سورة البقرة - الآية [172]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من المقبولين.

معنا في هذا الدرس الآية الثانية والسبعين بعد المائة من سورة البقرة، وهي النداء الثالث من الرحمن جل جلاله لعباده المؤمنين، قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[البقرة:172].

فالله عز وجل ينادي المؤمنين في هذه الآية ويأمرهم بأمرين اثنين: الأمر الأول: (كلوا)، والأمر الثاني: (اشكروا).

قال أهل التفسير: الأكل يعم جميع أنواع الانتفاع، كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، وكما قال سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ[الجاثية:13].

وفي هذا تبكيت للمشركين الذين حرموا ما أحل الله عز وجل، فقد حرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا[الأنعام:138-139]، فهذا تحليل وتحريم بغير إذن من الله عز وجل، فالله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا[البقرة:172]، كما قال في آية أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ[المائدة:87-88]، الطيبات قيل: هي الحلال، وقيل: المستلذ، ولا تعارض، فإن الأكل مطلوب من الحلال ومن المستلذ.

يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: أسند الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة؛ لأنه في معرض الامتنان والإحسان، كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ))، وفيه إشارة إلى أن المستحق للشكر هو الله وحده، وليست الأصنام؛ لأنها باعتراف المشركين ما رزقت أحداً، كما قال سبحانه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[فاطر:3].

فنحن مأمورون بالأكل من الحلال، وقوله: كلوا)) قال أهل التفسير: هذا الأكل قد يكون واجباً لدفع الضر، كما لو كان إنسان على شفا هلكة إن لم يأكل هلك، فواجب عليه أن يأكل، ويكون مندوباً إذا أريد به مؤانسة الضيف، أي: لو أن عندك ضيفاً وأنت لا تريد الطعام فإنه يندب لك أن تأكل من أجل أن تؤنسه، وقد يكون الأكل مباحاً عند انتفاء الدواعي والموانع، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )).

والأكل من الحلال هو سمة عباد الله الصالحين، والأكل من الحرام والعياذ بالله سواء كان محرماً لذاته كالخنزير والميتة أو كان محرماً من جهة كسبه؛ لأنه من ربا أو غش أو اتجار في حرام أو أكل لأموال الناس بالباطل هو سمة الفجار؛ ولذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).

وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: (ما من عبد يكتسب من مأثم فيتصدق به أو ينفقه على أهله أو ينفقه في سبيل الله إلا جمع الله ذلك كله ثم طرحه في النار)، فالنفقة من الحرام لا تتقبل عند الله عز وجل.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ))[البقرة:172]، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى في مطعمه، (فقد وجد تمرة عليه الصلاة والسلام فقال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها).

وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أكل طعاماً وهو لا يعرف من أين اكتسب، ثم تبين له أنه ناتج عن كهانة؛ أدخل يده رضي الله عنه في فمه وما زال يتقيأ حتى أخرج ذلك الطعام، فلما قيل له: إنها لقمة يسيرة، قال: والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها! وقد قال بعض السلف: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنة بدوام المراقبة، وتغذى بالحلال؛ أورثه الله عز وجل فراسة لا تخطئ.

فلو أن إنساناً في ظاهره اتبع السنة، وفي باطنة راقب الله عز وجل، وكانت طعمته حلالاًً، فإن الله عز وجل يرزقه فراسة الصالحين، بحيث يستدل بالمحسوس على المغيب، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ )).

فقد أتي بالاسم الظاهر مكان الضمير، وكان يمكن في غير القرآن أن يقال: كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لنا، أو واشكروا لرازقكم، لكنه أتى بالاسم الظاهر وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ))؛ لأن في الإتيان بالاسم الظاهر إشعاراً بألوهيته جل جلاله، وأنه المستحق للشكر وحده وَاشْكُرُوا لِلَّهِ )).

والشكر في اللغة الظهور، ومنه يقال: دابة شكور، إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف، فإذا كانت كذلك فإنها تسمى دابة شكورة، ولذلك لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل سيهلك يأجوج ومأجوج قال عليه الصلاة والسلام: (حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم)، لتشكر يعني: تسمن.

حقيقة شكر الله سبحانه وتعالى

شكر الله ما حقيقته؟

للعلماء في ذلك كلام، ولعل من أجمعه -والله أعلم- ما قاله الإمام الشبلي رحمه الله، قال: الشكر التواضع، والمحافظة على الحسنات، وبذل الطاعات، ومراقبة جبار الأرض والسماوات، فتتواضع لله عز وجل وتواظب على الحسنات وتديمها.

وقال السري السقطي رحمه الله: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولمن كان مثلك بالثناء، ولمن كان دونك بالإحسان والإفضال.

والفرق بينه وبين الحمد أن الحمد: هو الثناء على الله عز وجل باللسان، أما الشكر فإنه يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، بالقلب بالتفكر في آلائه ونعمه جل جلاله، وباللسان أن تشكره سبحانه وتعالى، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم:7]، وبالجوارح استعمالها في طاعة الله، قال أهل التفسير: شكر العينين البكاء، وشكر الأذنين الإصغاء، وشكر اليدين العطاء، وشكر القلب الرضا بالقضاء، وشكر الله عز وجل أن تستعمل هذه الجوارح كلها في طاعته سبحانه وتعالى.

فالله عز وجل في هذه الآية أمرنا بالشكر، وأخبر في آية أخرى أن قليلاً من عباد الله من يلتزم هذا الأمر، قال سبحانه: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13]، وأكثر الناس كافر بنعمة الله، إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ[إبراهيم:34].

ثناء الله على الشاكرين

أثنى ربنا جل جلاله على من اتصف بهذه الصفة الطيبة، فقال في وصف نبي الله نوح: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا[الإسراء:3]، وقال في وصف إبراهيم: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ[النحل:120-121]، ونبي الله موسى عليه السلام روي أنه قال: (يا رب كيف أشكرك؟ قال الله عز وجل: يا موسى اذكرني فإن ذكرتني شكرتني، وإن نسيتني كفرتني)، فالذي يذكر الله عز وجل هو الشاكر، الذي يستحق الثناء، وقد سمى الله عز وجل نفسه الشكور، ففي الحديث يقول سبحانه: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري! وأرزق ويشكر سواي! خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد!)، هذا هو حال أكثر الناس مع الله عز وجل إلا أنبياء الله ورسله، صلوات الله وسلامه عليهم وهم سادة الشاكرين فقد كانوا بعكس ذلك، انظروا في حال نبي الله سليمان سخر الله له الجن والإنس والطير، لما أتي بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه قال: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ -أي لنفع نفسه- وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[النمل:40]، ودعا الله عز وجل فقال: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ[النمل:19]، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشاكرين، فقد قام من الليل حتى تفطرت قدماه، وقالت له عائشة : (يا رسول الله! لم تصنع ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: يا عائشة! أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟). (وعرض عليه ربه أن يحول له بطحاء مكة ذهباً، فقال: لا يا رب، بل أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر) يعني: الله عز وجل هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي هدى، وهو الذي علم، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل:78]، ومع ذلك لا يريد منا سوى كلمة: الحمد لله، فلو أن إنساناً طعم طعاماً فقال: (الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)، (وإن الله تعالى ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها) فالله عز وجل لا يريد منا سوى هذه الكلمة، الحمد لله، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أصابته نعمة قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أصابه بلاء قال: الحمد لله على كل حال).

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[البقرة:172] أي: إن كنتم يا أيها المؤمنون معترفين بأن الله عز وجل هو صاحب النعم، وهو الذي رزقكم هذه الطيبات التي تأكلونها فواجب عليكم أن تشكروه.

ما يستفاد من الآية

يستفاد من الآية فوائد:

الفائدة الأولى: عظم نعمة الله عز وجل على العباد في إباحة الطيبات، كما قال في آية أخرى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الأعراف:32].

الفائدة الثانية: أن جميع الطيبات مباحة، وأن الله عز وجل ما أباح شيئاً إلا وهو طيب، فلا يوجد شيء مباح وهو خبيث، قال الله عز وجل: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ[الأعراف:157]، فكل خبيث حرام، وكل طيب حلال.

الفائدة الثالثة: أن الرازق هو الله جل جلاله، وهو يتحدث عن نفسه بنون العظمة، فواجب علينا تعظيمه.

الفائدة الرابعة: وجوب شكر نعمة الله عز وجل.

الفائدة الخامسة: من شكر نعمة الله فقد اعترف بها، ومن لم يشكرها فقد كفرها.

الفائدة السادسة: شكر الله يجلب النعم المفقودة، كما أن الكفر يفقد النعم الموجودة، فإذا شكر نعمة الله عز وجل أتاه الله من النعم ما لم يكن موجوداً عنده كما قال سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم:7]، كما أن الكفر بنعمة الله سبحانه وتعالى ينفر النعم الموجودة، قال الله عز وجل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل:112]، فقد كانوا في نعمة الأمن وفي نعمة الرزق، فلما كفروا أبدلهم الله عز وجل بالأمن خوفاً وبالرزق جوعاً.

نسأل الله السلامة والعافية، وأن يرزقنا شكر نعمته.

شكر الله ما حقيقته؟

للعلماء في ذلك كلام، ولعل من أجمعه -والله أعلم- ما قاله الإمام الشبلي رحمه الله، قال: الشكر التواضع، والمحافظة على الحسنات، وبذل الطاعات، ومراقبة جبار الأرض والسماوات، فتتواضع لله عز وجل وتواظب على الحسنات وتديمها.

وقال السري السقطي رحمه الله: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولمن كان مثلك بالثناء، ولمن كان دونك بالإحسان والإفضال.

والفرق بينه وبين الحمد أن الحمد: هو الثناء على الله عز وجل باللسان، أما الشكر فإنه يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، بالقلب بالتفكر في آلائه ونعمه جل جلاله، وباللسان أن تشكره سبحانه وتعالى، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم:7]، وبالجوارح استعمالها في طاعة الله، قال أهل التفسير: شكر العينين البكاء، وشكر الأذنين الإصغاء، وشكر اليدين العطاء، وشكر القلب الرضا بالقضاء، وشكر الله عز وجل أن تستعمل هذه الجوارح كلها في طاعته سبحانه وتعالى.

فالله عز وجل في هذه الآية أمرنا بالشكر، وأخبر في آية أخرى أن قليلاً من عباد الله من يلتزم هذا الأمر، قال سبحانه: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13]، وأكثر الناس كافر بنعمة الله، إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ[إبراهيم:34].

أثنى ربنا جل جلاله على من اتصف بهذه الصفة الطيبة، فقال في وصف نبي الله نوح: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا[الإسراء:3]، وقال في وصف إبراهيم: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ[النحل:120-121]، ونبي الله موسى عليه السلام روي أنه قال: (يا رب كيف أشكرك؟ قال الله عز وجل: يا موسى اذكرني فإن ذكرتني شكرتني، وإن نسيتني كفرتني)، فالذي يذكر الله عز وجل هو الشاكر، الذي يستحق الثناء، وقد سمى الله عز وجل نفسه الشكور، ففي الحديث يقول سبحانه: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري! وأرزق ويشكر سواي! خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد!)، هذا هو حال أكثر الناس مع الله عز وجل إلا أنبياء الله ورسله، صلوات الله وسلامه عليهم وهم سادة الشاكرين فقد كانوا بعكس ذلك، انظروا في حال نبي الله سليمان سخر الله له الجن والإنس والطير، لما أتي بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه قال: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ -أي لنفع نفسه- وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[النمل:40]، ودعا الله عز وجل فقال: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ[النمل:19]، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشاكرين، فقد قام من الليل حتى تفطرت قدماه، وقالت له عائشة : (يا رسول الله! لم تصنع ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: يا عائشة! أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟). (وعرض عليه ربه أن يحول له بطحاء مكة ذهباً، فقال: لا يا رب، بل أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر) يعني: الله عز وجل هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي هدى، وهو الذي علم، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل:78]، ومع ذلك لا يريد منا سوى كلمة: الحمد لله، فلو أن إنساناً طعم طعاماً فقال: (الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)، (وإن الله تعالى ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها) فالله عز وجل لا يريد منا سوى هذه الكلمة، الحمد لله، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أصابته نعمة قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أصابه بلاء قال: الحمد لله على كل حال).

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[البقرة:172] أي: إن كنتم يا أيها المؤمنون معترفين بأن الله عز وجل هو صاحب النعم، وهو الذي رزقكم هذه الطيبات التي تأكلونها فواجب عليكم أن تشكروه.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2636 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2573 استماع
سورة آل عمران - الآية [102] 2535 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2521 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2343 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2309 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2303 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2292 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2228 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2186 استماع