خطب ومحاضرات
المرأة بين الرعاية والجناية [1]
الحلقة مفرغة
الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدأ وإليه المرجع والمآل، نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، كثرنا الله به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأرشدنا من بعد غواية، وهدانا من بعد ضلالة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! موضوعنا هو: [المرأة بين الرعاية والجناية]، فنبدي فيه حال وأحكام المرأة بين الرعاية الإلهية والجناية البشرية، وبين رعاية الأحكام الربانية وجناية الأهواء الإنسانية، ذلك أن أمر المرأة في وقتنا هذا كثرت فيه الشبهات، واستعر به أوار الشهوات، وعظمت به فتنة الأهواء والإغواء، وتفاقمت به شبهات الاعتراض والتبديل والتغيير لأحكام وشرائع الإسلام، وقد مر بنا حديث في الصورة الكاملة، والنظرة الشاملة للمرأة في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واليوم نشرع بذكر بعض التشريعات الإسلامية الخاصة بالمرأة، ونتعرف عليها من مصادرها الأصلية في كتاب الله، وسنة الهادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنقف على دلالاتها من كلام الأئمة الربانيين، والعلماء الفقهاء، لا من أصحاب الصحف وأهل الأهواء، ولا من الأميين الذين لا يعرفون لغة العرب، ثم يرجمون بالغيب، ويقولون في القرآن بغير علم، ثم بعد ذلك نقف مع الحكم والتعليلات التي رمزت إليها الآيات؛ لندرك عظمة التشريعات، ونرى ما فيها من السلامة والوقاية من المنزلقات.
فأول وأظهر التشريعات الخاصة بالمرأة: تشريع الحجاب، وهو الأمر الذي يتعرض اليوم لهجوم شديد من قبل أعداء الإسلام، وذلك أمر متوقع وبدهي، ومن قبل بعض أبناء الإسلام، وذلك أمر مؤلم ومحزن، وتشريع الحجاب تنزلت فيه آيات من القرآن تتلى، ووردت فيها أحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم تروى، ونطقت به مسيرة تاريخ الأمة الإسلامية عبر قرون متطاولة في بقاع الإسلام المترامية الأطراف، ومع ذلك كأن الأعين رمداء لا تبصر، وكأن الآذان صماء لا تسمع، وكأن العقول خاوية لا ترشد ولا تدرك.
الحجاب: تعريفه وتشريعه
الحجاب: في لغة العرب معناه: الستر، يقولون في كل ما حال بين شيء وشيء: إنه حجاب.
ومن معاني الحجاب أيضاً: المنع، وسمي الحجاب حجاباً لمنعه رؤية ما وراءه، ومنه الحاجب الذي يمنع الناس من الدخول إلا بإذن.
فالحجاب أصلاً في لغة العرب: الستر الذي يحول بين شيء وآخر، ويمنع الشيء من البلوغ إلى الشيء، وهذا القرآن العظيم تنزل بلغة العرب كما قال تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195].
وهذه الآية من أظهر الآيات الدالة على تشريع الحجاب، وعمومه على جميع نساء المؤمنين.
وهي الآية التي اشتهرت عند أهل العلم عموماً والمفسرين خصوصاً بأنها آية الحجاب، قال القرطبي في تفسيره في بيان معنى الجلابيب: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) قال: والصحيح أنه -أي: الجلباب- الثوب الذي يستر جميع البدن، وقال ابن حزم في المحلى: هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه، وقال ابن كثير في تفسيره: الجلباب: هو الرداء فوق الخمار، ونقل في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، وقال السعدي في تفسيره: أي: يغطين وجوههن وصدورهن.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) لفت إلى الخطاب الأعظم للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كانت التشريعات توجه بالصيغة المباشرة بالتوجيه والنداء الرباني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ولكنها في آية الحجاب جعلت الأمر بهذا الحكم موكولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ)، فلماذا؟
لأن الله جل وعلا أراد أن يكون مثل هذا الأمر مباشراً وقريباً ومطبقاً ومراعاً؛ لأنه يدخل في صلب الحياة الاجتماعية، وهو وإن كان تشريعاً خاصاً بالمرأة إلا أنه سمة للمجتمع، ولذلك أوكل هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته حاكماً وولياً لأمر المؤمنين، وراعياً لشئونهم، وقائماً على أمور الإسلام والتشريع في حياتهم الاجتماعية، ثم جاء الأمر بالأولى والأعظم؛ ليكون أكثر تأثيراً في القدوة التي أمرنا بها في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ)؛ لتكون القدوة أعظم، وهو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأعظم الأمة التزاماً بشرع الله وحري وبدهي أن يكون إلزامه لأهله ولآل بيته بتشريع الله عز وجل أسبق وأعظم وأظهر.
قوله تعالى: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك للتأكيد على هذا العموم، وعلى أن القدوة في هذا تكون للرسول صلى الله عليه وسلم بما يكون في أهله وبيته، وليظهر أيضاً أن أمر الحجاب في نساء المؤمنين دلالة إيمان وتقوى، إذ لما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته -وهن الأسمى والأعلى من نساء المؤمنين- دل ذلك على أن التزام ذلك هو دليل على أنه رتبة أعلى في الأخذ بأمر الله عز وجل، وفي الالتزام بهذا الدين، والاقتداء بالرسول الكريم وأزواجه أمهات المؤمنين.
إن هذه الآية واضحة الدلالة، وصريحة الألفاظ، وأهل العلم من المفسرين والفقهاء قد بينوا مثل هذه الدلالة، وجاءت الأحاديث تبين لنا كيف كان الالتزام والعمل بهذه الآية، فروى عبد الرزاق في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان، وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وذكر السيوطي أن ابن مردويه روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: رحم الله نساء الأنصار! لما نزلت هذه الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رءوسهن الغربان.
قولها: (شققن مروطهن) وذلك أنه لم يكن لديهن ألبسة وأكسية كثيرة، فلم يكن هناك لباس للظهيرة ولباس للسهرة كما هو حالنا، لكن لما تنزلت الآيات بالحجاب، وأن يدنين عليهن جلالبيبهن، عمدن إلى المروط فشققنها، واعتجرن بها وأسدلنها؛ امتثالاً لأمر الله، فهكذا تكون المرأة المؤمنة سريعة الاستجابة، وترى ذلك تحقيقاً لإيمانها، وتأكيداً لإسلامها، وإظهاراً لفضيلتها، وإعلاناً لعفتها، وبياناً لشرفها ورفعتها، ولا تراه -كما يرجف به المرجفون- تقييداً لحريتها، وغمطاً لشخصيتها، وكبتاً لحركتها وحريتها.
علينا أن نمتثل لهذا الأمر لأننا قوم نرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله، ولا نلتفت لمن يخالف قوله قولهما، مهما كان ذكره أو عظمته؛ لأن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل أحد.
ويقول الله جل وعلا في آية أخرى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، والآية في سياق خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء بعض الجهلة وأهل الأهواء: إما عن غفلة وعدم علم وبصيرة، وإما عن مكر وخبث وكيد، فقالوا: إنما جاء تشريع الحجاب خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لمكانتهن وشرفهن دون بقية وسائر نساء المسلمين!
وقبل أن نطيل القول في هذا فقد مرت بنا الآية من قبل: (قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ)، فهل بعد هذا أمر أوضح في العموم والشمول؟!
كلام أهل العلم على الحجاب
الجواب: أنها كذلك، فالحكم كذلك.
ومن كلام أهل العلم: أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ومع ذلك وضح الشنقيطي قوله، فقال في تتمة كلامه: وضابط ذلك: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيباً، فهذه العلة مربوطة بالحكم، فلو لم نلتفت للعلة فكأننا لم نلتفت لذلك الحكم، وإذا كان حكم هذه الآية عاماً بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء.
وقال الطبري في تفسيره: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن.
وقال بعض أهل العلم كلاماً نفيساً: إن كان هذا الأمر مخصوصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أنهن أعظم نساء الأمة إيماناً، وأتقاهن قلباً، وأزكاهن نفساً، وأعفهن مسلكاً، فإذا أمرن -وهن على هذا الوصف- بهذا، فكيف بمن دونهن من النساء، ولسن على مرتبتهن في الإيمان والتقى والحياء والعفة؟! أفلا يكون ذلك الأمر أوجب؟!
وهذا ما يعرف عند العلماء بالقياس الجلي، وقياس الأولى، فإن كنا نطلب من العفيف الشريف أن يلتزم بهذا الأدب والتشريع فمن باب أولى من دونه، فإن كان الخطاب موجهاً إلى الثلة المباركة والصفوة المختارة من المؤمنين المتقين من مدرسة النبوة التي كان فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضوان الله عليهم، فإن خوطب أولئك لئلا تتعكر طهارة قلوبهم، فكيف بالذين تلم بقلوبهم الأهواء، وتمتلئ نفوسهم بالشهوات، ولا تجول خواطرهم إلا حول المحرمات، أفلا يمنعون من ذلك؟! بلى والله!
إن العاقل يدرك هذا ويبصره، إلا أن الأهواء الخبيثة، والمكر الذي يراد به إفساد المرأة المسلمة ومن ورائها مجتمع المسلمين يدعي -عن غباء وجهل أو عن خبث ومكر- أن هذا تشريع خاص بأزواج محمد صلى الله عليه وسلم، وليس عاماً لنساء المسلمين.
ويأتينا أيضاً قول الحق جل وعلا: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:32-33]، والخطاب مرة أخرى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، والقول فيه ما قلناه من قبل، إلا أن هذه الآية أشمل، وتبين لنا قضية مهمة وهي: إظهار تلك العلل العظيمة، والحكم الجليلة التي لأجلها فرضت هذه التشريعات، لتبقى القلوب سليمة، ولتظل النفوس طاهرة، ولينصرف الناس إلى جوانب العمل في التقوى والعبادة، وميادين العمل في الحياة، بعيداً عن هذه الشهوات التي عندما سلطت على المجتمعات المسلمة وغير المسلمة رأينا الانصراف عن التقوى والعبادة والتدين، ورأينا الانحراف عن العمل والعمران وأسباب الحياة الدنيوية.
هذه الآية قال ابن كثير في أول تفسيرها: هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، وهذا من القياس الجلي الذي قال فيه العلماء: ما علم فيه إلغاء الفارق، أي: بين هذه التي وردت فيها نصوص الآيات وغيرها مما لا فرق بينه وبينها.
وقال القرطبي: التبرج: التكشف والظهور للعيون، وقال في تفسير هذه الآية في سورة الأحزاب: وحقيقته إظهار ما ستره أحسن.
وقال ابن كثير في التبرج: إنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها.
وإذا نظرنا إلى مثل هذه المعاني مع النظر إلى الآية التي ذكرناها سابقاً في ذكر الجلباب أدركنا أن الحجاب يقتضي ستر المرأة في لباسها، ويقتضي إدناء الجلباب، وهو: الستر لما تلبسه من لباس محتشم ساتر، وهذا يدلنا عليه ما ذكره أهل العلم من الصور العملية المأثورة المنقولة فيما جاء في وصف حال المجتمع المسلم في عهد النبوة، وفي عهود وعصور كثيرة مختلفة.
والآيات كثيرة، ومنها قوله جل وعلا: وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، وهذه الآية وإن كانت دلالتها على أمر الحجاب بالاستنباط وببيان المعنى إلا أنها قوية فيه، فالآية واضحة في أن المقصود بها: القواعد من النساء، والتعليل جاء في نص القرآن دون حاجة إلى اجتهاد بشري في بيان المعنى، وقوله تعالى: (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) أي: اللائي قد بلغن من السن مبلغاً كبيراً لا يتعلق بهن أحد لأجل النكاح والمتعة والشهوة، فهؤلاء النساء يجوز لهن أن يضعن ثيابهن، أي: يتخففن، فلا يكون لهن ذلك الحجاب الكامل الذي يرتبط بمن يتعلق بها القلب لنكاحها من سائر النساء في كل الأعمار، ومع ذلك قال: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ)، فإن بعض العجائز ربما تتشبب، وربما تكون عجوزاً كما نرى في أيامنا هذه فتعمل العمليات الجراحية والتجميلية حتى تبدو للناس وكأنها صبية في الثلاثين من العمر فلو كانت من هذا الصنف فلها التخفف بشرط عدم التبرج وإظهار الزينة.
فلا تجد عاقلاً -بعد وضوح مثل هذه الآية- لا يدرك أن الحجاب والستر والتعفف وعدم إبداء الزينة وإظهارها لغير المحارم، أمر مشروع، فقد دلت عليه الآيات نصاً، ودلت عليه الآيات أمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وبناته، ودلت عليه الآيات حكمة وتعليلاً، ودلت عليه الآيات تخصيصاً ببعض النساء دون بعض، مما يدل على وضوح وشمول هذا التشريع.
ومع ذلك كله فإننا نقرأ اليوم، ونسمع ونرى في المقابلات الصحفية والفضائية كلاماً لبعضهن وكأنهن لا يعرفن قرآناً يتلى، ولا سنة تروى، ولا إسلاماً يشرع ويحكم، وكأن أهواء نفوسهن، وآراء عقولهن مقدمة على كل ذلك، فتلك تقول لك: أرى كذا وكذا، وتلك تقول لك: ليس هناك ما يدل على أن الحجاب واجب، وذلك يقول لك: هذا خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم!
وحسبنا في هذا كتاب الله، وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولو قال أولئك ما قالوا، فلن تصغي لهم أذن مؤمنة، ولن تلتفت إليهم امرأة مسلمة، وذلك مما يغيض قلوبهم، وذلك مما يطيش عقولهم، فنرى منهم ونسمع ما لا يكاد يقبله عاقل، وهو دليل على نزق وعلى حمق، نسأل الله عز وجل أن يصرفه عنهم، وأن يهدينا وإياهم سواء السبيل، وأن يلزمنا شرعه القويم ودينه العظيم وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
يقول الحق سبحانه وتعالى في آيات الحجاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب:59].
الحجاب: في لغة العرب معناه: الستر، يقولون في كل ما حال بين شيء وشيء: إنه حجاب.
ومن معاني الحجاب أيضاً: المنع، وسمي الحجاب حجاباً لمنعه رؤية ما وراءه، ومنه الحاجب الذي يمنع الناس من الدخول إلا بإذن.
فالحجاب أصلاً في لغة العرب: الستر الذي يحول بين شيء وآخر، ويمنع الشيء من البلوغ إلى الشيء، وهذا القرآن العظيم تنزل بلغة العرب كما قال تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195].
وهذه الآية من أظهر الآيات الدالة على تشريع الحجاب، وعمومه على جميع نساء المؤمنين.
وهي الآية التي اشتهرت عند أهل العلم عموماً والمفسرين خصوصاً بأنها آية الحجاب، قال القرطبي في تفسيره في بيان معنى الجلابيب: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) قال: والصحيح أنه -أي: الجلباب- الثوب الذي يستر جميع البدن، وقال ابن حزم في المحلى: هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه، وقال ابن كثير في تفسيره: الجلباب: هو الرداء فوق الخمار، ونقل في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، وقال السعدي في تفسيره: أي: يغطين وجوههن وصدورهن.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) لفت إلى الخطاب الأعظم للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كانت التشريعات توجه بالصيغة المباشرة بالتوجيه والنداء الرباني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ولكنها في آية الحجاب جعلت الأمر بهذا الحكم موكولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ)، فلماذا؟
لأن الله جل وعلا أراد أن يكون مثل هذا الأمر مباشراً وقريباً ومطبقاً ومراعاً؛ لأنه يدخل في صلب الحياة الاجتماعية، وهو وإن كان تشريعاً خاصاً بالمرأة إلا أنه سمة للمجتمع، ولذلك أوكل هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته حاكماً وولياً لأمر المؤمنين، وراعياً لشئونهم، وقائماً على أمور الإسلام والتشريع في حياتهم الاجتماعية، ثم جاء الأمر بالأولى والأعظم؛ ليكون أكثر تأثيراً في القدوة التي أمرنا بها في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ)؛ لتكون القدوة أعظم، وهو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأعظم الأمة التزاماً بشرع الله وحري وبدهي أن يكون إلزامه لأهله ولآل بيته بتشريع الله عز وجل أسبق وأعظم وأظهر.
قوله تعالى: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك للتأكيد على هذا العموم، وعلى أن القدوة في هذا تكون للرسول صلى الله عليه وسلم بما يكون في أهله وبيته، وليظهر أيضاً أن أمر الحجاب في نساء المؤمنين دلالة إيمان وتقوى، إذ لما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته -وهن الأسمى والأعلى من نساء المؤمنين- دل ذلك على أن التزام ذلك هو دليل على أنه رتبة أعلى في الأخذ بأمر الله عز وجل، وفي الالتزام بهذا الدين، والاقتداء بالرسول الكريم وأزواجه أمهات المؤمنين.
إن هذه الآية واضحة الدلالة، وصريحة الألفاظ، وأهل العلم من المفسرين والفقهاء قد بينوا مثل هذه الدلالة، وجاءت الأحاديث تبين لنا كيف كان الالتزام والعمل بهذه الآية، فروى عبد الرزاق في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان، وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وذكر السيوطي أن ابن مردويه روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: رحم الله نساء الأنصار! لما نزلت هذه الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رءوسهن الغربان.
قولها: (شققن مروطهن) وذلك أنه لم يكن لديهن ألبسة وأكسية كثيرة، فلم يكن هناك لباس للظهيرة ولباس للسهرة كما هو حالنا، لكن لما تنزلت الآيات بالحجاب، وأن يدنين عليهن جلالبيبهن، عمدن إلى المروط فشققنها، واعتجرن بها وأسدلنها؛ امتثالاً لأمر الله، فهكذا تكون المرأة المؤمنة سريعة الاستجابة، وترى ذلك تحقيقاً لإيمانها، وتأكيداً لإسلامها، وإظهاراً لفضيلتها، وإعلاناً لعفتها، وبياناً لشرفها ورفعتها، ولا تراه -كما يرجف به المرجفون- تقييداً لحريتها، وغمطاً لشخصيتها، وكبتاً لحركتها وحريتها.
علينا أن نمتثل لهذا الأمر لأننا قوم نرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله، ولا نلتفت لمن يخالف قوله قولهما، مهما كان ذكره أو عظمته؛ لأن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل أحد.
ويقول الله جل وعلا في آية أخرى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، والآية في سياق خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء بعض الجهلة وأهل الأهواء: إما عن غفلة وعدم علم وبصيرة، وإما عن مكر وخبث وكيد، فقالوا: إنما جاء تشريع الحجاب خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لمكانتهن وشرفهن دون بقية وسائر نساء المسلمين!
وقبل أن نطيل القول في هذا فقد مرت بنا الآية من قبل: (قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ)، فهل بعد هذا أمر أوضح في العموم والشمول؟!
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المرأة بين الرعاية والجناية [3] | 2315 استماع |
المرأة بين الرعاية والجناية [2] | 1549 استماع |