خطب ومحاضرات
شرح عمدة الأحكام [70]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:
[باب حد الخمر:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين)، قال: وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف : (أخف الحدود ثمانون)، فأمر به عمر .
وعن أبي بردة هانئ بن نيار البلوي الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)].
هذا الباب في حد الخمر، أي: في عقوبة من شرب الخمر؛ وذلك لأنها من المحرمات، ولابد لمن فعل شيئاً محرماً مجمعاً على تحريمه أن يُعاقب، والعقوبة تكون بالزجر أو تكون بالجلد أو تكون بالحبس أو بالتغريم أو بالقتل إذا لم ينته إلا بالقتل، أو غير ذلك من أنواع العقوبات.
وقد تقدم أن عقوبة الزاني الجلد إن كان بكراً والرجم إن كان ثيباً، وعقوبة القذف به الجلد الذي هو ثمانون جلدة كما ذكر في القرآن، وعقوبة شارب الخمر لم تُذكر في القرآن، ولكنها أخذت من السنة، ولم ترد محددة تحديداً ثابتاً ولكنها أخذت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يزجر عن الشيء ويعاقب عليه، ولكنه لا يحدد له عقوبة.
الخلاف في حد شارب الخمر
مراحل تحريم الخمر
ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً لا ينهنهنا اللقاء
ولكن أقروا عليها في أول الأمر وفي أول الإسلام لأنهم قد ألفوها، ويصعب عليهم كثيراً أن يتخلوا عنها فجأة ودفعة واحدة، فحرمت بالتدريج شيئاً فشيئاً، فأول ما نزل فيها قول الله تعالى في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، وليس في هذه الآية دليل على التحريم البات، ولكن فهم بعضهم تحريمها من أنها إثم؛ والإثم محرم، كما قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33] فحرم الإثم في هذه الآية، أي: كل شيء يسبب إثماً، يعني: وزراً وذنباً وحنثاً وسيئة، ووصف الله الإثم بالكبر فقال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) وقال في نفس الآية: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).
لما نزلت هذه الآية تاب عنها خلق كثير، وقد دعي عمر رضي الله عنه -وكان من أشد الناس فيها- وبشر بنزول هذه الآية فقال: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً)، واستمر أناس يشربونها وقالوا: ما دام أن فيها منافع فإنا سنشربها، فنزلت الآية الثانية في سورة النساء وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، وذلك لأن بعض الصحابة صلى وهو سكران، فخلط في صلاته، وخلط في قراءته، فكان ذلك سبباً للنهي عن أن يأتيها في حالة السكر، ولما نزلت هذه الآية دعي أيضاً عمر فتليت عليه، فقال: (اللهم بين لنا بياناً شافياً)، ولما نزلت هذه الآية تركها خلق كثير، وبقي أناس يشربونها في الأوقات الطويلة، أي: يشربونها بعد الفجر بحيث يصحوا قبل الظهر، أو يشربونها بعد العشاء بحيث يصحوا قبل الفجر، فأما الأوقات الضيقة فلا يشربونها؛ لأن الله تعالى نهاهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، وهذا نوع تقديم بين يدي تحريمها.
ولما نزلت آية النساء وفيها النهي عن قربان الصلاة حالة السكر تاب عن شربها خلق كثير؛ وذلك لأن هذا تقدمة بين يدي تحريمها، وعلموا أن في هذه مضرة، وقالوا: لا خير في شراب يمنعنا من الصلاة، لا حاجة لنا فيه، فتركوها ولو كانت مشروبة لهم من قبل ولذيذة في نفوسهم.
وبعد مدة نزل تحريمها تحريماً صريحاً في آيات في سورة المائدة، وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، فلما نزلت قال الصحابة رضي الله عنهم: (انتهينا انتهينا)، فتابوا عنها وأقلعوا.
أوجه تحريم الخمر في آية المائدة
الوجه الأول: أن الله قرنها بالأنصاب، وهي: الأصنام، ومعلوم أن الأصنام محرم اقتناؤها ومحرم عبادتها، فما قرن بها أعطي حكمها.
الوجه الثاني: أن الله جعلها رجساً، والرجس: هو النجس، وهو الشيء المستقذر، ولا شك أن كل نجس ومستقذر فإنه حرام، وإن النفوس تأباه وتبتعد عنه.
الوجه الثالث: أن الله أضافها إلى الشيطان وجعلها من أعماله، أي: مما يدعو إليه ومما يزينه، والعاقل لا يأتي شيئاً يحبه الشيطان، فالشيطان إنما يحب للإنسان هلاكه، ويتمنى للإنسان أن يهلك، وأن يضل، وأن يتعب ويبأس، ويحرم ويشقى، فشيء للشيطان فيه عمل ووسيلة علينا أن نبتعد عنه.
الوجه الرابع: الأمر في الاجتناب في قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ) اجتنبوا يعني: ابتعدوا عنه، أي: صيروا في جانب وهو في جانب، وهذا أبلغ في الزجر؛ وذلك أبلغ من أن يقول: اتركوه، فإنهم إذا تجنبوه ابتعدوا عنه، فأخذوا من هذا أنها محرمة، وكل شيء أمرنا باجتنابه فإنه لا يجوز القرب منه، فضلاًعن ملابسته، فضلاً عن تعاطيه وشربه.
الوجه الخامس: ترتب الفلاح على تركها في قوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والمفلح: هو السعيد، ولا تحصل السعادة والفلاح إلا باجتناب الخمر والميسر ونحوهما، والفلاح هو صفة أهل الإيمان كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] أي: قد سعدوا، أي: أن من لم يتجنب الخمر والميسر فإنه بعيد من الفلاح، وبعيد أن يصل إلى مرتبة الفلاح، وحري أن يكون من أهل الشقاء والخسارة.
الوجه السادس: قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) أي: أن الشيطان هو الذي يدعو إليها، وهي من عمله، (أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ) فالشيطان يحرص على إيقاع العداوة بين المسلمين، والعداوة هي: أن يحقد كل منهم على الآخر، وأن يعاديه ويقاطعه، وما ذاك إلا أنه إذا سكر فقد يسب أخاه ويسب عمه وخاله، وقد يعتدي فيشج هذا ويضرب هذا؛ لأنه قد فقد العقل الذي يحجزه، فإذا صحا ندم على ما فعل، ولكن بعد أن فعل ما يلام عليه.
وذكر في أسباب النزول قصة حمزة رضي الله عنه، وهي: أنه شرب قبل أن تحرم الخمر وسكر، وكان لـعلي رضي الله عنه ناقتان من أشرف النوق وأفضلها، حصل عليهما من غزوة بدر، ولما عزم على أن يذهب مع بعض الطوافين ليأتي بإذخر ليبيعه ويستعين بثمنه في وليمة زواجه بـفاطمة ، وكان حمزة في بيت قريب من تلك الناقتين، فأنشدته امرأة مغنية وهو ثمل فقالت:
ألا يا حمز للشرف النواء وهن معقلات بالفناء
ضع السكين في اللبات منها وضرجهن حمزة بالدماء
فهيجته على أن يأخذ السكين، ويذهب إلى الراحلتين ويجب أسنمتهما -وهما لم يذكيا-، ويبقر بطونهما، ويأخذ من أكبادهما، فلما أتى علي رضي الله عنه وإذا ناقتاه قد فعل بهما هذا الفعل، فهاله ذلك وأحزنه، وأُخبر بأن الذي فعله هو عمه أخو أبيه حمزة سيد الشهداء، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل حمزة ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ودخل على حمزة وهو ثمل لم يصح، فجعل يلومه ويوبخه، فرفع رأسه وقال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! قال ذلك لأنه فاقد العقل، وهل يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم عاقل فضلاً عن حمزة ؟!!
لا شك أنه ما قاله إلا بعدما سكر وذهب عقله.
إذاً: فالخمر من أسباب البغضاء والعداوة، ولا شك أن علياً رضي الله عنه لولا أنه عارف أن هذا من فقد العقل لحقد على عمه، ولمقته ولأبغضه، ويحصل هذا كثيراً، فإن جماعة من الصحابة سكروا مرة فتقاتلوا وتضاربوا، فأخذ أحدهم لحي جمل فشج به وجه بعضهم، فكان يحقد عليه، فالشيطان يوقع العداوة بين المسلمين إذا سكروا وفعلوا ما فعلوه من هذه الأشياء التي توجب العداوة بينهم.
الوجه السابع: البغضاء التي ذكرها الله مع العداوة، فالشيطان هو الذي يوقعها، فيبغض الإنسان أخاه، ويبغض ابنه أو عمه أو خاله أو ابن عمه؛ لأنه قد اعتدى عليه وهو سكران، وقد ضربه أو قد أتلف ماله أو نحو ذلك.
الوجه الثامن: الصد عن ذكر الله في قوله: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ومعلوم أن الإنسان إذا كان ثملاً غائب الفكر لا ينشغل بذكر، ولا ينشغل بدعاء، ولا ينشغل بقراءة، ولا ينشغل بعبادة؛ لأنه فاقد لعقله الذي تميز به، فلأجل ذلك جعل هذا علة في التحريم.
الوجه التاسع: أن السكر والميسر ونحوهما مما يشغل عن الصلاة، وذلك أيضاً من أمر الشيطان لقوله تعالى: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ) أي: يشغلكم عنها، كما قال بعض المتأخرين:
إن جاءه الظهر فالوسطى يؤخرها أو مغرباً فعشاء قط لم يأتِ
أي: إذا سكر وقت الظهر فإنه يؤخر العصر أو لا يصليها إلا بعد ما يصحو أو تفوته، وإن سكر بعد المغرب فلا يصحو إلا نصف الليل أو نحوه، فتفوته العشاء، وإن أتاها أتاها وهو غافل، وهو ساهٍ، وإن أتى بها لم يأت بها بقلب حاضر، ولا شك أن هذا من أسباب تحريم الخمر.
الوجه العاشر والأخير: قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) أي: وقد عرفتم أضرارها ألا فانتهوا، لذلك قالوا: (انتهينا انتهينا) فمن هذه الآيات عرف الصحابة أن الخمر قد حرمت.
بعض الأدلة على تحريم الخمر
وأخبر أيضاً بأنها أم الخبائث، وأخذ العلماء من ذلك أنها نجسة العين؛ لأن الخبيث محرم، قال تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، ولا شك أنها من الخبائث، لما ذكر في الآية من الآثار التي تترتب على فعلها وعلى تعاطيها.
ومن الأدلة على تحريمها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة: (لعن الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها)، فلعن هؤلاء العشرة لأنهم تساعدوا على الخمر، على صناعتها، وعلى ترويجها، وعلى العمل فيها، وإن كان الإثم أصلاً هو على الذي يشربها، وأما البقية فإنهم يساعدون عليها، فكما لعن في الربا أربعة: (لعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه)، فكذلك لعن في الخمر عشرة من الذين يتساعدون فيها.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة شاربها في الآخرة بقوله: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)؛ وذلك لأن في الجنة خمراً، ولكن ليست كخمر الدنيا، قال الله تعالى: وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ:34-35] فخمر الدنيا فيها اللغو وفيها الكذب، وأما خمر الجنة فهي سالمة من ذلك، وقال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:17-19] أي: لا يأتيهم صداع -وهو الغول- أو السكر وذهاب العقل، وهكذا قوله تعالى: لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ [الطور:23] أي: فهي سالمة من اللغو ومن الغول الذي هو السكر، فهذه هي خمر الجنة، فمن شرب الخمر في الدنيا حرمها في الجنة.
وقد يكون ذلك سبباً في حرمانه من دخول الجنة إذا كان مصراً عليها أو مستحلاً لها، فإنه إذا دخل الجنة أحد لن يحرم شيئاً من ملذاتها ولا من نعيمها، فهذا الذي شربها في الدنيا يمكن أن يحرم من دخول الجنة إلا أن يشاء الله.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أصر على شرب المسكرات كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، عصارة أهل النار، وهذا أيضاً يدل على أنه يدخل النار -والعياذ بالله- ويعذب فيها، ويُسقى من هذه العصارة بدل ما نعم نفسه في الدنيا بهذه اللذة وبهذه الحلاوة، فعوقب بأن يسقى من هذه العصارة، عصارة أهل النار، يعني: أوساخهم، وغسالات فروجهم، وغسالات أبدانهم ونحو ذلك، لوا شك أن هذا من أبشع العذاب، فهذا دليل واضح على أنها حرمت تحريماً مؤبداً، وأن متعاطيها متعرض لعقاب الله تعالى.
وكذلك يحرم بيعها والتجارة فيها، وعملها، قال صلى الله عليه وسلم: (من باع الخمر فليشقص الخنازير)، ومعلوم أن الخنزير محرم لخبثه، وقد جعل الذي يبيع الخمر كأنه يشقص الخنازير، والتشقيص هو القصب، أي: فهو مثل القصاب هو الذي يقطع اللحم، يعني: أن هذا البائع للخمر مثل الذي يقطع لحم الخنزير قطعة قطعة ويبيعه، ولحم الخنزير محرم، وبيعه وتشقيصه وتقطيعه محرم أيضاً، وهو نجس نجاسة عينية مثل نجاسة الكلاب ونحوها، فكل هذا دليل على بشاعة هذه الخمرة التي هي أم الخبائث وعقوبتها.
حد شارب الخمر ومقداره
ولما كان عهد عمر رضي الله عنه دخل في الإسلام كثير من أهل البلاد النائية الذين كانوا قد اعتادوا على شرب الخمر، واستماتوا فيها واعتادوها، وتمكنت من نفوسهم سواء كانوا من الفرس في العراق، أو من الروم ونحوهم في الشام، أو من القبط ونحوهم في مصر، أو من أشبههم ممن دخلوا في الإسلام، فكانوا قد اعتادوا هذا الشراب، ودعوا إليه أيضاً بعض العرب وزينوا لهم شربه، فلما جلدوا أربعين جلدة لم تؤثر فيهم هذه الأربعين، ولم تزجرهم عن تعاطي شربها، بل شربها آخرون، ولم يبالوا بالجلد، فاستشار عمر الصحابة لما بلغه كثرة من يشربها في الشام وفي العراق وفي مصر، وفي غيرها من البلاد التي فتحت في عهده، فرأى أن الزيادة في الحد أولى من بقائه على الأربعين؛ لأن الأربعين قد لا تكفي في زجرهم، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف : (إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون)، والمفتري: هو القاذف الذي ذكر الله أن حده ثمانون، وقال أيضاً: (أخف الحدود حد القذف ثمانون جلدة، فلا ينقص عن الثمانين)، فأمر به عمر رضي الله عنه، فكان يجلد الشارب ثمانين جلدة، ويشددون عليه حتى ينزجر بذلك ويرتدع غيره عن أن يفعلوا كفعله، واستمر الأمر على ذلك، فاختلف العلماء: هل هذه الزيادة التي زادها عمر تعتبر حداً؛ لأنه قال: أخف الحدود ثمانون، أو تعتبر تعزيراً؟ أي: هذه الأربعون الزائدة هل تعتبر تعزيراً أم أنها حد؟
يرى كثير منهم أن الحد أربعون؛ لأنه الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الزيادة فتستعمل إذا كثر الشرب، فإذا كثر السكر في مدينة أو في بلدة ولم ينزجروا بالأربعين فيزاد فيه إلى الثمانين، وقد تجوز الزيادة إلى المائة أو إلى أكثر حتى يحصل الانزجار والارتداع؛ وذلك لأن هذا تعزير، والتعزير ليس له منتهى وليس له حد، وإنما هو بقدر الحاجة، وبقدر ما تحصل به الكفاية.
وقد تصل العقوبة إلى أشد من ذلك، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه)، فأمر بقتله إذا تكرر منه الشرب ولم يرتدع بهذا الجلد، هذا الحديث يقول بعض العلماء: إنه منسوخ، ويقولون: إنه لم يُعمل به،
ولكن صحح كثير من العلماء أنه لم ينسخ، وأنه باقٍ؛ وذلك لكثرة طرقه التي جاء بها، حتى روي عن نحو عشرة من الصحابة رضي الله عنهم رووا هذا الحديث، وبعضهم ممن تأخر في دخول الإسلام، وهو يشتمل على الأمر بقتل الشارب إذا حد ثلاث مرات، فإذا جلد مرة أربعين ثم جلد أربعين ثم جلد أربعين ولم ينزجر وعاد في المرة الرابعة فحده أن يقتل، وأن يسلب حياته هذه التي هي حياة بؤس؛ حيث إنه لم ينزجر ولم يرتدع فلا يردعه إلا القتل والإعدام.
هكذا جاء هذا الحديث مما يدل على بشاعة هذه الخمر وشناعتها وشدة العقوبة التي رتبت عليها؛ لأنها أم الخبائث، ولأن التساهل فيها قد يؤدي إلى الشرور والأضرار؛ ولأن الله تعالى ما حرم شيئاً إلا وفيه مضرة، وما حرم على العباد إلا الشيء الذي يضرهم، ولا شك أن الخمر غاية في الضرر؛ وذلك لأن الذي يشربها ويتعاطاها قد يفقد عقله .. يفقد إحساسه .. يفقد ميزته التي تميز بها وهي هذا العقل، فالعقل هو ميزة الإنسان .. العقل هو شرفه .. العقل هو فضل الله عليه الذي تميز به، فبه يكتسب، وبه يحسن التصرف، وبه يبيع ويشتري، وبه يأخذ ويعطي، وبه يعقل ما يقول، وبه يبتكر ويفكر، وبه يعرف ما ينفعه وما يضره، فالشيء الذي يزيل هذا العقل ويلحق صاحبه بالبهائم، أو أقل حالة من البهائم ينبغي أن يحارب في كل شريعة، وينبغي أن يقضى عليه، ألا وهو هذا المسكر، فإنه بلا شك يزيل ويغطي هذا العقل من الإنسان، فلذلك جاءت الشريعة الإسلامية بالقضاء عليه، وبالزجر عنه، وبالعقوبة عليه.
والعقوبة في الآخرة -كما ذكرنا- أن أهله يشربون من عصارة أهل النار، وأنهم يمنعون من لذة أهل الجنة، والعقوبة في الدنيا أنه يقتل إذا تكرر منه تعاطي الخمر أربع مرات ولم ينزجر بالجلد، ولا شك أن هذا دليل على بشاعة هذه الخمر، وشناعتها والعقوبة عليها.
اختلف في حد الخمر، فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام حددها بأربعين، وقيل: إنه لم يحدد، ولكن أمر بجلده نحو الأربعين، والثابت اليقيني أنه لابد من جلده، عقوبة له على ذلك.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح عمدة الأحكام [4] | 2581 استماع |
شرح عمدة الأحكام [29] | 2579 استماع |
شرح عمدة الأحكام [47] | 2517 استماع |
شرح عمدة الأحكام [36] | 2499 استماع |
شرح عمدة الأحكام 6 | 2439 استماع |
شرح عمدة الأحكام 9 | 2368 استماع |
شرح عمدة الأحكام 53 | 2354 استماع |
شرح عمدة الأحكام [31] | 2338 استماع |
شرح عمدة الأحكام 56 | 2329 استماع |
شرح عمدة الأحكام 7 | 2328 استماع |