الأمة الغائبة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

هذه ليلة الإثنين الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة من سنة (1412هـ) ينعقد فيها هذا الدرس [61] من سلسلة الدروس العلمية العامة التي تلقى في الجامع الكبير بـبريدة.

نعم أيها الإخوة: كنت قلت لكم أن موضوع هذا الدرس وعنوانه سيكون العوائق النفسية، وفعلاً: هذا هو موضوع الحديث، ولكني وجدت أن المقدمة التي لا بد من عرضها طويلة، وهي تعالج موضوعاً يصح أن يعبر عنه بالأمة الغائبة، وهو كالمقدمة لموضوع: العوائق النفسية، وبناءً عليه أقول: حديثي إليكم في هذه الليلة: الأمة الغائبة، أما الاستطراد في موضوع العوائق النفسية، فسيكون له حديثه الخاص المفصل إن شاء الله تعالى.

حين تقرأ القرآن الكريم، تجد أن الله تعالى خاطب الناس في أكثر من عشرين موضعاً في القرآن بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وخاطب الإنسان بلفظ الإنسان: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] أما لفظ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فقد ورد في القرآن الكريم نحواً من تسعين مرة، ولفظ الناس أو الإنسان يشمل كل إنسان على ظهر هذه الأرض، سواء كان عربياً أم عجمياً، ذكراً أم أنثى، كبيراً أم صغيراً، من الذين كانوا موجودين في زمن البعثة، أو ممن خلقوا ووجدوا بعد ذلك.

كما أن لفظ الذين آمنوا يشمل كل مؤمن أياً كان لونه وجنسه وبلده، وأياًَ كانت مرتبته في الإيمان أيضا، قوةً أو ضعفاً أو غير ذلك، ويقول الله عز وجل في محكم تنـزيله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95] فهذه الآية تؤكد أن المسئولية على كل إنسان، وأن الحساب فردي يوم القيامة، وهو المعنى الذي يؤكده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عمر: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.

حتى ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الإمام وهو الحاكم الإمام الأعظم الخليفة وذكر في الجانب الآخر الخادم ورعايته في مال سيده، وكلكهم راعٍ وكلكهم مسئول عن رعيته.

أيها الإخوة: إن قضايا الأمة الإسلامية كلها لن تنجح إلا إذا صارت هذه القضايا هماً للجميع، يشتغل بها كل إنسان ويتعاطاها، حديثاً، ومناقشة، ومراجعة، ودراسة، ومشاركة، ولذلك لابد أن يكون هناك خطاب لجمهور الأمة كلها على كافة المستويات، خطاب يرفع مستوى التفكير عند الأمة، ويرفع مستوى الاهتمام عند الأمة، بحيث نكسر احتكار هموم الأمة لفئات خاصة.

فلا تعود مشاكل المسلمين أو قضاياهم أو أمورهم حكراً على فئات الدعاة يعالجونها ويخاطبونها، ولا حكراً على فئة العلماء، ولا حكراًً على أهل الرئاسة، ولا حكراً على أهل الإعلام والصحافة، لا، بل تصبح الأمة تعالج قضاياها بنفسها، ولا يشعر فرد من هذه الأمة أن هذا الهم لا يعنيه إنما يعني غيره، أو أن هذا هَمّ فلان وفلان من العلماء أو الدعاة أو الرؤساء أو الإعلاميين أو سواهم.

النص القرآني خطاب للجميع كما سمعتم، خطاب للعموم، وكذلك النص النبوي، والأصل في التشريعات القرآنية والنبوية أنها موجهة لكل الناس دون استثناء، فالقرآن لم ينـزل للأذكياء فقط، بل نـزل للذكي ومتوسط الذكاء وللغبي أيضاً، وكل إنسان عنده عقل يعقل به أمر الله فهو مكلف بشرعية الله عز وجل، بغض النظر عن كون عبقرياً أو كونه إنساناً بسيط التفكير سطحي النظرة.

والقرآن والسنة أيضاً لم يكونا للسادة فقط، بل نزل القرآن وصدر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخاطب السادة وعِلْيَةَ القوم كما يخاطب السوقة والعامة والدهماء من الناس، والقرآن والحديث لم يوجه خطابهما إلى الأغنياء والأثرياء وأصحاب الأموال، بل وجه إلى الأثرياء والفقراء والمتوسطين والمعدمين على حد سواء.

بل إنك تجد أن التخصيص لا يكون إلا في أمور معينة لا يدركها إلا الخاصة من الناس، فمثلاً يقول الله عز وجل: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].

إذاً: أنت الآن أمام قضية لها أبعاد، ولها أطراف، ولها خفايا، ولها أحكام، ولها نصوص، لا يدركها كل إنسان، فهذه نعم يردها العامة، ويردها جمهور الناس إلى الذين يستنبطونها من العلماء والخبراء بشئونها، أما ما سوى ذلك فالخطاب للجميع، بل لعلك تعجب! حتى الآيات القرآنية التي جاء فيها الخطاب للنبي صلى الله عليه سلم، فحقيقة الحكم لا تخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تشمله وتشمل غيره من الناس يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1].

وهذه الآية وإن كان الخطاب فيها موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو خطاب للأمة كلها من ورائه، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1] مع أن صدر الآية يبدأ بـ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الطلاق:1] إلا أنه يبدأ بعد ذلك يخاطب الأمة كلها إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1] وبإجماع العلماء فالخطاب، والحكم في هذه الآية عام لجميع الناس.

الأحكام التي يختص بها الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن محدودة جداً، مثل قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب:52] ومثل قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] إلى غير ذلك، فهي أحكام قليلة.

أما الأصل في الخطاب الإسلامي والقرآن والحديث أنه خطاب لكل إنسان، والخطاب الإيماني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو خطاب لكل مؤمن.

نحن الآن أيها الأحبة: في مرحلة انتقال الأمة من وضع إلى وضع، في مرحلة معاناة الأمة مشاكلها، وهمومها، وآلامها، وجراحها، في مرحلة صحوة الأمة، وينبغي أن نعلم جيداً أن هذه الصحوة، وهذه اليقظة، وهذه المعاناة، لا يمكن أن تثمر أبداً إلا إذا أفلحنا في جعل قضايا الأمة هماً للجميع، يتعاطاها كل إنسان، ويتحدث عنها الأطفال في مدارسهم، وتتحدث عنها العجائز في عقر دورهن، ويتحدث عنها الرجل العامي، كما يتحدث عنها العالم أو الداعية أو المثقف سواءً بسواء.

بحيث نفلح في جر الجميع إلى ساحة العمل والمشاركة، إن أمكن جرهم باللين فبها، وإلا نجرهم بالقوة إذا لزم الأمر، ليتعاطوا قضايا أمتهم بحثاً ومشاركة ومساهمة، مشاركة بالرأي وبالعطاء وبالمال وبالكلمة وبالهمّ وبالدعوة، وبكل وسيلة ممكنة.

جيل الصحابة

انظر إلى الجيل الأول الذي قام على يديه الإسلام أول مرة، هل قام الإسلام أول مرة على يد أفراد محدودين من الناس؟

كلا، بل قام على يد جيل كله كان يتحرك للإسلام، وكله كان يشتغل بقضية الإسلام، وكله كان يراقب سير الدعوة، فيصحح إن احتاج الأمر إلى تصحيح، ويؤيد إن احتاج الأمر إلى تأييد، ويعارض إن احتاج إلى معارضة، كلهم كان معنياً بأمر الإسلام.

ترجم ابن الأثير -مثلاً- في أسد الغابة لما يزيد على سبعة آلاف وسبعمائة صحابي ما بين رجل وامرأة، لا تجد في ترجمتهم أحداً منهم مغموراً، لا بد أن تجد للواحد منهم مشاركة في بناء صرح الإسلام، ومساهمة في دفع عجلة الإسلام إلى الأمام، وأنت تجد في الأحاديث ذكراً لأشخاص رجالاً ونساءً ربما يجهل الواحد منا أسماءهم الآن.

فمثلاً: من هو الذي لم يسمع بحديث ذي اليدين؟

{لما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيء الظهر أو العصر، سلم من ركعتين، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رجل يقال له: ذو اليدين -في يديه طول- فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟

قال: ما نسيت ولم تقصر، قال: بل نسيت، فقال عليه الصلاة والسلام: أكما يقول ذو اليدين؟

قالوا: نعم، فاستقبل القبلة وأكمل ما عليه ثم سجد السجدتين}.

ما اسم ذي اليدين؟

يقولون اسمه الخرباق بن عمرو، وقيل غير ذلك، ليس المهم اسمه، المهم أن الرجل قام بدور في عملية بناء الإسلام، وهذا الرجل قد يكون مغموراً عند الكثيرين.

وفي مجال النساء مثلاً، المرأة التي كانت تقمّ المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً، كانت تقيم المسجد فماتت فدفنوها، ففقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل عنها، فقالوا: ماتت يا رسول الله! قال: {هلَّا آذنتموني، قالوا: إنها ماتت في الليل فكرهنا أن نوقظك، فقال: دلوني على قبرها، فذهب إلى قبرها صلى الله عليه وسلم وكبر عليه أربعاً}.

هذه المرأة قامت بعمل كبير في بناء الإسلام، في بناء صرح الإسلام، وتعزيز مكانته، كانت تقمُّ المسجد وهذا عمل عظيم، ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رضاه عن العمل التي كانت تقوم به بأن سأل عن قبرها وكبر عليها أربعاً بعدما دفنت، واستغفر لها النبي عليه الصلاة والسلام.

فالجيل الأول كله كان جيلاً فعالاً، ولا أدل من ذلك من قول ربنا عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29].

فوصف الله تعالى الذين آمنوا مع رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف، التي تشمل كل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، على تفاوت في درجاتهم وطبقاتهم، فبالتأكيد ليست منـزلة أبي بكر مثلاً أو عمر، كمنـزلة رجل من مسلمة الفتح، لكن كلهم يدخلون تحت عموم قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] كلهم يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

وهذه امرأة اسمها أم هانئ أجارت رجلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ}.. {المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عنهم أحدهم، وهم يدٌ على من سواهم}.

ولذلك حتى فَقْدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليمنع بقاء الإسلام وانتصاره، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تولَّى بعده أبو بكر رضي الله عنه، وحمل الراية من بعده، ومع أنه لا مقارنة فرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيدٌ بالوحي من السماء، ومع ذلك فإن أبا بكر قد قام بالأمر من بعده خير قيام، ورضيه الناس لدينهم ودنياهم، كما رضيه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح في عقيدة المسلم أن خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر.

إذاً هناك سر في انتصار الإسلام أول مرة، ورسوخ دعائمه واستمراريته، هو أن الإسلام لم يكن همَّ شخص واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هم أربعة هم الخلفاء الراشدون، ولم يكن هم عشرة هم المبشرون بالجنة، ولم يكن هم ألف وأربعمائة أيضاً هم الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، كلا، بل كان هَمَّ جيل بأكمله.

ولن يفلح وينجح ويصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أي بأن يكون أمر الإسلام هماً يشغل كل مسلم، قد يقول قائل: كيف ذلك؟

فأعطيك بعض الأمثلة الموجودة على الساحة اليوم، التي تدلك على نجاح الأمر حينما تعانيه الأمة كلها، وفشل الأمر حينما يكون هماً لفئة خاصة، خذ مثلاً قضية أفغانستان، نعتبر أنها قضية نجحت إلى حد كبير، وبغض النظر عما يمكن أن يتم الآن أو بعد حين، لكن الأمر الذي حصل يعتبر نجاحاً، فقد نجح المسلمون في تحطيم الحكم الشيوعي في أفغانستان، وزحزحته، وإقامة حكومة للمجاهدين، إلى هذا الحد يعتبر نجاحاً، ولا شك أن الأمر الأكبر والمؤثر في ذلك هو عون الله عز وجل، وكما قيل:

إذا لم يكن عون من الله للفتى      فأول ما يجني عليه اجتهاده<

سبب نجاح قضية أفغانستان

ولكن أيضاً مما ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن قضية أفغانستان كانت هماً للعالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، المرأة المسنة كانت تعنيها أوضاع أفغانستان، وأنا أعرف امرأة قريبة لي إذا أتيتها أزورها حدثتني عن آخر أخبار المجاهدين الأفغان، وقالت: اليوم انتصروا، ومرة أخرى قالت: اليوم انهزموا، ومرة قالت: قتل منهم كذا، ومرة قالت: أصيبوا بمصيبة، فإن رأتهم على خير بكت فرحاً، وإن رأتهم على حزن بكت ألماً، وهي امرأة مسنة، هذه نموذج.

وبالمقابل كتبت لي امرأة عن طفل لها صغير يدرس في الرابعة الابتدائية في أحد مدارس تحفيظ القرآن الكريم، فتقول: إنه معني أشد العناية بأمر المجاهدين الأفغان، فهو يتتبع أخبارهم، وقد يبكي لهم أحياناً، وربما أخذ شيئاً من المال الذي يعطيه أبوه ليشتري به طعاماً أو شراباً في المدرسة، فأعطانيه، وقال: هذه للمجاهدين الأفغان.

أمة بأكملها كانت تتفاعل مع وضع المجاهدين الأفغان، إذاً كان هذا هم الجميع، ولذلك انظر قدرة الله تعالى وحكمته، تخلت الحكومات كلها عن المجاهدين الأفغان في الفترة الأخيرة، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وزواله، وبداية طرح ما يسمى بالحلول السلمية من قبل الأمم المتحدة وغيرها، فتخلت الدول العربية والإسلامية عن الجهاد الأفغاني، وأسلمت المجاهدين وطالبت باكستان المجاهدين بالرحيل عن أراضيها، وأغلقت المضافات التي كانت تقام في بيشاور، ومع ذلك أبى الله إلا أن يستمر الجهاد الأفغاني، بل أبى الله إلا أن يحقق الجهاد الأفغاني أعظم انتصاراته، وأرقى مكاسبه، وأنجح أعماله في تلك الفترة التي تخلت عنه فيها الحكومات.

وفي هذا درس أن العبرة هو بتفاعل المسلم العادي، حتى ولو كان فقيراً أو شخصاً عادياً، أو ضعيفاً، أو رجلاً كبيراً مسناً، أو امرأة في بيتها، أو طفلاً صغيراً، المهم أن تكون مشاعر المسلمين وقلوبهم مع هذه القضية أو تلك من قضايا المسلمين.

قضية البوسنة

مثلٌ آخر ولعلنا نعيشه الآن، أحداث يوغسلافيا، وما يلقاه المسلمون في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب النصارى من قتل وتشريد، وذبح وتطريد، لا زالت تتحدث عنه وكالات الأنباء، هذا الوضع من جهة أنت تجد تفاعل المسلمين على أشده مع هذه القضية، والأموال التي جمعت في هذا البلد وفي بلاد أخرى كثيرة أموال بحمد الله طيبة جداً، يعلم بذلك كل من ساهم في جمع شيء لأولئك المسلمين المنكوبين المطرودين المسفوكة دماؤهم على مرأى ومسمع من العالم.

القضية الآن في طريقها إلى أن تتحول إلى هم شعبي، يعانيه كل مسلم في أي بلد، فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولو حدث هذا، لما أمكن أن ينهزم المسلمون بإذن الله، لا في أفغانستان، ولا في يوغسلافيا.

ولذلك أنت تلحظ أمراً إن كنت أدركته وإلا فلتتأمله الآن: العالم الغربي الآن، -العالم النصراني- يحاول أن يلتف على قضية يوغسلافيا، يلتف عليها بالدعاية الإعلامية، مثلاً: صرح وزير الخارجية الأمريكي بتصريح شديد اللهجة ضد الصرب، وقال: إنني أطالب العالم أن يتخذ موقفاً صارماً وقوياً ضد هذه المذابح الرهيبة التي لم يشهد لها مثيلاً منذ قرون.

وزير الخارجية الأمريكي يصرخ بالعالم ويستنجد لصالح المسلمين في يوغسلافيا سبحان الله! ما الذي تغير؟

الأمر بسيط يا أخي، إن أمريكا لا تستنجد بالعالم، بل العالم هو الذي يستنجد بها في العادة، وأمريكا لما أرادت أن تتدخل في أكثر من بلد ما احتاجت إلى تصريحات حماسية، ولا احتاجت إلى خطب رنانة، بل كل ما في الأمر أنها دعت مجلس الأمن إلى الاجتماع واتفقت على اتخاذ إجراءات حاسمة، التدخل هنا، والضغط هناك، والحصار الاقتصادي ضد هذا البلد، والحصار العسكري ضد ذاك البلد، وغير ذلك حتى أفلحت في تحقيق ما تريد، وما أحداثها في العراق -مثلاً- ثم في ليبيا، ثم في غيرها من البلاد إلا خير شاهد على ذلك.

إذاً: لم تكن أمريكا بحاجة إلى أن تصرخ وترغي وتزبد، وتقول: أين العالم المتفرج؟!

يجب أن تتدخلوا يا عالم، لأن العالم يعتبر أن أمريكا الآن هي الزعيم المتوج لهم، ولكن هذه التصريحات هي للاستهلاك المحلي فقط، ولتخدير مشاعر الناس، ولئلا يقول الناس: أين دور الغرب؟ أين دور أمريكا؟

أمريكا تتحالف مع النصارى، من أجل ألا يقال هذا، رأوا أن المسلمين تكفيهم التصريحات فصرخوا حتى يهدأ الناس، وصرخوا أيضا لأنهم لا يريدون أن تثور المشاعر الإسلامية، لا يريدون أن تكون قضية يوغسلافيا قضية كل مسلم، لأنهم يعلمون جيداً أن المسلمين لو شعروا كلهم أن هناك حرباً صليبية تدبر ضدهم لم يقف أمامهم أحد.

حتى وإن كانوا عزلاً من السلاح، حتى ولو سلط عليهم، حتى ولو وقف في وجوههم من وقف، والله لو شعرت الأمة الإسلامية وأقول: حتى الذي لا تربطهم بالإسلام إلا رابطة الانتماء الوراثي، حتى الذين لا يؤدون الصلوات، لو شعروا أن هناك حرباً توجه إليهم؛ لأنهم أولاد مسلمين، أو لأنهم يعيشون في رقعة إسلامية، أو أن اسم الواحد منهم أحمد ومحمد علي وصالح، لو شعروا بهذا لرجعوا إلى دينهم واستقاموا على أمرهم، وحاربوا وقاوموا.

وما بالك بألف مليون إنسان لو غضبوا؟!

لا يقوم لغضبهم شيء، فلهذا يداري العالم الغربي، يداري غضبهم، فيحاول أن يشعرهم، أو يعطيهم في كل وقت إبراً مخدرة تلهيهم وتجعلهم لا يدركون هذه الحرب النصرانية الصليبية التي تدبر ضدهم.

إذاً: فالغرب يدرك القضية التي نتحدث عنها الآن، إن أي قضية لكي تنجح يجب أن تكون هماً للجميع: الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المثقف والعامي، العالم وغير العالم، وإذا أفلحنا في جعل قضايا الإسلام هماً للجميع فمعنى ذلك أنها قضايا ناجحة بلا شك، ونقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.

فهذه قضايا اهتم بها الناس فصارت في طريقها إلى النجاح والفلاح، لكن في مقابل ذلك، تجد هناك أنواعاً أو جهادات أخرى في بلاد مختلفة لم تحض بكسب الاهتمام بما فيه الكفاية، فظلت تراوح في مكانها منذ زمان بعيد، فكثيرون كانوا يسمعون أخبار الجهاد في هذا البلد أو ذاك، وكثيرون سمعوا بالمدينة التي دمرت على أهلها، وهدمت مساجدها على رءوس المصلين، وقتل فيها في ضحوة واحدة ما يزيد على عشرة آلاف أو عشرين ألف مسلم.

وكثيرون يتحدثون عن مذابح رهيبة حصلت لأحد الشعوب المسلمة من عدد من الدول التي تتقاسم حكمهم، وقتلتهم بطريقة وحشية، وسكت الإعلام الغربي عن تلك المذابح، وسكت الإعلام العربي تبعاً لذلك، حتى مجرد العلم بهذه المذابح لم يعلم بهم أحد، فضلاً عن أن يحزن لهم أو يتحرك من أجلهم.

ولما احتاج الإعلام العربي أن يتكلم عن تلك المذابح نكاية بأحد الأنظمة، تكلم ولكن بعد فوات الأوان، وبعد خراب البصرة!

إذاً قضايا المسلمين الواقعية، وجهاد المسلمين، ومواجهة المسلمين لخصومهم وأعدائهم، لا تنجح نجاحاً حقيقياً إلا إذا أفلحت أن تصل إلى عقول كل المسلمين، وإلى قلوب كل المسلمين، أو على الأقل جمهور المسلمين فلا يكون ثمة حواجز بينها وبينهم، لا تخاطب النخبة المثقفة أو علية القوم أو العلماء أو الساسة والسادة والرؤساء لا، بل تخاطب المسلم أياً كان، وتناديه، وتصل إلى قلبه وعقله، هذا مثال.

انظر إلى الجيل الأول الذي قام على يديه الإسلام أول مرة، هل قام الإسلام أول مرة على يد أفراد محدودين من الناس؟

كلا، بل قام على يد جيل كله كان يتحرك للإسلام، وكله كان يشتغل بقضية الإسلام، وكله كان يراقب سير الدعوة، فيصحح إن احتاج الأمر إلى تصحيح، ويؤيد إن احتاج الأمر إلى تأييد، ويعارض إن احتاج إلى معارضة، كلهم كان معنياً بأمر الإسلام.

ترجم ابن الأثير -مثلاً- في أسد الغابة لما يزيد على سبعة آلاف وسبعمائة صحابي ما بين رجل وامرأة، لا تجد في ترجمتهم أحداً منهم مغموراً، لا بد أن تجد للواحد منهم مشاركة في بناء صرح الإسلام، ومساهمة في دفع عجلة الإسلام إلى الأمام، وأنت تجد في الأحاديث ذكراً لأشخاص رجالاً ونساءً ربما يجهل الواحد منا أسماءهم الآن.

فمثلاً: من هو الذي لم يسمع بحديث ذي اليدين؟

{لما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيء الظهر أو العصر، سلم من ركعتين، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رجل يقال له: ذو اليدين -في يديه طول- فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟

قال: ما نسيت ولم تقصر، قال: بل نسيت، فقال عليه الصلاة والسلام: أكما يقول ذو اليدين؟

قالوا: نعم، فاستقبل القبلة وأكمل ما عليه ثم سجد السجدتين}.

ما اسم ذي اليدين؟

يقولون اسمه الخرباق بن عمرو، وقيل غير ذلك، ليس المهم اسمه، المهم أن الرجل قام بدور في عملية بناء الإسلام، وهذا الرجل قد يكون مغموراً عند الكثيرين.

وفي مجال النساء مثلاً، المرأة التي كانت تقمّ المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً، كانت تقيم المسجد فماتت فدفنوها، ففقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل عنها، فقالوا: ماتت يا رسول الله! قال: {هلَّا آذنتموني، قالوا: إنها ماتت في الليل فكرهنا أن نوقظك، فقال: دلوني على قبرها، فذهب إلى قبرها صلى الله عليه وسلم وكبر عليه أربعاً}.

هذه المرأة قامت بعمل كبير في بناء الإسلام، في بناء صرح الإسلام، وتعزيز مكانته، كانت تقمُّ المسجد وهذا عمل عظيم، ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رضاه عن العمل التي كانت تقوم به بأن سأل عن قبرها وكبر عليها أربعاً بعدما دفنت، واستغفر لها النبي عليه الصلاة والسلام.

فالجيل الأول كله كان جيلاً فعالاً، ولا أدل من ذلك من قول ربنا عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29].

فوصف الله تعالى الذين آمنوا مع رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف، التي تشمل كل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، على تفاوت في درجاتهم وطبقاتهم، فبالتأكيد ليست منـزلة أبي بكر مثلاً أو عمر، كمنـزلة رجل من مسلمة الفتح، لكن كلهم يدخلون تحت عموم قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] كلهم يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

وهذه امرأة اسمها أم هانئ أجارت رجلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ}.. {المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عنهم أحدهم، وهم يدٌ على من سواهم}.

ولذلك حتى فَقْدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليمنع بقاء الإسلام وانتصاره، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تولَّى بعده أبو بكر رضي الله عنه، وحمل الراية من بعده، ومع أنه لا مقارنة فرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيدٌ بالوحي من السماء، ومع ذلك فإن أبا بكر قد قام بالأمر من بعده خير قيام، ورضيه الناس لدينهم ودنياهم، كما رضيه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح في عقيدة المسلم أن خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر.

إذاً هناك سر في انتصار الإسلام أول مرة، ورسوخ دعائمه واستمراريته، هو أن الإسلام لم يكن همَّ شخص واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هم أربعة هم الخلفاء الراشدون، ولم يكن هم عشرة هم المبشرون بالجنة، ولم يكن هم ألف وأربعمائة أيضاً هم الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، كلا، بل كان هَمَّ جيل بأكمله.

ولن يفلح وينجح ويصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أي بأن يكون أمر الإسلام هماً يشغل كل مسلم، قد يقول قائل: كيف ذلك؟

فأعطيك بعض الأمثلة الموجودة على الساحة اليوم، التي تدلك على نجاح الأمر حينما تعانيه الأمة كلها، وفشل الأمر حينما يكون هماً لفئة خاصة، خذ مثلاً قضية أفغانستان، نعتبر أنها قضية نجحت إلى حد كبير، وبغض النظر عما يمكن أن يتم الآن أو بعد حين، لكن الأمر الذي حصل يعتبر نجاحاً، فقد نجح المسلمون في تحطيم الحكم الشيوعي في أفغانستان، وزحزحته، وإقامة حكومة للمجاهدين، إلى هذا الحد يعتبر نجاحاً، ولا شك أن الأمر الأكبر والمؤثر في ذلك هو عون الله عز وجل، وكما قيل:

إذا لم يكن عون من الله للفتى      فأول ما يجني عليه اجتهاده<

ولكن أيضاً مما ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن قضية أفغانستان كانت هماً للعالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، المرأة المسنة كانت تعنيها أوضاع أفغانستان، وأنا أعرف امرأة قريبة لي إذا أتيتها أزورها حدثتني عن آخر أخبار المجاهدين الأفغان، وقالت: اليوم انتصروا، ومرة أخرى قالت: اليوم انهزموا، ومرة قالت: قتل منهم كذا، ومرة قالت: أصيبوا بمصيبة، فإن رأتهم على خير بكت فرحاً، وإن رأتهم على حزن بكت ألماً، وهي امرأة مسنة، هذه نموذج.

وبالمقابل كتبت لي امرأة عن طفل لها صغير يدرس في الرابعة الابتدائية في أحد مدارس تحفيظ القرآن الكريم، فتقول: إنه معني أشد العناية بأمر المجاهدين الأفغان، فهو يتتبع أخبارهم، وقد يبكي لهم أحياناً، وربما أخذ شيئاً من المال الذي يعطيه أبوه ليشتري به طعاماً أو شراباً في المدرسة، فأعطانيه، وقال: هذه للمجاهدين الأفغان.

أمة بأكملها كانت تتفاعل مع وضع المجاهدين الأفغان، إذاً كان هذا هم الجميع، ولذلك انظر قدرة الله تعالى وحكمته، تخلت الحكومات كلها عن المجاهدين الأفغان في الفترة الأخيرة، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وزواله، وبداية طرح ما يسمى بالحلول السلمية من قبل الأمم المتحدة وغيرها، فتخلت الدول العربية والإسلامية عن الجهاد الأفغاني، وأسلمت المجاهدين وطالبت باكستان المجاهدين بالرحيل عن أراضيها، وأغلقت المضافات التي كانت تقام في بيشاور، ومع ذلك أبى الله إلا أن يستمر الجهاد الأفغاني، بل أبى الله إلا أن يحقق الجهاد الأفغاني أعظم انتصاراته، وأرقى مكاسبه، وأنجح أعماله في تلك الفترة التي تخلت عنه فيها الحكومات.

وفي هذا درس أن العبرة هو بتفاعل المسلم العادي، حتى ولو كان فقيراً أو شخصاً عادياً، أو ضعيفاً، أو رجلاً كبيراً مسناً، أو امرأة في بيتها، أو طفلاً صغيراً، المهم أن تكون مشاعر المسلمين وقلوبهم مع هذه القضية أو تلك من قضايا المسلمين.

مثلٌ آخر ولعلنا نعيشه الآن، أحداث يوغسلافيا، وما يلقاه المسلمون في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب النصارى من قتل وتشريد، وذبح وتطريد، لا زالت تتحدث عنه وكالات الأنباء، هذا الوضع من جهة أنت تجد تفاعل المسلمين على أشده مع هذه القضية، والأموال التي جمعت في هذا البلد وفي بلاد أخرى كثيرة أموال بحمد الله طيبة جداً، يعلم بذلك كل من ساهم في جمع شيء لأولئك المسلمين المنكوبين المطرودين المسفوكة دماؤهم على مرأى ومسمع من العالم.

القضية الآن في طريقها إلى أن تتحول إلى هم شعبي، يعانيه كل مسلم في أي بلد، فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولو حدث هذا، لما أمكن أن ينهزم المسلمون بإذن الله، لا في أفغانستان، ولا في يوغسلافيا.

ولذلك أنت تلحظ أمراً إن كنت أدركته وإلا فلتتأمله الآن: العالم الغربي الآن، -العالم النصراني- يحاول أن يلتف على قضية يوغسلافيا، يلتف عليها بالدعاية الإعلامية، مثلاً: صرح وزير الخارجية الأمريكي بتصريح شديد اللهجة ضد الصرب، وقال: إنني أطالب العالم أن يتخذ موقفاً صارماً وقوياً ضد هذه المذابح الرهيبة التي لم يشهد لها مثيلاً منذ قرون.

وزير الخارجية الأمريكي يصرخ بالعالم ويستنجد لصالح المسلمين في يوغسلافيا سبحان الله! ما الذي تغير؟

الأمر بسيط يا أخي، إن أمريكا لا تستنجد بالعالم، بل العالم هو الذي يستنجد بها في العادة، وأمريكا لما أرادت أن تتدخل في أكثر من بلد ما احتاجت إلى تصريحات حماسية، ولا احتاجت إلى خطب رنانة، بل كل ما في الأمر أنها دعت مجلس الأمن إلى الاجتماع واتفقت على اتخاذ إجراءات حاسمة، التدخل هنا، والضغط هناك، والحصار الاقتصادي ضد هذا البلد، والحصار العسكري ضد ذاك البلد، وغير ذلك حتى أفلحت في تحقيق ما تريد، وما أحداثها في العراق -مثلاً- ثم في ليبيا، ثم في غيرها من البلاد إلا خير شاهد على ذلك.

إذاً: لم تكن أمريكا بحاجة إلى أن تصرخ وترغي وتزبد، وتقول: أين العالم المتفرج؟!

يجب أن تتدخلوا يا عالم، لأن العالم يعتبر أن أمريكا الآن هي الزعيم المتوج لهم، ولكن هذه التصريحات هي للاستهلاك المحلي فقط، ولتخدير مشاعر الناس، ولئلا يقول الناس: أين دور الغرب؟ أين دور أمريكا؟

أمريكا تتحالف مع النصارى، من أجل ألا يقال هذا، رأوا أن المسلمين تكفيهم التصريحات فصرخوا حتى يهدأ الناس، وصرخوا أيضا لأنهم لا يريدون أن تثور المشاعر الإسلامية، لا يريدون أن تكون قضية يوغسلافيا قضية كل مسلم، لأنهم يعلمون جيداً أن المسلمين لو شعروا كلهم أن هناك حرباً صليبية تدبر ضدهم لم يقف أمامهم أحد.

حتى وإن كانوا عزلاً من السلاح، حتى ولو سلط عليهم، حتى ولو وقف في وجوههم من وقف، والله لو شعرت الأمة الإسلامية وأقول: حتى الذي لا تربطهم بالإسلام إلا رابطة الانتماء الوراثي، حتى الذين لا يؤدون الصلوات، لو شعروا أن هناك حرباً توجه إليهم؛ لأنهم أولاد مسلمين، أو لأنهم يعيشون في رقعة إسلامية، أو أن اسم الواحد منهم أحمد ومحمد علي وصالح، لو شعروا بهذا لرجعوا إلى دينهم واستقاموا على أمرهم، وحاربوا وقاوموا.

وما بالك بألف مليون إنسان لو غضبوا؟!

لا يقوم لغضبهم شيء، فلهذا يداري العالم الغربي، يداري غضبهم، فيحاول أن يشعرهم، أو يعطيهم في كل وقت إبراً مخدرة تلهيهم وتجعلهم لا يدركون هذه الحرب النصرانية الصليبية التي تدبر ضدهم.

إذاً: فالغرب يدرك القضية التي نتحدث عنها الآن، إن أي قضية لكي تنجح يجب أن تكون هماً للجميع: الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المثقف والعامي، العالم وغير العالم، وإذا أفلحنا في جعل قضايا الإسلام هماً للجميع فمعنى ذلك أنها قضايا ناجحة بلا شك، ونقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.

فهذه قضايا اهتم بها الناس فصارت في طريقها إلى النجاح والفلاح، لكن في مقابل ذلك، تجد هناك أنواعاً أو جهادات أخرى في بلاد مختلفة لم تحض بكسب الاهتمام بما فيه الكفاية، فظلت تراوح في مكانها منذ زمان بعيد، فكثيرون كانوا يسمعون أخبار الجهاد في هذا البلد أو ذاك، وكثيرون سمعوا بالمدينة التي دمرت على أهلها، وهدمت مساجدها على رءوس المصلين، وقتل فيها في ضحوة واحدة ما يزيد على عشرة آلاف أو عشرين ألف مسلم.

وكثيرون يتحدثون عن مذابح رهيبة حصلت لأحد الشعوب المسلمة من عدد من الدول التي تتقاسم حكمهم، وقتلتهم بطريقة وحشية، وسكت الإعلام الغربي عن تلك المذابح، وسكت الإعلام العربي تبعاً لذلك، حتى مجرد العلم بهذه المذابح لم يعلم بهم أحد، فضلاً عن أن يحزن لهم أو يتحرك من أجلهم.

ولما احتاج الإعلام العربي أن يتكلم عن تلك المذابح نكاية بأحد الأنظمة، تكلم ولكن بعد فوات الأوان، وبعد خراب البصرة!

إذاً قضايا المسلمين الواقعية، وجهاد المسلمين، ومواجهة المسلمين لخصومهم وأعدائهم، لا تنجح نجاحاً حقيقياً إلا إذا أفلحت أن تصل إلى عقول كل المسلمين، وإلى قلوب كل المسلمين، أو على الأقل جمهور المسلمين فلا يكون ثمة حواجز بينها وبينهم، لا تخاطب النخبة المثقفة أو علية القوم أو العلماء أو الساسة والسادة والرؤساء لا، بل تخاطب المسلم أياً كان، وتناديه، وتصل إلى قلبه وعقله، هذا مثال.

المثال الثاني يتعلق بالعلم الشرعي: أنت تعرف أن المهمة التي تنتظر المسلم ليست مجرد أن يتعاطف مع قضايا المسلمين، أو يدري ماذا أصاب المسلمين هنا أو هناك هذا جانب، ولكن هناك جانب آخر وهو جانب العلم الشرعي، فالمسلم مطالب بأن يعرف دين الله عز وجل الذي ينتسب إليه، فلا يكون انتسابه إليه مجرد ميراث، أو تراث، أو اسم بلا مسمى، بل ينبغي أن يكون له من هذا الاسم نصيب.

وأنت تجد أن هناك من أفلح ونجح في تسهيل العلم الشرعي بحيث يصبح في متناول الجميع، فهذا كتاب مبسط وسهل، في صفحات، يشرح قضية علمية يحتاجها جمهور الناس، رسالة.. درس، أعداد غفيرة من الناس تتمكن من المشاركة في معرفة شيء عن الدين على كافة المستويات، بل لو ذهبت إلى أمر آخر، خطبة الجمعة مثلاً عدد الذي يحضرون هذه الخطبة لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ولا يكاد إنسان ينتسب إلى الإسلام إلا ويحضر خطبة الجمعة، إما باستمرار أو على الأقل بين الفينة والأخرى.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم: {من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه} خطبة الجمعة إذا أمكن أن تعرض من خلالها القضايا التي تخاطب المسلم العادي، تبصره بأمور دينه، تسهل له معرفة الأحكام الشرعية، ليس من المصلحة أن يوجد العلم بطريقة -كما يعبرون في لغة العصر الحاضر- طريقة أكاديمية، لا يصل إليها إلا المختصون، وأسلوب علمي متين لا يستطيع أن يفك رموزه إلا كبار الطلبة، أو كتب قديمة فيها متانة، وفيها قوة، وفيها حجة، وفيها استدلال، لكن لم يعد المسلم العادي البسيط يستطيع أن يفهمه، فمن المصلحة أن يسهل له العلم، ويوصل إليه من أقرب طريق.

الشريط مثلاً وسيلة ناجحة جداً، وأفلحت في جعل العلم الشرعي، بل جعل كثير من الأمور التي تتناول، سواءً العلوم الشرعية، أو أوضاع المسلمين وأحوالهم، أو المفاهيم التي ينبغي أن تصحح، أفلحت في أن توصلها إلى عقول وقلوب الكثير من الناس.

البرامج الإعلامية: سواء كانت فتاوى، أم دروساً، أم لقاءات، أم غير ذلك، هذه أيضاً أوصلت العلم الشرعي إلى طبقات عريضة من الناس قد يكون الواحد منهم في الصحراء، في البادية، أو في بلد ناءٍ، أو قد يكون غير قارئ أصلاً ولا كاتب، أو قد يكون غير مهتم، ولكنه سمع الكثير وفهم الكثير من خلال هذه الوسائل والبرامج.

وبناءً عليه أصبحت تجد أن رجل الشارع يفهم الكثير، ويقول على أقل تقدير: سمعت الشيخ الفلاني يفتي بكذا، وسمعت الشيخ الفلاني يقول كذا، وسمعت الخطيب الفلاني يقول كذا، والشريط الفلاني جيد وفيه كيت وكيت، وهناك كتاب مهم يتحدث عن الموضوع الفلاني.

هنا نستطيع أن نقول: إن العلم أصبح هماً للجميع، يخاطبون به، ويحدثون عنه، ويجرون إليه، لكنك تجد مثلاً أن هناك أماكن أخرى لا يزال العلم الشرعي فيها محصوراً ومقصوراً على فئة معينة، في دوائر مغلقة، أو كما يسمى في أكاديميات، وفي جامعات، من الممكن أن يحصل على العلم طالب جاء إلى المسجد، لكن لو حسبت عدد الطلاب الذين وصلوا إلى المسجد، لوجدت أنهم عشرة أو خمسة أو عشرين أو قل مائة، ولكنهم بالقياس إلى عدد أفراد الأمة يعدون أقل من القليل.

فهل من المعقول أن نقصر العلم على هذه الفئة المحصورة، التي جاءت للدرس أو للجامعة، ونحجب العلم عن أعداد غفيرة من الطلبة أو من كبار السن أو الصغار، بحجة أن العلم هنا، ومن أحبه أتاه ووجده! لا، بل ينبغي أن نفكر جيداً في كل وسيلة نستطيع من خلالها أن نوصل العلم لكل إنسان، لكل مسلم، وعلى الأقل نوصل العلم الضروري الذي لا بد من معرفته.

وعلى كل حال فنحن نعلم أنه ليس هناك أحد يهمه أن يبقى العلم حكراً على فئة معينة، حتى العالم يفرح أن توجد بضاعته عند كل أحد، لأنه لا يستفيد من علمه دنياً أو جاهاً، حتى يقول: ماذا يبقى دوري إذا تعلم الناس، بل كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله: والله لوددت أن هذا الخلق تعلموا هذا العلم، وأنه لم ينسب إلي منه حرفٌ واحد، فكان همه أن يعلم الناس هم الدين، أما كون العلم ينسب إلى فلان أو علان، أو يحتاج فيه إلى هذا، أو يستفتى فيه ذاك، فهذا أمر ليس مهماً، المهم هو أن يوصل العلم إلى الخلق.

إذاً: سينجح العلم حينما نفلح في إيصاله أو في إيصال الضروري منه إلى أفراد الناس وآحادهم، وأن نخاطبهم به من خلال المنابر والوسائل الممكنة التي قد يتعاطونها.

مثال ثالث: هناك دول قامت، ولكنها قامت على أساس أحزاب أو طوائف أو طبقات، أو حتى أحياناً مجموعة من اللصوص الذين لا هم لهم إلا سرقة أقوات الناس، وإن أمسكت بهم هذه الأحزاب -مثلاً- وخاصة الأحزاب العلمانية، أمسكت بهم بقوة الحديد والنار، وبطشت بهم فطأطئوا رءوسهم وسكتوا، ولكنهم ينتظرون أدنى موقف أو أدنى ارتباك، حتى ينقضوا عليها ويحاربوها ويتبرءوا منها، وأقرب مثال الاتحاد السوفيتي أكثر من سبعين سنة وهو قوة ضاربة، العسكريون فقط بمئات الألوف يعدون، والتابعون لجهاز الاستخبارات مئات الألوف أيضاً، كل همهم إخافة الناس، مع ذلك في سنوات معدودة تهاوى هذا الصرح الشامخ وسط شماتة الناس، وأكثر الشامتين به هم الذين عانوا من آلامه ومتاعبه ومصائبه.

وذلك لأن تلك الدولة الشيوعية لم تقم على عروش القلوب، قامت بالقوة والتسلط والبطش والإرهاب فأخافت الناس، ولأنهم ضعفاء سكتوا فعلاً، ولكن لما شعروا بأن هذا الكابوس بدأ يتزعزع قاوموه وحاربوه، ولو كانوا يملكون القوة من قبل لقاوموه وحاربوه قبل ذلك.

ولا شك أنك تعلم أن عدداً كبيراً من الأنظمة العربية التي تحكم المسلمين اليوم، لم تحض بأي لون من ألوان التأييد الشعبي من جماهير الأمة، ولم يتعاطف معها المسلمون بقلوبهم، ولم يقتنعوا بها بقلوبهم أيضاً، ولكنهم رضوا بها لأنهم لا يملكون أسلوباً لتغييرها، وعلى رغم أنهم ضعفاء إلا أنهم يعبرون على الأقل تعبيراً سلبياً، فلا يعنيهم أمر الحاكم مثلاً عاش أو مات، ارتفع أو انخفض، لأنهم لا يعتبرون أنه معبر عن مشاعرهم، عن طموحاتهم، عن آمالهم، عن آلامهم، أو ممثل لهم في دينهم، كما هي الحال بالنسبة للحاكم المسلم.

الحاكم المسلم الذي يقودكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث أم الحصين الذي هو في صحيح مسلم أيضاً، هذا الحاكم تجد كل فرد يفديه بروحه، ولو استطاع أن يصل عمره ببعض عمره لفعل، ويقول: نفسي دون نفسه، وروحي دون روحه.

أصبحت الأمة الآن تقبل على همومها الخاصة، تحتج على فساد الأوضاع بما يسمى المقاطعة الشعورية، تقاطع هذه الأمور، ولا أدل على ذلك مما يسمى بالانتخابات التي تقام الآن في أكثر من بلد من البلاد العربية والإسلامية -وهي قليلة على كل حال- لكن تجد أن نسبة المشاركين في هذه الانتخابات نسبة قليلة جداً؛ لأنهم غير واثقين بهذه الأمور، ولا مصدقين لها، ولا متعاطفين معها، ويعرفون أن النسبة المقررة سلفا ًهي فوز الحاكم الفلاني بنسبة (99.9%) أيضاً.

ولذلك لا يرون ثمة داعياً للمشاركة، ويكتفون بالمقاطعة الشعورية لمثل هذه الأوضاع، فالشعوب الإسلامية تعيش في وادٍ، وحكامها يعيشون في وادٍ آخر، لأنهم لا يعبرون عن حقيقة مشاعرها التي في قلبها، ولا يمثلون حقيقة الدين التي تنتسب إليه، وهذا لا شك يجعل أنهم في حالة ضعفهم مستسلمون، لكن لو جدوا أن أي خطر يهدد هذا الحزب الذي يبطش بهم، أو هذه الطبقة التي تحكمهم لما تعاطفوا معها، ولا وقفوا إلى جنبها، بل كانوا يفرحون بذلك، بل كانوا هم أول المؤيدين لذلك.

يؤسفني جداً أن أقول في مقابل ذلك: هناك دول قامت على أساس قناعة الناس بها، فكانت راسخة عميقة ممكنة، أما دولة الإسلام التي تحكم المسلمين منذ عهد الخلافة الراشدة، فهذا أمر واضح لا يحتاج إلى بيان، فقد ظلت دولة الخلافة قائمة قروناً طويلة تزيد على ثلاثة عشر قرناً من الزمان، تحميها القلوب قبل الأيدي، وتحميها الدعوات قبل المعارك والضربات.

أما في واقعنا اليوم فالمؤسف أن الأمثلة التي تتجه إليها الأنظار غالباً هي أمثلة غير إسلامية، فمثلاً الدول الغربية كلها، كيف استطاعت أن تمكن لنفسها في الأرض؟

استطاعت من خلال إشعار جمهور الناس بأنهم شركاء في إدارتها وفي تدبير شئونها، وفي أخذ رأيهم في الدقيق والجلي.

فالمواطن منهم يشعر أنه يستشار في كل شيء، وأنه يستطيع أن يقدم رأيه في أي أمر، ويستطيع أن يحتج، ويستطيع أن يعترض، ويستطيع أن يقول ما يراه مناسباً دون أن يخاف من بطش، وهذا ما يعبرون عنه لغتهم بـالديمقراطية، الليبرالية الغربية، لا شك هي ديمقراطية نظام غير إسلامي، ولكنهم أفلحوا في كسب ثقة شعوبهم وقناعتها، ولهذا يعشون أوضاعاً من الاستقرار لا تعيشها البلاد الأخرى على الإطلاق.

مثل آخر دولة إسرائيل، يحدثني أحد الإخوة الفلسطينيين -وقد زارني قبل أسبوعين- يقول: لا يكاد يوجد في إسرائيل يهودي واحد يعتبر مدنياً بالمعنى الصحيح، كلهم عسكريون أو كانوا في يوم من الأيام عسكريين، أو جندوا للخدمة وقتاً من الأوقات، أو يعملون في بعض الأجهزة الأمنية السرية أو العلنية، بمعنى أن الشعب كله مجاهد، الشعب اليهودي مقاتل، يقاتل عن عقيدته الفاسدة، يقاتل عن دينه، يقاتل عن حدوده، يقاتل عن عرقيته وعنصريته، وأفلحت دولته الفاسدة الكاسدة في إقناع كل مواطن يهودي بأن الدفاع عن إسرائيل -أو ما يسمى بإسرائيل- واجبه هو، وليس واجب حكومة معينة، أو وزراء معينين، أو تكتل، أو تحالف، لا، واجب كل فرد، ولهذا ما من إنسان إلا وقد خدم أو يخدم الآن؛ أو سوف يخدم مستقبلاً إما سراً أو علانية، إما عسكرياً أو أمنياً أو غير ذلك، فهو بناء يتضافر الجميع على دعمه وترسيخه وتأييده، ويشد بعضه بعضاً.

ولو أردنا أن نضرب بعض الأمثلة الإسلامية لما أعجزنا أن نضرب المثال -أيضاً- بما حصل في الجزائر، فإن الانتصار الذي حققته جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر يعتبر انتصاراً كبيراً للإسلام، فقد أفلحت هذه الجبهة في جعل الإسلام هماً سياسياً للمواطن العادي، فكل مواطن عبر عن اختياره للإسلام، حتى عبر أكثر من (82%) منهم عن أنهم يريدون الإسلام ولا يريدون سواه، وهذا بحد ذاته مكسب كبير، لأنه كشف لنا أن الجبهة هناك نجحت في مخاطبة الشارع الإسلامي، مخاطبة الفرد الإسلامي أن لا يعتبر أن مهمة الحكم بالإسلام مهمة مجموعة من العلماء يجب أن يفعلوا، ولا مهمة مجموعة من الدعاة ينتظر منهم أن يقولوا، لا، إنها مهمة كل إنسان مسلم في الجزائر أن يسعى بما يستطيع إلى التصويت للإسلام ولصالح الإسلام، والعمل على تحكيم شريعة الله تعالى في الأرض.

من خلال هذه الأمثلة المتفرقة نستطيع أن نقول: كل قضية نريد لها أن تنجح علينا أن نحشد لها جماهير الأمة بقلوبهم وعقولهم ومشاركاتهم، وهذا إذا حصل فهو مكسب كبير جداً للصحوة في كل مجال، الصحوة الإسلامية ليست منجزاتها محصورة فقط في الجانب السياسي، وإن كان الجانب السياسي جزءاً من الدين ومن الإسلام، ولا أحد من المسلمين يستطيع أن يخرج السياسة من الإسلام، لكن كل إنسان تكسبه لصالح الإسلام فهو خير.

المصلي الجديد الذي بدأ يتردد على المسجد هذا مكسب، والصائم الجديد الذي صام رمضان لأول مرة هذا مكسب، والتائب الذي انضم إلى مواكب الراجعين إلى الله تعالى هذا مكسب، حتى لو لم يأتِ منه إلا أن يصلي أو يصوم أو يذكر الله عز وجل، ولهذا تعرف في صحيح البخاري قصة الغلام اليهودي الذي كان بجوار النبي صلى الله عليه وسلم: {فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وبه الموت، فقال له: يا غلام قل لا إله إلا الله، فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ثم مات، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار}.

ماذا كسب الإسلام من هذا الغلام اليهودي الذي أسلم؟!

أسلم ثم مات، ما قدم للإسلام شيئاً، لا مالاً، لا قتالاً، وجاهاً، ولا ولداً، بل ولا صلى ولا صام ولا حج ولا شيئاً من ذلك، لأنه تشهد ثم مات في ساعته، فدخل الجنة ولم يسجد لله تعالى سجدة، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً مسروراً بإدخال هذا الإنسان إلى الإسلام، وإنقاذه من النار.

فكل شخص أو فرد تكسبه إلى صالح الدعوة هو خير وبر، حتى لو وقف الأمر عند هذا الحد، ولكننا نجد الآن أن العنصر البشري الإسلامي كبير، والإحصائيات الرسمية تقول: ألف مليون، بغض النظر عن حقيقة هذا الرقم، هذا العدد أكبر من الدول، وأكبر من الدول الإسلامية، وأكبر من الجماعات الإسلامية أيضاً، وأكبر من الأشخاص، وأكبر من المصالح الذاتية هو رصيد عظيم للدعوة الإسلامية بكل حال، ولا زال هذا الرصيد غير مستثمر بشكل صحيح.

وهذه أمثلة لكيفية استثمار هذا الرصيد:

في مجال التبرع

لو أن هؤلاء الألف مليون تبرع كل فرد منهم بريال واحد لقضية الإسلام لجمعنا في يوم واحد ألف مليون ريال نستطيع أن نفعل بها الكثير الكثير، وفي صحيح مسلم من حديث جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة لا تحقرن من المعروف شيئاً}.

قام رجلٌ بين أظهر الناس في مسجد من هذه المساجد يدعوهم إلى التبرع، وكان فصيحاً لسناً جيد العبارة، فحرك مشاعر الناس، وألهب أحاسيسهم، فتبرعوا بما يملكون، فهذا أخرج ما في جيبه وألقى به، وهذا أخرج محفظته وألقاها، وثالث لم يجد إلا ساعته فأخذها من يده ووضعها في صندوق التبرعات، وكان من بين هؤلاء الناس رجل يتململ يدخل يده بلا شعور في جيبه فلا يجد شيئاً، يدخلها في جيبه الآخر فلا يجد شيئاً، فقام بحركة عصبية شديدة، وأخذ غترته التي كانت على رأسه، وألقى بها في ظل التبرعات، ولسان حاله يقول: ربي إني لا أملك إلا هذا، ثم أشاح بوجهه وهو يداري دمعة يوشك أن تخرج من عينه، رآه كثيرون، فتحركت أريحيتهم، فمن كان أخفى في جيبه شيئاً من المال مصروفاً للأولاد أخرجه، ومن كان تبرع ببعض ما يملك أخرج كل ما يملك معه، ومن كان تردد عزم على الإنفاق، فكان لهذا الإنسان أجر ما تصدق به، وأجر من عمل بما عمل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة}.

أمر آخر رآه أحد التجار فأخذ هذه الغتره وقال: من يسوم؟

فسامها رجل بعشرة ريالات، من يزيد عشرين، ثلاثين، مائة، ألف، خمسة آلاف، عشرة آلاف، حتى وصلت إلى عشرين ألفاً، وبيعت هذه الغتره التاريخية العتيدة بعشرين ألف ريال، على أن لا بسها يقول: لو بعتني أنا والغتره ما كنا نساوي عشرين ألف ريال، بيعت بعشرين ألف ريال صرفت لصالح المجاهدين في أفغانستان، وهكذا يقول المثل: الحاجة أم الاختراع.

هذا الرجل دخل المسجد مثقلاً بالديون، لم يكن يخطر في باله أنه لن يخرج حتى يتبرع بعشرين ألف ريال، بل يكون له أجر من تبرعوا إعجاباً بعمله وتأثراً به ممن لا يحصيهم ولا يعلمهم إلا الله عز وجل.

في مجال الصلاة

مثل آخر: الصلاة: لو أفلحنا في جر المسلمين إلى الصلاة مع الجماعة في المساجد، ألف مليون مصلٍ إذا أبعدنا منهم النساء ممن لا تجب عليهن الجماعة والأطفال أيضاً، لنفرض أنه بقي لدينا ثلاثمائة مليون مصلٍ هل تتسع لهم المساجد المعمورة في الدنيا، أجزم أن المساجد المعمورة في الدنيا كلها لا تتسع لهذا الرقم.

في مجال الحج

الحج: ألف مليون مسلم لو حجوا، لنفترض أن منهم خمسمائة مليون عاجزون عن الحج، والحج معروف أنه لا يجب إلا على المستطيع وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] بقي عندنا خمسمائة مليون مسلم، وإذا كان عمر الواحد منهم ما بين الستين إلى السبعين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين} فلننظر كم النسبة لو حجوا كلهم خمسمائة مليون على مدى سبعين سنة، نأخذ الأكثر، سبعين سنة لكانت نسبة الحجيج في كل سنة، عدد الحجيج سبعة ملايين ومائة وثلاثة وأربعين ألف تقريباً.

في مجال الدعاء

الدعاء: لا يوجد أحد إلا ويملك الدعاء، حتى الكسيح الذي يحمل في المستشفى على نقالة، يملك أن يدعو الله عز وجل بالنصر والتمكين للمسلمين، ويدعو الله على أعداء الإسلام، أو يدعو الله بالحفظ لأهل الدين، أو يدعو الله بالتنكيل بالكافرين والمغرضين والمنافقين، الدعاء نرجع إلى الرقم ألف مليون ألا يوجد من بين هؤلاء رجلٌ واحد لو أقسم على الله تعالى لأبره؟

الله أعلم أنه يوجد، هذه الأمة لا تخلو من أخيار، وأبرار، وأطهار، أصحاب أسحار، وأصحاب أذكار، وأصحاب نيات صادقة.

لو أن هذا العدد الكبير الغفير حشد بتجنيد من الدعاة والعلماء والمخلصين والمتحدثين، حشد ليدعو الله تعالى في قضايا الإسلام والمسلمين، أو يدعو على الأعداء والكافرين، لربما دعوة صادقة ولو من أحدهم أو من بعضهم كان بها الخير والنجاة، وما يدريك أن النصرة الذي حققه المسلمون هنا أو هناك، أو الشر الذي اندفع عنهم هنا أو هناك كان ببركة دعوة صادقة من رجل صالح، حتى هو ربما لم يدرِ أن دعوته قد أجيبت، لكنه سهم أصاب.

في مجال الغضب

الغضب: الغضب -كما أسلفت قبل قليل- من يقوم لغضب ألف مليون لو غضبوا؟

لو كان غضبهم لله عز وجل، لو تنادت المشارق والمغارب، ليس على أصوات التعصب لفلان أو لفلان من الزعماء المصنوعين الذين كانوا يخاطبون الجماهير من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر، وليس على الدعوات والنعرات الجاهلية، وإنما غضبوا لله عز وجل، غضباً إيمانياً، غضباً ربانياً، من كان يستطيع أن يقف في وجوههم، ولذلك يداري الغرب كما ذكرت غضب هؤلاء.

ونحن يجب أن نعمل على إثارة غضبهم، غضبهم ضد الكافر، ضد اليهودي، ضد النصراني، ضد المنافق، من خلال الحقائق والوثائق والأرقام التي تتكلم عن مؤامرات أعداء الدين على هذه الشعوب، لا بد أن تصحو هذه الشعوب من سباتها، وتعرف عدوها من صديقها، وتغضب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنها ما لم تغضب لا تستطيع أن تصنع شيئاً.

وهذه الأمثلة كلها تبرز أهمية انغماس الدعاة في الناس، ومشاركتهم، وإشراكهم في هموم الدعوة والأمة، والقدرة على الوصول إلى قلوبهم وأخذها بما تيسر منهم، نحن كثيراً ما نتحدث -أيها الإخوة- عن الصحوة كجزء متميز من المجتمع، وكأنهم فئة ونقول: الصحوة بخير، وننسى أن هذه الصحوة ينبغي أن تمتد لتشمل الأمة كلها، وأنه يجب أن نكسر هذا الخط الأحمر ونمتد إلى طبقات المجتمع بلا استثناء.

قد يكون منا من نجح في مخاطبة جمهور الصلوات الخمس، ربما خاطبهم بعضنا، ولكننا لم نخاطب جمهور الجمعة وهو جمهور واسع عريق، وقد يكون منا من نجح في مخاطبة جمهور الجمعة، ولكن لم ينجح في مخاطبة جمهور المدرجات مثلاً، وهي أعداد غفيرة كبيرة تحضر للكرة، أو جمهور الشاطئ، أو الشارع والسوق، أو حتى جمهور الجريدة، ولا يجوز أبداً أن نغالط أنفسنا ونظن: أن الناس كلهم ملتزمون.

لو أن هؤلاء الألف مليون تبرع كل فرد منهم بريال واحد لقضية الإسلام لجمعنا في يوم واحد ألف مليون ريال نستطيع أن نفعل بها الكثير الكثير، وفي صحيح مسلم من حديث جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة لا تحقرن من المعروف شيئاً}.

قام رجلٌ بين أظهر الناس في مسجد من هذه المساجد يدعوهم إلى التبرع، وكان فصيحاً لسناً جيد العبارة، فحرك مشاعر الناس، وألهب أحاسيسهم، فتبرعوا بما يملكون، فهذا أخرج ما في جيبه وألقى به، وهذا أخرج محفظته وألقاها، وثالث لم يجد إلا ساعته فأخذها من يده ووضعها في صندوق التبرعات، وكان من بين هؤلاء الناس رجل يتململ يدخل يده بلا شعور في جيبه فلا يجد شيئاً، يدخلها في جيبه الآخر فلا يجد شيئاً، فقام بحركة عصبية شديدة، وأخذ غترته التي كانت على رأسه، وألقى بها في ظل التبرعات، ولسان حاله يقول: ربي إني لا أملك إلا هذا، ثم أشاح بوجهه وهو يداري دمعة يوشك أن تخرج من عينه، رآه كثيرون، فتحركت أريحيتهم، فمن كان أخفى في جيبه شيئاً من المال مصروفاً للأولاد أخرجه، ومن كان تبرع ببعض ما يملك أخرج كل ما يملك معه، ومن كان تردد عزم على الإنفاق، فكان لهذا الإنسان أجر ما تصدق به، وأجر من عمل بما عمل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة}.

أمر آخر رآه أحد التجار فأخذ هذه الغتره وقال: من يسوم؟

فسامها رجل بعشرة ريالات، من يزيد عشرين، ثلاثين، مائة، ألف، خمسة آلاف، عشرة آلاف، حتى وصلت إلى عشرين ألفاً، وبيعت هذه الغتره التاريخية العتيدة بعشرين ألف ريال، على أن لا بسها يقول: لو بعتني أنا والغتره ما كنا نساوي عشرين ألف ريال، بيعت بعشرين ألف ريال صرفت لصالح المجاهدين في أفغانستان، وهكذا يقول المثل: الحاجة أم الاختراع.

هذا الرجل دخل المسجد مثقلاً بالديون، لم يكن يخطر في باله أنه لن يخرج حتى يتبرع بعشرين ألف ريال، بل يكون له أجر من تبرعوا إعجاباً بعمله وتأثراً به ممن لا يحصيهم ولا يعلمهم إلا الله عز وجل.

مثل آخر: الصلاة: لو أفلحنا في جر المسلمين إلى الصلاة مع الجماعة في المساجد، ألف مليون مصلٍ إذا أبعدنا منهم النساء ممن لا تجب عليهن الجماعة والأطفال أيضاً، لنفرض أنه بقي لدينا ثلاثمائة مليون مصلٍ هل تتسع لهم المساجد المعمورة في الدنيا، أجزم أن المساجد المعمورة في الدنيا كلها لا تتسع لهذا الرقم.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع