سلسلة السيرة النبوية إسلام مكة


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني فترة الفتح والتمكين.

في الدرس السابق تحدثنا عن لحظة من أهم اللحظات في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل وفي تاريخ الأرض عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً عزيزاً منتصراً صلى الله عليه وسلم، ودخل كما تعلمون في عشرة آلاف من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

وكما ذكرنا لم يلق مقاومة تذكر في مكة المكرمة إلا مجموعة واحدة من كفار قريش أرادت المقاومة، فاستطاع خالد بن الوليد رضي الله عنه مع فرسان معه أن يقضوا على هذه المقاومة في لحظات، ودانت مكة المكرمة لحكم المسلمين بعد أقل من يوم واحد من فتحها، والرسول عليه الصلاة والسلام دخل بموكبه المهيب مخترقاً مكة بكاملها حتى وصل إلى صحن الكعبة.

تكسير الأصنام

أول ما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة أمر بتكسير الأصنام التي حولها داخلها، فقد كان حول الكعبة (360) صنماً غير هبل أعظم آلهتهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين بتكسير كل هذه الأصنام وشاركهم في ذلك.

وهذا الأمر كان بعد صبر دام (21) سنة كاملة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة مدة (13) سنة متتالية. أي: الفترة المكية، ولم يفكر مرة واحدة في كسر صنم واحد، وطاف في عمرة القضاء قبل الفتح بعام واحد ولم يفكر لحظة واحدة في كسر صنم واحد من هذه الأصنام، وهذه المفارقة وهذه المقارنة بين الموقفين تحتاج منا إلى وقفة.

بعد صبر (21) سنة الآن لا يصبر عليه الصلاة والسلام لحظة واحدة، فهو لم يقم الصلاة ولم يكلم الناس ولم يعمل أي شيء قبل أن يكسر الأصنام ويأمر بذلك.

عندما نأتي لندرس سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام لابد أن نأخذ اهتماماً خاصاً بالأعمال التي قام بها صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه إذا بدأ بشيء ما فهذا الأمر مقصود، فكل خطوة من خطواته صلى الله عليه وسلم متابعة بالوحي، وفيها رعاية كاملة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهي تشريع للمسلمين، فالرسول عليه الصلاة والسلام يوم الفتح لا يصبر دقائق على وجود صنم يعبد من دون الله عز وجل، هذا ما أسميه بـ: فقه الموازنات، وفقه الواقع، وفقه دفع أكبر الضررين، وجلب أكبر المنفعتين، لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام كسر هذه الأصنام في فترة مكة المكرمة لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاستئصل المسلمون بكاملهم من مكة المكرمة.

أما الآن وبعد أن صار صلى الله عليه وسلم حاكماً لمكة المكرمة، بل ولأجزاء كبيرة جداً من الجزيرة العربية، وصار في هذه القوة فإنه لا يصبر على وجود مثل هذا المنكر الشنيع من صنم يعبد من دون الله عز وجل، فكسر كل الأصنام، وكسرها وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً).

بالإضافة إلى كونه لا يرضى عن وجود هذا المنكر، فتكسيره للأصنام كان خطوة سياسية في منتهى الروعة؛ لأن هذه الخطوة كسرت تماماً كل معنويات أهل مكة، وهذه الأصنام ظلت تعبد من دون الله لا أقول عشرات السنين بل مئات السنين في داخل مكة المكرمة، أجيال وراءها أجيال تعبد هذه الأصنام، فهاهي الآن تكسر هذه الأصنام، وكل مشرك كان يعتقد في داخله أن هذه الأصنام ستصيبه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضرر أو بسوء؛ لأنهم فعلوا معها ذلك، ومع ذلك لم يحدث له شيء، وكذلك الجيش الإسلامي بكامله لم يحدث له شيء، فظهرت الحقيقة واضحة أمام أعين المشركين من أنهم كانوا في ضلال مبين كل هذه السنوات السابقة.

إذاً: هذه خطوة رائعة وهامة جداً لكسر معنويات كفار قريش، فبعد هذا التكسير لهذه الأصنام خارت قواهم تماماً وفقدوا كل أمل في المقاومة، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بتكسير الأصنام في مكة المكرمة، بل حرص صلى الله عليه وسلم على تكسير الأصنام في كل المناطق المحيطة بمكة المكرمة، فأرسل صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لكسر العزى، وهي من أكبر الآلهة التي كانت تعبد من دون الله عز وجل، فذهب خالد بسرية وكسر هذا الصنم الضخم صنم العزى.

وأرسل سرية بقيادة سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه لكسر صنم مناة وهو من أشهر أصنام العرب.

وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص لهدم صنم سواع، وصنم سواع من الأصنام المشهورة عند العرب أيضاً.

إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه كسر هبل في صحن الكعبة، وأرسل خالد بن الوليد لكسر العزى، وسعيد بن زيد لكسر مناة، وعمرو بن العاص لكسر سواع، لكن بقي صنم مشهور جداً من أصنام العرب وهو صنم اللات، وصنم اللات هذا كان موجوداً في مدينة الطائف عند قبيلة ثقيف، وهو من أعظم الأصنام عند العرب، ولم يكسر إلا بعد إسلام ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة.

لقد كسر الرسول عليه الصلاة والسلام كل الأصنام الكبرى التي استطاع أن يكسرها في ذلك الوقت، سواء في داخل مكة أو في المناطق التي حول مكة.

وبذلك كما ذكرنا سقطت كل معنويات قريش، وحطم تماماً كل أمل عندهم للمقاومة.

إذاً: هذه كانت أول خطوة عملها الرسول صلى الله عليه وسلم: تكسير الأصنام في الكعبة وما حولها.

أذان بلال يوم الفتح على سطح الكعبة

الخطوة الثانية كانت هامة جداً، وتضيف معنى مهماً جداً عند قريش في ذلك الوقت؛ ليفقهوا الإسلام على حقيقته، وهي: أن الله عز وجل يعز من انتمى إلى هذا الدين، بصرف النظر عن جنسه وعن لونه وعن قبيلته.. وعن أي شيء، فمن انتمى لهذا الإسلام فهو عزيز ومن لم ينتم إليه فهو ذليل.

رأى المشركون من أهل قريش بعيونهم في ذلك اليوم عندما نادى صلى الله عليه وسلم على بلال رضي الله عنه وأرضاه، وأمره أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن الأذان للصلاة، وهذه هي المرة الثانية التي يفعل فيها الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الفعل، أمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن في الكعبة في عمرة القضاء، والآن يأمر بلالاً أن يقوم بنفس الأمر، ويصعد بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق أشرف بقعة في الأرض، فوق الكعبة البيت الحرام؛ ليرفع الأذان لله عز وجل، الله أكبر، الله أكبر.. إلى آخر الأذان.

و بلال رضي الله عنه وأرضاه عندما كان يعذب في مكة قبل الهجرة كان يقول: أحد، أحد، في ذلك الوقت كان يهمس بها همسات لا يسمعها إلا من يعذبه، أما الآن فهو يصدح بالتكبير في كل أرجاء مكة المكرمة، والجميع مسلمهم ومشركهم يستمع إليه رضي الله عنه وأرضاه.

وهذا الأمر كما ذكرنا كان له أشد الأثر على المشركين، ودليل ذلك ما حدث على سبيل المثال من أبي سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام ، فهؤلاء الثلاثة كانوا قاعدين في فناء الكعبة يستمعون إلى بلال وهو يؤذن، فـأبو سفيان كان قد أعلن إسلامه قبل ذلك بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن عتاب بن أسيد كان أحد الشباب في قريش، فقد كان عمره حوالي (20) سنة ما زال مشركاً، والحارث بن هشام أيضاً كان ما زال مشركاً، والحارث بن هشام هذا هو أخو أبي جهل ، فهو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة، وأحد زعماء بني مخزوم، فقال عتاب معلقاً على أذان بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق الكعبة: أكرم الله أسيداً -أي: والده أسيد - ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً، فقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان : لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى. يعني: أدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نبي، وسوف يصل إليه الأمر عن طريق الوحي.

فجاءهم صلى الله عليه وسلم بعد هذه الكلمات وقال: (قد علمت الذي قلتم، ثم قال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، فقال أبو سفيان : أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً، فضحك صلى الله عليه وسلم، وقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله! ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك).

كذلك بنو سعيد بن العاص لما رأوا بلالاً يؤذن على الكعبة قالوا: لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.

وقال رجل من قريش للحارث بن هشام : ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟ فرد عليه الحارث بن هشام : دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.

أعتقد أن هذا الكلام قاله بعد أن أسلم رضي الله عنه، ولكن كان هذا في بداية إسلامه.

وصار بعض قريش يستهزئ ويقلد صوت بلال غيظاً، فقلده أحد الشباب واسمه أبو محذورة الجمحي ، وأبو محذورة كان عمره (16) سنة، وكان صوته جميلاً جداً، كان من أحسن قريش صوتاً، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئاً سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاكتشف طاقة موجودة عند هذا الشاب، فناداه، فمثل هذا الشاب الصغير بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يظن تمام الظن أنه مقتول؛ لأنه كان يستهزئ بالأذان، فمسح صلى الله عليه وسلم صدر وناصية هذا الشاب بيديه الشريفة، فقال أبو محذورة : فامتلأ قلبي إيماناً ويقيناً، فعلمت أنه رسول الله.

فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن آمن هذا الشاب علمه الأذان، وأصبح هو الذي يؤذن لأهل مكة بعد رحيله صلى الله عليه وسلم، وظل الأذان في أبي محذورة وعقب أبي محذورة بعد موته إلى فترة طويلة من الزمان.

والرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الأذان وضح لقريش أن الله عز وجل يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأن العزة الحقيقية لا تكون إلا بالإسلام، هكذا فهم القرشيون في هذا الموقف العظيم.

إذاً: الفتح تم كما رأينا بحرب عسكرية وحرب سياسية وحرب معنوية، والرسول صلى الله عليه وسلم أتقن كل هذه الحروب بمنتهى الدقة، الحرب عسكرية أعد إعداداً قوياً جداً للجيش، ووضع خطة محكمة فقد أخفى سيره إلى مكة قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دون أن تعلم قريش بوصوله إلا على بعد (22) كيلو متر فقط من مكة المكرمة، وقام بحرب سياسية بارعة، عندما استخدم أبا سفيان لصالح المسلمين في منع القرشيين من المقاومة عند دخول الجيش الإسلامي إلى مكة المكرمة، ثم مارس الحرب المعنوية بكل تفصيلاتها ابتداء من إظهار العدد الضخم للجيش الإسلامي وإشعال النيران، فقد جعل أبا سفيان يرى الجيوش الإسلامية الكثيرة والقبائل المتعددة، كذلك كسر الأصنام وأذان بلال كل ذلك تحطيم لمعنويات القرشيين وإخماد كل مقاومة عندهم.

فهذا إعداد باهر ومتقن وحكيم، ويبرز لنا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين القيادة وبين النبوة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام برغم هذا الإعداد القوي لم يكتف به ليفتح مكة، بل لجأ إلى وسيلة قلما يلجأ إليها زعيم من زعماء الدنيا بشكل عام...

أخلاقه صلى الله عليه وسلم في امتلاك القلوب

الخطوة الثالثة: وسيلة امتلاك القلوب، فالشعب الذي فتح بلده الآن على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون في داخله غيظ كبير جداً من المحتل له، سواء كان هذا المحتل من الشرفاء أو من غير ذلك، وكانت هناك حرب طويلة بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم ما في داخلهم؛ لذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤلف قلوبهم، فماذا فعل؟

نحن رأينا قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام ألف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، وأبو سفيان كما ذكرنا زعيم قبيلة بني أمية، وبنو أمية قبيلة كبيرة في داخل قريش، فهو صلى الله عليه وسلم ألف قلب زعيم أكبر القبائل القرشية في داخل مكة المكرمة.

وهذا موقف ثان رائع منه صلى الله عليه وسلم في تأليف قبيلة ثانية كبيرة، وهذا الموقف عندما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة وصلى فيها، ثم خرج ودعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وعثمان بن طلحة أسلم في أوائل العام الثامن من الهجرة قبل فتح مكة بعدة شهور، أسلم مع عمرو بن العاص ومع خالد بن الوليد ، وعثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية أيضاً وفيها شرف كبير جداً، فهي حاملة مفتاح الكعبة أباً عن جد لعشرات السنين قبل ذلك.

فالرسول عليه الصلاة والسلام دعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، فظن الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيأخذ منهم مفتاح الكعبة؛ ليعطيه لأحد أقاربه ليعطيه شخصاً من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه طلب ذلك صراحة، طلب أن يضم مفتاح الكعبة إلى شرف بني هاشم من السقاية والحجابة، فيكون عندهم مفتاح الكعبة، فيكون ذلك شرف الدهر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ المفتاح ووضعه في يد عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الكلام في منتهى العظمة والحكمة، وحتى تعرف مدى العظمة والحكمة راجع موقفاً من المواقف التي مرت قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل أن يهاجر، ويومها كان عثمان بن طلحة هذا من الكفار، وكان قد دار بينه وبين عثمان بن طلحة حوار وطلب منه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، لكن عثمان بن طلحة في ذلك الوقت رفض، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت فقال عثمان : لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذ)، ومرت الأيام وجاء الرسول عليه الصلاة والسلام فاتحاً مكة المكرمة وطلب المفتاح، وعثمان بن طلحة دون تردد أتى بالمفتاح، فهو الآن أصبح من الصحابة المؤمنين البررة، فأتى بالمفتاح ووضعه في يد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يظن أن الأمر سيصير إلى ما قاله صلى الله عليه وسلم، وسيعطي المفتاح إلى إنسان غيره، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع المفتاح مرة ثانية في يد عثمان بن طلحة ، وقال: (هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم).

وظل مفتاح الكعبة مع بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار بكلمة الرسول عليه الصلاة والسلام: (خذوها خالدة تالدة).

إذاً: هذا الموقف من أروع المواقف التي استطاع بها الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكسب قلوب بني عبد الدار جميعاً، فبنو عبد الدار رأت أن الرسول عليه الصلاة والسلام أنزل الناس منازلهم حين أبقى لهم على الفخر الذي كان لهم.

وبذلك استطاع صلى الله عليه وسلم أن يسيطر على الموقف إلى درجة كبيرة في داخل مكة المكرمة.

وقبل ذلك كسب قلوب بني أمية، والآن يكسب قلوب بني عبد الدار.

لقد كان صلى الله عليه وسلم يسير بخطة محكمة، فقد فعل صلى الله عليه وسلم أمراً من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول حاربت دولة أخرى ولو يوماً واحداً لا عدة سنوات سابقة، لقد وقف الرسول عليه الصلاة والسلام في صحن الكعبة في يوم فتح مكة ودعا أهل مكة جميعاً أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعاً، وقد كان موقفهم في منتهى الحرج، بعد صراع طويل جداً وإيذاء للرسول عليه الصلاة والسلام، ومصادرة للأموال وللديار، وقتل لبعض الأصحاب، وجلد وتعذيب للبعض الآخر.. وكذا وكذا من الأمور التي نعلمها، وفصلنا فيها كثيراً في الفترة المكية، وفي الحروب المتتالية بين المسلمين وبين المشركين، بعد كل هذا التاريخ الطويل من العناء مع أهل مكة يسألهم صلى الله عليه وسلم سؤالاً واحداً فيقول: (ما تظنون أني فاعل بكم؟)، يعني: ماذا سيكون رد فعلي معكم بسبب ما فعلتموه معي ومع أصحابي من إيذاء في كل هذه السنوات المتتالية؟ من المفترض أن يأخذ كل هذا الشعب أسرى وسبايا وغنائم؛ لأن هذا فتح عسكري، دخل صلى الله عليه وسلم بالقوة إلى مكة المكرمة، أحاطها بعشرة آلاف مقاتل، فكونه يأخذهم سبايا وأسرى هذا مقبول جداً في عرف العرب، وفي عرف العالم أجمع، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان واضح الرؤية، فهو لم يدخل مكة ليهلك أهلها، ولم يفتح بلداً من البلاد لا مكة ولا غيرها ليهلك أهلها، بل كان دائماً حريصاً على إسلامهم، وإسلام رجل واحد كان أحب إليه من أموال الدنيا جميعاً.

وقد عرف الرسول عليه الصلاة والسلام عرف أن قوى أهل مكة خارت، حين رأوا أصنامهم قد كسرت، وأصبح صلى الله عليه وسلم يؤمل كثيراً جداً في إسلامهم، فقد أصبحوا على مقربة من الإسلام، لم يبق إلا أن يقولوا الشهادة، لذلك قال لهم صلى الله عليه وسلم متلطفاً بهم: (ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم)، يعني: هم الآن في موقف وأزمة شديدة، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم لم يقل لهم: أنتم تعرفون هذه العلاقة التي بيني وبينكم من قبل، وتعرفون أنني أشرف العرب نسباً وأشرف قريش نسباً، وأنني الصادق الأمين، وكل ذلك أنكرتموه بعد أن نزلت علي الرسالة، لم يقل كل ذلك ولم يعنفهم، بل قال في منتهى الرحمة والعفو: (أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فأطلقهم جميعاً من غير فداء، مع أنه كان بإمكانه أن يأخذهم كلهم أسارى، والدولة الإسلامية في مرحلة النشء تحتاج إلى أموال وتحتاج إلى طاقات، ومع ذلك قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، لماذا أطلقهم؛ لأن هذا أدعى لإسلامهم وإسلامهم، أحب إليه -كما ذكرنا- من أموال الدنيا جميعاً.

وبالفعل بعد هذا الإطلاق العظيم اجتمع شعب مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا وأخذوا يبايعونه جميعاً على الإسلام إلا القليل، فمعظم شعب مكة في ذلك اليوم أعلنوا إسلامهم، وانتهت أحزان الرسول صلى الله عليه وسلم التي أخبر سبحانه عنها بقوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزن حزناً شديداً على رجل واحد لم يسلم، فتصور مدى فرحته ومدى سعادته عندما أسلم شعب مكة جميعاً في يوم واحد.

هذا نصر مهيب وفتح من رب العباد سبحانه وتعالى، كما سماه ربنا في كتابه الكريم: نصر الله، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، وحتى تتصوروا مدى فرحة الرسول عليه الصلاة والسلام فأريدكم أن تعودوا بأذهانكم سنوات وسنوات؛ لتتذكروا يوم أن وقف صلى الله عليه وسلم في نفس المكان على الصفا يدعو أهل مكة إلى الإسلام فلم يجبه منهم أحد، يقول لهم صلى الله عليه وسلم: (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، وإنها لجنة أبداً، أو نار أبداً)، فلم يقتنع أحد من أهل مكة طيلة هذه السنوات الكثيرة إلا القليل، وخرج صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة بعد (13) سنة مستمرة من الدعوة، وخرج معه حوالي (160) أو (170) صحابياً من شعب مكة بكامله، وبعد مرور هذه السنوات الطويلة يسلم شعب مكة بكاملهم في يوم واحد، أي نصر؟ وأي عزة؟ وأي سيادة للإسلام؟ نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين.

أول ما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة أمر بتكسير الأصنام التي حولها داخلها، فقد كان حول الكعبة (360) صنماً غير هبل أعظم آلهتهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين بتكسير كل هذه الأصنام وشاركهم في ذلك.

وهذا الأمر كان بعد صبر دام (21) سنة كاملة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة مدة (13) سنة متتالية. أي: الفترة المكية، ولم يفكر مرة واحدة في كسر صنم واحد، وطاف في عمرة القضاء قبل الفتح بعام واحد ولم يفكر لحظة واحدة في كسر صنم واحد من هذه الأصنام، وهذه المفارقة وهذه المقارنة بين الموقفين تحتاج منا إلى وقفة.

بعد صبر (21) سنة الآن لا يصبر عليه الصلاة والسلام لحظة واحدة، فهو لم يقم الصلاة ولم يكلم الناس ولم يعمل أي شيء قبل أن يكسر الأصنام ويأمر بذلك.

عندما نأتي لندرس سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام لابد أن نأخذ اهتماماً خاصاً بالأعمال التي قام بها صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه إذا بدأ بشيء ما فهذا الأمر مقصود، فكل خطوة من خطواته صلى الله عليه وسلم متابعة بالوحي، وفيها رعاية كاملة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهي تشريع للمسلمين، فالرسول عليه الصلاة والسلام يوم الفتح لا يصبر دقائق على وجود صنم يعبد من دون الله عز وجل، هذا ما أسميه بـ: فقه الموازنات، وفقه الواقع، وفقه دفع أكبر الضررين، وجلب أكبر المنفعتين، لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام كسر هذه الأصنام في فترة مكة المكرمة لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاستئصل المسلمون بكاملهم من مكة المكرمة.

أما الآن وبعد أن صار صلى الله عليه وسلم حاكماً لمكة المكرمة، بل ولأجزاء كبيرة جداً من الجزيرة العربية، وصار في هذه القوة فإنه لا يصبر على وجود مثل هذا المنكر الشنيع من صنم يعبد من دون الله عز وجل، فكسر كل الأصنام، وكسرها وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً).

بالإضافة إلى كونه لا يرضى عن وجود هذا المنكر، فتكسيره للأصنام كان خطوة سياسية في منتهى الروعة؛ لأن هذه الخطوة كسرت تماماً كل معنويات أهل مكة، وهذه الأصنام ظلت تعبد من دون الله لا أقول عشرات السنين بل مئات السنين في داخل مكة المكرمة، أجيال وراءها أجيال تعبد هذه الأصنام، فهاهي الآن تكسر هذه الأصنام، وكل مشرك كان يعتقد في داخله أن هذه الأصنام ستصيبه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضرر أو بسوء؛ لأنهم فعلوا معها ذلك، ومع ذلك لم يحدث له شيء، وكذلك الجيش الإسلامي بكامله لم يحدث له شيء، فظهرت الحقيقة واضحة أمام أعين المشركين من أنهم كانوا في ضلال مبين كل هذه السنوات السابقة.

إذاً: هذه خطوة رائعة وهامة جداً لكسر معنويات كفار قريش، فبعد هذا التكسير لهذه الأصنام خارت قواهم تماماً وفقدوا كل أمل في المقاومة، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بتكسير الأصنام في مكة المكرمة، بل حرص صلى الله عليه وسلم على تكسير الأصنام في كل المناطق المحيطة بمكة المكرمة، فأرسل صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لكسر العزى، وهي من أكبر الآلهة التي كانت تعبد من دون الله عز وجل، فذهب خالد بسرية وكسر هذا الصنم الضخم صنم العزى.

وأرسل سرية بقيادة سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه لكسر صنم مناة وهو من أشهر أصنام العرب.

وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص لهدم صنم سواع، وصنم سواع من الأصنام المشهورة عند العرب أيضاً.

إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه كسر هبل في صحن الكعبة، وأرسل خالد بن الوليد لكسر العزى، وسعيد بن زيد لكسر مناة، وعمرو بن العاص لكسر سواع، لكن بقي صنم مشهور جداً من أصنام العرب وهو صنم اللات، وصنم اللات هذا كان موجوداً في مدينة الطائف عند قبيلة ثقيف، وهو من أعظم الأصنام عند العرب، ولم يكسر إلا بعد إسلام ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة.

لقد كسر الرسول عليه الصلاة والسلام كل الأصنام الكبرى التي استطاع أن يكسرها في ذلك الوقت، سواء في داخل مكة أو في المناطق التي حول مكة.

وبذلك كما ذكرنا سقطت كل معنويات قريش، وحطم تماماً كل أمل عندهم للمقاومة.

إذاً: هذه كانت أول خطوة عملها الرسول صلى الله عليه وسلم: تكسير الأصنام في الكعبة وما حولها.

الخطوة الثانية كانت هامة جداً، وتضيف معنى مهماً جداً عند قريش في ذلك الوقت؛ ليفقهوا الإسلام على حقيقته، وهي: أن الله عز وجل يعز من انتمى إلى هذا الدين، بصرف النظر عن جنسه وعن لونه وعن قبيلته.. وعن أي شيء، فمن انتمى لهذا الإسلام فهو عزيز ومن لم ينتم إليه فهو ذليل.

رأى المشركون من أهل قريش بعيونهم في ذلك اليوم عندما نادى صلى الله عليه وسلم على بلال رضي الله عنه وأرضاه، وأمره أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن الأذان للصلاة، وهذه هي المرة الثانية التي يفعل فيها الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الفعل، أمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن في الكعبة في عمرة القضاء، والآن يأمر بلالاً أن يقوم بنفس الأمر، ويصعد بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق أشرف بقعة في الأرض، فوق الكعبة البيت الحرام؛ ليرفع الأذان لله عز وجل، الله أكبر، الله أكبر.. إلى آخر الأذان.

و بلال رضي الله عنه وأرضاه عندما كان يعذب في مكة قبل الهجرة كان يقول: أحد، أحد، في ذلك الوقت كان يهمس بها همسات لا يسمعها إلا من يعذبه، أما الآن فهو يصدح بالتكبير في كل أرجاء مكة المكرمة، والجميع مسلمهم ومشركهم يستمع إليه رضي الله عنه وأرضاه.

وهذا الأمر كما ذكرنا كان له أشد الأثر على المشركين، ودليل ذلك ما حدث على سبيل المثال من أبي سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام ، فهؤلاء الثلاثة كانوا قاعدين في فناء الكعبة يستمعون إلى بلال وهو يؤذن، فـأبو سفيان كان قد أعلن إسلامه قبل ذلك بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن عتاب بن أسيد كان أحد الشباب في قريش، فقد كان عمره حوالي (20) سنة ما زال مشركاً، والحارث بن هشام أيضاً كان ما زال مشركاً، والحارث بن هشام هذا هو أخو أبي جهل ، فهو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة، وأحد زعماء بني مخزوم، فقال عتاب معلقاً على أذان بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق الكعبة: أكرم الله أسيداً -أي: والده أسيد - ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً، فقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان : لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى. يعني: أدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نبي، وسوف يصل إليه الأمر عن طريق الوحي.

فجاءهم صلى الله عليه وسلم بعد هذه الكلمات وقال: (قد علمت الذي قلتم، ثم قال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، فقال أبو سفيان : أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً، فضحك صلى الله عليه وسلم، وقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله! ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك).

كذلك بنو سعيد بن العاص لما رأوا بلالاً يؤذن على الكعبة قالوا: لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.

وقال رجل من قريش للحارث بن هشام : ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟ فرد عليه الحارث بن هشام : دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.

أعتقد أن هذا الكلام قاله بعد أن أسلم رضي الله عنه، ولكن كان هذا في بداية إسلامه.

وصار بعض قريش يستهزئ ويقلد صوت بلال غيظاً، فقلده أحد الشباب واسمه أبو محذورة الجمحي ، وأبو محذورة كان عمره (16) سنة، وكان صوته جميلاً جداً، كان من أحسن قريش صوتاً، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئاً سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاكتشف طاقة موجودة عند هذا الشاب، فناداه، فمثل هذا الشاب الصغير بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يظن تمام الظن أنه مقتول؛ لأنه كان يستهزئ بالأذان، فمسح صلى الله عليه وسلم صدر وناصية هذا الشاب بيديه الشريفة، فقال أبو محذورة : فامتلأ قلبي إيماناً ويقيناً، فعلمت أنه رسول الله.

فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن آمن هذا الشاب علمه الأذان، وأصبح هو الذي يؤذن لأهل مكة بعد رحيله صلى الله عليه وسلم، وظل الأذان في أبي محذورة وعقب أبي محذورة بعد موته إلى فترة طويلة من الزمان.

والرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الأذان وضح لقريش أن الله عز وجل يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأن العزة الحقيقية لا تكون إلا بالإسلام، هكذا فهم القرشيون في هذا الموقف العظيم.

إذاً: الفتح تم كما رأينا بحرب عسكرية وحرب سياسية وحرب معنوية، والرسول صلى الله عليه وسلم أتقن كل هذه الحروب بمنتهى الدقة، الحرب عسكرية أعد إعداداً قوياً جداً للجيش، ووضع خطة محكمة فقد أخفى سيره إلى مكة قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دون أن تعلم قريش بوصوله إلا على بعد (22) كيلو متر فقط من مكة المكرمة، وقام بحرب سياسية بارعة، عندما استخدم أبا سفيان لصالح المسلمين في منع القرشيين من المقاومة عند دخول الجيش الإسلامي إلى مكة المكرمة، ثم مارس الحرب المعنوية بكل تفصيلاتها ابتداء من إظهار العدد الضخم للجيش الإسلامي وإشعال النيران، فقد جعل أبا سفيان يرى الجيوش الإسلامية الكثيرة والقبائل المتعددة، كذلك كسر الأصنام وأذان بلال كل ذلك تحطيم لمعنويات القرشيين وإخماد كل مقاومة عندهم.

فهذا إعداد باهر ومتقن وحكيم، ويبرز لنا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين القيادة وبين النبوة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام برغم هذا الإعداد القوي لم يكتف به ليفتح مكة، بل لجأ إلى وسيلة قلما يلجأ إليها زعيم من زعماء الدنيا بشكل عام...

الخطوة الثالثة: وسيلة امتلاك القلوب، فالشعب الذي فتح بلده الآن على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون في داخله غيظ كبير جداً من المحتل له، سواء كان هذا المحتل من الشرفاء أو من غير ذلك، وكانت هناك حرب طويلة بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم ما في داخلهم؛ لذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤلف قلوبهم، فماذا فعل؟

نحن رأينا قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام ألف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، وأبو سفيان كما ذكرنا زعيم قبيلة بني أمية، وبنو أمية قبيلة كبيرة في داخل قريش، فهو صلى الله عليه وسلم ألف قلب زعيم أكبر القبائل القرشية في داخل مكة المكرمة.

وهذا موقف ثان رائع منه صلى الله عليه وسلم في تأليف قبيلة ثانية كبيرة، وهذا الموقف عندما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة وصلى فيها، ثم خرج ودعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وعثمان بن طلحة أسلم في أوائل العام الثامن من الهجرة قبل فتح مكة بعدة شهور، أسلم مع عمرو بن العاص ومع خالد بن الوليد ، وعثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية أيضاً وفيها شرف كبير جداً، فهي حاملة مفتاح الكعبة أباً عن جد لعشرات السنين قبل ذلك.

فالرسول عليه الصلاة والسلام دعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، فظن الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيأخذ منهم مفتاح الكعبة؛ ليعطيه لأحد أقاربه ليعطيه شخصاً من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه طلب ذلك صراحة، طلب أن يضم مفتاح الكعبة إلى شرف بني هاشم من السقاية والحجابة، فيكون عندهم مفتاح الكعبة، فيكون ذلك شرف الدهر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ المفتاح ووضعه في يد عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الكلام في منتهى العظمة والحكمة، وحتى تعرف مدى العظمة والحكمة راجع موقفاً من المواقف التي مرت قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل أن يهاجر، ويومها كان عثمان بن طلحة هذا من الكفار، وكان قد دار بينه وبين عثمان بن طلحة حوار وطلب منه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، لكن عثمان بن طلحة في ذلك الوقت رفض، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت فقال عثمان : لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذ)، ومرت الأيام وجاء الرسول عليه الصلاة والسلام فاتحاً مكة المكرمة وطلب المفتاح، وعثمان بن طلحة دون تردد أتى بالمفتاح، فهو الآن أصبح من الصحابة المؤمنين البررة، فأتى بالمفتاح ووضعه في يد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يظن أن الأمر سيصير إلى ما قاله صلى الله عليه وسلم، وسيعطي المفتاح إلى إنسان غيره، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع المفتاح مرة ثانية في يد عثمان بن طلحة ، وقال: (هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم).

وظل مفتاح الكعبة مع بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار بكلمة الرسول عليه الصلاة والسلام: (خذوها خالدة تالدة).

إذاً: هذا الموقف من أروع المواقف التي استطاع بها الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكسب قلوب بني عبد الدار جميعاً، فبنو عبد الدار رأت أن الرسول عليه الصلاة والسلام أنزل الناس منازلهم حين أبقى لهم على الفخر الذي كان لهم.

وبذلك استطاع صلى الله عليه وسلم أن يسيطر على الموقف إلى درجة كبيرة في داخل مكة المكرمة.

وقبل ذلك كسب قلوب بني أمية، والآن يكسب قلوب بني عبد الدار.

لقد كان صلى الله عليه وسلم يسير بخطة محكمة، فقد فعل صلى الله عليه وسلم أمراً من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول حاربت دولة أخرى ولو يوماً واحداً لا عدة سنوات سابقة، لقد وقف الرسول عليه الصلاة والسلام في صحن الكعبة في يوم فتح مكة ودعا أهل مكة جميعاً أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعاً، وقد كان موقفهم في منتهى الحرج، بعد صراع طويل جداً وإيذاء للرسول عليه الصلاة والسلام، ومصادرة للأموال وللديار، وقتل لبعض الأصحاب، وجلد وتعذيب للبعض الآخر.. وكذا وكذا من الأمور التي نعلمها، وفصلنا فيها كثيراً في الفترة المكية، وفي الحروب المتتالية بين المسلمين وبين المشركين، بعد كل هذا التاريخ الطويل من العناء مع أهل مكة يسألهم صلى الله عليه وسلم سؤالاً واحداً فيقول: (ما تظنون أني فاعل بكم؟)، يعني: ماذا سيكون رد فعلي معكم بسبب ما فعلتموه معي ومع أصحابي من إيذاء في كل هذه السنوات المتتالية؟ من المفترض أن يأخذ كل هذا الشعب أسرى وسبايا وغنائم؛ لأن هذا فتح عسكري، دخل صلى الله عليه وسلم بالقوة إلى مكة المكرمة، أحاطها بعشرة آلاف مقاتل، فكونه يأخذهم سبايا وأسرى هذا مقبول جداً في عرف العرب، وفي عرف العالم أجمع، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان واضح الرؤية، فهو لم يدخل مكة ليهلك أهلها، ولم يفتح بلداً من البلاد لا مكة ولا غيرها ليهلك أهلها، بل كان دائماً حريصاً على إسلامهم، وإسلام رجل واحد كان أحب إليه من أموال الدنيا جميعاً.

وقد عرف الرسول عليه الصلاة والسلام عرف أن قوى أهل مكة خارت، حين رأوا أصنامهم قد كسرت، وأصبح صلى الله عليه وسلم يؤمل كثيراً جداً في إسلامهم، فقد أصبحوا على مقربة من الإسلام، لم يبق إلا أن يقولوا الشهادة، لذلك قال لهم صلى الله عليه وسلم متلطفاً بهم: (ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم)، يعني: هم الآن في موقف وأزمة شديدة، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم لم يقل لهم: أنتم تعرفون هذه العلاقة التي بيني وبينكم من قبل، وتعرفون أنني أشرف العرب نسباً وأشرف قريش نسباً، وأنني الصادق الأمين، وكل ذلك أنكرتموه بعد أن نزلت علي الرسالة، لم يقل كل ذلك ولم يعنفهم، بل قال في منتهى الرحمة والعفو: (أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فأطلقهم جميعاً من غير فداء، مع أنه كان بإمكانه أن يأخذهم كلهم أسارى، والدولة الإسلامية في مرحلة النشء تحتاج إلى أموال وتحتاج إلى طاقات، ومع ذلك قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، لماذا أطلقهم؛ لأن هذا أدعى لإسلامهم وإسلامهم، أحب إليه -كما ذكرنا- من أموال الدنيا جميعاً.

وبالفعل بعد هذا الإطلاق العظيم اجتمع شعب مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا وأخذوا يبايعونه جميعاً على الإسلام إلا القليل، فمعظم شعب مكة في ذلك اليوم أعلنوا إسلامهم، وانتهت أحزان الرسول صلى الله عليه وسلم التي أخبر سبحانه عنها بقوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزن حزناً شديداً على رجل واحد لم يسلم، فتصور مدى فرحته ومدى سعادته عندما أسلم شعب مكة جميعاً في يوم واحد.

هذا نصر مهيب وفتح من رب العباد سبحانه وتعالى، كما سماه ربنا في كتابه الكريم: نصر الله، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، وحتى تتصوروا مدى فرحة الرسول عليه الصلاة والسلام فأريدكم أن تعودوا بأذهانكم سنوات وسنوات؛ لتتذكروا يوم أن وقف صلى الله عليه وسلم في نفس المكان على الصفا يدعو أهل مكة إلى الإسلام فلم يجبه منهم أحد، يقول لهم صلى الله عليه وسلم: (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، وإنها لجنة أبداً، أو نار أبداً)، فلم يقتنع أحد من أهل مكة طيلة هذه السنوات الكثيرة إلا القليل، وخرج صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة بعد (13) سنة مستمرة من الدعوة، وخرج معه حوالي (160) أو (170) صحابياً من شعب مكة بكامله، وبعد مرور هذه السنوات الطويلة يسلم شعب مكة بكاملهم في يوم واحد، أي نصر؟ وأي عزة؟ وأي سيادة للإسلام؟ نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين.