلف الجيش، لماذا هذا؟ من أجل أن يحفز الجيش على القتال. يقول لهم: لو انهزم جيش هوازن أو فر من أرض القتال سيستولي المسلمون على كل ممتلكات هوازن، فـمالك بن عوف لم ينظر أبداً إلى احتمالية الهزيمة، وهذا أمر وارد في أي معركة، لكن لا مانع أن يدفع الشعب كله ثمن تحقيق النصر لـمالك بن عوف ، أن الشعب كله من رجال ونساء وأطفال يحقق المجد الشخصي لـمالك بن عوف .

النقطة السلبية الرابعة في قائد هوازن مالك بن عوف : أنه كان ديكتاتوراً لا يستمع لرأي الآخرين ولو كانوا من الخبراء: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29].

بعض الخبراء العسكريين في هوازن حاولوا أن يبعدوا هذا القرار عن ذهن مالك بن عوف ، قرار أخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال إلى أرض المعركة، لكنه أصر إصراراً عجيباً، فقد ورد في كتب السيرة حوار دار بينه وبين دريد بن الصمة ، ودريد بن الصمة أحد المخضرمين عسكرياً في هوازن فقد كان عمره فوق مائة سنة، فتعجب لاصطحاب كل ممتلكات هوازن في أرض القتال فسأل مالكاً عن ذلك، فقال مالك : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فغضب دريد غضباً شديداً وقال: راعي ضأن والله، ما لك والحرب. يعني: أنت لا تعدو أن تكون إلا راعياً للغنم لا تصلح للقيادة العسكرية.

وبعد ذلك أخبره بوجهة نظره وكانت وجهة نظر صحيحة، قال: هل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.

ثم قال: إنك تقاتل رجلاً كريماً قد أوطأ العرب وخافته العجم وأجلى اليهود، يعني: دريد قدر قوة الرسول عليه الصلاة والسلام تقديراً سليماً وقال الرأي الأصوب، لكن مالك بن عوف لم يسمع له، ولم يأخذ بمشورته، ولم يكن يرى غير رأيه فقط، ومع ذلك دريد لم ييئس، بل استمر معه في الحوار وسأله: ما فعلت كعب وكلاب أفضل بطون هوازن عسكرياً وفيهم العدد والعدة؟ قال مالك : لم يشهد منهم أحد، قال دريد وقد ازداد يقيناً برأيه: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب. ثم نصح مالك بن عوف مرات لكن مالك بن عوف رفض بإصرار شديد؛ لأن نفسية الديكتاتور لا تقبل أبداً أي رأي معارض لرأيه ولو على سبيل الاقتراح أو المشورة، فالشورى عنده تصبح طاعنة للكبرياء وللكرامة، ومن ثم فالدكتاتوريون لا يريدون الخير إلا إذا جاء منسوباً لهم.

إذاً: هذه كانت نقطة خطيرة جداً أيضاً في مالك بن عوف : أنه كان ديكتاتوراً لا يستمع أبداً للشورى.

النقطة السلبية الخامسة في مالك بن عوف : التلاعب بعواطف الناس بصورة مسرحية تؤثر على العوام، يستغل الأزمات التي تحصل في الأمة لصالحه. فماذا عمل مالك بن عوف عندما رأى توجهاً في الشعب لعزله، عندما أحس أن هناك ميلاً شعبياً لتخطئته في قضية صحبة النساء والأطفال والأنعام إلى أرض المعركة، وقف يخطب في شعبه كأنه ممثل كبير جداً على مسرح درامي، قال لهم: والله لتطيعونني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري؛ فلأن الشعب مخدوع قد أقنع قبل ذلك أن هذا هو الزعيم الأوحد، وأنه حبيب الملايين، وأنه صاحب الإنجازات الضخمة، وأن الحياة بدونه لا تستقيم، قالوا له: لا يصلح العيش من غير مالك ، وخرج الشعب في مظاهرات يطلب من الملك ألا يتنحى مهما كان الثمن، ونسي الشعب المصائب التي عملها مالك والتي سيعملها بعد قليل، وإزاء هذا الضغط الشعبي الجارف اضطر مالك أنه يقبل زعامة هوازن رحمة بهوازن، أما الناصح الخبير دريد فتوجه بكلمته إلى الشعب قال لهم: يا معشر هوازن! إن هذا فاضحكم في عورتكم. يعني: في النساء والذرية والأطفال.

وممكن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم فانصرفوا واتركوه. انظروا النظرة العميقة لـدريد . يعني: هؤلاء القواد من هذه النوعية سيتركون شعوبهم في الأزمات، ويلحقون بالأمان في حصون وقلاع، وقد يغادرون البلاد إلى غيرها، فـمالك سيترككم وسيلحق بدولة أخرى حيث أصدقائه من الزعماء.

لكن الشعب المسلوب الإرادة افتقد أي قدرة على الإبصار، واتبع مالكاً فيما يرى، وأحضر كل رجل من هوازن كل ما يملك ووضعه خلف الجيش المقاتل، وخرج مالك بجيشه إلى سهل أوطاس بالقرب من حنين وبدأ فعلاً في تنظيم الجيوش هناك، ووضع الكمائن على جانبي سهل حنين حيث سيمر المسلمون، وقد ذكرنا قبل ذلك أن عند مالك عبقرية عسكرية وعنده قدرة على تنظيم الصفوف وترتيب الحروب، فرتب الجيش في صفوف متوازية، ووضع الخيل في المقدمة، ثم الرجالة خلف الخيول، ثم وضع النساء فوق الإبل في خلف الرجال؛ حتى يوهم المسلمين أن هناك عدداً كبيراً فوق الجمال من الرجال، فيتزايد العدد إلى أضعاف، ويؤثر ذلك سلباً على نفسية المسلمين، ثم صف بعد هذا كله الغنم وصف في الآخر النعم، فقد كان ترتيباً عسكرياً في غاية الإتقان.

وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يصف جيش هوازن ويقول: فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت. فقد كان مالك شخصية قيادية بمعنى الكلمة، له القدرة على تجميع الناس وتحميسهم، وله القدرة على إقناع الناس بوجهة نظره سواء عن طريق العقل أو طريق العاطفة، وله القدرة على وضع الخطط العسكرية وإتقانها، لولا ما ذكرنا من سلبيات في مالك لحسب من القواد المعدودين في تاريخ الجزيرة العربية.

إذاً: هذا كان إعداد هوازن.

لقد نقلت المخابرات الإسلامية إلى الرسول عليه الصلاة والسلام الأخبار عن هوازن، أنها تستعد لحرب المسلمين، فقد أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابي الجليل عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه ليأتيه بخبر هوازن، وجاء عبد الله بتأكيد الخبر أن هوازن تتجمع من أجل حرب المسلمين، وأنها قد جاءت عن بكرة أبيهم بنسائهم وبنعمهم وشائهم، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله) يقين بالنصر.

بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في إعداد العدة لهذا الموقف الخطير، وكان إعداده على أعلى مستوى؛ فقد كان على النحو التالي:

أولاً: قرر الخروج للقتال في مكان متوسط بين هوازن ومكة، وآثر ألا ينتظر بمكة، وهذا فيه حكمة كبيرة جداً؛ لأنه لو بقي في مكة وغزاها مالك بن عوف بجيشه فقد يتعاون أهل مكة معه؛ لأن أهل مكة حديثو عهد بشرك وجاهلية فقد يتعاونون مع المشركين من هوازن لحرب المسلمين فتصير كارثة، قد تصير الحرب من داخل ومن خارج، لذلك فضل الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخرج بجيشه إلى مكان مكشوف بعيداً عن مكة.

ثانياً: قرر أن يخرج بكامل طاقته العسكرية، سيأخذ معه العشرة آلاف مقاتل الذين فتح بهم مكة المكرمة، لأن أعداد هوازن ضخم وكبير.

ثالثاً: أخذ معه من داخل مكة المكرمة المسلمين الطلقاء الذين أسلموا عند الفتح. وهذا فيه بعد نظر كبير من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهؤلاء إن تركوا في مكة قد ينقلبون إلى الكفر مرة ثانية، وقد ينفصلون بمكة عن الدولة الإسلامية، وخاصة لو تعرض المسلمون لهزيمة من هوازن؛ وأيضاً خروجهم مع المسلمين فيه دلالة على أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقربهم ويثق بهم، وهذا سيثبت أقدامهم أكثر في الإسلام، وأيضاً قد تكون هناك غنائم كثيرة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه كان يقول: (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله) فلو وزع عليهم هذه الغنائم لكان في ذلك تأليف لقلوبهم، وأضف إلى كل ذلك أن أعدادهم الكبيرة ستوقع الرهبة في قلوب هوازن، ولا شك أن قريشاً لها مكانة في قلوب العرب، فعندما يخرج منها عدد في داخل هذا الجيش فقد يوقع الرهبة في قلوب هوازن، فيكون النصر حليفاً للمسلمين، فالرسول عليه الصلاة والسلام لأجل ذلك كله أخذ معه من مكة (2000) من الطلقاء وأصبح الجيش الإسلامي (12.000) مقاتل. وهذا أكبر عدد في تاريخ المسلمين في ذلك الوقت.

رابعاً: لم يكتف الرسول عليه الصلاة والسلام بسلاح الجيش الإسلامي الذي فتح به مكة المكرمة، مع كون هذا السلاح من الأسلحة الجيدة جداً والقوية جداً، بدليل انبهار أبي سفيان عند رؤيته للجيش الإسلامي، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا السلاح ولا بسلاح المسلمين من الطلقاء، وإنما سعى لعقد صفقة عسكرية كبرى لتدعيم الجيش الإسلامي، فذهب بنفسه إلى تجار السلاح في مكة المكرمة، وكان على رأس هؤلاء التجار صفوان بن أمية ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهذان الاثنان لا زالا مشركين.

فطلب منهما السلاح على سبيل الاستعارة بالإيجار والضمان، حتى إن صفوان بن أمية سأل الرسول عليه الصلاة والسلام: (أغصباً يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل عارية مضمونة) يعني: أنا أستعيرها بالإيجار وأضمن عند ضياع بعضها أن أعوضك عنها، هذا مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الزعيم المنتصر، وصفوان بن أمية هو أحد القادة المهزومين، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عادلاً في كل أموره، لم يكن يستحل مال عدو بأي صورة من الصور، وصفوان كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لمدة أربعة شهور يفكر فيها في أمر الإسلام كما فصلنا قبل ذلك.

الشاهد من القصة: أن إعداد الجيش الإسلامي كان على أفضل الصور الممكنة، ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام اصطحب معه في هذه الغزوة بعض المشركين، وكان منهم صفوان بن أمية وكان منهم نوفل بن الحارث تجار السلاح في مكة المكرمة فخرج هؤلاء ليحملوا أسلحتهم للمسلمين.

قد يسأل شخص ويقول: لماذا قبل صلى الله عليه وسلم أن يستعين في هذه المعركة بالمشركين ورفض أن يستعين بهم في بدر قبل ذلك، ففي بدر قال لهم: (لا أستعين بمشرك)؟ الجواب: أن الظرف مختلف، فالنصر ببدر قد ينسب إلى المشركين لقلة أعداد المسلمين وعدم استقرار دولة المسلمين، أما الآن فلن يدعي أحد أبداً أن نصر المسلمين وعددهم (12.000) مقاتل كان بسبب الأفراد المشركين المعدودين في الجيش الإسلامي، فمن أجل هذا لم ير الرسول عليه الصلاة والسلام مشكلة أن يأخذ معه بعض المشركين، وهؤلاء المشركون لن يأخذوا من الغنيمة، ولكن سيعطيهم صلى الله عليه وسلم أجراً على عملهم هذا بالاتفاق.

خامساً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام اهتم جداً بالحراسة الليلية للجيش الإسلامي؛ لئلا يباغت فجأة، فوضع على الحراسة أنس بن أبي مرثد رضي الله عنه.

سادساً: اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام اهتماماً كبيراً جداً بالحالة المعنوية للجيش الإسلامي، فقد بشرهم أن جيوش هوازن ستصبح غنيمة للمسلمين إن شاء الله، ولا ننسى أن المسلمين دخلوا موقعة حنين ومعنوياتهم مرتفعة جداً؛ لأنهم حققوا انتصاراً مهيباً منذ أيام عندما فتحوا مكة المكرمة أعظم المدن وأشرف الأماكن.

إذاً: يتبين مما سبق أن إعداد المسلمين لمعركة حنين كان إعداداً قوياً متقناً، فقد أخذ المسلمون بكل الأسباب المادية المتاحة، وكان جيشهم في أبهى صورة، وتوجه الجيش الإسلامي من مكة إلى وادي حنين حيث جموع هوازن تتجمع هناك.

خرج الجيش الإسلامي في (6) من شوال سنة (8) هجرية، ووصل إلى وادي حنين في (10) من شوال سنة (8) هجرية، وفي أثناء الطريق والجيش يسير بهذه الصورة البهية قال بعض المسلمين الجدد من الطلقاء، قالوا كلمة تعبر عن مرض خطير، وسرعان ما انتشرت هذه الكلمة في الجيش بكامله، انتشرت هذه الكلمة كما تنتشر النار في الهشيم، وهذه الكلمة في ظاهرها بسيطة يسيرة لكن كان لها من الأثر ما لم يتخيله المسلمون أبداً.

قال المسلمون: لن نغلب اليوم من قلة. كما ذكرنا أن المسلمين كانوا قد فتحوا مكة وهزموا قريشاً بعشرة آلاف فلا شك أنهم سينتصرون في حنين على هوازن بـ(12.000) مقاتل، هكذا اعتقد المسلمون، بل وصرح المسلمون بألسنتهم بهذا الاعتقاد، وهذا لم يكن أمراً قلبياً، بل خرج على الألسنة.

وعندما قال المسلمون هذه الكلمة شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحس أن مشكلة ستحصل، وظهر على وجهه الحزن، وأحس أن هناك شيئاً خطيراً سيحدث لهذا الجيش الكبير. حسناً: لماذا كل هذه التداعيات لهذه الكلمة البسيطة اليسيرة؟ الجملة في ظاهرها صحيحة، وتركيبها ومعناها صحيح، بل إن هذه الجملة مستنبطة من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود والترمذي وحسنه ورواه الدارمي والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) فمعنى الحديث: أن الجيش الذي وصل إلى (12.000) مقاتل لن يهزم بسبب قلة العدد، لكن قد يهزم لأسباب أخرى، قد يهزم لأسباب مادية أو أسباب قلبية، يعني: قد يوجد (12.000) مقاتل وليس هناك إعداد عسكري، أو ليس هناك قوة سلاح، أو عندهم خلل في الخطة، أو عدم مهارة في القيادة.. أو غير ذلك من الأمور المادية، فهذه كلها قد تكون سبباً في الهزيمة، لكن هذه الأشياء في جيش المسلمين الخارج إلى حنين كانت على أحسن مستوى، لكن قد يغلب الجيش لأسباب قلبية، وهذا أمر خطير جداً.

فهذه الكلمة التي قالها بعض المسلمين تعبر عن مرض قلبي خطير، وهذا المرض هو العجب بالنفس وبالعدد وبالإعداد المادي، وهو الاعتماد على الأسباب ونسيان رب الأسباب، وهو الظن أنني أنا الذي فعلت وليس الله الذي فعل، ولا شك أن الصحابة وغيرهم من الصالحين لو سئلوا سؤالاً مباشراً: هل النصر من عندك أم من عند الله؟ لا شك أن الجميع سيجيب بلا تردد: بل هو من عند الله عز وجل. لكن هذا الشعور الخفي، شعور الإعجاب بالنفس والغرور يتسلل إلى النفس بلطف شديد، لا يشعر به المؤمن إلا وقد تفاقم.

والإعجاب بالنفس ليس هو الثقة بالنفس، الثقة بالنفس أمر محمود، أما الإعجاب بالنفس فأمر مذموم، والثقة بالنفس أمر مطلوب؛ لأن الجيش لا ينتصر ولا ينجح بغير الثقة بالنفس، لكن لا يجب أن تزيد الثقة بالنفس حتى تصل إلى درجة التوكل على النفس، وليس التوكل على الله عز وجل.

والفارق بين الثقة بالنفس والإعجاب بالنفس شعرة، والموفق من وفقه الله عز وجل. الواضح من النبرة التي عند الصحابة حين قالوا: لن نغلب اليوم من قلة. أنها كلمة تعبر عن ثقة زائدة عن الحد بالنفس، من أجل ذلك غضب الرسول عليه الصلاة والسلام لما سمعها وحزن حزناً ظهر على وجهه صلى الله عليه وسلم، ولو قيلت نفس الجملة على سبيل تبشير المسلمين وطمأنة المسلمين لكانت جملة مناسبة وجميلة ومستحسنة، لكن هذا الكلام لم يحصل، وإنما أُعجب المسلمون بعددهم وتوكلوا على كثرتهم، وهذا هو المرض الذي ذكره سبحانه وتعالى في الكتاب الكريم في حق هؤلاء، قال: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25].

لا يقولن أحد أبداً: إن هذا المرض كان عند الطلقاء حديثي الإسلام فقط، لا، للأسف انتقل المرض من الطلقاء إلى عامة أفراد الجيش الإسلامي، حتى وصل إلى معظم السابقين، وهذا أمر خطير، وسنرى أثر هذا الكلام بعد قليل.

إن الأمراض القلبية كالعجب والكبر وحب الدنيا والحسد أمراض معدية، إن ظهرت في طائفة ولم تعالج جيداً تنتشر كالوباء، من أجل ذلك كان دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان واضحاً أن هذا الدور لم يؤد على الوجه الأكمل في هذه المعركة، فحدث أن هذه الكلمة انتشرت في الجيش كله، وكان لهذه الكلمة الخطيرة أثر على كل الناس، وغريب أن البعض القليل قد يؤثر على الكثير، ومن الخطر جداً أن يخرج ضعيف الإيمان في وسط الجيش المؤمن، لكن لولا ظروف مكة حديثة الإسلام وخطورة انقلاب مكة كما ذكرنا قبل ذلك لكان الأفضل ألا يخرج للقتال متذبذب الإيمان، لكن هذه كانت ظروفاً قهرية اضطر المسلمون فيها إلى اصطحاب الطلقاء، مع أن الله تعالى يقول في الكتاب: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47]، لكن غالب الطلقاء لم يكونوا منافقين محترفي النفاق، وإنما كانوا حديثي العهد بالجاهلية، ولم يمروا بتجارب إيمانية كافية، لم يعيشوا في المحاضن التربوية إلا قليلاً، وكان هذا الأمر متوقعاً منهم، لكن الأخطر كما أخبر سبحانه في الآية: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47] الأخطر أن استمع المسلمون السابقون إلى هذه الكلمات وتأثروا بها، ومر بنا مواقف مشابهة قبل ذلك في غزوة أحد، وسيمر بنا موقف آخر في غزوة تبوك وسنتكلم عليها بالتفصيل أكثر عندما نأتي للكلام على غزوة تبوك.

اتجه الجيش الإسلامي إلى حنين وهو متيقن أن النصر حليفه، مع شعورهم بكثرة العدد، وهذا المرض القلبي الخطير قاد إلى شيء خطير آخر، فالثقة الزائدة بالنفس تدفع الإنسان إلى عدم الاكتراث بقوة عدوه، وعدم التأكيد على سير العملية العسكرية بالصورة التي ينبغي أن تكون عليها، فظهر بعض القصور في أداء المسلمين. ورأينا أداء المسلمين على أحسن صورة لما كانوا معتمدين تمام الاعتماد على ربنا سبحانه وتعالى قبل أن يقولوا هذه الكلمة، فقد خرجوا من مكة المكرمة بعدة بهية وبجيوش قوية وبإعداد على أحسن مستوى، لكن لما أعجبنا بالكثرة بدأنا نقلل من الاهتمام بالتفاصيل، فالمخابرات الإسلامية لم تتعامل مع الوضع الجديد بدقة كافية، ومن ثم لم تكتشف العيون الإسلامية الكمائن التي زرعها مالك بن عوف حول وادي حنين، وبالتالي سنرى الجيش الإسلام يدخل في منطقة شديدة الخطورة دون دراسة كافية، وقبل ذلك كانت خطوات الجيش الإسلامي متثاقلة وهو في طريقه إلى حنين، فقد قطع المسافة القصيرة جداً في فترة طويلة جداً، مع أن من عادة الجيوش أن تقطع في اليوم الواحد حوالي (50)كيلو متر، ونحن رأينا الجيش الإسلامي توجه من المدينة إلى مكة المكرمة في عشرة أيام، والمسافة بين المدينة ومكة (500) كيلو تقريباً، يعني بمعدل (50)كيلو كل يوم، وهذا معدل طبيعي جداً وقد يزيد أحياناً ويقل أحياناً لاختلاف الظروف، لكن يبقى المعدل الطبيعي حوالي (50)كيلو، لكن هنا الجيش الإسلامي قطع مسافة (20)كيلو من مكة إلى حنين في ثلاثة أو أربعة أيام، فالجيش خرج في (6) من شوال ووصل إلى حنين في (10) من شوال، وكان الواجب أن يقطع هذه المسافة في نصف يوم فقط، ومع ذلك قطعها في ثلاثة أو أربعة أيام، وهذا تأخير في الحركة مرجعه في الأساس عدم الاكتراث بالعدو لشدة الثقة بالنفس، فلذلك وصل مالك بن عوف بجيشه إلى وادي حنين قبل المسلمين، وبالتالي نشر قواته في الأماكن المناسبة، واحتل المواقع الاستراتيجية، واستراحت جيوشه بصورة كافية قبل اللقاء، فكل هذا كان في صالح المشركين، بينما في غزوة بدر وصل المسلمون إلى أرض القتال قبل المشركين واستطاعوا أن يأخذوا الأماكن المناسبة ليحتلوا مواقع إستراتيجية، وهذا كان سبباً من أسباب النصر.

أما الجيش الإسلامي في غزوة حنين لزيادة الثقة بالنفس وللعجب بالعدد اندفع إلى سهل حنين دون ترو، ولم يضع أي حماية لخلفية الجيش الإسلامي قبل أن يدخل وادي حنين، ولم ينظر إلى الكمائن وألقى بثقله الكامل في داخل الوادي، وهذا خطأ عسكري فادح.

والواحد عندما يحلل هذه المعركة قد يستغرب جداً من وجود هذه الأخطاء، لأن في الجيش كفاءات عسكرية هائلة، فالجيش يقوده الرسول عليه الصلاة والسلام بحكمته العسكرية المعروفة، وبدقته في إدارة الأمور، والجيش يضم بين صفوفه خالد بن الوليد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعلي بن أبي طالب والحباب بن المنذر وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح .. وغيرهم وغيرهم من العمالقة العسكريين، كيف يحدث هذا القصور؟

الحقيقة أن هذا الكلام ليس له عندي إلا تفسير واحد، وهو أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفت الأنظار إلى الخطأ القلبي الخطير الذي أصيب به المسلمون، من أجل ذلك حجب الرؤية عنهم فوقعوا في أخطاء لا يقعون فيها أبداً في الظروف العادية، بحيث لو تكررت مثل هذه المعركة مرات كثيرة فلن يقع المسلمون في هذه الأخطاء، لكن أمر ربنا سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى لم يرد للرسول عليه الصلاة والسلام أن يقول كلمة أو خطبة تشعر المسلمين بمدى المأساة التي ستحدث لهم إذا أصيبوا بداء العجب؛ لأنهم لو خرجوا بكلمة أو خطبة ولم يصابوا مصاباً فادحاً سيتسلل المرض أكثر وأكثر إلى قلوبهم، فكان لا بد من مصيبة تهز المسلمين وتوضح لهم الرؤية وتوضح لهم الصورة تمام الوضوح.

ومصيبة واحدة مثل هذه تترك أثراً تربوياً أعمق من الأثر الذي تتركه ألف خطبة، من أجل ذلك لم يكن هناك وحي في هذه القضية ينبه المسلمين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه، وأراد سبحانه وتعالى أن يذيق المسلمين النتيجة المرة لمرضهم الخطير، وهذا أبلغ في تربية المسلمين.

لاشك أن غزوة حنين بما حدث فيها من أزمات ما زالت محفورة في أذهان المسلمين إلى الآن، وستظل كذلك إلى يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى سجلها في القرآن الكريم؛ لكي لا ينسى المسلمون أبداً هذه الأزمة التي حصلت في حنين.

ما هي إلا دقائق من دخول الجيش الإسلامي في وادي حنين حتى انهالت عليه الأسهم والرماح من كل مكان، وثارت خيول هوازن في وجوه المسلمين، وخرجت فرق هوازن من هنا وهناك، وأحيط بالمسلمين من كل مكان، وخارت عزائم المسلمين في لحظات، وهم عمالقة في الحروب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، لكن كل الناس خارت عزائمهم إلا القليل، وقرر معظم الجيش قراراً واحداً في لحظة واحدة ألا وهو الفرار، بل الفرار العشوائي في أي اتجاه، ليسوا متحرفين لقتال ولا متحيزين إلى فئة، لا مقاومة لا محاولة لا تفكير لا شيء إلا الفرار، صدمة في منتهى القسوة، صدمة حنين في تقييمي أشد من صدمة أحد، في أحد خالف بعض رجال الجيش وثبت بعضهم، وقاتل بعضهم حتى الشهادة.

أما هنا فلم يثبت من المسلمين إلا عشرة أو اثنا عشر فقط من الرجال، من أصل (12.000) مقاتل، هذا يعني ثبات واحد من كل ألف، في الجيش الإسلامي في حنين. إنها كارثة وأزمة خطيرة، وقد أحس المسلمون أن الصحراء الواسعة أصبحت ضيقة جداً لا تكفي للهروب، ولا تسمح بالفرار، ولسان حال الجميع: نفسي نفسي، الله سبحانه وتعالى يصف حالة الجيش الإسلامي في أول لحظات يوم حنين، قال سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25] مصيبة حقيقة أن ينزع الله عز وجل نعمة الثبات من فرد أو جماعة أو جيش أو أمة، فالثبات هبة من رب العالمين سبحانه وتعالى، يقول تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

كل الناس محتاجة إلى الثبات، حتى الأنبياء يحتاجون إلى الثبات من الله عز وجل: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74].

لا يعطي الثبات إلا لمن ارتبط به حقاً، إلا لمن كان خالص النية سليم القلب حسن العمل، كان الموقف يوم حنين مذهلاً، فهذا أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له في ذهول: ما بال الناس؟ فقال: عمر بن الخطاب : أمر الله. لم يعرف.

لعل هذا من أعمق الدروس في تاريخ الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فهو درس لا ينسى، وهذا الدرس نفعهم بعد ذلك ولسنوات طوال، في حروب كثيرة جداً دارت بعد ذلك مع فارس والروم.. وغيرهم من أجناس الأرض، ولم يفر المسلمون الذين شهدوا حنيناً بعد ذلك؛ فكلهم علموا وفقهوا جيداً أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة، إنما بنصر رب العالمين للجيش.

و عمر بن الخطاب الذي كان مذهولاً في ذلك اليوم لا يدري ماذا حدث للمسلمين أدرك مباشرة سبب الفرار، أدرك خلفيات الهزيمة، احتفظ بالدرس العظيم، مع أنه رضي الله عنه وأرضاه كان من الثابتين لم يفر قيد أنملة رضي الله عنه وأرضاه، لكن بعد سنوات طويلة من غزوة حنين أرسل عمر بن الخطاب رسالة إلى جنوده يشرح لهم أسباب النصر المبنية على ما حدث في يوم حنين، قال عمر بن الخطاب في رسالته المشهورة: إنكم لا تنصرون على عدوكم بقوة العدة والعتاد، إنما تنصرون عليه بطاعتكم لربكم ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد. فسيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه في يوم حنين رأى أن الغلبة أصبحت لهوازن على المسلمين بقوة العدة والعتاد؛ لأن المسلمين (12.000) والمشركين أكثر من (25.000) ، ولا ينصر القلة على الكثرة إلا بعون الله عز وجل وإرادته، قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].

ولى المسلمون وفروا يوم حنين مدبرين في شتى الاتجاهات، ولم يبق القليل كما ذكرنا.

ماذا كان موقف الطلقاء في هذا الموقف الصعب؟ تباينت مواقف الطلقاء، منهم من صرح بكفره بعد أن كان ظاهره مسلماً مثل: كلدة بن حنبل ، لكن بعد ذلك أسلم وله صحبة، فهذا الرجل قال في ذلك الوقت: ألا بطل السحر اليوم. يعني: يتهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالسحر مع أنه خارج مع المسلمين على أنه مسلم.

ومنهم من لم يكتف بالكفر بل حاول قتل الرسول عليه الصلاة والسلام مثل: شيبة بن عثمان وأيضاً هذا أسلم وحسن إسلامه.

ومنهم من أظهر الشماتة دون أن يظهر الكفر كـأبي سفيان زعيم مكة قال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. فقد كان مسروراً بهزيمة المسلمين، فهو لم يثبت على الإسلام، لكن الحمد لله حسن إسلامه بعد ذلك ومنهم من تردد في الأمر فلم يدر أين الحقيقة مثل سهيل بن عمرو .

ومن الطلقاء الذين لم يكمل إسلامهم أسبوعين ثلاثة من ثبت على الإسلام ولم يتردد لحظة مثل: عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه. ومما يدل على الفهم الراقي الذي كان عند عكرمة رضي الله عنه وفهمه للإسلام وللنصر وللهزيمة أنه حدث لطيف جداً دار بينه وبين سهيل بن عمرو في أثناء فرار المسلمين يوم حنين، قال عكرمة عندما رأى المسلمين يفرون، قال: هذا بيد الله ليس إلى محمد صلى الله عليه وسلم منه شيء. يعني: ليس هو السبب، أي: أن النصر والهزيمة بيد الله عز وجل، وليس معناه عدم صدق محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال كلمة جميلة جداً لا يقولها إلا من عاش سنوات وسنوات في الإسلام قال: إن أديل عليه اليوم فإن له العاقبة غداً.

يعني: لو هزم اليوم فلا شك أن النصر سيكون حليفه غداً أو مستقبلاً، أوهذا مثل قول الله سبحانه وتعالى : وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

فـعكرمة رضي الله عنه لم يسلم إلا منذ أسبوعين أو ثلاثة، وهذا اليقين منه أدهش سهيل بن عمرو قال: والله إن عهدك بخلافه لحديث. يعني: أنت لا تزال من أسبوعين أو ثلاثة كنت تعبد هبل فكيف توقن هذا اليقين؟ قال عكرمة : يا أبا يزيد ! إنا كنا على غير شيء وعقولنا ذاهبة، نعبد حجراً لا يضر ولا ينفع.

إذاً: تباينت مواقف الناس، فالغالب الأعم من الناس فر من أرض المعركة والقليل هم الذين ثبتوا. ومعركة حنين في تقييمي كانت شديدة الشبه بمعركة أحد، فكلاهما كان مصيبة، وكلاهما كان لمرض قلبي، ففي أحد المرض القلبي كان حب الدنيا، وفي حنين المرض القلبي كان العجب، لكن الفارق بين أحد وحنين أن أحداث الموقعتين تمت بصورة معكوسة، ففي أحد بدأت المعركة بنصر للمسلمين ثم حدثت المصيبة، وفي حنين بدأت المعركة بمصيبة للمسلمين ثم تم النصر لهم.

كيف تم النصر للمسلمين مع وجود هذه الأزمة الطاحنة؟ كيف خرج المسلمون من هذه الكارثة؟ في مثل هذه الأزمات الهائلة وحين يتخلى الجميع أو المعظم عن المسئولية في عمل من الأعمال الهامة للأمة، سواء كان جهاداً أو غيره من الأعمال، ماذا نعمل في مثل هذه المواقف؟

لقد ضرب لنا الرسول عليه الصلاة والسلام القدوة في ذلك، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقدم لنا منهجاً عملياً واضحاً للخروج من مثل هذه الأزمات، فماذا عمل الرسول عليه الصلاة والسلام؟!

ثبات النبي القائد صلى الله عليه وسلم

أول نقطة: ضرب القدوة من نفسه، فلم يفر؛ لأنه إذا فر القائد فلا أمل في ثبات الجنود، وإذا تخلى القائد عن المسئولية فلن يحملها أحد.

فالرسول عليه الصلاة والسلام ثبت في هذه الموقعة ثباتاً عجيباً، بل إنه لم يكتف بالثبات وعدم الفرار، بل كان يركض بدابته ناحية الكفار، حتى أن العباس رضي الله عنه وأرضاه وكان من الثابتين إلى جواره صلى الله عليه وسلم كان يمسك بلجام الدابة ليمنعها من التقدم خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام استمر في الدخول وسط جيش الكفار، وكان الجيش يمشي عكس اتجاه الرسول عليه الصلاة والسلام، كله يفر إلى الوراء والرسول صلى الله عليه وسلم متقدم إلى الأمام ويقول وينادي بأعلى صوته: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ، هلموا إلي أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله.

لن تجد مثل الرسول عليه الصلاة والسلام مهما قرأت في التاريخ، ومهما قرأت في السير، ومهما قرأت في المعارك لن تجد مثل ذلك الموقف أبداً، إذا فكر القائد في النجاة بنفسه لا شك أن الجنود سيحبطون إحباطاً يمنعهم من أي مقاومة، أما إذا ثبت القائد وتقدم وجاهد وضحى بنفسه فهذه أعظم الدروس التربوية لجيشه ولأمته؛ ولذلك تجد أن الراية تعطى في المعارك لأفضل الناس وأقوى الناس وأشجع الناس؛ لأن الناس تبع لرايتهم وتبع لقائدهم، فإذا هرب الشجاع الذي يحمل الراية فلا شك أن غيره سيهرب وسينهزم، لذلك تجد أن أشد القتال دائماً يدور حول الراية، ليس لمجرد قتل رجل شجاع؛ ولكن لأن سقوط الراية سيؤثر معنوياً على كامل الجيش؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يدرك ذلك تمام الإدراك، فلذلك حرص صلى الله عليه وسلم كل الحرص على عدم التراجع خطوة واحدة، مع كل الخطورة التي قد يتعرض لها، لكن هذه هي الفرصة الأخيرة لجيشه ولأمته أن تراه ثابتاً فتثبت بثباته، وفعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، وألف خطة في الثبات والتضحية لا تساوي موقف الرسول عليه الصلاة والسلام يوم حنين.

هذه رسالة لكل المسئولين عن أعمال جماعية للأمة الإسلامية، ثبات القائد يعني ثبات الجنود وتضحية الرئيس تعني تضحية المرءوسين.

