شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - تكملة ماسبق في صلاة الضحى


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

على كل حال ننتقل إلى مسألة الأحكام، عندنا حكمان رئيسان أو ثلاثة أحكام وعدت بها.

الأول منها: المتعلق بالوقت, والمعروف عند الفقهاء -وهذا الذي اطلعت عليه في سائر المصادر- أن وقت صلاة الضحى يبدأ من ارتفاع الشمس قدر رمح، وهو الوقت الذي ينتهي فيه النهي، ويستمر إلى قبيل الزوال، وهذا هو الذي نص عليه كافة الفقهاء، وليس في حقيقة هذا الوقت اختلاف يذكر, فلا داعي للإطالة بذلك وترديد النقل فيه.

المسألة الثانية: مسألة حكم صلاة الضحى, وهي من المسائل المهمة, وقد اختلف العلماء في حكم صلاة الضحى بحسب الأدلة الواردة, وانقسموا إلى أربع طوائف.

القول الأول: عدم مشروعية صلاة الضحى

الطائفة الأولى: ذهبوا إلى أن صلاة الضحى غير مشروعة, وأن الراجح تركها, وهذا منقول عن جماعة من الصحابة, منهم ابن عمر رضي الله عنه وهو مشهور عنه، وابن مسعود كذلك، ونقله غير واحد عن عبد الرحمن بن عوف، وأنس بن مالك، وأبي بكرة , وهو مذهب جماعة من السلف: أن صلاة الضحى غير مشروعة, بل صرح بعضهم ببدعيتها، كما نقل عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه رأى الناس يفعلونها, فقال: بدعة، كما سوف يأتي، واستدل هؤلاء بأدلة كثيرة, منها أدلة سبقت.

حديث عائشة رضي الله عنها : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط )؛ فقالوا: هذا دليل على عدم مشروعيتها؛ لعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها, والحديث متفق عليه كما سبق, ودلالته على المطلوب ظاهرة.

الدليل الثاني: هو عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه, فقد روى البخاري وغيره عن مورق العجلي أنه قال: ( سألت عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فقلت له : تصلي الضحى ؟ قال: لا، قلت: وعمر ؟ قال : لا، قلت: وأبو بكر . قال: لا، قلت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إخاله -أي: لا أظنه- يصليها ), فهذا أيضاً دليل لمن قال بعدم مشروعية صلاة الضحى؛ لأن ابن عمر والخليفتين الراشدين لم يكونا يصليانها, وكذلك ابن عمر ذهب ظنه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليها.

وقد جاء أيضاً فيما يتعلق بـعبد الله بن عمر، جاءت أحاديث, منها: ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند يقول عنه الحافظ ابن حجر في الفتح : إنه سند صحيح، عن مجاهد بن جبر المكي التابعي رحمه الله، قال: (دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، والناس يصلون الضحى, وابن عمر جالس إلى حجرة عائشة رضي الله عنها -أو جالس عند حجرة عائشة رضي الله عنها-، فقلت له: ما ترى في صلاتهم؟ قال: بدعة).

وكذلك روى عبد الرزاق في مصنفه أيضاً بسند لا بأس به عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (لقد قتل عثمان رضي الله عنه وما كان أحد يسبحها (يعني: يصليها) -يعني بذلك: سبحة الضحى-، وما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها). هذا كلام ابن عمر .

وكذلك روى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: (ما صليت الضحى قط منذ أسلمت، إلا أن أطوف بالبيت فأصلي يعني: ركعتي الطواف)، وفي رواية عنه: (أنه سئل عن صلاة الضحى؟ قال: وللضحى صلاة؟) قال ذلك مستنكراً.

فمجموع هذه الآثار عن ابن عمر تدل على أنه كان لا يرى صلاة الضحى كما أسلفت عنه, ويصرح أحياناً أنه بدعة, وإن كان يقول: (نعمت البدعة هذه) في بعض الآثار عنه أيضاً, وينفي أن يكون فعلها أبو بكر وعمر, ويستبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها.

ومن الأدلة على عدم استحباب صلاة الضحى: ما رواه الحاكم عن عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قال : ( رأى أبوه - أبو بكرة رضي الله عنه- ناساً يصلون الضحى؛ فقال: إنكم لتصلون صلاة ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها، ولا عامة أصحابه ). فدل ذلك أيضاً على أنها لم تكن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم.

فمجمل هذه الأدلة يدل أولاً: على أن هذا مذهب من ذكر, كـأبي بكرة وابن عمر , وقد جاء عن أنس وعبد الرحمن بن عوف ومن ذكرت أحاديث مشابهة تدل على ذلك.

ويرشد ثانياً: إلى الأدلة التي تمسكوا بها في هذا, وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعلها, وهذا معظم ما تمسكوا به.

القول الثاني: مشروعية صلاة الضحى واستحبابها مطلقاً

القول الثاني والطائفة الثانية: ذهبوا إلى أن صلاة الضحى مستحبة مطلقاً, يستحب للإنسان أن يصليها, وأن يحافظ عليها أبداً, وهو مذهب جمهور السلف كما حكاه غير واحد.

قال النووي: وبه قال عامة الفقهاء المتأخرين.

وهو رواية في مذهب الحنابلة, اختارها منهم جماعة، كـأبي الوفاء بن عقيل وأبي الخطاب والآجري .. وغيرهم كما ذكر ابن قدامة في المغني, وذكره صاحب المبدع وغيرهم, وهو أيضاً قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين، كما سوف يظهر من خلال سرد أدلتهم.

أدلتهم كثيرة، أولها: هناك دليل من قبل ما تعرفون من القرآن الكريم, فقد ذكر ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه استدل على مشروعية صلاة الضحى بالقرآن، فهل تعرفون منزعه في ذلك من القرآن؟

قوله عز وجل: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:36-37].. إلى آخر الآيات. قال ابن عباس رضي الله عنه: [ وقد سئل عن صلاة الضحى؟ قال: إنها لفي كتاب الله, ولا يغوص عليها إلا غواص، ثم ذكر هذه الآية: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] ].

والغدو: أول النهار. يقال: غدا إذا ذهب أول النهار بعد طلوع الشمس، ويقال: راح إذا ذهب آخر الوقت. فهذا دليل من القرآن الكريم.

الدليل الثاني: من السنة النبوية، والأدلة من السنة النبوية كثيرة؛ حتى قال محمد بن جرير الطبري رحمه الله: إن الأدلة على مشروعية صلاة الضحى بلغت مبلغ التواتر, ونقل ذلك غير واحد من المصنفين, نذكر شيئاً منها كيفما اتفق.

( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله ) والحديث سبق, ودلالته على مشروعية صلاة الضحى ظاهرة, فقد أثبتت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربع ركعات, ويزيد على الأربع ما شاء الله تعالى له أن يزيد.

فهو دليل على فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها, بل محافظته عليها.

الدليل الثاني: حديث أنس رضي الله عنه: ( من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة ), والحديث سبق أن ذكرت ضعفه.

الثالث: حديث زيد بن أرقم : ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ), وهو في صحيح مسلم , وهو دليل على أن صلاة الضحى مشروعة، وهي صلاة الأوابين، وأن أفضل وقتها حين تشتد الشمس.

الدليل الرابع: حديث أم هانئ الذي رواه الجماعة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة أتى إلى بيتها فاغتسل, ثم صلى ثماني ركعات, وذلك ضحى )؛ فقد استدلوا على مشروعية صلاة الضحى, وقالوا: تلك الركعات هي صلاة الضحى، وهكذا بوب عليه الأئمة في كتب الحديث, باب استحباب صلاة الضحى. هذا من الأدلة.

أيضاً منها: قول أبي هريرة رضي الله عنه: ( أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، وذكر منها رضي الله عنه: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام ). وهذا الحديث جاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم, منهم أبو هريرة , وحديثه في مسلم كما أسلفنا، وفيه دليل على استحباب صلاة الضحى، واستحباب المحافظة عليها، ويزيد على كل الأحاديث السابقة، أنه قول من النبي صلى الله عليه وسلم ووصية، والقول مقدم على الفعل عند التعارض.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه.. ذكر تخريجه مسلم والبخاري، وله شواهد:

منها: حديث أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بذلك، وحديث أبي ذر عند أحمد والنسائي وغيرهما .. وسنده جيد.

ومنها أيضاً: حديث أبي الدرداء : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بهذه الثلاث, وحديث أبي الدرداء هو الذي تفرد به مسلم في صحيحه.

فكل هذه الأحاديث الثلاثة تدل على مشروعية صلاة الضحى واستحبابها. إن شئت عدها ثلاثة أدلة, وإن شئت عدها دليلاً واحداً؛ لأن المتن متقارب.

ومن الأدلة أيضاً على استحباب صلاة الضحى حديث قدسي, جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله تعالى: يا ابن آدم! صل لي أربع ركعات أول النهار، أكفك آخره ), وهذا الحديث سوف يأتي الكلام عنه إن شاء الله في مناسبة, لكن لا مانع أن يقيد الآن.

ومن الأدلة أيضاً على الاستحباب: حديث: ( يصبح على كل سُلامى أحدكم صدقة ), وهذا الحديث جاء من طرق, إحدى هذه الطرق عن بريدة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، وعلى كل مفصل منها صدقة. قالوا: من يطيق ذلك يا رسول الله؟! قال: أمر بمعروف، ونهي عن المنكر, والشيء تنحيه عن الطريق, والنخاعة تدفنها في المسجد -يعني: النخامة-، فإن لم تقدر فركعتي الضحى تجزئ عنك ), وحديث بريدة رواه أبو داود وابن حبان وغيرهما، وقال ابن حبان رحمه الله تعالى عقب روايته. قال: هذه السنة تفرد بها أهل البصرة وأهل مرو. يعني: حجة أهل مرو: حديث بريدة رضي الله عنه, أما حديث أهل البصرة فهو حديث أبي ذر , وهو أقوى من هذا الحديث, إذ قد رواه مسلم في صحيحه, وهو بمعنى الحديث السابق: ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة, وكل تكبيرة صدقة, وكل تحميدة صدقة, وكل تهليلة صدقة, وأمر بالمعروف صدقة, ونهي عن المنكر صدقة, ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ), وهذان الحديثان أيضاً: حديث بريدة، وحديث أبي ذر، إن شئت عدهما دليلاً واحداً؛ لاتفاق المتن، وإن شئت عدهما حديثين.

قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى: هذا الحديث أبلغ شيء في فضل صلاة الضحى؛ وذلك لأنه جعل صلاة الضحى، كما تقوم مقام ثلاثمائة وستين صدقة يتصدق الإنسان بها عن نفسه.

ومن الأدلة أيضاً على مشروعية صلاة الضحى: ما رواه أحمد في مسنده, ورواه أهل السنن من حديث نعيم بن همار في قوله صلى الله عليه وسلم: ( فيما يرويه عن ربه عز وجل: ابن آدم! صل لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره ) وهذا الحديث سنده صحيح، بل له شاهد عن أبي ذر وأبي الدرداء رضي الله عنهما شاهدان، ولكن قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذه الركعات عندي هما ركعتا الفجر وصلاة الفجر. فحمل الإمام ابن تيمية رحمه الله هذا الحديث على أن المقصود: سنة الفجر الراتبة, وصلاة الفجر المفروضة، وأكثر أهل العلم حملوه أيضاً على أن المقصود به صلاة الضحى, واستدلوا به على استحبابها.

وبالجملة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الضحى، من طريق جماعة كثيرة من الصحابة, منهم من سبق, كما ذكرناه فيما سبق عن عائشة، وعن أم هانئ رضي الله عنهما، ومنهم أيضاً أنس بن مالك وجبير بن مطعم، وجابر بن عبد الله وأم سلمة وعلي بن أبي طالب , وقال الحاكم رحمه الله تعالى: وفي الباب- وهذا يحتمل قوله: (وفي الباب) أنه يعني: في فضل صلاة الضحى- ويحتمل المعنى في الباب أنهم نقلوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الضحى.

قال: وفي الباب عن أبي سعيد وأبي ذر، وزيد بن أرقم، وأبي هريرة، وبريدة الأسلمي، وأبي الدرداء، وعبدالله بن أبي أوفى، وعتبان -بكسر العين- ابن مالك، وأنس بن مالك، وعتبة بن عبد الله السلمي، ونعيم بن همار الغطفاني، وأبي أمامة الباهلي رضي الله عنهم.

قال: ومن النساء: عائشة وأم هانئ وأم سلمة . ثم قال: كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها.

والظاهر -والله تعالى أعلم- أن من سبق منهم من شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها, ومنهم من نقل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها, كما هو ظاهر في حديث نعيم بن همار .. وغيره، ولكن قوله في الأخير: (كلهم شهدوا) يوهم ما سبق.

أجوبة القائلين بمشروعية صلاة الضحى عن أدلة القائلين بعدم مشروعيتها

فهذه بعض الأدلة على استحباب صلاة الضحى, وقد أجاب هؤلاء عن أدلة الأولين، الذين قالوا بعدم الاستحباب، أجابوا بأجوبة كثيرة، أذكرها على سبيل الإيجاز والاختصار؛ لئلا يطول الأمر بنا.

فمن أقوى ما أجابوا به عن ذلك: أنهم قالوا بترجيح الفعل على الترك, فإن هؤلاء الذين ذكرنا نقلوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الضحى؛ حتى عائشة رضي الله عنها التي قالت: ( ما كان يصليها قط ) هي نفسها نقلت بإسناد صحيح: ( أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله ) ؛ فقال هؤلاء: يرجح من روى الفعل على من روى الترك؛ لأن أحاديث الفعل مثبتة, وأحاديث الترك نافية، والمثبت مقدم على النافي؛ لأن معه زيادة علم كما يقول أهل الأصول , ولا يبعد أن تخفى هذه الزيادة على من نفاها, وقد يجوز أن يذهب مثل هذا العلم على بعض الصحابة, ويوجد عند آخرين، ولو كانوا قلة.

إذاً: الجواب الأول: أن يقدم المثبت على النافي، خاصة والإثبات جاء عن أولئك الصحابة الذين نفوا، كما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها, بل وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه.

الجواب الثاني: أن يقال: إن الأحاديث الدالة على السنية فيها أقوال وأفعال, فلو فرضنا جدلاً أن الأحاديث الفعلية في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الضحى قوبلت بالأحاديث الفعلية، أنه لم يكن يصليها، لسلمت لنا الأحاديث القولية.

والأحاديث القولية مثل: ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ).

وحديث: ( أوصاني خليلي بثلاث: ... ) حديث أبي هريرة , حديث أبي ذر، حديث أبي الدرداء. أيضاً حديث نعيم بن همار : (ابن آدم ! صل من أول النهار أربع ركعات ).

و( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ) حديث بريدة.

(وفي الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً).

(ومن صلى...) وإن كان ضعيفاً, بودي أن نقتصر على الأحاديث الصحاح أو الحسان.

المهم لو فرضنا أن الأحاديث الفعلية تتعارض فتتساقط، فإنه يسلم لنا الأحاديث القولية التي تدل على المشروعية, بل جاء أحاديث قولية عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل ليس فقط على مشروعية صلاة الضحى، بل على مشروعية المحافظة عليها, ومن ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب ), وهذا الحديث رواه الحاكم وابن خزيمة , وصححه الحاكم , ووافقه الذهبي , وسند الحديث حسن.

وقد يدل حديث: ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ) على معناه.

الجواب الثالث: أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الضحى، هو خشية أن تفرض على أمته, وخشية الفرضية تحتمل وجهين:

إما أن يكون المعنى: أنه خشي أن يلزمها الناس؛ فتفرض عليهم، وتوجب عليهم بأمر من الله عز وجل, وهذا ذهب إليه طوائف من أهل العلم.

المعنى الثاني: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يحافظ الناس عليها، وينشطوا لها في حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يرونه ويسمعون كلامه ووعظه وتذكيره؛ فتنشط نفوسهم لذلك، فربما مات صلى الله عليه وسلم, فضعفت نفوسهم عن بعض العمل, وشق عليهم ترك شيء قد كانوا يفعلونه زمن النبي صلى الله عليه وسلم, كما حصل لـعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, فإنه كان يفعل كثيراً من النوافل, ثم شق عليه ذلك في آخر عمره, وشق عليه أن يترك أمراً فارق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان يفعل ذلك, فإذا ثقل عليه الصيام أفطر أياماً, ثم قضى مثلها؛ محافظة على ما فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا وجه جيد حسن رجحه العراقي في طرح التثريب.

فالمهم أنهم قالوا: على فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعها، فإنما كان يدعها حال حياته خشية أن تفرض, وإلا فقد فعلها بما يقتضي السنية, وقالوا: تركها صلى الله عليه وسلم، كما ترك صلاة التراويح في رمضان، مع أنه صلاها أياماً؛ خشية أن تفرض عليه.

الوجه الرابع: حمل الأحاديث الواردة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها على حال مخصوصة, فقالوا: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتركها مطلقاً، وإنما يحمل الترك على أنه كان يتركها في المسجد، ويصليها في بيته صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد في الجمع بين الأدلة, أو أنه لم يكن يحافظ عليها صلى الله عليه وسلم كمحافظته على السنن الرواتب, وهذه قاعدة رجحها الإمام ابن تيمية رحمه الله -كما سوف يأتي- فيما عدا السنن الرواتب من الصلوات: أنه لا يحافظ عليها، كالمحافظة على الفرائض، أو كالمحافظة على السنن الرواتب، أو أن المقصود ترك محافظته صلى الله عليه وسلم عليها بعدد مخصوص، كثمان ركعات مثلاً.

طرائف وقصص مفيدة

لعلنا نفصل بين القولين ببعض الطرائف المفيدة إن شاء الله تعالى، ولأن هذا هو آخر قسط من الطرائف، من ذلك الكتاب الذي ذكرته لكم؛ فلا بأس أن نبوح باسمه.

هذا الكتاب اسمه: دنيا المرأة لمن أراد أن يدخلها , المؤلف: محمد إبراهيم سليم. وقد نقل فيه من كتب الأدب واللغة فوائد.

من فوائد هذه الليلة: ذكر عن أبي علي القالي صاحب الأمالي وهو لغوي مشهور. يقول: كان قيل من أقيال حمير -يعني: ملك من ملوكهم- منع الولد دهراً, ثم ولدت له بنت، فبنى لها قصراً منيفاً بعيداً عن الناس، ووكل بها نساء من بنات الأقيال؛ ليخدمنها ويؤدبنها، حتى بلغت مبلغ النساء, فنشأت أحسن منشأ وأتم منشأ في عقلها وكمالها, فلما مات أبوها ملّكها أهل مخلافها -يعني: أهل منطقتها أو إقليمها- فاصطنعت النساء اللاتي ربينها، وأحسنت إليهن وقربتهن, وكانت تشاورهن ولا تقطع أمراً دونهن، فقلن لها يوماً: يا بنت الكرام! لو تزوجت لتم لك الملك؛ لماذا لم تتزوجي؟ قالت: وما الزوج؟ فقالت لها إحداهن: الزوج عز في الشدائد, وفي الخطوب مساعد, إن غضبت عطف, وإن مرضت لطف- أيكم يكون كذلك؟ أو نجعلها مستورة طيب- قالت: نعم الشيء هذا.

قالت الثانية : الزوج شعاري حين أصرد -أصرد يعني: يصيبني الصرد وهو البرد- ومتكئي حين أرقد, وأنسي حين أفرد -يعني: تكون منفردة- فقالت: إن هذا لمن كمال طيب العيش.

قالت الثالثة: الزوج لما عناني كاف, ولما شفني شاف -يعني: أشغلني يكفيني فقد الأُلاف... طيب. نترك بقية الكلام تقرءونه في الكتاب- فقالت: أمهلنني حتى أنظر فيما قلتن. فاحتجبت عنهن سبعة أيام، ثم دعتهن فقالت: قد نظرت فيما قلتن, فوجدتني أملكه رقي, وأبثه باطلي وحقي -يعني: ذو مكانة عالية من المرأة- فإن كان محمود الخلائق مأمون البوائق، فقد أدركت بغيتي، وإن كان غير ذلك، فقد طالت شقوتي, على أنه لا ينبغي إلا أن يكون كفئاً كريماً يسود عشيرته, ويرد فصيلته, لا أتقنع به عاراً في حياتي, ولا أرفع به شناراً لقومي بعد وفاتي. فعليكنه فابغينه -ابحثن عنه- وتفرقن في الأحياء؛ فأيتكن أتتني بما أحب فلها أجزل الحباء -يعني: العطاء- ولها علي الوفاء، فخرجن فيما وجهن له، وكن بنات مقاول، ذوات عقل ورأي, فجاءت إحداهن فقالت لها: قد أصبت البغية, فقالت: صفيه ولا تسمي -اذكري أوصافه بدون اسم- قالت: غيث في المحل -يعني: مطر- ثمال في الأزل, مفيد مبيد, يصلح الثائر, وينعش العاثر, ويغمر الندي، ويقتاد الأبي, عرضه وافر, وحسبه باهر, غض الشباب، طاهر الأثواب، قالت: ومن هو؟ قالت: سبرة بن عوال .

ثم خلت بالثانية فقالت لها: أصبت من بغيتك شيئاً؟ قالت: نعم. قالت: صفيه ولا تسميه. قالت: مصامص النسب -يعني: رفيع النسب- كريم الحسب, كامل الأدب, غزير العطايا, مألوف السجايا, مقتبل الشباب, خصيب الجناب, أمره ماض, وعشيره راض. قالت: ومن هو؟ قالت: يعلى بن هزال .

ثم خلت بالثالثة قالت: ما عندك؟ قالت: قد وجدته كثير الفوائد، عظيم المرافد, يعطي قبل السؤال, وينيل قبل النوال, في العشيرة معظم، وفي الندى مكرم, جم الفواضل، كثير النوافل, بذال أموال، محقق آمال, كريم أعمام وأخوال. قالت: من هو؟ قالت: رواحة بن حمير .

فاختارت يعلى بن هزال فتزوجته، فاحتجبت عن نسائها هؤلاء الثلاث شهراً, ثم برزت لهن، فأجزلت لهن الحباء، وأعظمت لهن العطاء, وقد وجدت صدق ما أخبرنها به.

أخيراً هذه أيضاً طرفة. يقول: كانت امرأة تجلس تتعرض للخُطَّاب من بني سلول, وكان عبد الله بن عاصم السلولي قد تقدم لخطبتها, فكان إذا دخل عليها تقول له: فداك أبي وأمي -تخاطبه بهذه الكلمة اللينة وتحدثه- وظن أنها تميل إليه, وفي نفس الوقت كان هناك شاب من بني سلول يرتادها ويخطبها, فإذا دخل عليها الشاب ودخل عليها عبد الله -اجتمعا عندها في وقت واحد- أقبلت على عبد الله، وأظهرت الإعراض عن الشاب، وقالت له: قم إلى النار -اذهب إلى النار، هناك حطب يوقد في مكان- قالت له: قم إلى النار، ثم أقبلت على عبد الله بن عاصم تحدثه. فبعد فترة بلغ عبد الله بن عاصم أن هذه الفتاة تزوجت ذلك الشاب، وهي كانت تلين له الخطاب؛ فقال أبياتاً من الشعر. يقول:

أودى بحبي سليمى فاتك لقن كحية برزت من بين أحجار

إذا رأتني تفديني وتجعله في النار يا ليتني المجعول في النار

يقول: إذا رأتني تقول: فداك أبي وأمي, وذاك تقول له: اذهب إلى النار. يقول: يا ليتني أنا الذي أذهب إلى النار، ثم قال:

ماذا تظن سليمى إن ألمَّ بها مرجل الرأس ذو بردين مزاح

حلو فكاهته خز عمامته وفي وسامته للقلب مفتاح

نعود إلى ما كنا بشأنه.

القول الثالث: فعل صلاة الضحى أحياناً وتركها أحياناً

القول الثالث في مسألة صلاة الضحى: أنها تفعل حيناً وتترك حيناً آخر. كما يقول الفقهاء: يفعلها غباً، يفعلها مرة ويتركها أخرى, وهذا مذهب ابن عباس رضي الله عنه، فيما نقل عنه أنه كان يصليها يوماً, ويدعها عشرة أيام، وهو مذهب سعيد بن جبير، ومنصور وإبراهيم النخعي، وهو أيضاً إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وحكاه الإمام ابن جرير الطبري والقاضي عياض رحمهما الله عن جماعة من العلماء, واستدلوا لذلك بأدلة.

من أهمها: حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الترمذي في جامعه . قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها ), وهذا الحديث لو صح لربما كان فيه مستمسك لهم, ولكنه ضعيف, فإن فيه عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف , وقد أعله به غير واحد, وقال النووي : لعله اعتضد، ولا أعرف شيئاً يعضد هذا الحديث، فيما يدل له بخصوصيته على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى حتى يقولوا: لا يتركها, ويتركها حتى يقولوا: لا يصليها, اللهم إلا عمومات في موضوع الصيام.. وغيره, كما سبق في حديث عائشة وسواه, وإن كان الترمذي حسن الحديث. قال: هذا حديث حسن غريب. وفي تحسينه نظر كما أسلفت .

ومن أدلتهم أيضاً على ما ذهبوا إليه من أنه يصليها غبّاً أن في ذلك جمعاً بين الأحاديث, فقالوا: تحمل الأحاديث المثبتة على أنه يصليها أحياناً، وتحمل الأحاديث النافية على أنه لم يكن يحافظ عليها، كمحافظته على السنن الرواتب.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ على صلاة الضحى باتفاق العلماء بسنته, ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنهما, وذكر حديث أبي سعيد حديث الباب, ثم قال: ولأنها دون الفرائض ودون السنن الرواتب؛ فلا تشبه بها.

يعني: لا تشبه صلاة ال

الطائفة الأولى: ذهبوا إلى أن صلاة الضحى غير مشروعة, وأن الراجح تركها, وهذا منقول عن جماعة من الصحابة, منهم ابن عمر رضي الله عنه وهو مشهور عنه، وابن مسعود كذلك، ونقله غير واحد عن عبد الرحمن بن عوف، وأنس بن مالك، وأبي بكرة , وهو مذهب جماعة من السلف: أن صلاة الضحى غير مشروعة, بل صرح بعضهم ببدعيتها، كما نقل عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه رأى الناس يفعلونها, فقال: بدعة، كما سوف يأتي، واستدل هؤلاء بأدلة كثيرة, منها أدلة سبقت.

حديث عائشة رضي الله عنها : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط )؛ فقالوا: هذا دليل على عدم مشروعيتها؛ لعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها, والحديث متفق عليه كما سبق, ودلالته على المطلوب ظاهرة.

الدليل الثاني: هو عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه, فقد روى البخاري وغيره عن مورق العجلي أنه قال: ( سألت عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فقلت له : تصلي الضحى ؟ قال: لا، قلت: وعمر ؟ قال : لا، قلت: وأبو بكر . قال: لا، قلت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إخاله -أي: لا أظنه- يصليها ), فهذا أيضاً دليل لمن قال بعدم مشروعية صلاة الضحى؛ لأن ابن عمر والخليفتين الراشدين لم يكونا يصليانها, وكذلك ابن عمر ذهب ظنه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليها.

وقد جاء أيضاً فيما يتعلق بـعبد الله بن عمر، جاءت أحاديث, منها: ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند يقول عنه الحافظ ابن حجر في الفتح : إنه سند صحيح، عن مجاهد بن جبر المكي التابعي رحمه الله، قال: (دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، والناس يصلون الضحى, وابن عمر جالس إلى حجرة عائشة رضي الله عنها -أو جالس عند حجرة عائشة رضي الله عنها-، فقلت له: ما ترى في صلاتهم؟ قال: بدعة).

وكذلك روى عبد الرزاق في مصنفه أيضاً بسند لا بأس به عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (لقد قتل عثمان رضي الله عنه وما كان أحد يسبحها (يعني: يصليها) -يعني بذلك: سبحة الضحى-، وما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها). هذا كلام ابن عمر .

وكذلك روى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: (ما صليت الضحى قط منذ أسلمت، إلا أن أطوف بالبيت فأصلي يعني: ركعتي الطواف)، وفي رواية عنه: (أنه سئل عن صلاة الضحى؟ قال: وللضحى صلاة؟) قال ذلك مستنكراً.

فمجموع هذه الآثار عن ابن عمر تدل على أنه كان لا يرى صلاة الضحى كما أسلفت عنه, ويصرح أحياناً أنه بدعة, وإن كان يقول: (نعمت البدعة هذه) في بعض الآثار عنه أيضاً, وينفي أن يكون فعلها أبو بكر وعمر, ويستبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها.

ومن الأدلة على عدم استحباب صلاة الضحى: ما رواه الحاكم عن عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قال : ( رأى أبوه - أبو بكرة رضي الله عنه- ناساً يصلون الضحى؛ فقال: إنكم لتصلون صلاة ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها، ولا عامة أصحابه ). فدل ذلك أيضاً على أنها لم تكن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم.

فمجمل هذه الأدلة يدل أولاً: على أن هذا مذهب من ذكر, كـأبي بكرة وابن عمر , وقد جاء عن أنس وعبد الرحمن بن عوف ومن ذكرت أحاديث مشابهة تدل على ذلك.

ويرشد ثانياً: إلى الأدلة التي تمسكوا بها في هذا, وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعلها, وهذا معظم ما تمسكوا به.