خطب ومحاضرات
مقدمة في الفقه - محنة الإمام مالك وصبره [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
إخوتي الكرام! شرعنا في مدارسة ترجمة موجزة لأئمة الإسلام أصحاب المذاهب الأربعة الحسان، وقلت سنتدارس ترجمة كل واحد منهم ضمن أربعة أمور:
أولها: فيما يتعلق بنسبه وطلبه، وثانيها: فيما يتعلق بثناء العلماء عليه ومنزلته، وثالثها: فيما يتعلق بطريقته في تفقهه، ورابعها: في صلته بربه وعبادته، تدارسنا هذه الأمور الأربعة في ترجمة فقيه الملة سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه، وتدارسناها أيضاً في ترجمة إمام دار الهجرة النبوية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، في ترجمة سيدنا أبي عبد لله مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه، وبقي معنا شيء في ترجمته سأختم ترجمته به وأبدأ في ترجمة سيدنا الإمام أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنهم أجمعين، هذا الأمر الذي سأختم به ترجمة سيدنا الإمام مالك هو ما ختمت به ترجمة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهي محنة علمائنا مع المسئولين، مع الأمراء، مع الحكام في ذلك الزمان، وهي محنتهم في كل زمان.
إخوتي الكرام! حقيقة هذا الأمر ينبغي أن نعيه على التمام، تقدم معنا في ترجمة سيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وأرضاه أنه امتُحن في زمنين، في عهد الخلافتين، في عهد الخلافة الأموية وضُرب ونُكل به رضي الله عنه وأرضاه، ثم في عهد الخلافة العباسية بحيث مات على أيديهم مسقياً مسموماً في السجن رحمه الله ونوَّر مرقده وفي غرف الجنان أرقده، وقلت: هذا الأمر الذي جرى لأئمتنا يخرس الألسنة المفترية في هذا الوقت بأن فقه أئمتنا بُني على السياسة! وكيف سيُبنى فقههم على السياسة وعلى المداهنة للحكام وهم يصدعون بالحق ويجهرون به، ويُؤذون في الله ولا تأخذهم في ذلك لومة لائم؟! ما جرى لهم يكذب ما يفترى عليهم.
الأمر الثاني إخوتي الكرام: ما حصل لأئمتنا يبين لنا منزلة الدنيا وهوانها عند ربنا سبحانه وتعالى، فهي مُلك له، ولا قيمة لها عنده، وفيها أُوذي الأنبياء على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه، وفيها امتُحن خلفاؤهم العلماء، وأشد الناس فيها بلاء مَن كان لله مطيعاً، فلا وزن لها ولا اعتبار، هذا أيضاً ينبغي أن نستفيده عندما نتدارس محنة علمائنا مع أمراء زمانهم.
إخوتي الكرام! سيدنا الإمام مالك على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه اتصل بالأمراء كما هو الحال في سيدنا أبي حنيفة، كانت له صلة بهم وينصحهم ويحذرهم من معصية الله عز وجل، لكن تقدم معنا أنه ما ولي لهم عملاً، ولا أراد أن يسير في ركابهم، إنما إذا اجتمع فيهم نصح، وهكذا سيدنا الإمام مالك، كان أحياناً يجتمع ويقول بما يجب لله عليه نحو الأمراء ونحو الشريعة الغراء، فاتصل بالأمراء، وقام بواجب الشريعة الغراء، فنصحهم وزجرهم وحثهم على الخير وأمرهم به، وهذا مسلك سديد رشيد لا غبار عليه.
وقد اعترض عليه بعض الناس كما في الجرح والتعديل للإمام ابن أبي حاتم في الجزء الأول صفحة ثلاثين، والأثر في ترتيب المدارك في طبقات أصحاب سيدنا الإمام مالك في الجزء الأول صفحة سبع ومائتين، وهو في السير في الجزء الثامن صفحة إحدى عشرة ومائة، قيل له: إنك تدخل على الأمراء! تدخل على أبي جعفر! تدخل على المهدي بعده! وإذا زاروك تفتح لهم بيتك وتكلمهم، إنك تدخل على الأمراء وتتصل بهم! فقال: أين التكلم بالحق؟ يعني إذا لم أدخل عليهم كيف سأتكلم بالحق؟! كيف سأنصحهم؟! كيف سأحذرهم؟! كيف سأبين ما يجب عليهم؟! ثم قال عليه رحمة الله ورضوانه: حق على كل مسلم جعل الله في صدره شيئاً من العلم والفقه أن يدخل على ذي أمر. أي: على المسئولين والأمراء والسلاطين، يأمره بالخير، وينهاه عن الشر، ويعظه حتى يتبين دخول العالم من دخول غيره. انتبه! يدخل ليأمره بالخير، ولينهاه عن الشر؛ حتى يتبين دخول العالم من دخول غيره، لا يدخل لمصلحة ولا لوظيفة ولا لعرض دنيا ولا ليمدح ولا ليتملق، إنما يدخل من أجل أن يقوم بواجب النصح الذي أوجبه الله على المؤمنين، يأمر بالخير ويحذر من الشر، فهنا يتبين دخول العالم من دخول غيره، يتميز دخول العالم من دخول غيره، قال الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه: لأن من دخل عليهم فأمرهم ونهاهم فهذا من أفضل أعمال البر.
إذاً: كانت له صلة، وإذا اتصل بهم قام بما يجب عليه نحوهم حسبما أوجبت شريعة الله المطهرة.
الكلام على مسألة دخول العلماء على السلاطين والأمراء
وقد وضح هذه المسألة الإمام الغزالي في الإحياء في الجزء الثاني من صفحة أربعين ومائة إلى خمس وأربعين ومائة، بحث فيها في خمس صفحات متتالية في موضوع زيارة العالم للأمراء، أو زيارة الأمراء للعلماء، أو الاعتزال، فقال: شر هذه الأحوال أن يزور العالم الأمراء، ثم مع ذلك قال: إذا خلت زيارته عن المعصية، وقام بما يجب عليه فلا حرج، لكن الغالب أن الإنسان إذا دخل لا ينصح، وقد يمدح، فهذه زيادة بلية، ويرى المنكرات فلا ينكر ولا يغير، فهذه شر الأحوال، لكن مع ذلك إذا دخل ونصح وقام بما يجب عليه فلا حرج عليه، هذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: قال: أن يأتي السلطان إلى العالم، فرد السلام عليه لابد منه، إذا سلم يرد عليه، ثم بعد ذلك هل يكلمه وينصحه أو يعتزله ويبقى ساكتاً فلا يجيبه على سؤاله من أجل أن يخرج هذا الأمير والسلطان؟ قال: على حسب حال العالم وحسب حال الأمير، أما رد السلام فلابد منه. فهذه حالة ثانية قال: وهي دون الأولى.
والحالة الثالثة: قال: هي الواجبة في هذا الزمان، في زمان حجة الإسلام الإمام الغزالي ، في القرن الخامس الهجري، وهي ألا يزوره، وألا يأذن له بزيارته، وأن يعتزلهم، قال: هذا هو الواجب، لماذا؟ قال: ليسلم للإنسان دينه، هذا هو الواجب، فلا سلامة إلا بذلك، ثم قال: فإن قيل: إن السلف الصالح كانوا يزورون ويُزارون من قِبل الأمراء والسلاطين كما هو الحال في سيدنا الإمام مالك مثلاً رضي الله عنه وأرضاه؟ فقال الإمام الغزالي مجيباً على ذلك: تعلم آداب الزيارة منهم ثم زُرْ، ثم ادخل، إذا كنت تقوم بما يقومون به فلا حرج.
هذا التفصيل -إخوتي الكرام- في حق الأمير الجائر، في حق السلطان الظالم، أما إذا كان الأمير صالحاً كالخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، وكحال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين، فزيارته من أعظم الطاعات وأفضل القربات كما نص على ذلك أئمتنا بالاتفاق، فهذا البحث كله في حال زيارة الأمير إذا كان ظالماً جائراً منحرفاً عن شريعة الله عز وجل. وأما إذا كان قائماً بالعدل والقسط يخشى الله ويخافه، فزيارته ومعونته على أمر نفسه، وأمر رعيته، من أعظم الطاعات وأفضل القربات كما نص على ذلك أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.
قال الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله في الجزء الثاني صفحة خمس وثمانين ومائة، بعد أن بيَّن أن الآثار التي وردت في المنع من الزيارة، إنما هي في حق أمراء الجور والظلم إذا كان الإنسان يدخل عليهم ويقرهم، ولا ينكر عليهم جورهم وظلمهم، قال: أما أهل العدل منهم فمداخلته ورؤيته وعونه على الصلاح من أفضل أعمال البر.
هذا إذا كان عادلاً صالحاً، فزيارته من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، لكن أين هو بعد الخلافة الراشدة وبعد الخليفة الراشد العابد سيدنا عمر بن عبد العزيز ؟! لقد خاضوا بعد ذلك في ظلم وجور، نعم تختلف نسبة الجور والظلم التي خاضوا فيها على حسب حالهم، ونسأل الله أن يحفظنا من شر كل ذي شر إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فبما أن الأمر قد تغير، ويخشى من وقوع فتنة، فقد أثر أئمتنا الأمر الثالث، غالب أئمتنا كانوا يؤثرون الأمر الثالث وهو الاعتزال، فلا يرون الأمراء ولا يراهم الأمراء، بل يعتزلونهم والسلام، هذا سلكه أكثر أئمة الإسلام رضوان الله عليهم أجمعين، أثر عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كما في سنن الدارمي في المقدمة في الجزء الأول صفحة تسعين، باب: من قال العلم هو الخشية وتقوى الله عز وجل، نقل عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يجادل أهل الأهواء. من أراد أن يكرم دينه وأن يحفظه وألا يخدش دينه فلا يدخل على السلطان، فهذه مجالس الفتنة، وحتماً أنه يقصد سلاطين الجور والظلم، ولا يقصد الدخول على سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فرؤيته من أعظم الطاعات وأفضل القربات.
ولا يخلون بالنسوان، فالشيطان هو الثالث بعد ذلك، ولا يجادل أهل الأهواء، فهم على ضلال وبلاء، لا ينتفعون ولا يقبلون من أتقى الأتقياء، إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97] ، فعلامَ ضياع الوقت وتكدر القلب بسماع الشبه من أهل الزيغ والضلال؟! لا تجادل أهل الأهواء.
وهذا الكلام أثر عن العبد الصالح سيد المسلمين في زمانه الولي القانت يونس بن عبيد ، وقد تقدم معنا حاله، ونسبة هذا القول إليه ضمن مواعظ الجمعة، توفي سنة أربعين ومائة، وقيل: سنة تسع وثلاثين ومائة، وحديثه في الكتب الستة، وكان أئمتنا والمسلمون في الزمن الأول يتوسلون إلى الله بربوبيته لهذا العبد الصالح أن ينصرهم على أعدائهم، فإذا اشتد عليهم الكرب في الغزو يقولون: اللهم رب يونس بن عبيد انصرنا، فينصرون بإذن الحي القيوم!
انظروا ترجمته مع نسبة هذا القول إليه في السير في الجزء السادس صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، قال: ثلاثة احفظوهن عني. أولها: لا تدخل على السلطان، وإن أردت أن تقرأ عليه القرآن، والثانية: لا تخلون بامرأة وإن أردت أن تعلمها القرآن، ابتعد عنها، والثالثة: لا تجادل أهل الأهواء، ولا تستمع إليهم، هذه الأمور الثلاثة احذرها، ما بين شبهة وشهوة وسطوة، ابتعد عن هذه الأمور الثلاثة ليسلم لك دينك، وكان يقول: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخلن على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يجادل أهل الأهواء.
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول على أمراء الجور والظلم وإعانتهم على ظلمهم
ورواه من رواية سيدنا جابر الإمام أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والإمام البزار في مسنده، انظروا -إخوتي الكرام- هاتين الروايتين وروايات أخرى سأذكرها في المجمع في الجزء الرابع صفحة خمس وسبعين، وستُعزى رواية الترمذي إلى كعب بن عجرة، أما رواية النسائي فهي في السنن الكبرى ليست من شرط جامع الأصول، وانظروا الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة خمس وتسعين ومائتين، وانظروا المجمع في رواية الإمام أحمد والبزار من طريق سيدنا جابر بن عبد الله في الجزء الخامس صفحة سبع وأربعين ومائتين.
والحديث رُوي عن سيدنا عبد الرحمن بن سمرة في المستدرك بسند صحيح أقره عليه الذهبي في الجزء الرابع صفحة ست وعشرين ومائة، ورُوي الحديث عن عدة من الصحابة آخرين، فهو من رواية كعب بن عجرة وجابر وعبد الرحمن بن سمرة، ورُوي أيضاً من رواية ابن عمر وحذيفة وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري والنعمان بن بشير رضي الله عنهم أجمعين، مع الثلاثة ثمانية من الصحابة رووا هذا الحديث، وقلت: إنه صحيح صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أنه قال لصحبه الكرام وقد خرج عليهم كما في رواية كعب بن عجرة وهم تسعة، فقال: (اسمعوا، هل سمعتم أنه سيكون عليكم أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولن يرد علي الحوض يوم القيامة، ومن لم يدخل عليهم، ولم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض يوم القيامة)، وفي بعض الروايات: (من غشي أبوابهم أو لم يغشَ، فلم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض يوم القيامة)، وهذه الرواية فيها شيء من السعة، وعليه فالجمع بينها وبين تلك: هناك لم يدخل عليهم، وهنا سواء غشي أو لم يغش، لكنه اتصف بهاتين الصفتين: لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، وعليه فإن غشيهم لمصلحة شرعية فما صدق بالكذب، ولا أعان على الظلم، فلا ضير عليه، وإذا لم يغشَ واتصف بهاتين الصفتين، فهذا أسد وأسلم.
على كل حال إخوتي الكرام: موضوع الدخول الذي اتصف به سيدنا الإمام مالك وغيره من بعض أئمتنا -كما قلت- إذا قاموا بما يجب فلا حرج عليهم، وسيأتينا أنهم كانوا يجهرون بالحق ولا تأخذهم في الله لومة لائم.
وقد عرض على سيدنا مالك رضي الله عنه وأرضاه -كما سيأتينا- من قِبل ثلاثة من الخلفاء، عرضوا عليه الدنيا وأن يهاجر وأن يذهب معهم إلى مدينة السلام بغداد، من قِبل أبي جعفر ومن قِبل المهدي ومن قِبل هارون الرشيد، فيرد على الثلاثة بالرفض ويقول: هذه دنانيركم، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها، وهي كما هي ما حركت ديناراً منها، لا لنفسي ولا تصدقت منها، أخشى بعد ذلك أن تذكروها، وأن تذكروني بها، فهي كما هي في صرتها، والمدينة خير لهم إن كانوا يعلمون.. أعطيتموني ثلاثة آلاف دينار وتريدون أن تضعوا حبلاً في رقبتي تجروني به إلى بغداد، هذه دنانيركم، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها، ومن ورعه واحتياطه أنه حتى ما تصدق بها كما كان يفعل الإمام الشافعي كما سيأتينا، يأتيه فيتصدق، بل تركها كما هي،كما تقدم معنا في ترجمة سيدنا أبي حنيفة أنه حتى ما أخذها، تدثر وجلس في بيته، ولما جاء رسول الحسن بن قحطبة وقال: هذه الجائزة عشرة آلاف درهم من أبي جعفر! قالوا: لا يكلم أحداً، هذا اليوم أبو حنيفة إنه لا يكلم أحداً، فوضعها وذهب، ولما انتبه سيدنا أبو حنيفة وتأكد من ذهاب الرسول قال: ضعوها في زاوية البيت، وليس لنا بها عمل، ولما مات أوصى بأن تعاد إلى بيت المال، وأنه ليس له منها درهم.
وهكذا سيدنا الإمام مالك، فـمالك -كما سيأتينا- دخل، لكنه ما تأثر، بل كان يؤثر، وينصح لله عز وجل، فلا ضير عليه، ولذلك هنا في بعض الروايات: غشي أبوابهم أو لم يغش، لكنه لم يصدِّق بالكذب، ولم يُعن على الظلم، فهذا من نبينا عليه الصلاة والسلام ونبينا منه، وسيرد عليه الحوض يوم القيامة، لكنه لما فسد حال الداخل والمزور -وهو الأمير- فلا يقبل النصح لكثرة من يداهن له، قال أئمتنا: هذه مجالس فتنة ابتعد هنا أسلم لك والسلامة لا يعدلها شيء.
الإمام الخطابي في كتابه العزلة في آخر كتابه بعد أن تكلم على فساد السلاطين، وذكر الحديث المتقدم وغيره، قال عليه رحمة الله ورضوانه في صفحة ست وثمانين في أواخر كتاب العزلة: ليت شعري من الذي يدخل عليهم في هذا اليوم فينصح، ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم. إذا دخل ينصح، وإذا دخل وشهد مجالسهم يتكلم بالعدل، ومن الذي ينصح، ومن الذي يقبل النصيحة منهم؟! يقول: ليت شعري من الذي يتصف بهذا من الداخل أو المزور؟! وهذا في القرن الرابع؛ لأن الخطابي توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ثم قال: إن أسْلمَ لك يا أخي وأحوط أن تُقل من غشيان أبوابهم والدخول إليهم، وأن تسأل الله الغنى عنهم والصلاح لهم. ابتعد عنهم ولا داعي أن تعرض نفسك للفتنة، من الذي يتكلم بالحق؟ ومن الذي ينصح؟ ومن الذي يقبل النصيحة؟ هذا الأمر تغير وتكدر.
ومسألة الدخول على السلطان، أو دخول السلطان على علماء الإسلام، ما رأي الشرع المطهر في ذلك؟ وما الموقف السديد في هذا الأمر؟ هل العالم يذهب؟ وهل إذا جاء السلطان يفتح له بيته؟ أو لا يذهب ولا يسمح له بزيارته ويعتذر؟ كل من الأمور الثلاثة نُقلت عن أئمتنا، فمنهم من كان يذهب وينصح، ومنهم إذا جاءه السلطان نصحه، ومنهم من لا يذهب وإذا جاءه السلطان اعتذر عن مقابلته وعن زيارته ليسلم، والسلامة لا يعدلها شيء، الأمور الثلاثة كلها جائزة على حسب ما يتصف به الإنسان، وعلى حسب حاله في ضعفه أو في قوته، في بيانه أو في سكوته، فإذا آنس رشداً وقبولاً لكلامه فلا مانع أن يذهب، ومن باب أولى لا مانع أن يسمح بزيارته إذا جاءه الأمير، ولا داعي بعد ذلك أن يعتذر، وإذا لم يجد لذلك أثراً أو توقع ضراً فالسلامة لا يعدلها شيء كما قال أئمتنا.
وقد وضح هذه المسألة الإمام الغزالي في الإحياء في الجزء الثاني من صفحة أربعين ومائة إلى خمس وأربعين ومائة، بحث فيها في خمس صفحات متتالية في موضوع زيارة العالم للأمراء، أو زيارة الأمراء للعلماء، أو الاعتزال، فقال: شر هذه الأحوال أن يزور العالم الأمراء، ثم مع ذلك قال: إذا خلت زيارته عن المعصية، وقام بما يجب عليه فلا حرج، لكن الغالب أن الإنسان إذا دخل لا ينصح، وقد يمدح، فهذه زيادة بلية، ويرى المنكرات فلا ينكر ولا يغير، فهذه شر الأحوال، لكن مع ذلك إذا دخل ونصح وقام بما يجب عليه فلا حرج عليه، هذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: قال: أن يأتي السلطان إلى العالم، فرد السلام عليه لابد منه، إذا سلم يرد عليه، ثم بعد ذلك هل يكلمه وينصحه أو يعتزله ويبقى ساكتاً فلا يجيبه على سؤاله من أجل أن يخرج هذا الأمير والسلطان؟ قال: على حسب حال العالم وحسب حال الأمير، أما رد السلام فلابد منه. فهذه حالة ثانية قال: وهي دون الأولى.
والحالة الثالثة: قال: هي الواجبة في هذا الزمان، في زمان حجة الإسلام الإمام الغزالي ، في القرن الخامس الهجري، وهي ألا يزوره، وألا يأذن له بزيارته، وأن يعتزلهم، قال: هذا هو الواجب، لماذا؟ قال: ليسلم للإنسان دينه، هذا هو الواجب، فلا سلامة إلا بذلك، ثم قال: فإن قيل: إن السلف الصالح كانوا يزورون ويُزارون من قِبل الأمراء والسلاطين كما هو الحال في سيدنا الإمام مالك مثلاً رضي الله عنه وأرضاه؟ فقال الإمام الغزالي مجيباً على ذلك: تعلم آداب الزيارة منهم ثم زُرْ، ثم ادخل، إذا كنت تقوم بما يقومون به فلا حرج.
هذا التفصيل -إخوتي الكرام- في حق الأمير الجائر، في حق السلطان الظالم، أما إذا كان الأمير صالحاً كالخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، وكحال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين، فزيارته من أعظم الطاعات وأفضل القربات كما نص على ذلك أئمتنا بالاتفاق، فهذا البحث كله في حال زيارة الأمير إذا كان ظالماً جائراً منحرفاً عن شريعة الله عز وجل. وأما إذا كان قائماً بالعدل والقسط يخشى الله ويخافه، فزيارته ومعونته على أمر نفسه، وأمر رعيته، من أعظم الطاعات وأفضل القربات كما نص على ذلك أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.
قال الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله في الجزء الثاني صفحة خمس وثمانين ومائة، بعد أن بيَّن أن الآثار التي وردت في المنع من الزيارة، إنما هي في حق أمراء الجور والظلم إذا كان الإنسان يدخل عليهم ويقرهم، ولا ينكر عليهم جورهم وظلمهم، قال: أما أهل العدل منهم فمداخلته ورؤيته وعونه على الصلاح من أفضل أعمال البر.
هذا إذا كان عادلاً صالحاً، فزيارته من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، لكن أين هو بعد الخلافة الراشدة وبعد الخليفة الراشد العابد سيدنا عمر بن عبد العزيز ؟! لقد خاضوا بعد ذلك في ظلم وجور، نعم تختلف نسبة الجور والظلم التي خاضوا فيها على حسب حالهم، ونسأل الله أن يحفظنا من شر كل ذي شر إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فبما أن الأمر قد تغير، ويخشى من وقوع فتنة، فقد أثر أئمتنا الأمر الثالث، غالب أئمتنا كانوا يؤثرون الأمر الثالث وهو الاعتزال، فلا يرون الأمراء ولا يراهم الأمراء، بل يعتزلونهم والسلام، هذا سلكه أكثر أئمة الإسلام رضوان الله عليهم أجمعين، أثر عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كما في سنن الدارمي في المقدمة في الجزء الأول صفحة تسعين، باب: من قال العلم هو الخشية وتقوى الله عز وجل، نقل عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يجادل أهل الأهواء. من أراد أن يكرم دينه وأن يحفظه وألا يخدش دينه فلا يدخل على السلطان، فهذه مجالس الفتنة، وحتماً أنه يقصد سلاطين الجور والظلم، ولا يقصد الدخول على سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فرؤيته من أعظم الطاعات وأفضل القربات.
ولا يخلون بالنسوان، فالشيطان هو الثالث بعد ذلك، ولا يجادل أهل الأهواء، فهم على ضلال وبلاء، لا ينتفعون ولا يقبلون من أتقى الأتقياء، إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97] ، فعلامَ ضياع الوقت وتكدر القلب بسماع الشبه من أهل الزيغ والضلال؟! لا تجادل أهل الأهواء.
وهذا الكلام أثر عن العبد الصالح سيد المسلمين في زمانه الولي القانت يونس بن عبيد ، وقد تقدم معنا حاله، ونسبة هذا القول إليه ضمن مواعظ الجمعة، توفي سنة أربعين ومائة، وقيل: سنة تسع وثلاثين ومائة، وحديثه في الكتب الستة، وكان أئمتنا والمسلمون في الزمن الأول يتوسلون إلى الله بربوبيته لهذا العبد الصالح أن ينصرهم على أعدائهم، فإذا اشتد عليهم الكرب في الغزو يقولون: اللهم رب يونس بن عبيد انصرنا، فينصرون بإذن الحي القيوم!
انظروا ترجمته مع نسبة هذا القول إليه في السير في الجزء السادس صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، قال: ثلاثة احفظوهن عني. أولها: لا تدخل على السلطان، وإن أردت أن تقرأ عليه القرآن، والثانية: لا تخلون بامرأة وإن أردت أن تعلمها القرآن، ابتعد عنها، والثالثة: لا تجادل أهل الأهواء، ولا تستمع إليهم، هذه الأمور الثلاثة احذرها، ما بين شبهة وشهوة وسطوة، ابتعد عن هذه الأمور الثلاثة ليسلم لك دينك، وكان يقول: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخلن على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يجادل أهل الأهواء.
تقدم معنا -إخوتي الكرام- أن الدخول عليهم مع إقرارهم على ما هم عليه، وتصديقهم بكذبهم، وأشنع من ذلك إعانتهم على الظلم، قلت: من فعل هذا فلن يرد الحوض على نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وأما إذا دخل أو لم يدخل، غشي أبوابهم أو لم يغشَ، كما تقدم معنا حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، لكنه ما صدقهم بكذبهم، ولا أعانهم على ظلمهم، فهذا من نبينا عليه الصلاة والسلام ونبينا منه، وسيرد عليه الحوض يوم القيامة، تقدم معنا الحديث ضمن مواعظ التفسير عند مبحث الاستعاذة، وقلت: مما أمرنا أن نستعيذ بالله منه أمراء الجور، أمراء الظلم، أمراء الضلال، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر أمته بذلك، وقال لكعب بن عجرة: ( يا
ورواه من رواية سيدنا جابر الإمام أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والإمام البزار في مسنده، انظروا -إخوتي الكرام- هاتين الروايتين وروايات أخرى سأذكرها في المجمع في الجزء الرابع صفحة خمس وسبعين، وستُعزى رواية الترمذي إلى كعب بن عجرة، أما رواية النسائي فهي في السنن الكبرى ليست من شرط جامع الأصول، وانظروا الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة خمس وتسعين ومائتين، وانظروا المجمع في رواية الإمام أحمد والبزار من طريق سيدنا جابر بن عبد الله في الجزء الخامس صفحة سبع وأربعين ومائتين.
والحديث رُوي عن سيدنا عبد الرحمن بن سمرة في المستدرك بسند صحيح أقره عليه الذهبي في الجزء الرابع صفحة ست وعشرين ومائة، ورُوي الحديث عن عدة من الصحابة آخرين، فهو من رواية كعب بن عجرة وجابر وعبد الرحمن بن سمرة، ورُوي أيضاً من رواية ابن عمر وحذيفة وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري والنعمان بن بشير رضي الله عنهم أجمعين، مع الثلاثة ثمانية من الصحابة رووا هذا الحديث، وقلت: إنه صحيح صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أنه قال لصحبه الكرام وقد خرج عليهم كما في رواية كعب بن عجرة وهم تسعة، فقال: (اسمعوا، هل سمعتم أنه سيكون عليكم أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولن يرد علي الحوض يوم القيامة، ومن لم يدخل عليهم، ولم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض يوم القيامة)، وفي بعض الروايات: (من غشي أبوابهم أو لم يغشَ، فلم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض يوم القيامة)، وهذه الرواية فيها شيء من السعة، وعليه فالجمع بينها وبين تلك: هناك لم يدخل عليهم، وهنا سواء غشي أو لم يغش، لكنه اتصف بهاتين الصفتين: لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، وعليه فإن غشيهم لمصلحة شرعية فما صدق بالكذب، ولا أعان على الظلم، فلا ضير عليه، وإذا لم يغشَ واتصف بهاتين الصفتين، فهذا أسد وأسلم.
على كل حال إخوتي الكرام: موضوع الدخول الذي اتصف به سيدنا الإمام مالك وغيره من بعض أئمتنا -كما قلت- إذا قاموا بما يجب فلا حرج عليهم، وسيأتينا أنهم كانوا يجهرون بالحق ولا تأخذهم في الله لومة لائم.
وقد عرض على سيدنا مالك رضي الله عنه وأرضاه -كما سيأتينا- من قِبل ثلاثة من الخلفاء، عرضوا عليه الدنيا وأن يهاجر وأن يذهب معهم إلى مدينة السلام بغداد، من قِبل أبي جعفر ومن قِبل المهدي ومن قِبل هارون الرشيد، فيرد على الثلاثة بالرفض ويقول: هذه دنانيركم، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها، وهي كما هي ما حركت ديناراً منها، لا لنفسي ولا تصدقت منها، أخشى بعد ذلك أن تذكروها، وأن تذكروني بها، فهي كما هي في صرتها، والمدينة خير لهم إن كانوا يعلمون.. أعطيتموني ثلاثة آلاف دينار وتريدون أن تضعوا حبلاً في رقبتي تجروني به إلى بغداد، هذه دنانيركم، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها، ومن ورعه واحتياطه أنه حتى ما تصدق بها كما كان يفعل الإمام الشافعي كما سيأتينا، يأتيه فيتصدق، بل تركها كما هي،كما تقدم معنا في ترجمة سيدنا أبي حنيفة أنه حتى ما أخذها، تدثر وجلس في بيته، ولما جاء رسول الحسن بن قحطبة وقال: هذه الجائزة عشرة آلاف درهم من أبي جعفر! قالوا: لا يكلم أحداً، هذا اليوم أبو حنيفة إنه لا يكلم أحداً، فوضعها وذهب، ولما انتبه سيدنا أبو حنيفة وتأكد من ذهاب الرسول قال: ضعوها في زاوية البيت، وليس لنا بها عمل، ولما مات أوصى بأن تعاد إلى بيت المال، وأنه ليس له منها درهم.
وهكذا سيدنا الإمام مالك، فـمالك -كما سيأتينا- دخل، لكنه ما تأثر، بل كان يؤثر، وينصح لله عز وجل، فلا ضير عليه، ولذلك هنا في بعض الروايات: غشي أبوابهم أو لم يغش، لكنه لم يصدِّق بالكذب، ولم يُعن على الظلم، فهذا من نبينا عليه الصلاة والسلام ونبينا منه، وسيرد عليه الحوض يوم القيامة، لكنه لما فسد حال الداخل والمزور -وهو الأمير- فلا يقبل النصح لكثرة من يداهن له، قال أئمتنا: هذه مجالس فتنة ابتعد هنا أسلم لك والسلامة لا يعدلها شيء.
الإمام الخطابي في كتابه العزلة في آخر كتابه بعد أن تكلم على فساد السلاطين، وذكر الحديث المتقدم وغيره، قال عليه رحمة الله ورضوانه في صفحة ست وثمانين في أواخر كتاب العزلة: ليت شعري من الذي يدخل عليهم في هذا اليوم فينصح، ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم. إذا دخل ينصح، وإذا دخل وشهد مجالسهم يتكلم بالعدل، ومن الذي ينصح، ومن الذي يقبل النصيحة منهم؟! يقول: ليت شعري من الذي يتصف بهذا من الداخل أو المزور؟! وهذا في القرن الرابع؛ لأن الخطابي توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ثم قال: إن أسْلمَ لك يا أخي وأحوط أن تُقل من غشيان أبوابهم والدخول إليهم، وأن تسأل الله الغنى عنهم والصلاح لهم. ابتعد عنهم ولا داعي أن تعرض نفسك للفتنة، من الذي يتكلم بالحق؟ ومن الذي ينصح؟ ومن الذي يقبل النصيحة؟ هذا الأمر تغير وتكدر.
الإمام مالك -إخوتي الكرام- كان أحياناً يحصل منه زيارة للسلاطين، وكانوا يزورونه في بيته إذا جاءوا إلى بلد نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، يأتي خليفة أو أمير ويتبرك بزيارة سيدنا مالك في بيته ويعطيه لينفق في مصالحه ومصالح المسلمين، ويأخذ ضمن الضوابط الشرعية، وإذا عرضوا عليه شيئاً لا يمكن أن يُفعل، وفيه مخالفة لشرع الله عز وجل، فإنه يرفض، ثم هو ينصح ويقوم بما يجب عليه فلا حرج.
واستمع لحاله مع السلاطين في ذلك الوقت عليه رحمة الله ورضوانه، كانت السلاطين تهابه وتخاف منه إذا رأته، وحقيقة من خاف من الله خاف منه كل شيء، ومن لم يخف من الله خاف من كل شيء، فهو لا يبالي إذا بطش به السلطان كان ماذا؟ وسيأتينا عندما تسفه عليه أمير المدينة جعفر بن سليمان ابن عم أبي جعفر المنصور، فقد سفه على سيدنا الإمام مالك وآذاه ونكل به، وماذا جرى؟ رفع الله قدره في الدنيا قبل الآخرة، زيادة على ما له من قدر ومكانة، فلا حرج لأنه يصدع بالحق ولا يبالي، فكانت له هيبة، أبو جعفر الذي يقول عنه الإمام أحمد : أبو جعفر ! كان يفزع ويخاف من الإمام مالك إذا رآه ودخل عليه.
يروي الإمام الذهبي في السير في الجزء الثامن صفحة إحدى عشرة ومائة: أن السلاطين كانت تهاب من الإمام مالك وتفزع منه. وفيه في الجزء الثامن صفحة إحدى وستين، وفي الانتقاء في صفحة إحدى وأربعين، وفي السير صفحة إحدى وستين وثمان وسبعين أيضاً، قال: كان سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه في مجلس أبي جعفر المنصور، وصبي يقترب ويهرب، يقترب ويهرب، فالإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه نظر فرأى عجباً، في مجلس أبي جعفر ما يأتي صبيان من غير أسرته، فليست مجالس الأمراء مفتوحة لأولاد الناس، يأتي كل واحد إليها، من يستطيع أن يقترب من هذا المجلس، فهذا الذي يقترب ويدخل من هو؟ من الأسرة قطعاً وجزماً، فرأى هذا وسكت، فـأبو جعفر هو الذي فتح الحديث، قال: أتدري من هذا؟ قال: من هو؟ قال: هذا ولدي! لكنه عندما يراك يفزع ويخاف، وبمجرد أن يدخل وينظر إليه يعتريه الفزع والرعب فيهرب، رضي الله عن الإمام مالك وعن أئمة المسلمين أجمعين، ولده الذي له ما له من المنزلة عند أبيه، وإذا دخل في مجلس والده الخليفة سيكون له شأن، لكن لما يرى هذه الهيبة من الإمام مالك، وأن والده أبا جعفر جالس في منتهى الأدب والخشوع مع سيدنا الإمام مالك، يتقطع قلبه فلا يقترب من المجلس، ينظر ويبتعد، ينظر ويبتعد، ولو كان في مجلس آخر لدخل، لكن عندما يراه يفزع ويهرب.
هذه حالة الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال أبو جعفر للإمام مالك في هذا المجلس عندما قال: ولدي يفزع من هيبتك ولا يستطيع أن يدخل المجلس، قال: إن طالت بي حياتي لأكتبن قولك، ولأنشرنه في البلاد بين الرعية كما تُكتب المصاحف وتُنشر. فقهك ومذهبك سينشر بين المسلمين، وأنقشه كما ينقش كلام رب العالمين سبحانه وتعالى وأُلزم المسلمين به، ولأحملن أهل الآفاق عليه، فقال الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه: لا تفعل يا أمير المؤمنين! قال: ولماذا؟ قال: إن أصحاب رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه تفرقوا في الأمصار، وعند أهل كل مصر من السنن ما ليس عند غيرهم، فدعهم على ما عندهم، أما أن تلزم الناس بفقهي فهذا ليس من حقي.
وسيأتينا -إخوتي الكرام- ضمن مواعظ الجمعة في الموعظة الآتية أنه لا يحق للفقيه أن يلزم الناس بفقهه، وإذا فعل فقد ظلم وتجاوز الحدود المشروعة التي شُرعت له، ولا يجوز للسلطان أن يُلزم أهل الإسلام بفقه أحد من علماء الإسلام، ليس من حقه، نعم يتبنى فيما يتعلق بأمر الحكم مذهباً من المذاهب، هذا لابد منه لأجل فض النزاع، أما في أمر العبادات فلا دخل له على الإطلاق أن يقول للناس: التزموا بمذهب معين، هذا ليس من شأنه وليس من اختصاصه، وإذا فعل فلا طاعة له على الرعية في ذلك، حاله في ذلك كحال فرد من الرعية، يدلي بالحجة فقط ولا يجوز أن يُلزم، فإذا قُبلت حجته كما تُقبل حجة العالم فبها ونعمت، وإذا عُورضت فلا يجوز أن يتمعر وجهه، إنما في أمر النزاع الذي يُحتكم فيه إلى القضاء له أن يتبنى، وما عدا هذا لا دخل له في ذلك، فالإمام مالك أبو عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال لـأبي جعفر: لا تفعل يا أمير المؤمنين! دع الناس على ما عندهم من سنن يفعلون ويتقربون إلى الحي القيوم سبحانه وتعالى
الشاهد إخوتي الكرام: السلاطين كانت تفزع منه وتخاف، ولد أبي جعفر لا يستطيع أن يدخل إلى المجلس الذي فيه سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه من هيبته ووقاره رضي الله عنه وأرضاه، وأبو جعفر أبو جعفر ! كما قلت: توفي سنة ثمان وخمسين ومائة، قبل الإمام مالك بقرابة إحدى وعشرين سنة، وهو عبد الله بن محمد الهاشمي العباسي، قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير في الجزء السابع صفحة ثلاث وثمانين: هو فحل بني العباس هيبة وشجاعة ورأياً وحزماً ودهاءً وجبروتاً! وهو مع ما دخل فيه من الظلم والجور قد أفضى إلى ما قدم، ويرجى له الخير، فإن آخر كلمة نطق بها كلمة التوحيد، وخُتم له بها ورحمة الله واسعة.
فقد جاء في سائر كتب التاريخ، وفي كتب التراجم وهو في السير وغيره، أنه عندما احتضر قال: اللهم إني قد ارتكبت العظائم جرأة مني عليك! وقد أطعتك في أحب الأشياء إليك -وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام- وقد أطعتك في أحب الأشياء إليك -انتبه لوعيه وتوحيده وصفاء بصيرته مع ما فيه من ظلم وجور ودنس- وقد أطعتك في أحب الأشياء إليك، مناً منك لا مناً عليك. يعني أنت مننت علي بأن وفقتني لتوحيدك، أنا ما أمن عليك، بل أنت مننت علي بطاعتك، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
أعود إلى المحنة التي وقعت له في عهد أبي جعفر مع أميره الذي في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، لتكون آخر شيء في ترجمة سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، الخليفة المهدي جاء بعد أبي جعفر مباشرة، وبقي في الخلافة إحدى عشرة سنة، من سنة ثمان وخمسين ومائة في السنة التي توفي فيها أبو جعفر إلى سنة تسع وستين ومائة، وأئمتنا يقولون: عشر سنين وأشهر.
على كل حال الخليفة المهدي اسمه: محمد بن عبد الله ؛ لأن أبا جعفر اسمه عبد الله، والمهدي اسمه محمد، فهو محمد بن عبد الله ، كان له شيء من المزية على والده، فهو أخف منه جوراً، وكان يغار لله غيرة عظيمة في زمنه، ولذلك كان أئمتنا يطلقون عليه: قصاب الزنادقة، في سائر كتب التراجم يقولون: كان قصاب الزنادقة، لا تأخذه في الله لومة لائم ولا هوادة عندما يسمع عن زنديق يستعمل سيفه فيه مباشرة ويريح الأمة منه.
وهذا الأمر قد عُطل من زمن، الآن من يبحثون في الحدود من سخف عقولهم تراه يريد أن يبحث في حد السرقة! يا عبد الله! أين حد الردة الذي ينبغي أن تُقص فيه رقاب المرتدين الزنادقة الذين يكتبون في الصحف العامة، يتهجمون على شريعة الله المطهرة؟! أين حد الردة ليتقرب برقابهم إلى العلى الأعلى سبحانه وتعالى؟! وسوف يأتينا أن عم الخليفة هارون الرشيد، صدرت منه كلمة بعد رواية حديث القدر الذي رواه محمد بن خازم أبو معاوية الضرير ، وهو في المسند والصحيحين وغيرهما، وفيه: (فحجج آدم موسى) على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، فقال: أنا عم هارون أين التقيا؟! يعني حتى حصلت هذه المناقشة وحاج آدم موسى؟ فقال هارون: علي بالسيف والنطع، ثم قال: لله علي أن أضرب رقبته بيدي، نذر ألا يقتله إلا ابن أخيه، فيهدئه أبو معاوية، ويقول: يا أمير المؤمنين! زل فلا تقتله، وذاك اعتذر. م قال: أخبرني من ورائك؟ يقول: لله علي أن أقتله وأنا أعلم من وراءه، هذه زندقة، من الذي يدرسكم هذا؟ من أين تأتون بهذا الكلام؟! يذكر حديث النبي عليه الصلاة والسلام وأنت تقول: أين التقيا؟! من علَّمك؟ ومن أين هذا الكلام تتدارسونه؟ فقال: ما لي صلة بأحد، ولا سمعت هذا من أحد، زلة لسان، خطر ذلك في قلبي، أردت فقط أن أقول، أستغفر ربي، م كفَّر هارون بعد ذلك عن يمينه، ورفع الحد عن عمه، كانوا لا تأخذهم في الله هوادة، وهنا المهدي كان قصاب الزنادقة، وحكامنا الآن يَقصِبون ويُقصِّبون الموحدين، نسأل الله أن يفرج عن المسلمين.
فـالمهدي كان قصاب الزنادقة كما قال أئمتنا، وكان يقول: ما خِفت أحداً إلا الله عز وجل. وهذا قاله عندما قالوا له: ما رأينا أجرأ منك في الحروب والمعارك، وفي المشاكل إذا وقعت، أنت في المقدمة! ما رأينا أجرأ منك، فقال: كيف لا وما خفت أحداً إلا الله، أنا ما أخاف إلا من الله عز وجل، ومن عداه لا قيمة له عندي، هذا هو الخليفة المهدي يغفر الله له وللمسلمين أجمعين.
يذكر أئمتنا أنه في زمانه أُصيب المسلمون بقحط، وثارت رياح شديدة ظن الناس أنها القيامة، قحط ثم رياح شديدة، وبعد هذا القحط ظن الناس أنها القيامة من شدتها، فلما ثارت العواصف واشتدت الرياح بحث خواصه ووزراؤه عنه، فما وجدوه في قصره، ولا في مكان حكمه، ثم بعد ذلك وجدوه في مكان من بيته تحت شجرة يعفر جبهته بالتراب، وسمعوه ينادي الكريم الوهاب وهو ساجد: رب لا تشمت بنا أعداءنا. يعني من الكفار الذين يتربصون بالدولة الإسلامية الدوائر، رب لا تشمت بنا أعداءنا، ولا تفجع بنا نبينا صلى الله عليه وسلم، رب إن أخذت العامة بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك، رب إن أخذت العامة بذنبي فأنا بين يديك، عاقبني بما شئت، وارفع الكرب عن أمة نبيك على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، أعداؤنا الكفار من النصارى وغيرهم سيشمتون بنا، ونبينا عليه الصلاة والسلام سيفجع بأمته، فإذا كان الأمر من أجلي فأنا بين يديك افعل بي ما شئت، وفرج عن أمة نبيك على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قالوا: فلما سمعنا منه هذا هدأت العواصف، وحصل بعد ذلك الرخاء وزال البلاء بفضل رب الأرض والسماء، وحقيقة إذا تواضع جبار الأرض لجبار السماء حصل الرخاء ورُفع البلاء.
امتناع الإمام مالك من مرافقة المهدي إلى بغداد لما طلب منه ذلك عند زيارته له
عرض المهدي على الإمام مالك أن يحمل الناس على مذهبه ورفضه ذلك
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] | 4383 استماع |
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] | 3679 استماع |
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] | 3661 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2] | 3541 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] | 3309 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] | 3293 استماع |
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه | 3260 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] | 3260 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] | 3214 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] | 3168 استماع |