إذاً: هذه كانت أول نقطة عملها الرسول عليه الصلاة والسلام: ضرب القدوة من نفسه كقائد.

اعتماده صلى الله عليه وسلم على الموثوق بهم من الجنود

النقطة الثانية: الاعتماد على الموثوق فيهم من الجنود، القائد كفرد لا يستطيع أن يفعل شيئاً بلا جنود، حتى لو ثبت لابد أن يكون في جنود؛ فالزعيم لا يأتي بالنصر إلا إذا كانت معه أمة، لكن يتفاوت الناس في إمكانياتهم، يتفاوت الناس في أخلاقهم، في تربيتهم، في تاريخهم، كذلك يتفاوت الناس في درجة الاعتماد عليهم، فهناك من يعتمد عليه في أمور، وهناك من يعتمد عليه في أمور أخرى، وهناك من لا يعتمد عليه أصلاً.

فالقائد المحنك والرئيس الذكي هو الذي يدرك بوضوح إمكانيات من حوله، يعرف الأعمال البسيطة السهلة التي يستطيع الجميع القيام بها، ويعرف الأعمال الصعبة التي لا يقوم بها إلا بعض الرجال، كما يعرف الأعمال شديدة الصعوبة التي لا يفلح في أدائها إلا القليل من الرجال، فكلما ازدادت حكمة القائد أدرك المستوى الدقيق لكل من حوله، وبالتالي لا يكلف أحداً من جنوده فوق ما يطيق، حتى ممكن يحقق نسبة نجاح كبيرة.

فتعالوا لننظر كيف طبق الرسول عليه الصلاة والسلام هذا؟ لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من يميز الرجال، وأفضل من يقدر إمكانياتهم، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام لم يناد في هذه المعركة على (12.000) مقاتل الذين معه؛ لأن فيهم أناساً حديثو عهد بالإسلام، ويصعب عليهم أن يثبتوا في هذه المواقف، بل إنه صلى الله عليه وسلم لم يناد على (10000)مقاتل الذين فتح بهم مكة، مع أن الذي دخل الإسلام قبل الفتح له درجة عالية جداً في ميزان الإسلام، ومع ذلك لم يناد عليهم كلهم؛ لأنه يعرف أن منهم من آمنوا رهباً من الدولة الإسلامية أو رغباً في ثرواتها بعد الانتصارات المتتالية مثل: قبائل غطفان وسليم وتميم.. وغيرهم.

فماذا عمل صلى الله عليه وسلم؟ ركز النداء في أولئك الذين يثق بدينهم، ويطمئن لعقيدتهم، ويعلم تماماً أنهم وإن فروا في أول يوم حنين إلا أنهم سيعودون سريعاً إلى حالتهم الأولى من البذل والعطاء والجهاد بمجرد التذكير؛ لأن معدنهم شديد النقاء. فمن هؤلاء الذين وثق فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ إنهم أصحاب الشجرة، أصحاب بيعة الرضوان الذين شهدوا صلح الحديبية، الذين فتحوا خيبر بعد ذلك، الذين قال الله عز وجل في حقهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].

فهؤلاء بايعوا قبل ذلك على عدم الفرار. ولا شك أنهم لو تذكروا هذه البيعة -بيعة الرضوان- لعادوا فوراً إلى القتال؛ لأنهم يقيناً لم يبايعوا هذه البيعة نفاقاً ولأنه سبحانه وتعالى ذكر في كتابه أنه علم ما في قلوبهم، وهؤلاء نزلت عليهم السكينة قبل ذلك وهم على أبواب مكة في سنة (6) هجرية، وكما تعلمون لم يكن معهم إلا سلاح المسافر، ونزول السكينة عليهم في هذا اللقاء في حنين سيحدث إن شاء الله بشرط أن يعودوا.

وهؤلاء وإن كانوا (1400) فقط، إلا أن الواحد منهم بمائة والواحد منهم بألف والواحد منهم بأكثر من ألف، فهؤلاء لو ثبتوا فكل الناس بعد ذلك ستثبت لثباتهم، من أجل ذلك ركز الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم.

أمر صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه وكان من الثابتين إلى جواره، لم يفر العباس ولا لحظة واحدة، أمره أن ينادي على هؤلاء المبايعين على عدم الفرار، فرفع العباس صوته ونادى بكل ما فيه من قوة: يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب السمرة، يا أصحاب الشجرة.. هكذا. ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام خص النداء أكثر، فلم يعد ينادي على كل أصحاب الشجرة، فأمر العباس أن ينادي على الأنصار، فخص الأنصار من أصحاب الشجرة، فرفع العباس صوته ونادى: يا أنصار الله، يا أنصار رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه خص أكثر وأكثر فنادى على الخزرج: يا بني الخزرج، يا بني الخزرج. ثم إنه خص أكثر وأكثر وأكثر، فنادى على بني حارثة من الخزرج وهم من خير دور الأنصار، كما قال في الحديث عن أبي أسيد الساعدي في البخاري ومسلم .

فماذا كان رد فعل أصحاب الشجرة والأنصار والخزرج وبني حارثة؟ نترك العباس رضي الله عنه يصور لنا رد فعل هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين. يقول العباس : فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. يعني: عادوا مسرعين كالبقر التي تدافع عن أولاها الصغار، وقال الأنصار في لحظة واحدة وبصورة جماعية وبحماس: يا لبيك، يا لبيك، لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، فجاءوا من كل مكان في أرض الموقعة، مع كل الأزمة التي يعيشها المسلمون إلا أنهم أتوا من كل مكان، حتى إنهم كانوا لا يرون الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة تزاحم الناس، وكان الرجل يجد صعوبة في العودة؛ لأن الدابة التي يركب عليها في عكس الاتجاه، لكن كان يترك الدابة وينزل ويترجل على قدميه حتى يلحق الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهؤلاء هم الناس الذين من الممكن أن تقوم على أكتافهم الأمة، ما هي إلا لحظات حتى اجتمع مع الرسول عليه الصلاة والسلام مائة من الرجال، وأول كان معه في أول الأمر حوالي عشرة أو اثنا عشر والآن مائة، فلما أتى المائة قال صلى الله عليه وسلم: الآن حمي الوطيس. يعين: حميت الحرب كما في صحيح مسلم عن العباس رضي الله عنه وأرضاه.

فلما اشتدت الحرب وحميت الحرب وبدأ المسلمون في قتال ضار، والمسلمون الذين اجتمعوا حول الرسول عليه الصلاة والسلام جميعاً ثابتون، والثابتون الأوائل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب والفضل بن العباس وأيمن بن عبيد الذي هو ابن أم أيمن رضي الله عنهم أجمعين، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، هؤلاء جميعاً هم الذين ثبتوا في البداية. ثم جاء الأنصار كما ذكرنا حتى اكتملوا مائة، ثم بدأ المسلمون يتوافدون من كل مكان، وأمسك صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب وقذفها في وجوه الكفار وقال: حم لا ينصرون.

وفي رواية قال: شاهت الوجوه.

فدخل التراب في عيون وأنوف جميع الكفار، وكانت نقطة تحول فارقة في موقعة حنين، كانت البداية ثبات القائد الأعلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ثبت بثباته مجموعة قليلة جداً من الرجال، ثم عاد إليه من الفارين مجموعة أكبر حتى وصلوا ثم عاد الأنصار جميعاً وأصحاب الشجرة، ثم سرت روح المقاومة والثبات في الجميع فعادوا يقاتلون في سبيل الله.

أول الغيث قطرة ثم ينهمر.

إذاً: أول خطوة: ثبات القائد.

الخطوة الثانية: الاعتماد على الموثوق فيهم من الجنود.

تذكير الصحابة بأن النصر من عند الله عز وجل

الخطوة الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر العائدين بما نسوه، ألم تحدث المصيبة ويحدث الفرار؛ لأنهم أعجبوا بقوتهم وعددهم ولم يذكروا نصر الله عز وجل لهم؟ إذاً: فليتذكر الجميع الآن أن النصر من عند الله عز وجل، فرفع صلى الله عليه وسلم صوته يطمئن المسلمين ويقول: انهزموا ورب محمد، انهزموا ورب الكعبة، ثم رفع يده إلى السماء وابتهل إلى الله في الدعاء وقال في إلحاح: اللهم أنزل نصرك، اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا، اللهم أنزل نصرك.

في هذه اللحظات العظيمة عولج المرض الخطير الذي أصيب به المسلمون يوم حنين، وأدركوا بما لا يدع مجالاً للشك أن الناصر الحقيقي هو الله عز وجل، واستوعبوا بكل ذرة في كيانهم قول الله عز وجل: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10] وانتقلت هذه الآية في لحظات يسيرة وسريعة جداً من المفاهيم النظرية إلى الوقائع العملية.

عندما تغير واقع المسلمين بهذه الصورة أذن الله عز وجل للنصر أن ينزل على المسلمين، وكما تعودنا أن ينزل النصر ينزل بصورة لا يتوقعها المسلمون، ليعلم الجميع أن النصر من عند الله عز وجل.

أول نقطة: ضرب القدوة من نفسه، فلم يفر؛ لأنه إذا فر القائد فلا أمل في ثبات الجنود، وإذا تخلى القائد عن المسئولية فلن يحملها أحد.

فالرسول عليه الصلاة والسلام ثبت في هذه الموقعة ثباتاً عجيباً، بل إنه لم يكتف بالثبات وعدم الفرار، بل كان يركض بدابته ناحية الكفار، حتى أن العباس رضي الله عنه وأرضاه وكان من الثابتين إلى جواره صلى الله عليه وسلم كان يمسك بلجام الدابة ليمنعها من التقدم خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام استمر في الدخول وسط جيش الكفار، وكان الجيش يمشي عكس اتجاه الرسول عليه الصلاة والسلام، كله يفر إلى الوراء والرسول صلى الله عليه وسلم متقدم إلى الأمام ويقول وينادي بأعلى صوته: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ، هلموا إلي أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله.

لن تجد مثل الرسول عليه الصلاة والسلام مهما قرأت في التاريخ، ومهما قرأت في السير، ومهما قرأت في المعارك لن تجد مثل ذلك الموقف أبداً، إذا فكر القائد في النجاة بنفسه لا شك أن الجنود سيحبطون إحباطاً يمنعهم من أي مقاومة، أما إذا ثبت القائد وتقدم وجاهد وضحى بنفسه فهذه أعظم الدروس التربوية لجيشه ولأمته؛ ولذلك تجد أن الراية تعطى في المعارك لأفضل الناس وأقوى الناس وأشجع الناس؛ لأن الناس تبع لرايتهم وتبع لقائدهم، فإذا هرب الشجاع الذي يحمل الراية فلا شك أن غيره سيهرب وسينهزم، لذلك تجد أن أشد القتال دائماً يدور حول الراية، ليس لمجرد قتل رجل شجاع؛ ولكن لأن سقوط الراية سيؤثر معنوياً على كامل الجيش؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يدرك ذلك تمام الإدراك، فلذلك حرص صلى الله عليه وسلم كل الحرص على عدم التراجع خطوة واحدة، مع كل الخطورة التي قد يتعرض لها، لكن هذه هي الفرصة الأخيرة لجيشه ولأمته أن تراه ثابتاً فتثبت بثباته، وفعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، وألف خطة في الثبات والتضحية لا تساوي موقف الرسول عليه الصلاة والسلام يوم حنين.

هذه رسالة لكل المسئولين عن أعمال جماعية للأمة الإسلامية، ثبات القائد يعني ثبات الجنود وتضحية الرئيس تعني تضحية المرءوسين.

إذاً: هذه كانت أول نقطة عملها الرسول عليه الصلاة والسلام: ضرب القدوة من نفسه كقائد.